جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، يصحبنا في هذا البرنامج شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا البرنامج شيخنا (مجالس الفقه) يتحدث في الجانب الفقهي وما يتعلق بالمسائل التي تمس الحاجة إليها في نقاشٍ وحوارٍ مفيدٍ إن شاء الله تعالى.
المسابقات التجارية
معنا اليوم حديثٌ حول موضوعٍ مهمٍّ، ويكثر السؤال عنه، وصوره متعددةٌ وكثيرةٌ ومتشعبةٌ، وله تفاصيل عدةٌ، ولعل -إن شاء الله- في هذه الحلقة ما يُجلِّي كثيرًا من المسائل والإشكالات المتعلقة به، ألا وهي: "المسابقات التجارية"، المسابقات التجارية لها رواجٌ كبيرٌ في وقتنا المعاصر شيخنا، ولها صورٌ متعددةٌ، وأسئلة الناس حولها كثيرةٌ، لعلي في البداية أن آخذ منكم ضابطًا لما يباح وما لا يباح من المسابقات.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالحديث عن المسابقات في غاية الأهمية، فقد انتشرت المسابقات التجارية في الوقت الحاضر انتشارًا واسعًا، بل أصبحت وسيلةً من وسائل الإعلان والدعاية التجارية ومن وسائل الربح، ومن هنا تبرز أهمية هذا الموضوع؛ باعتباره أنه واقعٌ، وأيضًا باعتبار عدم فهم كثيرٍ من عامة الناس للضوابط الشرعية فيه.
وأيضًا مع قلة ما كُتب في هذا الموضوع، وإن كان الفقهاء السابقون رحمهم الله قد تحدثوا عن أحكام السبق ومسائله بالتفصيل، وتكلموا عن المحلِّل وأحكام المسابقات، لكن تنزيل هذه الأحكام على الواقع لا يزال قليلًا؛ ولذلك نحتاج في البداية لتأصيلٍ وتقعيدٍ للمسابقات عمومًا على ما يذكره الفقهاء في باب السَّبَق.
ضابط ما يُباح من المسابقات التجارية
وأبدأ بالجواب عن السؤال الذي تفضلتم به، وهو: ضابط ما يُباح وما لا يُباح من هذه المسابقات.
الأصل في هذا: هو حديثٌ عظيمٌ اعتمد عليه العلماء لتقرير أحكام هذا الباب ومسائله: وهو حديث أبي هريرة ، قال: قال رسول الله : لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافرٍ [1].
وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وسنده صحيحٌ، وهو من جوامع الكلم، فقد تضمن أحكامًا كثيرةً رغم وجازة ألفاظه، كتابته لا تتجاوز سطرًا واحدًا، لكنه هو الأصل في هذا الباب، هو الذي اعتمد عليه العلماء في تقرير أحكام المسابقات، وهذا من جوامع الكلم، والنبي قد أُعطي جوامع الكلم [2]، يتكلم بالكلام القليل الذي يدل على معانٍ كثيرةٍ.
قوله عليه الصلاة والسلام: لا سَبَق، لا: نافيةٌ للجنس، وسَبَق: هل هي بفتح الباء: سَبَق، أو سَبْق؟ رُوي بفتح الباء، ورُوي بإسكانها، رُوي: لا سَبَق، وروي: لا سَبْق، لكن الرواية المشهورة بفتح الباء: لا سَبَق؛ ولهذا قال الخطابي في "معالم السنن": "الرواية الصحيحة في هذا الحديث: السَّبَق، بفتح الباء: لا سَبَق".
هل هذا نفيٌ أو نهيٌ؟ الجواب: أنه نفيٌ بمعنى النهي، لكنه أبلغ من النهي، عندما يأتي النهي بصورة النفي؛ يكون أبلغ من النهي المباشر، فهو نفيٌ بمعنى النهي، كأنه قال عليه الصلاة والسلام: لا يصح أن يكون هناك سَبَقٌ يُكافأ عليه إلا في هذه الأمور الثلاثة: لا سَبَق.
