جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه مسائل الفقه وما يتعلق بالفقه وأحكامه.
يصحبنا في هذا البرنامج شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، رئيس الجمعية الفقهية السعودية، وأستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا.
الشيخ: أهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
أحكام التأمين
شيخنا، في هذه الحلقة سيكون الحديث عن موضوعٍ مهمٍّ، وتمس الحاجة إليه، ويتضمن جملةً من المسائل والأحكام التي يحتاج إلى أن يعرفها المسلم وأن يتفقَّه فيها، ألا وهو موضوع: "التأمين"، وقبل الدخول في تفاصيل أحكامه، من المعلوم أن هناك ما يسمى بـ"التأمين التجاري"، وهو التأمين الشائع، نريد أن نعرف صورته قبل ذلك، ثم بيان الأحكام المتعلقة به.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فـ"التأمين" مصطلحٌ شائعٌ ومطبقٌ في جميع دول العالم، وهو: نظامٌ تعاقديٌّ يقوم على أساس المعاوضة أو التبرع، أو يكون مختلطًا منهما، يلتزم فيه طرفٌ لآخر بتعويضٍ نقديٍّ يدفعه له عند حصول حادثٍ أو نحوه.
ولم يكن التأمين -بوضعه المعروف الآن- موجودًا عند الفقهاء السابقين؛ ولهذا فالكلام عنه يُعتبر من النوازل، وإن كان ابن عابدين رحمه الله -الفقيه الحنفي المعروف- قد أشار إلى بعض أنواعه في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار"، وذكر أنه كان يسمى في وقته بـ"السوكرة"، وانتهى إلى تحريمه.
أقسام التأمين
والتأمين ينقسم إلى: "التأمين التجاري"، و"التأمين التعاوني"، ومن أبرز فروعه: "التأمين الاجتماعي".
التأمين التجاري
التأمين التجاري: هو عقدٌ يلتزم فيه المؤمِّن بمقتضاه أن يُؤدِّي إلى المؤمَّن له، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه؛ مبلغًا من المال، أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عوضٍ ماليٍّ آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقيق الخطر المبيَّن في العقد؛ وذلك نظير قسطٍ أو دفعةٍ ماليةٍ يُؤدِّيها المؤمَّن له للمؤمِّن، ويتحمل بمقتضاه المؤمِّن تبعةَ مجموعةٍ من المخاطر، بإجراء المقاصة بينهما وفقًا لقوانين معينةٍ.
وهذا التأمين بهذا التصوير محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين؛ فمنهم من ذهب إلى جوازه، ومنهم من ذهب إلى تحريمه، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء المعاصرين، ومن أبرز من ذهب لذلك: المجامع الفقهية: "المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي"، و"مجمع الفقه الإسلامي الدولي"، وأيضًا "هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية"، وجمهور العلماء المعاصرين.
القائلون بالجواز قالوا: إن التأمين فيه مصلحةٌ كبيرةٌ، وما قد يوجد فيه من الغرر فمغتفرٌ بجانب المصلحة الكبيرة، قالوا: إن بعض العقود التي أجازتها الشريعة فيها غررٌ؛ لما يترتب عليها من المصالح الكبيرة؛ كالجَعالة، فالجَعالة فيها غررٌ، لكن الشريعة أجازتها لما فيها من المصلحة؛ فكذا التأمين.
وقالوا مما يدل لهذا: اتفاق جميع دول العالم على الأخذ بهذا النظام؛ مما يدل على أن جميع العقلاء يرون أن فيه مصلحةً.
وأيضًا ذكروا من أدلة الجواز: قياس التأمين التجاري على العاقلة، وعلى نظام التقاعد، وعلى عقود الحراسة، إلى غير ذلك من الأدلة التي استدلوا بها.
