جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من مسائل الفقه ونوازله وأحكامه، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، مرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
جمعية الموظفين
شيخنا، في هذه الحلقة هناك موضوعان من المواضيع الفقهية التي تحتاج إلى تجليةٍ وبيانٍ ويكثر السؤال عنها:
أول هذه الموضوعات: هو ما يتعلق بجمعية الموظفين، جمعية الموظفين يكثر السؤال عنها ويتداولها الناس ويستعملونها كثيرًا، فأودُّ لو بينتم لنا صورة هذه المسألة، ثم ندخل بعد ذلك في الأحكام الفقهية المتعلقة بها.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا المصطلح: "جمعية الموظفين"، من المصطلحات المعاصرة، وإن كان قد وُجد بعصورٍ سابقةٍ ما يُشبه عمل هذه الجمعية.
وصورتها: أن يتفق عددٌ من الموظفين يعملون في الغالب في جهةٍ واحدةٍ على أن يدفع كل واحدٍ منهم مبلغًا من المال مساويًا في العدد لما يدفعه الآخرون، ثم عند موعدٍ محدَّدٍ كنهاية الشهر مثلًا يُدفع المبلغ كله لواحدٍ منهم، وفي الشهر الثاني للآخر، وفي الشهر الثالث للآخر.. وهكذا؛ فيكون كل واحدٍ منهم تسلَّم مثل ما تسَلَّمه مَن قبله سواءً بسواءٍ، دون زيادةٍ أو نقصانٍ.
مثال ذلك: مجموعة مدرسين في مدرسةٍ، اتفقوا على تكوين جمعية موظفين، على أن كل واحدٍ منهم يدفع خمسة آلاف ريالٍ، ونفترض مثلًا أن عدد هؤلاء المعلمين عشرون معلمًا؛ فمعنى ذلك: أن المجموع إذا كان كل واحدٍ سيدفع خمسة آلافٍ تكون مئة ألفٍ، مئة ألف ريالٍ تُسلَّم في هذا الشهر لفلانٍ، وفي الشهر الآخر لفلانٍ، وفي الشهر الثالث لفلانٍ.. وهكذا، فهذا المبلغ المجتمع مئة ألفٍ عندما يتسلَّمه واحدٌ منهم يستفيد منه فائدةً كبيرةً في قضاء حوائجه ونحو ذلك، ويلتزم بسداد هذا القسط إلى أن تنتهي هذه الجمعية، هذه هي صورة جمعية الموظفين.
حكم جمعية الموظفين
المقدم: أحسن الله إليكم، إذنْ هذه صورتها الحقيقة فيها جملةٌ من المسائل، أولها ابتداءً: ما حكم الدخول في هذه المعاملة؟
الشيخ: جمعية الموظفين أكثر العلماء المعاصرين على جوازها، ومن أهل العلم المعاصرين من ذهب إلى المنع، لكن الأكثر على الجواز، وسبق أن عُرضت على "هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية"، وصدر قرارٌ من الهيئة بالأغلبية بالجواز، وممن قال بالجواز: شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ، وكذلك الشيخ ابن العثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
لكن هناك من أهل العلم من قال بالمنع، وسبب الخلاف يرجع إلى اعتبار هذه الجمعية من قَبيل القرض الذي جر نفعًا، ومن قال: إنها من قبيل القرض الذي جر نفعًا؛ منعها، ومن قال: إنها ليست من قبيل القرض الذي جر نفعًا؛ أجازها، والقائلون بالجواز استدلوا بأن المنفعة التي تحصل للمقرض في هذه الجمعية لا تنقص من المقترض شيئًا من ماله، بل يحصل المقترض على منفعةٍ مساويةٍ أو مقاربةٍ لها، ففيها مصلحةٌ للطرفين؛ للمقرض والمقترض، ثم إنه ليس فيها ضررٌ على واحدٍ منهم، ولا زيادةُ نفعِ المقرض على حساب المقترض، والنفع المحرم في القرض: هو النفع الذي يختص به المقرض دون المقترض، هذا هو ضابط النفع المحرم في القرض: النفع الذي يختص به المقرض دون المقترض، أما إذا كان النفع مشتركًا بينهما، أو أن النفع للمقترض؛ فهذا لا بأس به، كما أقر ذلك ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، والشريعة الإسلامية لا تَرِد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحدٍ.