ويُؤخذ من هذا الحديث التأصيل لهذا الباب: وهو أن الأصل في باب المسابقات المنع والحظر، إلا ما ورد الدليل بجوازه، وهذا تأصيلٌ مهمٌّ معنا في هذا الباب، الأصل في باب المسابقات: المنع، إلا ما ورد الدليل بجوازه، هذه قاعدةٌ مهمةٌ في هذا الباب.
ولذلك ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يعرف أحكامًا فرعيةً أن يُؤصِّل للباب الذي فيه تلك الأحكام الفرعية؛ مثلًا في البيوع: الأصل في المعاملات الحِل والإباحة، في العبادات: الأصل في العبادات الحظر والمنع، إلا ما ورد الدليل بمشروعيته، لو أتى للأبضاع والفروج: الأصل فيها التحريم، الأصل مثلًا في اللحوم والذبائح: الحظر، إلا ما ورد الدليل بمشروعيته.. وهكذا.
تجد أن هذا التأصيل يفيد طالب العلم، ويفيده في الترجيح بين المسائل الخلافية، ويفيده أيضًا عند عدم اتضاح الدليل بالصورة الكافية، يقول: أبني أمري على الأصل حتى يَرِد ما ينقلني من هذا الأصل، وهذا أيضًا يستفيد منه طالب العلم مثلًا في بعض المسائل المشكلة؛ مثل: مسائل السفر، أحيانًا قد تختلف أنظار العلماء، هذا الشخص هل هو مسافرٌ أو مقيمٌ؟ نرجع للأصل في هذا الباب، الأصل في الإنسان: أنه مقيمٌ، لا نعدل عن هذا الأصل ونصفه بالسفر إلا بأمرٍ واضحٍ.
إذنْ الأصل في باب المسابقات: هو المنع؛ لقوله : لا سَبَق، إلا فيما استثناه النص: إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ، ما معنى: إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ؟
"الخف" المراد به: الإبل، وعبر النبي عن الإبل بالخُفِّ؛ لأن الإبل لها أخفافٌ وتتميز بهذه الأخفاف.
و"النصل" المقصود به: السهم، يعني المناضلة بالسهام ونحوها؛ لأنها كانت من أدوات القتال في عهد النبوة.
و"الحافر" المقصود به: الخيل، والخيل أيضًا هي من آلات القتال في سبيل الله في عهد النبوة.
والمراد: أنه لا يجوز وضع عوضٍ في شيءٍ يُسابَق عليه إلا في الإبل والخيل والسهام، وهذه الأمور الثلاثة يجمعها كونها آلات الجهاد في سبيل الله في عهد النبي .
ما الجامع بين هذه الأمور الثلاثة: الخف والنصل والحافر، أي: الإبل والسهام والخيل؟
الجامع بينها: أنها هي آلات القتال في عهد النبي ؛ ولذلك يقاس عليها آلات القتال الحديثة، فيجوز فيها السبق؛ لأنها في معنى الأمور الثلاثة، ولأن مقصود الشارع من استثنائها: هو تشجيع الناس وحثهم على التدرب عليها.
أقسام هذه المسابقات
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا ما يتعلق بضابط ما يُباح وما لا يُباح في هذه المسابقات، إذا أردنا أن نتكلم عن أقسام هذه المسابقات، وبيان الحكم الشرعي لكل قسم؟
الشيخ: أقسام هذه المسابقات والمغالبات ثلاثة أقسامٍ:
- القسم الأول: ما يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ، وهو ما ورد في الحديث السابق: لا سَبَق إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ [3]، أي: المسابقة في الإبل والخيل والسهام، وهذا باتفاق العلماء؛ لأنه ورد منصوصًا عليه.
- القسم الثاني: ما لا تجوز المسابقة فيه مطلقًا، سواءٌ كان بعوضٍ أو بغير عوضٍ، وهو كل ما أدخل في مُحرَّمٍ أو أَلهَى عن واجبٍ.