أما القائلون بالتحريم فاستندوا إلى أن التأمين التجاري فيه غررٌ فاحشٌ، فهو من عقود المعاوضات المشتملة على الغرر، فالمستأمِن (الذي هو طالب التأمين) وقت العقد لا يستطيع أن يعرف ما له وما عليه في عقد المعاوضة، ولا يستطيع أن يعرف مقدار ما يأخذ ومقدار ما يُعطَى، قد يدفع قسطًا أو قسطين أو ثلاثةً، ثم يحصل له الحادث فيأخذ أكثر مما دفع، وقد لا يحصل له حادثٌ أصلًا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا، هكذا أيضًا بالنسبة للمؤمِّن -يعني بالنسبة للجهة التي تُؤمِّن- لا يعرف هذا المؤمِّن ما له وما عليه، قد يربح كثيرًا بعلاقته مع هذا المستأمِن وقد يخسر؛ ففيه غررٌ.
ولهذا جُلُّ شركات التأمين تقوم بإعادة التأمين لدى شركاتٍ كبرى؛ لأنها لا تدري ما الذي يحصل لها، ربما في سنةٍ من السنوات تَكثر الحوادث، بطريقةٍ معينةٍ تكثر الحوادث كثرةً فاحشةً، فتُفلس الشركة؛ ولهذا فإن جُل هذه الشركات يعود بإعادة التأمين لدى شركاتٍ كبرى؛ خشية وقوع هذا الاحتمال، فقالوا: إن فيها غررًا ظاهرًا.
وأيضًا أصحاب هذا القول قالوا: إنه يدخل في ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في المعاوضات المالية، فقد يدفع الإنسان قسطًا من التأمين، ثم يقع الحادث، فيدفع له المؤمِّن أكثر من مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر فيغنم المؤمِّن أقساط التأمين بلا مقابلٍ، وقالوا: إنه أيضًا يشتمل على ربا الفضل والنسيئة؛ لأن المؤمِّن إذا دفع للمستأمِن أكثر مما دفع له من النقود، فيكون ربا فضلٍ؛ لأنه مالٌ بمالٍ مع التفاضل، وإن كان هذا مناقَشًا، وسيأتي الكلام عنه، وقالوا أيضًا: إنه من الرهان المحرم، وأن فيه أخذًا للمال بالباطل.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الأقرب هو ما عليه جمهور المعاصرين من عدم جواز التأمين التجاري، لكن لا يستقيم من الأدلة التي ذكروها سوى الدليل الأول: وهو وجود الغرر فقط، أما ما ذكروه من الأدلة الأخرى فهو محل نظرٍ، ولا يُسلَّم بها، لا يُسلم بأنه يشتمل على الربا، فالربا يكون مالًا بمالٍ، وهنا ليس فيه مالٌ بمالٍ، وإنما مالٌ مقابل الالتزام بالتعويض، فالقول بأن فيه ربًا لا يستقيم، وهكذا أيضًا ما ذكروه من المقامرة لا يستقيم، وكذلك أيضًا ما ذكروه من أكل المال بالباطل ومن الرهان، كل هذه الأدلة الحقيقةَ لا تستقيم، هو فقط الدليل الذي يمكن أن يُستند عليه: هو ما فيه من الغرر؛ لأن ما ذُكر من الغرر له وجاهته؛ لهذا كما ذكرنا أن شركات التأمين معظمها أو جلها تقوم بإعادة التأمين؛ لأنها تخشى من هذا الغرر، تخشى من أن تَكثر الحوادث في سنةٍ معينةٍ فيقع الإفلاس لتلك الشركة.
والقائلون بالجواز استدلوا بأدلةٍ لها وَجاهَتها، لكنها لا تستقيم في الحقيقة مع علة الغرر؛ لأن هذا العقد عقد معاوضةٍ وفيه غررٌ، والشريعة الإسلامية نهت عن الغرر، ومنعت العقود المشتملة على الغرر، فهو عقد معاوضةٍ، والغرر فيه كبيرٌ، فهذه أبرز العلل، وما ذكره القائلون بالجواز كلها لا ترفع هذا الإشكال؛ ولهذا يبقى الإشكال الكبير، لولا الغرر لكان القول بجوازه متجهًا، ومع ذلك تبقى هذه المسألة من المسائل الاجتهادية.
