جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل والأحكام الفقهية والنوازل المعاصرة، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: أهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
نكاح المسيار وزواج الأصدقاء
شيخنا، في الحلقات الماضية ذكرنا جملةً من النوازل والأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات المالية، ولعلنا في هذه الحلقة نذهب إلى شيءٍ من المسائل المعاصرة والنوازل الفقهية المتعلقة بفقه الأسرة.
ويحسن الحديث في مستهل هذه النوازل أن نذكر بعض الأنكحة المستحدثة في زماننا، والتي يكثر السؤال عنها؛ على سبيل المثال: ما يسمى بـ"نكاح المِسيار"، أو ما يسمى بـ"زواج الأصدقاء"، ما صورة هذا النكاح، ثم بعد ذلك نأخذ الحكم الفقهي المتعلق به؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فـ"النكاح" سماه الله تعالى: مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، وله شأنه وخطره ومنزلته في الشريعة الإسلامية، فهو ميثاقٌ غليظٌ، ويترتب عليه أمورٌ عظيمةٌ؛ ولهذا نجد أن الفقهاء عندهم قاعدةٌ عظيمةٌ: وهي أن الأصل في الأبضاع -يعني الفروج- التحريم.
النكاح ذكر الفقهاء شروطه وأركانه، وبينوا كثيرًا من مسائله وأحكامه، الذي نتحدث عنه هنا: هي هذه الأنكحة المستحدثة، وحكمها من الناحية الفقهية، مثلما تفضلت وأشرت إليه: نكاح ما يسمى بــ"المسيار"، وأيضًا "نكاح الأصدقاء"، أو "نكاح المسفار"، ونحو ذلك، هذا له شَبَهٌ بما ذكره الفقهاء السابقون من أنكحةٍ موجودةٍ عندهم يسمونها: "نكاح النهاريات" و"نكاح الليليات"، فنجد أن هذا المصطلح: نكاح "النهاريات" و"الليليات" موجودٌ في كتب الفقه.
ومعنى "نكاح النهاريات": أن يتزوج الرجل امرأةً تعمل خارج بيتها وترجع إلى زوجها نهارًا، أو العكس تعمل نهارًا وترجع إلى منزل زوجها ليلًا، فيسمى: نكاح "النهاريات" أو "الليليات"، وهذا مختلَفٌ فيه بين الفقهاء؛ فمنهم من قال: إنه نكاحٌ صحيحٌ، ومنهم من قال: غير صحيحٍ.
من قال: إنه نكاحٌ صحيحٌ، رُوي ذلك عن الإمام أحمد، وهو المشهور في مذهب الإمام مالكٍ، ومن قال: إنه صحيحٌ، قال: إنه مكتمل الأركان والشروط، وهو نكاحٌ صحيحٌ، وهذا هو الأقرب، الأقرب: قول الجمهور، وهو أنه نكاحٌ صحيحٌ؛ لأنه مكتمل الشروط والأركان.
لكن نكاح ما يسمى بـ"المسيار" أو "الأصدقاء"، يختلف عن نكاح "النهاريات" و"الليليات"، فأولًا كلمة "مِسيار" على وزن مِفعال، من "السَّير" وهو المشي، وأَطلَق الناس على هذا النوع من النكاح هذه التسمية؛ لأن الرجل يسير فيه إلى المرأة من حينٍ لآخر، وليست المرأة هي التي تسير إليه مرةً واحدةً وتستقر في البيت، ولكن الرجل هو الذي يَسِير أو يُسَيِّر، يسميه بعض الناس بالمصطلح الشعبي: أنه يُسيِّر على المرأة، أو يَسير إلى المرأة من حينٍ لآخر.
والحقيقة: أن هذا المصطلح "مسيار" شائعٌ في دول الخليج العربي، أما غيرهم فليس شائعًا، يعني في دول الخليج العربي إذا ذهب إنسانٌ إلى آخر، قال: سَيَّر عليه، أي: سار إليه وجلس عنده للزيارة، ولذلك سُمي "مسيارًا"؛ ولذلك لما بُحث حكم هذا النوع من الأنكحة في "المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي"، وكنت مشاركًا في مناقشة هذا الحكم في إحدى دورات المجمع، أذكر أن الفقهاء من غير دول الخليج قالوا: ما نعرف هذا المصطلح، فهو إذنْ شائعٌ في دول الخليج، والذي يهم: هو معرفة حقيقته، بغض النظر عن المصطلح؛ لأن المصطلح أيضًا بعض الناس فهموه فهمًا غير صحيحٍ، والعبرة بالحقيقة، هذا النوع من النكاح يعني: إبرام عقد زواجٍ تتنازل فيه المرأة عن السكن والنفقة والمبيت، أو عن بعضها، وترضى بأن يأتي الرجل إلى دارها في أي وقتٍ شاء من ليلٍ أو نهارٍ، أو تتفق معه على الذهاب إلى مكانٍ آخر.