أما القائلون بالمنع فقالوا: إن هذه الجمعية من قبيل القرض الذي جر نفعًا؛ لأن كل واحدٍ من المشتركين في هذه الجمعية إنما يدفع قرضًا مشروطًا، فيه قرضٌ للطرف الآخر، هو اشتراط قرضٍ في قرضٍ، قالوا: هذه منفعةٌ، فيكون ذلك من قبيل القرض الذي جر نفعًا، وكل قرضٍ جَرَّ نفعًا فهو ربًا.
والراجح والله أعلم: هو القول الأول، وهو الذي عليه أكثر العلماء، وهو أن جمعية الموظفين جائزةٌ، ولا تعتبر من قبيل القرض الذي جر نفعًا، بل هو قرضٌ معتادٌ، وليس قرضًا جر نفعًا، إلا أنه يشارك في الإقراض أكثر من شخصٍ، فأول من يأخذ هذه الجمعية يعتبر مقترضًا من جميع المشتركين فيها، كذلك من يأخذها في المرة الثانية يعتبر مقترضًا ممن يأخذها بعده، ومستوفيًا لقرضه من الشخص الذي قبله، وهكذا في الثالث والرابع والخامس.. إلى آخر المشتركين في هذه الجمعية، إلا الأول؛ الأول يعتبر مقترضًا من الجميع، وإلا الأخير؛ فالأخير يُعتبر مستوفيًا من الجميع، هذه هي حقيقة الجمعية.
وعلى ذلك: فالقول بأنها من القرض الذي جر نفعًا لا يُسلَّم به؛ لأنه -كما ذكرنا- ليس كل نفعٍ في القرض محرمًا، لا بد أن نعرف ضابط المنفعة المحرمة في القرض، المنفعة المحرمة في القرض: هي التي يختص بها المقرض دون المقترض، أما المنفعة المشتركة أو المتساوية، فهذه ليست من المنفعة المحرمة في القرض؛ وبناءً على هذا الضابط في المنفعة المحرمة في القرض: يكون القول الراجح هو جواز جمعية الموظفين، وأنه لا بأس بها.
وقرار "هيئة كبار العلماء" -كما ذكرت- صدر في هذه المسألة بالجواز، وجاء فيه: أنه لم يظهر ما يمنع من هذا النوع من التعامل؛ لأن المنفعة التي تحصل للمقرض لا تنقص المقترض شيئًا من ماله، وإنما يحصل المقترض على منفعةٍ مساويةٍ لها، ولأن فيها مصلحةً لهم جميعًا من غير ضررٍ على واحدٍ منهم أو زيادة نفعٍ لآخر، والشرع المطهر لا يَرِد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحدٍ، بل ورد بمشروعيتها.
حكم اشتراط الاستمرار في جمعية الموظفين
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، وشيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان له عنايةٌ بمسائل النوازل الفقهية المعاصرة والكلام فيها.
شيخنا، هنا مسألةٌ قد تَرِد على هذه الجمعية، وهي: ما إذا كان فيها اشتراطٌ بالاستمرار لأكثر من دورةٍ؛ على سبيل المثال: هي مدتها سنةٌ، لكن يَشترط بعضهم على الآخر أن تستمر هذه الجمعية لمدة سنتين أو ثلاثةٍ أو أكثر، فهل هذا الاشتراط يَؤول إلى جعلها من قَبيل القرض الذي جر نفعًا؟
الشيخ: بعض العلماء اشترط لجواز هذه الجمعية: ألا يشترط الاستمرار في هذه الجمعية أكثر من دورةٍ، وقال: لو اشترطوا ذلك؛ فيعتبر هذا محرمًا؛ لأن حقيقة هذه الصورة: أن المقرض يشترط على من سيُقرضهم أن يُقرضوه في دورةٍ أخرى، وهذا يكون كمن شرط ألا يُقرِض فلانًا إلا بشرط أن يُقرضه، لا أقرضك إلا بشرط أن تُقرضني، فيكون هذا من قَبيل القرض الذي جر نفعًا.