المقدم: أحسن الله إليكم.
قبل أن أنتقل إلى محورٍ آخر في جانب الغرر والمحظور الذي فيه، هل يرتفع الحرج الشرعي بالتراضي بين الأطراف المتعاقدة على هذا الغرر؟ بمعنى أن كلًّا من الطرفين (المؤمِّن والمؤمَّن له) لو افترضنا أنهما تراضيا في هذا الباب، هل يرفع هذا الحرجَ الشرعي؟
الشيخ: التراضي لا يرفع الحرج، لو مثلًا باع طيرًا في الهواء، أو سمكًا في الماء، وتراضى الطرفان، هذا لا يجعل المعاملة صحيحةً؛ لأنهما قد يتراضيان في البداية ثم بعد ذلك يختلفان ويحصل النزاع، ولكن إذا اختار ولي الأمر أحد الأقوال في مسألةٍ اجتهاديةٍ، وحصل الإلزام بذلك؛ هنا يرتفع الحرج، إذا رأى ولي الأمر المصلحة في التأمين، وأن المسألة اجتهاديةٌ، وأخذ برأي من يقول بجوازه من الفقهاء؛ فالإنسان في هذه الحال يرتفع عنه الحرج باعتبار أنه ملزَمٌ بهذا التأمين؛ وعلى ذلك: لا بأس أن يُؤمِّن لدى شركةٍ تتعامل بالتأمين التجاري إذا كان التأمين ملزِمًا في هذه الحال.
المقدم: أحسن الله إليكم، وهذا يصلح أن يكون قاعدةً عامةً في مسائل الاجتهاد إذا كانت محل اجتهادٍ أو خلافٍ، حتى وإن رأى الإنسان في نفسه قولًا آخر، لكن ولي الأمر اختار قولًا؛ ينزل على قوله؛ لأنها مسألةٌ اجتهاديةٌ، وفيها مصلحة الاجتماع؟
الشيخ: نعم، صحيحٌ إذا كانت المسألةُ مسألةً اجتهاديةً، واختار ولي الأمر قولًا من أقوال الفقهاء؛ فحينئذٍ ينبغي أن يحصل الاجتماع على ذلك القول، مادام أنه قال به مِن أهل العلم مَن قال به، ورأى ولي الأمر أن في الأخذ به مصلحةً؛ فالذي يظهر: أنه يرتفع الحرج في هذه الحال.
المقدم: أحسن الله إليك.
التأمين التعاوني
ظهر أيضًا على الساحة -شيخنا- النوع الثاني من أنواع التأمين: وهو ما يسمى بـ"التأمين التعاوني"، فأود لو بينتم لنا صورته وحكمه الشرعي.
الشيخ: التأمين التعاوني، وأيضًا يسمى "التأمين التبادلي"، معناه: أن يجتمع عدة أشخاصٍ معرَّضين لأخطارٍ متشابهةٍ، ويَدفع كلٌّ منهم اشتراكًا معينًا، وتُخصَّص هذه الاشتراكات لأداء التعويض المستحق لمن يُصيبه ضررٌ، وإذا زادت الاشتراكات على ما صُرف من تعويضٍ؛ كان للأعضاء حقُّ استردادها، وإذا نقصت؛ طُولب الأشخاص باشتراكٍ إضافيٍّ لتغطية العجز، وتُدار الشركة بواسطة أعضائها، كل واحدٍ يكون مؤمِّنًا ومؤمَّنًا له، ويكون لهذه الشركة إدارةٌ تنفيذيةٌ، وتقوم بإدارة هذه الأقساط، والغرض من هذا التأمين: التعاون على تحمل المصائب وتخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء.