ولاحِظ هنا: أنه ليس فيه شرطٌ على المرأة، إنما المرأة تتنازل باختيارها وإرادتها عن بعض حقوقها، فهو نكاحٌ بوليٍّ وشاهدين، ومكتمل الأركان والشروط، ولكن المرأة تتنازل فيه عن بعض حقوقها، تتنازل فيه عن المبيت، تتنازل فيه عن السكن، تتنازل فيه عن النفقة أو عن بعضها، هذه هي حقيقته، سواءٌ سُمِّي نكاح مسيارٍ أو غير ذلك.
أما ما يسمى بـ"نكاح الأصدقاء"، فهو شبيهٌ بما يسمى بـ"نكاح المسيار" لكن على الطريقة الأوربية، وذلك يعني أنهم في أوربا وبعض الدول التي تكون تكاليف المعيشة عندهم باهظة، توجد بعض الأسر المحافظة، وفي بعض الأسر يوجد شابٌّ، وفي أسرةٍ أخرى توجد شابةٌ، وتريد الأسرتان تزويج هذا الشاب بهذه الشابة؛ ليتحقق الإحصان والإعفاف لهما في تلك البلدان، لكن لا يستطيع هذا الشاب توفير السكن؛ ولذلك يتزوجان على أنه لا سكن ولا نفقة، وإنما يلتقيان متى شاءا إما في بيت أهلها، أو في أيِّ مكانٍ يُحدِّدانه، يعني كأنهما أصدقاء، لكنه زواجٌ مكتمل الأركان والشروط، يكون بوليٍّ وشاهدين، ويكون فيه مهرٌ، فهو مكتمل الأركان والشروط، لكن تفاهَم الزوج والزوجة على عدم وجود السكن، وأنهما يلتقيان من حين لآخر في أي مكانٍ يتفقان على الالتقاء فيه.
وبذلك نعرف أن هذين النكاحين متقاربان في الحقيقة، وأنهما نكاحان مكتملا الأركان والشروط، لكن الزوجة تتنازل عن بعض حقوقها من المبيت والقَسْم والنفقة والسكنى، هذه حقيقة هذه الأنكحة المستحدثة.
حكم نكاح المسيار والأصدقاء
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا على هذا البيان، بعد أن عرفنا صورة وحقيقة هذا النكاح وماهيته، ما الحكم الشرعي لإبرامه أو الدخول فيه؟
الشيخ: للعلماء المعاصرين قولان في حكمه:
القول الأول: أنه جائزٌ وصحيحٌ، وإن كان خلاف الأولى؛ لأنه مستكملٌ لجميع أركانه وشروطه، وهو نكاحٌ يكون بوليٍّ وشاهدين، وبإيجابٍ وقبولٍ، وبرضًا من الطرفين، ويوجد فيه مهرٌ، فهو نكاحٌ قد استكمل أركانه وشروطه، وانتفت معه الموانع؛ فيكون نكاحًا صحيحًا.
وقد جاء في "الصحيحين" عن أم المؤمنين سودة رضي الله عنها أنها لما كبِر سنها، وخشيت أن يُطلقها النبي ؛ وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها، وقالت: "يا رسول الله، قد جعلت يومي منك لعائشة" [1]؛ لأنها ترى أن النبي كان يحب عائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها، كانت أحب زوجاته إليه، فأرادت أن تُدخل السرور على قلب النبي ، فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام يَقسم لعائشة يومين؛ يومها ويوم سودة، رضي الله عنهما.
فإذن سودة رضي الله عنها تنازلت عن ليلتها، وأسقطت حقها في المبيت، ووهبته لعائشة رضي الله عنها؛ فدل ذلك على أن الزوجة لها أن تُسقط بعض حقوقها التي جعلها لها الشارع؛ من المبيت أو النفقة أو السكنى أو غير ذلك.
