جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتداول فيه جملةً من المسائل والأحكام الفقهية والنوازل المعاصرة المتعلِّقة بذلك، يصحبنا فيه فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية.
فباسمي وباسمكم جميعًا أرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
التأجير المنتهي بالتمليك
شيخنا، في هذه الحلقة سنأخذ معاملةً يكثر السؤال عنها وتَمَسُّ الحاجة إليها، ويتعامل بها كثيرٌ من الناس في واقعنا المعاصر، وهي ما يُعرف بـ: "التأجير المنتهي بالتمليك"، وقبل الدخول في الأحكام الفقهية المتعلقة بهذا العقد؛ أود شيخنا لو أعطيتمونا نُبذةً في الفرق بين عقد البيع وعقد الإجارة.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالإجارة نوعٌ من البيع، الإجارة تُعتبر بيع منفعةٍ، وكلٌّ من البيع والإجارة عقدٌ لازمٌ، لكن في البيع تنتقل العين مع المنفعة، أما في الإجارة فتنتقل المنفعة فقط دون العين، ففي البيع تنتقل ملكية المبيع إلى ذمة المشتري، وتبقى القيمة دينًا في ذمة المشتري، إلا إذا كان البيع حالًّا فيُسدِّد الثمن مباشرةً، لكن ملكية المبيع تنتقل إلى ذمة المشتري، بينما في الإجارة لا تنتقل ملكية العين إلى المستأجر، وإنما تبقى ملكًا للمؤجر، فمن استأجر بيتًا فمِلكه باقٍ للمؤجر، إنما المستأجر يملك المنفعة.
فإذنْ الإجارة: هي بيع منافع، وتُعتبر نوعًا من البيع، وكلٌّ من الإجارة والبيع من العقود اللازمة.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
بعد ذلك ننتقل شيخنا إلى "الإيجار المنتهي بالتمليك"، هذا العقد ابتداءً كيف نشأ؟ وما الدواعي التي أدت إلى نشوئه؟
الشيخ: هذا العقد شاع مؤخرًا في بلاد المسلمين ولم يكن معروفًا بهذه الصيغة، وظهر أول ما ظهر في بلاد الغرب، والعقود التي تنشأ في بلاد الغرب تنشأ بِعِلَّاتها، ثم لا يزال هذا العقد يتطور حتى ظهر في بلاد المسلمين، ووَجَدت البنوك والشركات والمؤسسات فيه مخرجًا؛ لأن في بيع التقسيط تنتقل ملكية المبيع فيه إلى المشتري، وربما يتعذر تسديد المشتري للأقساط، بخلاف عقد الإجارة المنتهي بالتمليك، فإن ملكية المبيع لا تنتقل للمشتري -الذي هو المستأجر- حتى تُسدَّد جميع الأقساط، فوَجَدت البنوك والشركات والمؤسسات ضالتهم في هذا العقد؛ لأن الملكية ستبقى لهم، وهذا المستأجر يَستأجر لمدةٍ طويلةٍ، وينتهي هذا العقد الطويل بالتمليك، فنشأ العقد وانتشر في بلاد المسلمين.
والغرض منه: هو ضمان بقاء ملكية العين أو الشيء الذي يراد انتقاله بالتأجير، تبقى ملكيته للمؤجر، ولا يتصرف المستأجر فيه ببيعٍ أو بغيره، لكن في بيع التقسيط: الملكية مباشرةً تنتقل للمشتري، وهذا هو الذي دفع كثيرًا من البنوك والشركات والمؤسسات لتفضيل التأجير المنتهي بالتمليك على بيع التقسيط، يعني هم يقولون: في بيع التقسيط ملكية العين تنتقل للمشتري، بينما في التأجير المنتهي بالتمليك لا تنتقل ملكية العين للمستأجر، بل تبقى للمؤجر.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم.
حكم عقد التأجير المنتهي بالتمليك
السؤال المهم في هذا العقد: ما حكم التعامل به، وهل هو جائزٌ شرعًا؟
الشيخ: أول ما ظهر هذا العقد -التأجير المنتهي بالتمليك- اختلف فيه العلماء المعاصرون اختلافًا كثيرًا، و"هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية"، عُرض في أكثر من دورةٍ هذا العقد -في ثلاث دوراتٍ- ولم يُحسَم إلا في الدورة الثالثة منها، وأيضًا لما دُرِس في "هيئة كبار العلماء"؛ دُرِست صورةٌ واحدةٌ منه، وانتهت الهيئة بالمنع منه؛ لكونه جامعًا بين عقدين على عينٍ واحدةٍ، وهما عقدان مختلفان في الحكم متنافيان فيه، البيع يُوجب انتقال العين بمنافعها للمشتري، بينما الإجارة ليست كذلك؛ وعلى ذلك: منعت الهيئة هذا العقد، لكن في الحقيقة المنع مُنصَبٌّ على صورةٍ واحدةٍ من صور التأجير المنتهي بالتمليك.