ولكن المسألة المخرَّج عليها: "لا أقرضك إلا بشرط أن تُقرضني"، هي محل خلافٍ بين الفقهاء، والقول الراجح فيها: الجواز؛ لأنه ليس فيها زيادةٌ، والشرط المحرم في القرض: هو ما كان فيه زيادةٌ، وإنما هذا اشتراط منفعةٍ في القرض مساويةٍ للمنفعة التي حصل عليها المستقرض، والقاعدة: أنه "ليس كل منفعةٍ في القرض تكون محرمةً"، كما قال ابن حزمٍ رحمه الله، قال: ليس سلفٌ في العالم إلا ويجر نفعًا، ولو قلنا: إن أي نفعٍ مرتبطٌ بالقرض يكون محرمًا؛ فمعنى ذلك: مَنَعْنا القرض، هذا خلاف الإجماع؛ ولذلك لا بد من معرفة ضابط المنفعة المحرمة في القرض.
ضابط المنفعة المحرمة في القرض
المنفعة المحرمة في القرض: هي التي يختص بها المقرِض أو التي فيها زيادةٌ، أما مثل هذه الصورة فلا تدخل في المنفعة المحرمة في القرض؛ ولهذا فالذي يظهر -والله أعلم- هو جواز جمعية الموظفين مطلقًا من غير تقييدٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم، إذنْ عبارة: "كل قرضٍ جر نفعًا فهو ربًا" ليست على إطلاقها؟
الشيخ: نعم، ليست على إطلاقها، ما من قرضٍ إلا وفيه منفعةٌ، فلا بد من ضبط المنفعة المحرمة في القرض، فضابط المنفعة المحرمة في القرض: هي التي يختص بها المقرِض دون المقترض.
حكم الزكاة في مال جمعية الموظفين
المقدم: أحسن الله إليكم، أيضًا من المسائل المتعلقة بـ"جمعية الموظفين": ما يتعلق بزكاة هذا المال، هل هذا المال تجب فيه الزكاة، وإن قلنا بوجوب الزكاة؛ فعلى من تكون الزكاة هنا؟
الشيخ: ذكرنا في التكييف الفقهي لهذه الجمعية أنها قرضٌ، والقرض يعتبر دَينًا، والقاعدة عند الفقهاء: "أن كل قرضٍ يعتبر دينًا، وليس كل دينٍ يعتبر قرضًا"؛ فإذنْ القرض يعتبر دينًا؛ ولذلك إذا أردنا أن نعرف حكم زكاة الموظفين؛ لا بد أن نُقدم لذلك بحكم الزكاة في الدين، هل تجب الزكاة في الدين -الدين الذي للإنسان في ذمم الآخرين- أم لا تجب؟ هذه المسألة مسألةٌ خلافيةٌ بين الفقهاء، والقول الأظهر -والله أعلم- وهو الذي اختاره "المجمع الفقهي"، واختاره شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله: أن الدَّين إذا كان على مَلِيءٍ باذلٍ؛ فتجب زكاته كل سنةٍ عند تمام الحول.