يقال أيضًا: إن هذا النوع من النكاح فيه مصالح كثيرةٌ، فهو يؤدي إلى إحصان وإعفاف الزوجين، والمرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح تقبله برضاها، لا يقال: إنها ممتهنةٌ أو مبتذلةٌ، أو أن هذا فيه امتهانٌ لكرامة المرأة؛ لأننا نشترط الرضا، لو لم ترض المرأة؛ فلا يصح، فهي تقبله برضاها وليست مجبرةً عليه.
أحيانًا قد يكون عندها ظروفٌ معينةٌ تجعلها تقبل بهذا النوع من النكاح، قد تكون مثلًا امرأةً أرملةً وعندها أولادٌ، وتريد أن تبقى مع أولادها، وترى أنه لن يقبل بها في هذا السن التي هي فيها إلا رجلٌ يتزوج بها بهذه الطريقة، يعني يتزوج بما يسمى بـ"المسيار"، يتردد عليها من حينٍ لآخر، فيكون هذا فيه مصلحةٌ لهذا الزوج، ومصلحةٌ لهذه الزوجة، وإحصانٌ لهما، فالمرأة تكون بهذا لها مصلحةٌ، والزوج يكون له مصلحةٌ في ذلك؛ لأنه ليس كل امرأةٍ تكون ظروفها مهيأةً للزواج المثالي المنشود، بعض النساء يكون عندها ظروفٌ معينةٌ، تريد أن تبقى مع أولادها، تريد أن تبقى مع أبويها، يكون عندها ظروفٌ معينةٌ وتريد في الوقت نفسه أن يحصل لها الإحصان والإعفاف، فتقبل بهذا النوع من النكاح لأجل ذلك، ولو قيل بمنعه وعدم جوازه؛ فمعنى ذلك: أن هذه المرأة تبقى بدون زواجٍ؛ لأنها مع هذه الظروف التي تعيشها لا تستطيع أن تتزوج، هي ترى أنها مرتبطةٌ بأولادها، أو مرتبطةٌ بوالديها، أو بظروفٍ معينةٍ تمنعها من أن تتزوج الزواج المثالي، أو حتى ربما لظروفٍ معينةٍ تقل الرغبة فيها، ولا تجد من يقبلها إلا بهذه الطريقة، فكونها تتزوج بهذه الطريقة ويحصل لها الإعفاف، هذا خيرٌ من أن تبقى بلا زواجٍ، هذه وجهة القائلين بالجواز.
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- ذكرتم في ذكر هذا القول: "وإن كان خلاف الأولى".
الشيخ: نعم، هذه سنأتي لها، هذا ليس هو الزواج المثالي المنشود، وإنما يُحقِّق الحد الأدنى، لكنه ليس الزواج المنشود، الزواج المثالي المنشود: هو أن المرأة تنال جميع حقوقها، وتكون في بيتٍ مستقرٍّ ومع زوجها وأولادها، لكن أحيانًا لظروفٍ معينةٍ ربما يلجأ الزوجان لهذا النوع.
المقدم: وهذا يؤكد شيخنا ما ذكَّرتم به قبل قليلٍ: أن إطلاق نظرة الامتهان لهذا الزواج بإطلاقٍ على هذه المسألة محل نظرٍ، وإنما قد يُناسب ظروف بعض الأشخاص.
الشيخ: نعم، الذين يقولون: إن فيه امتهانًا لكرامة المرأة لم يفهموا معنى هذا الزواج، يُشترط لصحته رضا المرأة، لا بد أن المرأة ترضى وتقبل به، فإن لم ترض؛ لم يصح أصلًا.
المقدم: أو أنهم ربما نظروا إلى السلوكيات الواقعية وحكموا بناءً عليها، بينما التنظير الفقهي مختلفٌ عن السلوك ربما.
الشيخ: نعم، قد يكون هناك أخطاءٌ في جميع المجالات، في أي مجالٍ يكون هناك أخطاءٌ، فهذه الأخطاء ممنوعةٌ، لكن لا يرجع ذلك على أصل الحكم الشرعي.
وجهة نظر المانعين من زواج المسيار
نرجع لوجهة المانعين، هناك من العلماء المعاصرين من قال: إن هذا النوع من النكاح غير جائزٍ، قالوا: إنه لا يحقق الأهداف المنشودة من النكاح الشرعي، فليس فيه سوى التمتع بين الزوجين، والزواج في الإسلام له مقاصد أوسع وأعمق من هذا؛ من السكن والمودة والرحمة والإنجاب وغير ذلك، قالوا: فهذا النوع من النكاح لا يحقق المقصود الشرعي من النكاح في الإسلام.