ثم بعد ذلك "مجمع الفقه الإسلامي الدولي" المنبثق من "منظمة التعاون الإسلامي" درس هذا العقد بصوره، ووضع ضوابط للمنع وضوابط للجواز، فجعل ضابط المنع الرئيس الذي تتفرَّع منه بقية الضوابط: هو أن يَرِد عقدان مختلفان في وقتٍ واحدٍ على عينٍ واحدةٍ، هذا هو ضابط المنع؛ أن يَرِد عقدان مختلفان في وقتٍ واحدٍ على عينٍ واحدةٍ، يعني يكون بيعًا وتأجيرًا في الوقت نفسه على نفس العين، فهذا لا يجوز، وهذه هي الصورة التي منعت منها "هيئة كبار العلماء".
أما ضابط الجواز..
المقدم: أحسن الله إليكم، وهذه هي الصورة التي خرجت في أول ما خرجت هذه الصيغة؟
الشيخ: نعم، كانت من أبرز الصور في ذلك الوقت، وإن كانت في الوقت الحاضر لا تكاد تكون موجودةً، الآن الموجود في السوق: هو الصورة الجائزة، لكن الصورة الممنوعة ظهرت في بداية الأمر، ثم بعد ذلك ترك الناس العمل بها لما رأوا أن الفتاوى على تحريمها، وأيضًا ليست في صالح البنوك ولا الشركات، هم يرون أن صورة الجواز في صالحهم؛ لأن المِلكية تبقى لهم بصورةٍ واضحةٍ.
المقدم: ضابط الجواز؟
الشيخ: ضابط الجواز: وجود عقدين منفصلين يستقل كلٌّ منهما عن الآخر زمانًا؛ بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية الإجارة، وأيضًا يُشترط للجواز: أن تكون الإجارة فعليةً وليست ساترةً للبيع، تكون الإجارة فعليةً وليست ساترةً؛ وعلى هذا: يكون عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ، وهذا فيه ردٌّ على من قال من العلماء: إن التأجير المنتهي بالتمليك يأخذ حكم بيع التقسيط، وهذا غير صحيحٍ، نحن نشترط أصلًا للجواز: أن تكون الإجارة إجارةً فعليةً حقيقيةً يترتب عليها آثار عقد الإجارة، ويترتب على ذلك أيضًا: أن يكون ضمان العين المؤجرة على المالك وليس على المستأجر؛ وبذلك يتحمل المؤجر ما يلحق العين من ضررٍ غير ناشئٍ من تعدي المستأجر أو تفريطه، وإذا اشتمل العقد على تأمينٍ؛ فيكون التأمين تأمينًا تعاونيًّا يتحمَّله المالك المؤجر، وليس المستأجر.
وأيضًا تُطبَّق على عقد الإجارة المنتهي بالتمليك أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة، وأحكام البيع عند تملُّك العين، وتكون نفقات الصيانة غير التشغيلية على المؤجر لا على المستأجر طوال مدة الإجارة، نفقات الصيانة غير التشغيلية، أما نفقات الصيانة التشغيلية فهذه على المستأجر؛ يعني مثلًا: مصباحٌ احترق بعدما استخدمه المستأجر، هذا يتحمله المستأجر؛ لأنه بسبب استخدام المستأجر احترق هذا المصباح، أو احتاج مثلًا لشيء متعلِّق بالسباكة بسبب استخدامه، يتحمله المستأجر، لكن الصيانة غير التشغيلية المتعلقة بأساسات العقار مثلًا، أو أساسات هيكلة السيارة، هذه تكون على المؤجر.
فإذنْ التأجير المنتهي بالتمليك إذا تحقَّقت فيه هذه الضوابط؛ كان جائزًا شرعًا، لكن هل نقول: التأجير المنتهي بالتمليك؟ أم نقول: التأجير مع الوعد بالتمليك؟
الأحسن أن نقول: التأجير مع الوعد بالتمليك؛ لأنه تأجيرٌ حقيقيٌّ تترتب عليه آثار عقد الإجارة، ولأنه لا يلزم أيضًا أن ينتهي بالتمليك، ربما يستأجر هذا المستأجر تأجيرًا طويل المدى، ثم بعد ذلك لا يرغب في التمليك؛ لأنه أحيانًا يشترط للتمليك أن يكون هناك دفعةٌ أخيرةٌ، فبعضهم قد لا يرغب في هذا الشيء؛ ولذلك فالأدق في العبارة أن نقول: التأجير مع الوعد بالتمليك.