- والقسم الثالث: ما تجوز فيه المسابقة بدون عوضٍ، ولا تجوز بعوضٍ، ما تجوز فيه المسابقة بدون عوضٍ: وهو كل ما كان فيه منفعةٌ مباحةٌ وليس فيه مفسدةٌ راجحةٌ؛ مثل: المسابقة بالأقدام، يعني بعض الألعاب الرياضية ونحو ذلك، هذه الأقسام الثلاثة المشهورة عند الفقهاء.
بعض العلماء أضاف قسمًا رابعًا، وبعضهم جعله مضافًا للقسم الأول: وهو ما يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ: وهو ما كان فيه إظهارٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، هكذا عبر ابن القيم رحمه الله: "ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه"، والأصل في هذا: قصة مراهنة أبي بكرٍ الصديق لكفار قريشٍ، وحاصل هذه القصة: أنه لما نزل قول الله : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:1-5]، كان المسلمون يحبون انتصار الروم على فارسٍ؛ لأن الروم أهل كتابٍ، وكان كفار قريشٍ يحبون انتصار الفرس لأنهم ليسوا بأهل كتابٍ، فلما نزلت هذه الآية: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ؛ خرج أبو بكرٍ الصديق يصيح بها في الناس، فقال نفرٌ من كفار قريشٍ: تزعم أن الروم ستغلب فارسًا في بضع سنين، وكانت فارسٌ والروم هما أقوى دولتين في ذلك الوقت، فظهر للناس أن كون الروم ستغلب في مدةٍ قليلةٍ شيءٌ بعيدٌ جدًّا، فقالوا: تزعم أن الروم ستغلب فارسًا في بعض سنين؟! نراهنك على ذلك.
أبو بكرٍ الصديق كان على يقينٍ أن ما قاله الله حقٌّ، فوافق أبو بكرٍ على هذا الرهان، فقالوا: اجعل بيننا وبينك وسطًا من الزمن، فاتفق هو وإياهم على أن يجعلوه ست سنين، فراهن أبو بكرٍ الصديق كفار قريشٍ على أن الروم ستغلب فارسًا في ست سنين، ثم إن أبا بكرٍ الصديق أخبر النبي بذلك، فقال له عليه الصلاة والسلام: ألا جعلته إلى ما دون العشر؟! [4]، وفي روايةٍ: هلَّا احتطت؟! [5]، يعني: هلَّا جعلت الموعد في أكثر ما يكون من البِضْع؟! والبضع: هو من ثلاثٍ إلى تسعٍ، فلو أنك احتطت وجعلته تسع سنين؛ لكان هذا أحسن، ربما تمضي ست سنين ولم تغلب الروم فارسًا، والله تعالى قال: فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4]، والبضع يَصدُق حتى على تسع سنين، فسكت أبو بكرٍ الصديق ، مضت ست سنين ولم تغلب الروم فارسًا، فأخذوا من أبي بكرٍ الصديق الرهان، وأبو بكرٍ كان على يقينٍ بأن ما قاله الله حقٌّ قطعًا، وبقي في البِضْع، بقي ثلاث سنين، فقال أبو بكرٍ : ألا أراهنكم على أن الروم ستغلب فارسًا في ثلاث سنين فقط، فطمعوا في أن يظفروا برهانٍ آخر فراهنوا، ثم إنهم في السنة السابعة ظهرت الروم على فارسٍ، فاسترد أبو بكرٍ الصديق رهانه، وقيل: إنه أسلم أناسٌ لما رأوا صدق ما راهن عليه أبو بكرٍ الصديق ، أن الروم ستغلب فارسًا.
والشاهد من هذه القصة: أن النبي أقر أبا بكرٍ الصديق على هذا الرهان؛ فدل ذلك على جواز هذا النوع من المراهنات؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الرهان على ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه"، يعني أنه جائزٌ، قال: "كما راهن الصديق"، قال: "هو من أحق الحق"، هذه عبارة ابن القيم، فالرهان على ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، فهو من أحق الحق، وأولى بالجواز من الرهان على النصال وسباق الخيل والإبل، وأثر هذا في الدين أقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان، وبالسيف والسنان.