وقالوا أيضًا: إن هذا النوع من النكاح هو وسيلةٌ لابتزاز المرأة؛ لأن المرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح هي في الغالب امرأةٌ لها ظروفٌ معينةٌ، فيكون الزوج بهذا الزواج قد ابتز هذه المرأة واستغل ظروفها، وهذا ممنوعٌ شرعًا.
قالوا: إن الغالب على هذا النوع من النكاح هو الكتمان والسرية، وهذا يتنافى مع ما هو مطلوبٌ شرعًا من إعلان النكاح، فهو يُشبه نكاح المتعة والمحلِّل الممنوعين شرعًا.
وأيضًا قالوا ما أشرنا إليه قبل قليلٍ، قالوا: إن هذا فيه امتهانٌ لكرامة المرأة، وهو غير لائقٍ بها؛ حيث يَجعل الرجل هذه المرأة قنطرةً لقضاء متعته وشهواته، فهو ممنوعٌ شرعًا، هذه وجهة المانعين.
والأقرب -والله أعلم- هو القول الأول: وهو أن هذا النوع من النكاح الذي يسمى "نكاح المسيار"، ومثله ما يسمى بـ"نكاح الأصدقاء"، أنه إذا كان مستوفيًا لأركانه وشروطه؛ أنه نكاحٌ جائزٌ، وإن كان خلاف الأولى؛ لأنه نكاحٌ بوليٍّ وشاهدين ومهرٍ وإيجابٍ وقبولٍ ورضا المرأة، جميع أركان النكاح وشروطه موجودةٌ، لكن المرأة تنازلت عن بعض حقوقها برضاها، ومن غير أن تُجبَر على ذلك، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي أقره "المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي".
وجاء في قرار المجمع: أن هذين العقدين (المسيار والأصدقاء) وأمثالهما صحيحان إذا توفرت فيهما أركان الزواج وشروطه، وخلوِّه من الموانع، لكن ذلك خلاف الأولى.
أما ما ذكره المانعون: قولهم: إن هذا الزواج لا يحقق المقصود شرعًا من النكاح، وأن مقصود النكاح ليس مجرد المتعة، وإنما له مقاصد من السكن والمودة.. إلى آخر ما ذكروا؛ فنحن نقول: نحن نُسلِّم بهذا -أن هذا الزواج لا يحقق المقصود الشرعي من النكاح- لكن نقول: هذا النوع من النكاح ليس هو الزواج المثالي المنشود، لكنه زواجٌ ممكنٌ، وما لا يُدرَك كلُّه لا يُترك جُلُّه، فتحقيق النكاح للمقاصد الشرعية قد لا يتأتى حتى مع النكاح المشروع المستمر، يعني غير نكاح المسيار، فمن جهة الإنجاب أولًا هب أن رجلًا تزوج امرأةً عقيمًا لا تنجب، أو أن امرأةً تزوجت رجلًا عقيمًا، هنا لم يتحقق الإنجاب، وهو من مقاصد النكاح، فهل معنى هذا: أن هذا النكاح غير صحيحٍ؟ فهذا النكاح نكاحٌ صحيحٌ، هب أن رجلًا تزوج امرأةً سيئة الخلق، نكدت عليه حياته وعيشته، ولم يجد معها المودة والسكن والرحمة؛ فلم يتحقق المقصود من النكاح، ولا يقال: إن هذا النكاح غير صحيحٍ، أحيانًا الزواج المستمر الشرعي لا يتحقق معه مقاصد النكاح، لكن ذلك ليس مبررًا لإبطاله.
فكلمة أنه لا يحقق المقصود، نقول: ليس هو الزواج المثالي المنشود، لكنه زواجٌ يمكن أن يحقق الحد الأدنى للزواج، لكنه ليس الزواج المثالي المنشود، ولا نستطيع أن نبطله وقد تحققت فيه الأركان والشروط؛ بوليٍّ وشاهدين ومهرٍ وإيجابٍ وقبولٍ ورضًا، فهو نكاحٌ صحيحٌ.