أما إذا كان الدين على معسرٍ أو على مماطلٍ؛ فليس فيه زكاةٌ، هذا هو الأظهر في زكاة الدين؛ وعلى هذا نقول في هذه الجمعية: الأول من الموظفين لا تجب عليه الزكاة؛ لأنه لم يَحُل عليه الحول، وهكذا الثاني والثالث والرابع إلى الثاني عشر، أما مَن بعده، مِن الثالث عشر ومَن بعده -إذا افترضنا أن عدد الموظفين يزيد على اثني عشر- فالثالث عشر ومَن بعدَه تجب عليهم الزكاة؛ باعتبار أن هؤلاء لهم ديونٌ في ذمم الآخرين، وهي في حكم الدين على مَلِيءٍ؛ لأنه ضامنٌ الحصول عليها؛ وعلى ذلك: فالموظف رقم ثلاثة عشر ومَن بعده يجب عليه أن يُزكي جميع ما له في ذمم زملائه الموظفين، جميع ما يطلبه من زملائه الموظفين يجب عليه أن يُزكي هذا المال؛ باعتباره دينًا على مَلِيءٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم، هنا إذا قلنا بوجوب الزكاة في حق المشترِك الثالث عشر ومَن بعده؛ إذنْ ما المعالجة الفقهية لهذه الصورة إذا كان يترتب عليها نقصٌ الآن عليه، يعني هل هناك طريقةٌ فقهيةٌ تعالج هذا الإشكال؟ لأنه سيقول الآن: ربما وقع عليَّ الضرر الآن في هذا المال، وحصل عندي نقصٌ؟
الشيخ: هو لا بد أن يكون بينهم تفاهمٌ، ويكون بينهم تسامحٌ أيضًا، والزكاة ليست مغرَمًا، بل هي مغنمٌ، وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ[سبأ:39]، هي عملٌ صالحٌ، ولكن لو حصلت مشاحةٌ؛ فيمكن أن يُعالَج ذلك بالقرعة، القرعة يُصار إليها عند المشاحة مع التساوي في الحقوق.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
التسويق الهرمي
لعلي أستأذنكم شيخنا أن ننتقل إلى موضوعٍ آخر كذلك، وهو من النوازل الفقهية التي يكثر السؤال عنها، ويتطور فيها الكلام حتى على مستوى بعض الشركات التي أُنشئت لأجل هذا الغرض:
الأول: هو الحديث عما يسمى بـ"التسويق الهرمي"، أو يسميه بعضهم بـ"التسويق الشبكي"، وبعضهم يُفرِّق بينهما، فأودُّ شيخنا لو بينتم ابتداءً ما حقيقة هذه المعاملة المسماة بهذا الاسم؟
الشيخ: التسويق "الهرمي" أو "الشبكي" تقوم به شركاتٌ قد برزت في الآونة الأخيرة، ونشأت أولًا في بلاد الغرب، ثم انتقلت بعد ذلك للمجتمعات الإسلامية، وهذه الشركات فكرتها: أنها تقوم بإقناع الشخص بشراء سلعةٍ أو منتجٍ، وإن أتى بعملاء آخرين، فله عمولةٌ معينةٌ على كل عميلٍ بطريقةٍ هرميةٍ أو شبكيةٍ، كلما زادت طبقات المشتركين؛ حصل الأولون على عمولاتٍ أكثر، وقد تصل هذه العمولات لآلاف الريالات، يعني أضعاف أضعاف المنتج أو السلعة بكثيرٍ؛ وبهذا فإن كل مشتركٍ يسعى لإقناع مَن بعده بالاشتراك لأجل الحصول على هذه العمولات الكبيرة، حتى أصبح هدف كثيرٍ ممن يشتري منتج تلك الشركة، ليس ذلك المنتج، وليس تلك السلعة، وإنما يرجو الحصول على عمولاتٍ كبيرةٍ؛ ولذلك بعضهم يأخذ هذا المنتج ويرميه ولا يُلقي له بالًا، ليس له كبير أهميةٍ عندهم، وإنما الهدف الرئيس: هو الحصول على العمولات المترتبة على ذلك المنتج؛ لأن العمولات مع كثرة المشتركين وتعددهم تزداد حتى تصل إلى آلاف الريالات، أو ما يعادل الريالات.
إذنْ الهدف الرئيس في تعامل هذه الشركات (شركات التسويق الهرمي): هو الحصول على تلك العمولات.
المقدم: أحسن الله إليكم، إذنْ يُفهَم من صورتها: أن كل من يأتي عن طريق هذا المشترِك؛ يكون له عمولةٌ فيه؟
الشيخ: نعم، كل من يأتي عن طريق هذا المشترك؛ يكون له عمولةٌ، وكل من يأتي عن طريق المشترِك مِن بعده؛ يكون له عمولةٌ، والمشترك من بعده.. وهكذا؛ فتتفرع إلى فروعاتٍ كثيرةٍ؛ ولذلك المشترك الأول هو الذي يحصل على العمولات الأكبر، وأما المشتركون المتأخرون فهم الذين تضيع حقوقهم.