الفرق بين التأمين التجاري والتعاوني
ولا يُقصد من هذا التأمين تحقيق مكاسب ماديةٍ؛ حتى نُفرِّق بينه وبين التأمين التجاري، ومن صور هذا التأمين: شركات التأمين التكافلي أو التعاوني، وهي الآن موجودةٌ في السوق، وتُمارس التأمين بصورته الجائزة شرعًا.
ويمكن أن يُفرَّق بين شركات التأمين التجاري وشركات التأمين التعاوني:
- أولًا: من جهة فصل الذمة، فصل ذمة المشتركين عن ذمة المساهمين.
- وكذلك أيضًا من جهة سد العجز، فشركات التأمين التجاري تسُدُّ العجز، وضامنةٌ لسد العجز مباشرةً، بينما شركات التأمين التعاوني تقوم بسد العجز بطريقةٍ مشروعةٍ؛ إما بالقرض الحسن، وإما بمرابحةٍ، وإما بأية صورةٍ من الصور المُجازة شرعًا، لكنها لا تفعل كما تفعل شركات التأمين التجاري بسد العجز مباشرةً من محفظة المساهمين.
- وكذلك أيضًا من الفروق: رَدُّ الفائض؛ لأنه يُشترط في شركات التأمين التجاري: أن هذه الشركة شركةٌ أجيرةٌ، تقوم بإدارة هذه الأقساط، فإذا وُجد فائضٌ؛ فيكون من مصلحة هؤلاء المشتركين.
- كذلك أيضًا من صور التأمين التعاوني: صناديق الأسر والعوائل، يوضع صندوق أسرةٍ من الأسر، وكل واحدٍ من أفراد الأسرة يشترك بقسطٍ شهريٍّ أو سنويٍّ، وإذا حصل لأي واحدٍ من أفراد الأسرة حادثٌ أو حاجةٌ مُلِحَّةٌ؛ فإنه يؤخذ منه وفق ضوابط معينةٍ، هذه أيضًا صورةٌ من صور التأمين التعاوني، الصناديق عمومًا، الصناديق التعاونية التي يشترك فيها عددٌ من الناس، ويُؤخذ من هذه الصناديق لأجل تغطية بعض ما يقع من حوادث ومصائب ونحو ذلك، هذه كلها تدخل في التأمين التعاوني.
التأمين التعاوني جمهور العلماء المعاصرين على جوازه، والمجامع الفقهية أجازته، ومنها "المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي"، وأيضًا "مجمع الفقه الدولي"، و"هيئة كبار العلماء بالمملكة"، وجمهور المعاصرين على جواز التأمين التعاوني التكافلي.
ويدل لذلك: أن ما يُبذل على وجه التكافل والتعاون، وليس على سبيل المعاوضة وطلب الربح، فالشريعة تُجيزه، بل تُشجِّع عليه، ومما ورد في السنة في هذا: ما جاء في "صحيح البخاري" عن أبي موسى أن النبي قال: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قَلَّ طعام عيالهم بالمدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم [1]، وهذه في الحقيقة صورةٌ مبسطةٌ للتأمين، يعني هؤلاء الأشعريون إذا قَلَّ طعامهم وحصل عندهم ضائقةٌ؛ فإنهم يجمعون ما كان عندهم من طعامٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقتسمونه بينهم بالسوية، هذه صورةٌ مبسطةٌ للتأمين، صورةٌ يسيرةٌ للتأمين التعاوني، هم يقومون بهذا، كلٌّ يأتي بطعامٍ، هذا قليلٌ وهذا كثيرٌ، ثم يجمعونه كله في ثوبٍ واحدٍ، ويقتسمونه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسوية، يُعاون بعضهم بعضًا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أثنى على صنيعهم، وقال: هم مني وأنا منهم؛ لأن هذا ضربٌ من ضروب التعاون، وكلٌّ منهم يساعد الآخر، يعني من كان عنده طعامٌ كثيرٌ يساعد من كان طعامه قليلًا، ثم يقتسمونه بينهم بالسوية؛ فهذا يدل على جواز التأمين التعاوني.