أما ما ذكروه من أن هذا النكاح وسيلةٌ لابتزاز المرأة، فهذا غير مسلَّمٍ؛ إذ إنه يُشترط رضا المرأة، إذا لم ترض المرأة بهذا الزواج؛ فإن هذا النكاح غير صحيحٍ، والرضا من شروط صحة النكاح، لا بد من الرضا؛ ولهذا أتت امرأةٌ النبي وأخبرته بأن أباها قد زوجها وهي كارهةٌ، فدعا النبي أباها وخيَّر المرأة أن تقبل بهذا الزواج أو يفسخ عليه الصلاة والسلام نكاحها، فرضيت بعد ذلك بهذا الزواج، وقالت: "أردت أن أُبيِّن أن للنساء حقًّا" [2]، فَرِضا المرأة إذنْ شرطٌ، مادام أن هذه المرأة قد رضيت بهذا النوع من النكاح؛ فحينئذٍ لا يستقيم القول بأن هذا النكاح وسيلةٌ لابتزازها، بل إن بعض النساء -كما سبق- قد يكون لها ظروفٌ معينةٌ، أو أنه قد لا يرغب فيها كثيرٌ من الرجال؛ لأسبابٍ، وهي بين أمرين: إما أن تقبل بهذا النوع من النكاح، أو أنها تبقى بدون زواجٍ، وكونها تتزوج ويحصل لها الإحصان والإعفاف، خيرٌ من أن تبقى بلا زواجٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم، ولعل مما يُخفِّف في هذه المسألة: أن هذا التنازل بالنسبة للمرأة لها أن تتراجع فيه، كما قال الفقهاء: إن النفقة متجددةٌ، والمبيت متجددٌ، والسكنى متجددةٌ؛ فلها أن ترجع.
الشيخ: صحيحٌ، لو أنها مثلًا تزوجت وقد أسقطت بعض حقوقها، فلها أن تطالب بها، لها أن تطالب بالنفقة، لها أن تطالب بالمبيت؛ لأن هذه حقوقٌ متجددةٌ.
المقدم: الذين أجازوها من الفقهاء لم يشترطوا عليها أن تلتزم بهذا الإسقاط طيلة الزواج؟
الشيخ: أكثرهم، وهو القول الراجح، وإلا فالمسألة خلافيةٌ.
قول أيضًا المانعين أنه يشبه نكاح المتعة والمحلِّل، هذا قولٌ فيه مجازفةٌ، كلامٌ غير صحيحٍ وغير مسلَّمٍ، لكن أحيانًا بعضهم يُورِد بعض الكلام العاطفي من أجل تقوية وجهته، لكن -الحقيقةَ- هذا الاستدلال استدلالٌ ضعيفٌ، نكاح المتعة نكاحٌ مؤقتٌ، لمدةٍ معينةٍ، ومقابل أجرٍ معينٍ، وبمجرد انتهاء هذه المدة ينتهي النكاح تلقائيًّا، أما هذا النوع من النكاح -الذي يسمى نكاح "المسيار" و"الأصدقاء"- الأصل أنه زواجٌ دائمٌ ولا يتحدد بمدةٍ معينةٍ، لا ينتهي إلا بطلاقٍ أو خلعٍ أو فسخٍ، وهكذا ما ذكروا من أنه يُشبه نكاح المحلِّل، فهذا أيضًا غير صحيحٍ، ففرقٌ كبيرٌ بين نكاح المحلِّل وهذا النوع من الزواج؛ لأن زواج المحلِّل زواجٌ غير مقصودٍ، ولا هدف للزوج في هذا الزوج إلا أن يُحلِّل هذه المرأة لزوجٍ آخر، فهو غير مقصودٍ لذاته، إنما جعل هذه المرأة قنطرةً لأجل ذلك؛ ليُحلِّلها لرجلٍ آخر، أما هذا النوع من النكاح -نكاح ما يسمى بـ"المسيار" و"الأصدقاء"- هو نكاحٌ مقصودٌ، قد تفاهم عليه الرجل والمرأة وقصداه، والأصل أنه زواجٌ دائمٌ، فالقول بأنه يُشبه نكاح المتعة والمحلِّل، هذا بعيدٌ.
أما ما ذكره المانعون من أن فيه كتمانًا وسرِّيةً، فإذا توفر في الزواج وجود شاهدين؛ فقد تحقَّق الحد الأدنى لإعلان النكاح، ونحن نشترط لصحة هذا النوع من النكاح أن يكون بوَلِيٍّ، وأن يكون بشاهدين، فلا يستقيم القول حينئذٍ بأن فيه كتمانًا وسريةً، فليس فيه كتمانٌ ولا سريةٌ مادام أن فيه شهودًا؛ لأنه قد تحقق الحد الأدنى للإعلان وهو وجود شاهدين.