حكم التسويق الهرمي والشبكي
المقدم: أحسن الله إليكم، طيب، هذه المعاملة بهذه الصورة التي ذكرتموها -أحسن الله إليكم- ما حكم الدخول فيها والتعامل بها؟
الشيخ: هذه المعاملة هي نازلةٌ كسائر النوازل، وفيها خلافٌ بين العلماء المعاصرين، والأكثر على المنع، وهناك من ذهب للجواز، وهناك من قيد الجواز بقيودٍ، بعضهم قيد الجواز بأن تبيع الشركة المنتج بسعر السوق، وأن يكون المشتري لهذا المنتج بحاجةٍ إليه وراغبًا فيه، وأكثر العلماء على المنع وأنها محرمةٌ شرعًا.
من قال بالجواز قال: إن الأصل الحِل والإباحة، وأن ما ذُكر من عمولاتٍ يحصل عليها المشتري مبنيةٌ على حق السمسرة، فالعمولات مقابل سمسرةٍ، وأخذ العمولة مقابل السمسرة جائز شرعًا، أما كون نصيبه يزيد بزيادة عدد المشترين لا مانع منه؛ لأنه بسبب زيادة أعداد المشترين تزداد أجرة السمسرة، والأصل صحة العقود.
أما القائلون بالتحريم فقالوا: إن مقصود المعاملة في هذه الشركات (شركات التسويق الهرمي والشبكي): هو العمولات، وليس المنتج، هذه العمولات قد تصل إلى عشرات الآلاف، في حين أنه لا يتجاوز ثمن المنتج بضع مئاتٍ أو ربما أقل، وأي عاقلٍ إذا عُرِض عليه الأمران؛ سيختار العمولات؛ ولهذا كان اعتماد هذه الشركات بالتسويق والدعاية لمنتجاتها: هو إبراز حجم العمولات الكبيرة التي يمكن أن يحصل عليها المشترك وإغرائه بالربح الكبير مقابل مبلغٍ يسيرٍ يبذله في شراء ذلك المنتج، والواقع: أن المنتج الذي تُسوِّقه هذه الشركات هو مجرد ستارٍ وذريعةٍ للحصول على هذه العمولات الكبيرة؛ ولهذا فعامة المشترين -أكثرهم إن لم يكن جميعهم- قصدهم العمولات والمكافآت، وليس مقصدهم الانتفاع بذلك المنتج، حتى وإن زعموا ذلك، يعني بعضهم يزعم يقول: والله هذا المنتج جيدٌ ونافعٌ وسأستفيد منه، لكن حقيقة الأمر، القرائن تدل على أنه إنما قصد العمولة وليس المنتج؛ لذلك تجد أحيانًا -إذا كان هذا المنتج قرص حاسوبٍ- بعضهم يشتري هذا المنتج وليس أصلًا عنده جهاز الحاسب، وربما أيضًا بعضهم يشتري هذا القرص وليس عنده اهتمامٌ بالعلم الشرعي، بل وُجد من المشترين من اشترى هذا المنتج وهو لا يتحدث اللغة العربية أصلًا، وبعضهم يأخذ هذا المنتج ويُعطيه غيره ولا يعبأ به.
إذنْ الهدف الحقيقي للمشتركين في هذه الشركات: إنما هو الحصول على هذه العمولات والمكافآت التي تصل إلى آلافٍ مؤلَّفةٍ، وهذا يترتب عليه -إذا قلنا: إن الهدف هو الحصول على هذه العمولات والمكافآت- محاذير شرعيةٌ؛ من ذلك:
- أولًا: أنه ذريعةٌ للربا؛ لأن المشترك يدفع مبلغًا قليلًا من المال؛ ليحصل على مبلغٍ كثيرٍ، فهي في الحقيقة نقودٌ بنقودٍ مع التفاضل والتأخير، هذا هو الربا المحرم، أما المنتج الذي تبيعه الشركة للعميل فما هو إلا ستارٌ للمبادلة فقط، وهو ليس مقصودًا أساسًا للمشترك، ولا تأثير له في الحكم، وإذا كان كذلك؛ فهذا يُفضي إلى الربا؛ لأنه يدفع مبلغًا يسيرًا ويحصل على مبالغ كبيرةٍ، مع أيضًا التأخر، فيجتمع فيه ربا الفضل وربا النسيئة.