إذنْ هذا هو القسم الذي أضافه بعض العلماء، ومن أبرز من أضاف هذا القسم: الإمام بن تيمية، والإمام ابن القيم، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، رحمة الله تعالى على الجميع، فقالوا: ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، يجوز الرهان عليه مطلقًا، يعني: تجوز المسابقات عليه بعوضٍ وبدون عوضٍ، ولو أردنا أن نُطبِّق ذلك على الواقع الآن، ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، من صور ذلك مثلًا: المناظرات في بعض القنوات والوسائل الإعلامية ووسائل التواصل؛ كأن تكون مناظرةٌ بين المسلمين والكفار، أو مناظرةٌ بين أهل السنة وبين بعض الطوائف المخالفة لأهل السنة؛ لأجل إظهار الحق الذي لدى المسلمين، أو إظهار الحق الذي لدى أهل السنة، فيجوز ذلك، سواءٌ كان بعوضٍ أو بدون عوضٍ؛ استنادًا على هذا.
المقدم: أحسن الله إليكم، هنا سؤالٌ يَرِد في ذكركم أن يكون بعوضٍ أو بدون عوضٍ، هل المقصود هنا بالعوض: العوض المبذول من المتسابقين، أم حتى ما يتعلق بالعوض المبذول من طرفٍ خارجيٍّ؟
الشيخ: المقصود بالعوض الذي ذُكِر هنا: العوض المبذول من المتسابقين أنفسهم، هذا هو العوض، أما ما يكون من طرفٍ خارجيٍّ، فهذا لا يدخل في هذا الباب، هذا يُعتبر جَعالةً؛ كأن تقول: من يفعل كذا؛ له كذا، ومن ذلك، كما سيأتينا بعد قليلٍ: المسابقات الثقافية، ومسابقات تحفيظ القرآن، ومسابقات السنة، فتضع جهةٌ خارجيةٌ جوائز، فهذه لا تدخل في هذا الباب؛ لأن هذه جعالةٌ، لكن إذا قلنا: مسابقاتٌ، فالمقصود: أن المتسابقين أنفسهم هم الذين يبذلون العوض، على أن جمهور الفقهاء -إذا كانت المسابقة في الإبل والخيل- اشترطوا إدخال محلِّلٍ، يسمونه "محلِّلًا" أي: فرسًا ثالثًا يدخل مع الاثنين، أو أيضًا يدخل مع الإبل، مثل جملٍ، أو ناقةٍ تدخل مع الإبل، ويكون هذا المحلِّل الثالث مع المتسابقَين، ولا يُخرِج شيئًا، قالوا: فإن سبقهما؛ أخذ سبقهما، وإن سبقاه؛ أحرزا سبقهما ولم يَغرم هو شيئًا، وإن سبق المُحلِّل مع أحدهما؛ اشترك هو والسابق في سبقه، وهذا هو رأي الجمهور، واحتجوا بحديثٍ مرويٍّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي : من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق؛ فليس بقِمَارٍ، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو يأمن أن يسبق؛ فهو قمارٌ [6]، هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، لا يثبت من جهة الصناعة الحديثية؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: "إن القول بالمحلِّل مذهبٌ تلقَّاه الناس عن سعيد بن المسيب، وأما الصحابة فلا يُحفظ عن أحدٍ منهم قطُّ أنه اشترط المحلِّل، ولا راهن به على كثرة تراهنهم، بل المحفوظ عنهم خلافه"، وهكذا أيضًا الإمام ابن تيمية رحمه الله سبق ابن القيم وقال: "ما علمت بين الصحابة خلافًا في عدم اشتراط المحلِّل"؛ ولذلك ما يوجد في كتب الفقه من مسألة اشتراط المحلِّل، وهذه التفاصيل التي ذكروها، هذه كلها لا دليل عليها، ولم تكن معروفةً عند الصحابة ، وربما أن الفقهاء الذين ذكروا ذلك اعتمدوا على الحديث السابق، حديث أبي هريرة ، ولكن ذكرنا أن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ لا يصح عن النبي .