كذلك أيضًا: العاقلة، العاقلة في الإسلام هي صورةٌ من صور التأمين التعاوني، العاقلة التي هي عَصَبة الإنسان يعقلونه في القتل الخطأ، وفي القتل شبه العمد، وإذا حصل قتل خطأ، أو قتل شبه عمدٍ؛ فإن عاقلة الإنسان يتحملون الدية، يتعاونون فيما بينهم، كلٌّ يدفع بحسب يساره، وبحسب قدرته؛ حتى يدفعوا الدية عن قريبهم، فهذه في الحقيقة صورةٌ من صور التأمين التعاوني، والعاقلة مُقرَّةٌ في الشريعة الإسلامية، والفقهاء يتكلمون عنها بالتفصيل، ويعقدون لها بابًا وأحكامًا.
أيضًا إذا نظرنا إلى قاعدة الشريعة؛ نجد أن الشريعة تتسامح فيما كان مبنيًّا على الإرفاق والإحسان والتعاون والتكافل؛ فعلى سبيل المثال، لو أردنا أن نوضح هذه الفكرة: القرض صورته في الأصل صورةٌ ربويةٌ، لماذا؟ لأنه مالٌ نقدٌ بنقدٍ مع عدم التقابض، أُعطيك عشرة آلافٍ تردها إلي بعد مدةٍ، بعد شهرٍ أو بعد سنةٍ أو أكثر عشرة آلافٍ.
المقدم: متفقةٌ في الجنس والعلة؟
الشيخ: نعم، ولا يوجد تقابضٌ، عشرة آلافٍ بعشرة آلافٍ مع عدم التقابض، هذه في الأصل صورةٌ ربويةٌ، فيها ربا نسيئةٍ، لكن الإسلام أجاز هذه الصورة مادام أن المقصود به القرض، لماذا؟ لأن في هذا تشجيعًا على الإحسان، وتشجيعًا على الإرفاق، وتشجيعًا على التكافل، فاستثنت الشريعة صورة القرض؛ تشجيعًا للناس على الإحسان والتكافل والتعاون بينهم؛ ولذلك إذا أصبح يراد بالقرض الربحية والمعاوضة والمنفعة؛ رجع القرض لصورته في الأصل، وهي الصورة الربوية، وهذا معنى قول الفقهاء: "كل قرضٍ جر نفعًا فهو ربًا"، لماذا؟ لأن صورة القرض في الأصل صورةٌ ربويةٌ، لكن الشريعة الإسلامية استثنت هذه الصورة؛ من باب تشجيع الناس على الإرفاق والتكافل والتسامح فيما بينهم.
فقاعدة الشريعة إذنْ: التشجيع على ما كان مبنيًّا على الإرفاق، وما كان مبنيًّا على الإحسان والتكافل، بخلاف ما كان مبنيًّا على الربح والمعاوضة، فهنا يُمنع منه ما كان فيه غررٌ، وما كان فيه جهالةٌ، لماذا؟ لأن هذا مظنَّةٌ للمنازعة، ومظنَّةٌ للخصومة وأكل المال بالباطل.
فالخلاصة إذنْ: أن التأمين التعاوني جائزٌ، وأنه يمكن في الوقت الحاضر أن يُمارَس عن طريق شركات التأمين التعاوني التكافلي.