- أيضًا من المحاذير أن في هذا غررًا ظاهرًا؛ لأن المشترك لا يدري هل ينجح في تحصيل العدد المطلوب من المشتركين أم لا، وهذا التسويق الهرمي أو الشبكي مهما استمر؛ فإنه لا بد أن يصل في النهاية إلى نقطة توقفٍ، لا بد، ولا يدري المشترك حين انضمامه إلى هذا الهرم هل سيكون في الطبقة العليا؛ فيكون رابحًا، أو سيكون في الطبقة الدنيا؛ فيكون خاسرًا، والواقع: أن معظم أعضاء الهرم خاسرون، إلا الفئة القليلة، فالغالب هو الخسارة، وهذه هي حقيقة الغرر: هي التردد بين الغُنم والغُرم، وقد نهى النبي عن الغرر [1].
- أيضًا من المحاذير: أن فيه أكلًا لأموال الناس بالباطل، حيث لا يستفيد من هذا العقد إلا الشركة أو المشتركون الذين هم أصحاب الطبقة العليا فقط، وأما من عداهم فتُؤخذ أموالهم بغير حقٍّ وتُؤكل بالباطل، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29].
- أيضًا من المحاذير: الغش والتدليس والتلبيس على الناس؛ من جهة إظهار المنتج وكأنه هو المقصود في المعاملة والواقع بخلاف ذلك، ومن جهة إغرائهم بالعمولات الكبيرة التي لا تتحقق غالبًا؛ ولذلك نجد أن هذا النوع من التسويق يُصنَّف على أنه من صور الغش والاحتيال التجاري، وقد ظهرت كتبٌ ودراساتٌ وأبحاثٌ تُحذِّر من هذه الشركات، ومن هذا الوهم، وكذلك أيضًا بعض الدول منعت من هذه الشركات، منعت هذا التعامل، وعددٌ من دول العالم منع شركات التسويق الهرمي والشبكي، وعندنا في المملكة العربية السعودية "وزارة التجارة" منعت هذه الشركات من مزاولة أعمالها في المملكة؛ لما تنطوي عليه من أعمال الغش والتدليس والتلبيس، وهذه المحاذير الشرعية التي ذكرنا.
وبهذا يظهر أن الأظهر والله أعلم: هو تحريم التعامل مع شركات التسويق الشبكي والهرمي مطلقًا.
وأما ما ذكره القائلون بالجواز من أن قيمة هذا المنتج هي قيمته السوقية، وأن ما زاد فهو مجرد هدايا للمشتركين، فلا يُسلَّم بذلك، بل إن قيمته الحقيقية السوقية أقل من هذا بكثيرٍ، والعبرة بالقيمة السوقية لا ما تدعيه الشركة، ثم أيضًا الهدف الرئيس للمشتركين ليس هذا المنتج، حتى لو كان بقيمته السوقية، هدفهم هو العمولة.
وأما قول القائلين بالجواز: إن العمولات مقابل السمسرة، فلا يُسلَّم؛ لأن السمسرة عقدٌ يحصل بموجبه السمسار على أجرٍ لقاء بيع السلعة، أما هذا التسويق الهرمي أو الشبكي فإن المشترك في الحقيقة هو الذي يدفع الأجر، كما أن السمسرة مقصودها تسويق السلعة حقيقةً، بخلاف التسويق الهرمي والشبكي، فالمقصود هو تسويق العمولات وليس المنتج؛ فالفرق إذنْ بين السمسرة وبين التسويق الهرمي أو الشبكي ظاهرٌ.