القاعدة في المسابقات الداخلة في الميسر
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، هناك الميسر له صلةٌ بالمسابقات، وقد يقع فيها أحيانًا، هل يمكن أن نُبيِّن القاعدة في المسابقات التي تدخل في محظور الميسر؟
الشيخ: الميسر ذكره الله مقرونًا بالخمر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، والقاعدة في المسابقات الداخلة في الميسر هي: "كُلُّ مسابقةٍ أو مغالبةٍ أو لعبةٍ يَبذل فيها المتسابقان أو الداخل فيها عوضًا وهو متردِّدٌ بين الغُرم والغُنم"، أي: بين الربح والخسارة، فهذه تدخل في الميسر؛ لأن الداخل في هذه المسابقة أو اللعبة أو المغالبة إما غانمٌ، وإما غارمٌ، إما رابحٌ، وإما خاسرٌ، هذه المسابقات والمغالبات التي يَبذل فيها المتسابق العوض ويتردَّد بين الربح والخسارة، وبين الغرم والغنم، هذه تدخل في الميسر، ما عدا المسابقات التي استثناها الشارع التي تكلمنا عنها قبل قليلٍ، لكن من دخل مسابقةً في غير المسابقات التي استثناها الشارع، وهو متردِّدٌ بين الغنم والغرم، فهذا من الميسر، لكن لو دخلها وهو متردِّدٌ بين الغنم والسلامة -يعني غانمٌ أو سالمٌ- هذه لا تدخل في الميسر، وهذا يقودنا لذكر أمثلةٍ وتطبيقاتٍ لهذا.
تطبيقاتٌ معاصرةٌ لما يدخل تحت الميسر
المقدم: هي تطبيقاتٌ معاصرةٌ لما يَدخل تحت قاعدة الميسر وما لا يدخل؟
الشيخ: نعم، من ذلك مثلًا: مسابقات المحلات التجارية المبنية على السحب، والتي لا يستطيع الراغب فيها الدخول إلا ببذل عوضٍ، وذلك بشراء قسيمة هذه المسابقة، ونحو ذلك، فهذه لا تجوز، وتدخل في الميسر، لماذا؟ لأن المتسابق مترددٌ بين الغُنم والغُرم، أما لو كانت هذه المسابقة لا يُشترط فيها شراء القسمية، وكان المحل التجاري يبيع بسعر السوق، وأعلنوا عن جائزةٍ مثلًا لأحد المتسوقين، هذه لا بأس بها؛ لأن المتسابق في هذه الحال إما غانمٌ وإما سالمٌ.
بعض المحلات التجارية -من باب الدعاية ومن باب التسويق- يقولون: نضع جائزةً لأحدِ مَن يتسوق منا، وربما تكون الجائزة كبيرةً، فإذا كان المحل التجاري لا يشترط على المتسوق بذل عوضٍ، ولا يرفع أيضًا أسعار السلع لأجل هذه المسابقة؛ فهذه لا بأس بها؛ لأنها في حقيقتها كأن صاحب المحل التجاري يقول: أنا أريد أن أُعطي تخفيضًا، لكن ليس لجميع العملاء، وإنما لأحدهم بهذه الطريقة، فهذه لا بأس بها.
أيضًا من المسابقات غير الجائزة: المسابقات التي يُشترط للدخول فيها الاتصال برقمٍ معينٍ، ويكون هذا الرقم فيه تكلفةٌ غير معتادةٍ، هذه أيضًا تدخل في هذا، وكذلك أيضًا التي يُشترط للدخول فيها شراءُ قسيمةٍ، شراء صحيفةٍ، رسائل جوالٍ بتكلفةٍ غير معتادةٍ، هذه كلها تدخل في الميسر.
بطاقات الفنادق وبطاقات الطيران الغالب أنها مجانيةٌ، إن كانت مجانيةً؛ فلا بأس بها، ولا تنطبق عليها قاعدة الميسر، والداخل فيها متردِّدٌ بين كونه غانمًا وسالمًا، لكن لو افترضنا أن بعض هذه الفنادق أو شركات الطيران يشترطون للداخل في هذه النقاط بذل عوضٍ؛ فإنها تدخل في الميسر ولا تجوز.