والحقيقة أن صناعة التأمين التعاوني في العالم الإسلامي صناعةٌ جديدةٌ، وتحتاج إلى تشجيعٍ من المجتمعات الإسلامية؛ حتى تنهض هذه الصناعة، مثل المصرفية الإسلامية، بدأت أول ما بدأت ضعيفةً، ثم بدأت ترتقي شيئًا فشيئًا، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، وأصبح الآن كثيرٌ من الناس يستطيع أن يحصل ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ عن طريق صيغةٍ من صيغ التمويل المباحة شرعًا عن طريق البنوك والمصارف، فارتقت المصرفية الإسلامية في الوقت الحاضر وظهرت وازدهرت، لكن صناعة التأمين التعاوني لا تزال في بداياتها بحاجةٍ للتشجيع؛ حتى تنهض وتزدهر كما نهضت المصرفية الإسلامية.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم أخذ أكثر من مبلغ الإصلاح من شركة التأمين
شيخنا، في التأمين صورةٌ يكثر السؤال عنها: وهي ما إذا وقع -على سبيل المثال- للإنسان حادث سيارةٍ، وأعطته شركة التأمين مبلغًا أكثر من مبلغ الإصلاح الخاص بسيارته، كثيرٌ من الناس يتساءلون: هل يجوز له أخذ هذا القدر الزائد من المال على الإصلاح، أم لا يُباح له، ويجب عليه أن يُرجعه إلى شركة التأمين مرةً أخرى؟ ما الحكم في هذه المسألة؟
الشيخ: أولًا إذا وقع حادثٌ فالمتضرر يستحق أن يُعوَّض عن النقص الذي حصل له بسبب هذا الحادث، هذا هو الواجب الشرعي، أنه يُعوَّض عن النقص، وليس بتكلفة الإصلاح، لو كان مثلًا حادث سيارةٍ؛ يُعوَّض عن النقص؛ لذلك تُقدَّر قيمة السيارة قبل الحادث وبعد الحادث، ويكون له تكلفةُ نقص قيمة السيارة؛ وعلى ذلك: فإذا أُعطي الإنسان من شركة التأمين مبلغًا؛ ففي الحقيقة أن هذا المبلغ ليس مقابل تكلفة الإصلاح، وإنما مقابل النقص الذي حصل لسيارته بسبب هذا الحادث.
فلو افترضنا مثلًا: بعد هذا الحادث لما أصلح سيارته كانت قيمة الإصلاح خمسة آلاف ريالٍ، لكن شركة التأمين أعطته عشرة آلاف ريالٍ، فنقول: الذي لك هو مقابل نقص قيمة السيارة، وليس مقابل قيمة الإصلاح، وربما أنك تستحق أصلًا أكثر من عشرة آلافٍ، لو أنك عرضت السيارة للبيع قبل الحادث وبعد الحادث؛ ستجد أن النقص في الثمن سيكون كبيرًا؛ ولذلك لا حرج في أخذ القدر الزائد؛ لأنه إنما يأخذه مقابل نقص قيمة السيارة بسبب الحادث، وليس مقابل تكلفة إصلاح السيارة.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم افتعال حوادث يسيرةٍ لأجل الحصول على المال
كذلك أيضًا مما يُسأل عنه في باب التأمين: أحدهم يكون قد أمَّن بمبلغٍ معينٍ، ويُخشى بعد انتهاء أو قُبيل انتهاء مدة التأمين أنه سينتهي التأمين ولم يستفد منه، يعني إن صحت العبارة يختلق قصة يُنشِئ من خلالها شيئًا من هذه الحوادث اليسيرة ليجني شيئًا من المال، ويقول: هذا جزءٌ من حقِّي، حينما أدفع هذا المبلغ وأريد أن أسترده بحيلةٍ من خلال هذا، هل مثل هذا سائغٌ؟
الشيخ: هذا العمل لا يجوز شرعًا؛ لأن فيه كذبًا، وفيه تحايلًا، وفيه أخذًا للمال بالباطل، وليس للإنسان أن يأخذ مقابل التأمين إلا بمقدار ما حصل له من حوادث؛ لأن هذا هو العقد الذي تعاقد به مع شركة التأمين، أما كونه يفتعل حوادث غير صحيحةٍ، أو حادثًا يسيرًا، أو يتفق مع شخصٍ آخر على أن يفتعل طريقةً معينةً؛ لأجل أن يأخذ مالًا من شركة التأمين، فهذا لا يجوز، شركات التأمين الآن مُلَّاكها مساهمون، ليسوا شخصًا واحدًا، إنما مساهمون وأعدادٌ كثيرةٌ من الناس، وهم المساهمون الذين يمتلكون هذه الشركة، فلا يجوز أخذ مالٍ منهم بغير حقٍّ، ومثل ذلك أيضًا: أنه أحيانًا يحصل الحادث وتكون بعض الشروط غير متحققةٍ مع الحادث، ثم يأتي بشخصٍ آخر، ويقوم مع صاحب السيارة الأخرى بتمثيلٍ، يُمثِّلون الحادث، وهذا أيضًا لا يجوز، الواجب هو الصدق والبيان والوضوح والبُعد عن الكذب وعن الغش وعن هذه الحيل.