وما ذكروه من أن فيه امتهانًا لكرامة المرأة هذا -كما ذكرت قبل قليلٍ- هذا هو الذي يُركِّز عليه بعض الناس، خاصةً في وسائل التواصل، ويقولون: إن الرجل يجعل هذه المرأة قنطرةً لقضاء شهواته، فنقول: إن هذا القول غير صحيحٍ؛ إذ إنه يُشترط رضا المرأة بهذا النوع من النكاح، وربما تقبل المرأة بهذا؛ لأجل تحقيق العفة والإحصان، لكن بعض الناس يخلط بين كون الشيء غير جائزٍ شرعًا، وبين كونه غير مقبولٍ اجتماعيًّا، فكونه غير مقبولٍ اجتماعيًّا لا يقتضي عدم صحته؛ فمثلًا: زواج المرأة من سائقها، لو أن المرأة تزوجت بسائقها بوليٍّ وشاهدين ومهرٍ ورضاها وإيجابٍ وقبولٍ، وخلا من الموانع شرعًا؛ هو نكاحٌ صحيحٌ، زواجٌ صحيحٌ، لكنه اجتماعيًّا غير لائقٍ، أو زواج الرجل مثلًا بخادمته، إذا كان بوليٍّ وشاهدين وبإيجابٍ وقبولٍ وبرضاها ومهرٍ، هنا من الناحية الشرعية صحيحٌ، لكنه غير لائقٍ اجتماعيًّا، أو مثلًا رجلٌ طاعنٌ في السن تزوج من امرأةٍ صغيرةٍ في سِنِّ بناته، ربما في سِنِّ حفيداته، لكن لوتوفرت فيه أركان وشروط النكاح بوليٍّ وشاهدين ومهرٍ ورضًا وإيجابٍ وقبولٍ، من الناحية الشرعية لا نستطيع أن نقول: إنه غير صحيحٍ، هو صحيحٌ لكنه اجتماعيًّا غير لائقٍ أو غير مقبولٍ اجتماعيًّا.
فهناك فرقٌ بين كون الشيء غير جائزٍ شرعًا، وبين كونه غير مقبولٍ اجتماعيًّا، فبعض الناس يخلط بين الأمرين.
فالحاصل إذنْ أن هذه الأنواع من الأنكحة إذا تحققت فيها شروط وأركان النكاح، وانتفت الموانع فهي جائزةٌ وصحيحةٌ شرعًا، وإن كان هذا ليس هو الزواج المثالي، يعني قلنا: خلاف الأولى، ليس هو الزواج المثالي المنشود، الزواج المثالي المنشود: هو الذي يتحقق للمرأة فيه جميع حقوقها، هو الزواج الذي يحقق جميع الحقوق للمرأة، فهو ليس الزواج المثالي المنشود، لكنها إذا رضيت به المرأة؛ فلا مانع منه شرعًا، إذا رضيت به المرأة، وكان مكتمل الشروط والأركان؛ فلا مانع منه شرعًا.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
الزواج العرفي
ولا نزال في الحديث حول النوازل المعاصرة الفقهية المتعلقة بفقه الأسرة، ومعنا شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.
أنتقل شيخنا أيضًا إلى نكاحٍ مستحدثٍ في زماننا، وهو ما يعرف بـ"الزواج العرفي"، ما حكمه، وهل هو جائزٌ شرعًا؟
الشيخ: ما يسمى بـ"النكاح العرفي" قد يُراد به أكثر من معنًى؛ ففي بعض الدول يُراد به: أنه غير موثَّقٍ رسميًّا، وإلا فهو عقدٌ مكتمل الشروط والأركان، يعني يكون بوليٍّ وشاهدين، ويكون بإيجابٍ وقبولٍ ورضًا ومهرٍ، ولكنه غير موثقٍ رسميًّا، يعني هو من الناحية الفقهية صحيحٌ، لكن هو غير موثقٍ لدى الجهات المختصة، والمطلوب الذي يُنصح به: هو توثيقه؛ حفظًا لحقوق الزوج والزوجة، لكن عدم التوثيق لا يؤثر على صحته شرعًا، فهذا يسميه بعض الناس في بعض الدول: "زواجًا عرفيًّا"، وقد يراد بالزواج العرفي في بعض البلدان: النكاح بدون وليٍّ، وهذا لا يصح، وأيما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطلٌ باطلٌ باطلٌ [3]، وأكثر الفقهاء، بل هو قول الجماهير: أنه لا يصح أن تُزوِّج المرأة نفسها، وإنما لا بد من وليٍّ، فيوجد في بعض البلدان يسمون "الزواج العرفي" بـ"النكاح بدون وليٍّ"، وهو غير صحيحٍ.