الألعاب التي يُدفع فيها عوضٌ، والدافع فيها متردِّدٌ بين الربح والخسارة، هذه لا تجوز، ومن ذلك لعبة النَّرْد، والنبي يقول: من لعب بالنَّرْدَشِير فكأنما صبغ يده في لحم خنزيرٍ ودمه [7]، ولعبة النرد عمومًا لا تجوز، حتى وإن كانت بغير عوضٍ، لكن لا بد أن نعرف ما المقصود بها، ليست هي اللعبة التي تسمى عند الناس "الزهرة"، أو "لعبة الزهر"، أو "السُّلَّم والثعبان"، ليست هذه النرد، إنما هي شبيهةٌ بلعبة الطاولة، لكن الألعاب عمومًا التي يدخل فيها اللاعب متردِّدًا بين الربح والخسارة والغُنم والغُرم؛ هذه تدخل في الميسر.
المقدم: أحسن الله إليكم، هناك صورٌ استجدَّت في المسابقات التي جاء بها النص، لكنها على وجهٍ ليس لأجل التقوِّي على الجهاد، فهل يخرجها عن الصورة المباحة؟
على سبيل المثال شيخنا: الآن في الحديث ذُكر أنه لا سَبَق إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ [8]، استجدَّت الآن مسابقاتٌ متعلقةٌ بالخيل، لكن ليس في المسابقة على الخيل، وإنما لأمورٍ أخرى لا علاقة لها بما يُقوِّي على الجهاد؛ كالمسابقة في جَمَال الخيل مثلًا، أو جَمَال الإبل ونحوها، فهل يجوز بذل العوض من المتسابقين في مثل هذه المسابقات؟
الشيخ: الخيل والإبل والنصل ورد النص عليها في الحديث السابق: لا سَبَق إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ [9]، الآن الأمور اختلفت، أصبحت الخيل والإبل ليست من آلات القتال في سبيل الله، فلو جرت مسابقاتٌ على الخيل والإبل، والمتسابقون هم الذين يبذلون العوض، لاحِظ هذا القيد: ليست الجوائز من جهةٍ خارجيةٍ، إن كانت من جهةٍ خارجيةٍ؛ فهي جائزةٌ، لكن الكلام أن المتسابقين يبذلون عوضًا، فهل نقول: إنها جائزةٌ؛ لعموم النص؟ أم نقول: ننظر للعلة والمعنى ونقول: النبي إنما ذكرها لكونها آلات القتال في زمنه، وأما في وقتنا الحاضر لم تعد من آلات القتال؛ فلا تجوز؟
هذه المسألة عندي فيها ترددٌ، وهي محل توقُّفٍ عندي، لم يتحرر لي فيها قولٌ راجحٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا في المسابقة عليها في الركض ونحو ذلك، لكن ماذا لو كان في استخدامها في غير ما ذُكر؛ لأجل مثل ما ذكرت لكم شيخنا، مثل المسابقة عليها في جَمَالها؟
الشيخ: والله هذه كلها تحتاج لمزيد تأملٍ ونظرٍ.
صورٌ معاصرة للمسابقات الجائزة
المقدم: أحسن الله إليكم، ذكرنا قبل قليلٍ ما يتعلق بالصور المعاصرة الداخلة في المسابقات التي تندرج تحت الميسر، هل هناك صورٌ معاصرةٌ يمكن أن تُذكر تحت الأبواب غير الداخلة في الميسر؟
الشيخ: نعم، إذا كانت الجوائز أو العوض من غير المتسابقين، وإنما من جهةٍ خارجيةٍ؛ فهذه تعتبر جَعَالةً ولا تدخل في الصور المحرمة؛ من ذلك: مسابقات القرآن والسنة، والمسابقات الثقافية التي تكون الجوائز فيها من غير المتسابقين، فهذه لا بأس بها؛ لأنها جعالةٌ، على أن من أهل العلم من يقول أيضًا: ما كان متعلِّقًا بالعلم الشرعي عمومًا فيجوز، هذا ذكره صاحب "الإنصاف" عن تقي الدين ابن تيمية، لكن عند الجمهور أيضًا نحن نخرجها أصلًا من هذا الباب؛ لأننا نقول: مادام أن الجوائز من جهةٍ خارجيةٍ؛ فتُكَيَّف على أنها جعالةٌ، فلا بأس بها.