وأما قول القائلين بالجواز: إن هذه العمولات من قَبيل الهبة، فلا يُسلَّم، ثم أيضًا -لو سُلم- ليست كل هبةٍ جائزةً، فبعض أنواع الهبات والهدايا ممنوعةٌ شرعًا، فالهبة على قرضٍ قبل الوفاء ممنوعةٌ شرعًا، الهبة بعد الوفاء (المشترطة) أيضًا ممنوعةٌ شرعًا، هدايا العمال غلولٌ، ليست إذنْ كل هبةٍ تكون مباحةً، هذه العمولات إنما وُجِدت في الحقيقة لأجل الاشتراك في التسويق الهرمي، فمهما أعطيت من أسماء، سواءٌ أكانت تسمى: هديةً أو هبةً أو غير ذلك، فهذا لا يُغيِّر من حقيقتها شيئًا.
ثم أيضًا أي إنسانٍ عاقلٍ إذا تأمل هذه المعاملة؛ سيُدرك أنه لا يمكن لشركةٍ تجاريةٍ هدفها الربح أن تبيع منتجًا بقيمةٍ زهيدةٍ، بمئة ريالٍ، أو خمسئة ريالٍ مثلًا، وتهب الناس هبةً لوجه الله تعالى بهذه الأموال الطائلة التي تصل إلى عشرات الألوف، أي إنسانٍ يدرك بعقله وبفطرته أن هذا غير ممكنٍ، هذه شركةٌ تجاريةٌ هدفها الربح، وليست جمعيةً خيريةً تُوزِّع الصدقات والهبات على الناس، هذه شركةٌ تجاريةٌ، فلا تكون هذه الهبات هباتٍ محضةً تريد منها هذه الشركة الثواب والأجر والإحسان للناس، بل هذه شركاتٌ ربحيةٌ وليست شركاتٍ غير ربحيةٍ، شركاتٌ ربحيةٌ، وليست الهبة المحضة بخُلُقٍ لمثل هذه الشركات.
والحاصل أن القول الراجح: أنه لا يجوز التعامل مع هذه الشركات (شركات التسويق الهرمي والشبكي)؛ لما ينطوي على ذلك من هذه المحاذير، و"اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" عندنا في المملكة العربية السعودية أصدرت فتوى بتحريمها، وأيضًا "وزارة التجارة" منعت التعامل بها، ولكن بعض الناس ربما يتعامل بها في الخفاء، فنقول: إن هذه الشركات يترتب على التعامل معها هذه المحاذير الشرعية.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا.
حكم من اشترى المنتج قصدًا وأتى التسويق تبعًا
هنا مسألتان إن أمكن الإجابة عنهما بشكل مختصر:
الأولى: إذا قُدِّر أن المشتري اشترى هذا المنتج قصدًا، وأتى هذا التسويق تبعًا، فهل مثل هذا يُصيِّر المعاملة إلى الجواز؟
الشيخ: القول بأنه يشتريه قصدًا وتأتي العمولة تبعًا، هذا لا يُسلَّم به؛ لأن قيمة المنتج زهيدةٌ والعمولات كبيرةٌ، فهذه دعوى من يريد الدخول في مثل هذا النوع من الشركات، ولكنه في الحقيقة وإن أظهر أن هذا هو القصد؛ إلا أن ما يؤول إليه الأمر هو المعتبر، الحقيقة: أن المقصود هو العمولات، لو أنه اشتراه ولا يعلم بالعمولات؛ فيمكن، لكن الواقع أنه ما قصد هذه الشركة إلا لأجل العمولات، حتى وإن ادعى أنه إنما قصد هذا المنتج؛ لأنه في الأخير يُفضي إلى أنه دفع مالًا وحصل على أموالٍ أكثر من هذا المال؛ بسبب العمولات وليس بسبب المنتج.
هل يختلف الحكم إذا كانت العمولة تُدفع من الشركة؟
المقدم: المسألة الأخيرة، إن أذنتم شيخنا: إذا كانت العمولة تُدفَع من الشركة أو من المشتري الآخر؛ هل يختلف الحكم؟
الشيخ: لا يختلف الحكم، فطريقة بناء هذا النوع من الشركات تترتب عليه هذه المحاذير الشرعية ولا تجوز.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان على هذا البيان، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: الشكر لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه مسلم: 1513. |
---|