الزواج المؤقت بالإنجاب
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، ولعلي أنتقل أيضًا إلى نكاحٍ مستحدثٍ آخر، وهو مما يكثر السؤال عنه: وهو "الزواج المؤقت بالإنجاب"، فما حكم هذا الزواج؟ وقبل ذلك صورته.
الشيخ: نعم، هو عقدٌ مكتمل الأركان والشروط، إلا أن أحد العاقدين في العقد اشترط أنه إذا أنجبت المرأة؛ فلا نكاح بينهما أو أنه يُطلِّقها، وهذا النوع من النكاح فاسدٌ؛ لوجود معنى المتعة فيه؛ لأنه يعتبر نكاحًا مؤقتًا، التوقيت كما يكون لمدةٍ معلومةٍ، كشهرٍ مثلًا؛ فإنه يكون كذلك بتحديده بالإنجاب، فإذا جُعل مؤقتًا بمدةٍ معلومةٍ؛ كشهرٍ، أو بمدةٍ مجهولةٍ؛ كالإنجاب؛ فهذا يجعله في معنى نكاح المتعة، وهو نكاح غير صحيحٍ شرعًا.
النكاح بنية الطلاق
المقدم: أحسن الله إليكم، كذلك شيخنا وهي مسألةٌ يكثر السؤال عنها: ما يسمى بـ"النكاح بنية الطلاق" أو "الزواج بنية الطلاق"، ما صورته، ثم ما الحكم الشرعي فيه؟
الشيخ: الزواج بنية الطلاق: هو زواج توفرت فيه أركان النكاح وشروطه، لكن الزوج نوى أن يُطلِّق المرأة بعد مدةٍ معينةٍ، أو بعد تحقيق غرضٍ معينٍ؛ كإتمام دراسته مثلًا، فهذا النوع اختَلف فيه الفقهاء:
- فمنهم من ذهب إلى صحته، ومن أشهر من قال ذلك: الموفق بن قدامة في "المغني"، وقال: إن أكثر العلماء على صحته.
- والقول الثاني: أنه نكاحٌ غير صحيحٍ، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء المعاصرين، وهو الذي أقره "المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي"؛ وذلك لما فيه من الغش والتدليس؛ إذ إنه لا يخلو إما أن تعلم المرأة ووليها بنية الزوج أو لا يعلما بها؛ فإن علما بنية الزوج، وأن الزوج سيُطلِّقها بعد مدةٍ معينةٍ؛ فهذا يكون نكاح متعةٍ، فهو محرمٌ ولا يجوز، وإن كانت المرأة أو وليها لم يعلما بنية الزوج بالطلاق؛ فهذا فيه غشٌّ وتدليسٌ، وأي إنسانٍ عاقلٍ لا يرضى بأن يُزوِّج مُوَلِّيَته -من بنتٍ أو أختٍ أو غيرها- لإنسانٍ نوى أن يُطلِّقها، والمرأة أيضًا العاقلة لا تقبل بذلك، تتزوج من رجلٍ تعلم أنه سيطلقها، فهذا فيه غشٌّ وتدليسٌ، فإذنْ هذا هو القول الراجح والله أعلم: أن الزواج بنية الطلاق لا يصح، وأنه غير جائزٍ.
ثم بعض الناس قد أساء في استخدام هذا النوع من النكاح، وأصبح يسافر لبعض البلدان ويتزوج عدة مراتٍ، يتزوج ثم يُطلِّق، يتزوج ثم يُطلِّق، هذا يُنافي المقصود من النكاح شرعًا، هذا فيه تلاعبٌ بأحكام الشريعة، واستهانةٌ بعقد النكاح الذي سماه الله تعالى ميثاقًا غليظًا؛ ولهذا فالأظهر -والله أعلم- عدم صحة النكاح بنية الطلاق، وأن هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذا البيان والتوضيح، وشكر الله له.
الشيخ: شكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: كما أتقدم بالشكر لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.