كذلك هدايا بعض المحلات التجارية التي تكون مع بعض السلع؛ كالألبان والعصائر ونحوها، لا بأس بها إذا كانت تُباع بسعر السوق؛ لأنها في الحقيقة تنازلٌ من البائع عن بعض حقه، فالسلعة التي قيمتها عشرةٌ مثلًا بدل أن يجعلها تسعةً ويُخفِّض تخفيضًا مباشرًا وضع معها هديةً، هذه لا بأس بها.
أيضًا ما تمنحه بعض المحلات من هدايا؛ كمناديل ونحوها، فبعض محطات الوقود تمنح مناديل، تمنح هدايا، هذه أيضًا لا بأس بها؛ لأنها لا تنطبق عليها قاعدة الميسر، وحقيقة الأمر: أن صاحب هذا المحل تنازل عن بعض حقه، لكن جعله على شكل هديةٍ، وإن كان هناك بعض العلماء المعاصرين من منعها، قال: إن هذا يُلحِق الضرر بالمحلات الأخرى، لكن هذا محل نظرٍ؛ لأن أمور التجارة قائمةٌ على التنافس من قديم الزمان، حتى في عهد النبي ، لكن إذا كان هناك ضررٌ ظاهرٌ في مثل هذه التخفيضات؛ فوَلِيُّ الأمر يتدخل ويُسعِّر السلع والبضائع، ويضع آليةً أيضًا للتخفيض، وهذا هو المعمول به: أن من أراد أن يضع تخفيضًا؛ فلا بد أن يأخذ تصريحًا من الجهة المعنية.
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- في مثل هذه الصور نقول: هي غير داخلةٍ في الميسر، لكن هل هي داخلةٌ تحت مسمى المسابقات، أم هي صورٌ لما لا يدخل تحت الميسر مطلقًا؟
الشيخ: لا، هذه صورٌ لما لا يدخل تحت الميسر مطلقًا، فبعضها مثلًا تكون فيها جوائز، لكن من جهةٍ خارجيةٍ، من غير المتسابقين، وبعضها البائع نفسه تنازل عن بعض حقه وخفَّض، لكن جعل هذا التخفيض على شكل هديةٍ.
فإذنْ القاعدة في المسابقات المحرمة: أن يدخل المتسابق وهو مترددٌ بين الغُنم والغُرم، بين الربح والخسارة، إلا فيما استثناه النص: خُفٌّ أو نصلٌ أو حافرٌ [10]، الضابط في الجواز: أن الداخل في هذه المسابقة يكون إما غانمًا وإما سالمًا، وليس إما غانمًا وإما غارمًا، فإما أن يَسلَم ولا يخسر شيئًا، وإما أن يغنم ويربح عوضًا أو جائزةً.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، والحقيقةَ شيخنا جلَّيتم كثيرًا من المسائل المتعلقة بأبواب المسابقات، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على ما قدم، شكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أتقدم بالشكر الجزيل لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه أبو داود: 2574، والترمذي: 1700، والنسائي: 3585، وابن ماجه: 2878، وأحمد: 10138. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 523. |
^3, ^8, ^9, ^10 | سبق تخريجه. |
^4 | رواه الترمذي: 3193، وأحمد: 2495، وقال محققو المسند: إسناده صحيح. |
^5 | رواه الترمذي: 3191، وقال: حسن غريب. |
^6 | رواه أبو داود: 2579، وابن ماجه: 2876، وأحمد: 10557. |
^7 | رواه مسلم: 2260. |