التأمين الاجتماعي
المقدم: أحسن الله إليكم، أيضًا من صور التأمين التي تُذكر في هذا الباب: ما يُعرف بـ"التأمين الاجتماعي"، فما المقصود به، وما حكمه؟
الشيخ: التأمين الاجتماعي يُعتبر فرعًا من فروع التأمين التعاوني، وهو تأمينٌ تقوم به الدولة وتُشرف عليه، وهو ما يسمى بـ"الراتب التقاعدي"، الذي يكون للإنسان بعد تقاعده، وهو راتبٌ شهريٌّ يُصرَف للموظف عند بلوغه سنًّا معينةً، أو بعد بقائه في الوظيفة مدةً معينةً، وكذلك أيضًا يدخل في هذا: التأمين الصحي الذي تتكفَّل به الدولة، أو تتكفَّل به الشركات، وتأمين إصابات العمل أيضًا، والتأمين للعجز الدائم، هذا كله داخلٌ في التأمين الاجتماعي، وأكثر العلماء المعاصرين على جوازه؛ لأنه فرعٌ من فروع التأمين التعاوني، وسبق أن ذكرنا أدلة جواز التأمين التعاوني من حديث الأشعريين، فالتأمين الاجتماعي داخل في ذلك.
ثم أيضًا الحاجةُ ماسَّةٌ إلى هذا النوع من التأمين، ومنعه يُوقع الناس في الحرج، أصبح الناس يتقاضون مرتباتهم بصفةٍ شهريةٍ، ولو بلغ الإنسان ستين عامًا أو أكثر، بلغ سبعين أو ثمانين عامًا وليس له راتبٌ تقاعديٌّ، فكيف يكسب لقمة العيش، ربما لا يجد العمل المناسب مع ضعفه، وربما في الغالب كثرة الأمراض وظروفه الصحية، فكيف يُوفِّر لقمة العيش له ولأسرته، يعني إنسانٌ بلغ الثمانين عامًا أو خمسةً وثمانين، أو تسعين أو أكثر، إذا لم يكن له راتبٌ تقاعديٌّ؛ فسيجد نفسه في حرجٍ، خاصةً مع أوضاع الحياة في الوقت الحاضر.
أوضاع الناس الآن اختلفت عن أوضاع الناس من قبل، فقد يجد صعوبةً في توفير لقمة العيش لنفسه ولأسرته؛ ولذلك فالحاجة ماسةٌ لهذا التأمين؛ ولهذا نجد أن جميع دول العالم عندهم هذا الراتب التقاعدي، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: "إن عقلاء بني آدم لا يتفقون إلا على ما كان حقًّا"، هم وجدوا فيه مصلحةً كبيرةً جدًّا، ومصلحةً ماسَّةً؛ وعلى ذلك: فالتأمين الاجتماعي بجميع صوره، سواءٌ كان راتبًا تقاعديًّا أو غير ذلك من الصور، الأصل فيه الجواز؛ لأنه نوعٌ من أنواع التأمين التعاوني.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ جديدٍ، أتقدم بالشكر الجزيل لمن قام بتسجيل هذه الحلقة، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه البخاري: 2486، ومسلم: 2500. |
---|