كيف يكون التمليك؟ بعد سداد الدفعات الإيجارية يَعِدُ المؤجرُ المستأجِرَ بتمليكه هذه السلعة؛ إما بطريق الهبة، وإما بطريق البيع، والغالب أنه يكون بيعًا بسعرٍ رمزيٍّ، وهو ما يسمونه بـ"الدفعة الأخيرة"، أو بغير ذلك من صيغ التمليك، لكن هذه هي أشهر الصور، إما أن يكون بطريق الهبة، أو يكون بيعًا بسعرٍ رمزيٍّ، مثلًا: تأجيرٌ منتهٍ بالتمليك لسيارةٍ، وهذه السيارة مثلًا أقساطها عشر سنواتٍ، ووعد المؤجر المستأجر بأنه إذا انتظم في سداد الأقساط أن يبيعها عليه بسعرٍ رمزيٍّ، يُسمونها "دفعة أخيرة"، فهذا لا بأس به، لكن يكون العقد عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ يترتب عليه آثار عقد التأجير؛ ولذلك الأحسن إما أن يُكتب: "عقد تأجيرٍ" من غير إضافة: "منتهٍ بالتمليك"، أو يقال: "تأجيرٌ مع وعدٍ بالتمليك"، ولا يكتب: "تأجيرٌ منتهٍ بالتمليك"؛ لأنه لا يلزم أن ينتهي بالتمليك، إنما يكتب: "عقد تأجيرٍ"، وهذا رأيته في بعض العقود، يكتبون: "عقد تأجيرٍ"، ولا يكتبون كلمة: "وعد بالتمليك"، وهذا هو الأحسن، أو إن أرادوا أن يُضيفوا شيئًا يدل على التمليك؛ يقال: "تأجير مع وعدٍ بالتمليك".
المقدم: لأنه -أحسن الله إليك- في هذه المدة يأخذ أحكام الإجارة مطلقًا حتى ينتهي؟
الشيخ: نعم، يأخذ أحكام الإجارة مطلقًا، ونحن أصلًا لا نُجيزه إلا إذا كان تأجيرًا حقيقيًّا؛ بأن تكون الإجارة حقيقيةً، ويترتب عليها آثار عقد الإجارة، وأيضًا لا تكون الإجارة ساترًا للبيع.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
حكم اشتراط دفعةٍ مقدمةٍ في عقد الإجارة المنتهي بالتمليك
شيخنا، في عقد الإيجار المنتهي بالتمليك هناك مسألتان تُطبَّقان بكثرةٍ في بعض صور هذا العقد، فهل هي مؤثِّرةٌ على الحكم من حيث الجواز أو عدمه؟
الأمر الأول: مَن يشترط دفعَ دفعةٍ مقدَّمةٍ في هذا العقد، فهل هذا يُخرجه من الصيغة الجائزة إلى المحرمة؟
الشيخ: هذا لا بأس به إذا تراضيا على ذلك؛ لأن هذا أيضًا يكون حتى في الإجارة العادية؛ أنت مثلًا استأجرت بيتًا واشترطت دفعةً مقدمةً أو دفعةً مؤخرةً، أو اتفقت أنت وإياه على أية صيغةٍ لتسليم الإيجار، فهذا واسع، الأصل في هذا الجواز، ولا يُؤثِّر هذا على صحة العقد.
المقدم: أحسن الله إليكم، يعني هذه الدفعة المقدمة هي في مقابل الإجارة؟
الشيخ: نعم، تُعتبر جزءًا من الأجرة.
حكم إلزام المستأجر بالتأمين في عقد الإجارة المنتهي بالتمليك
المقدم: نعم، كذلك -شيخنا- من المسائل التي تقع في عقد الإجارة المنتهي بالتمليك: إلزام المستأجر بتحمُّل التأمين، هل هذا يُخرجه من الصيغة الجائزة إلى الصيغة المحرمة؟
الشيخ: نحن ذكرنا من ضمن الضوابط: أنه إذا اشتمل العقد على تأمينٍ؛ فإن الذي يتحمَّله المالك وليس المستأجر، لكن تجد أن المالك -إذا قلنا: يتحمله المالك- يرفع السعر ويحسب التأمين، وهذا لا حرج فيه، إذا رضي بذلك المستأجر؛ لا حرج، بل حتى لو اتفقا جميعًا على أن الذي يتحمل التأمين المستأجر؛ فالذي يظهر لي أنه لا بأس به، لكن من حيث الأصل -لو حصل نزاعٌ أو خلافٌ- فالأصل: أن الذي يتحمل التأمين هو المالك المؤجر، وليس المستأجر.
حكم وجود شرط غرامة تأخيرٍ في عقد الإجارة المنتهي بالتمليك
بقيت نقطةٌ في الحقيقة -من خلال اطلاعي على بعض عقود التأجير مع الوعد بالتمليك- هي التي فيها الإشكال: وهي وجود شرط غرامة تأخيرٍ عند تأخُّر المستأجر عن سداد الدفعة الإيجارية، هذا الشرط محرمٌ، شرطُ غرامة التأخير محرمٌ، هذا نظير ربا الجاهلية؛ إما أن تقضي، وإما أن تُربي، فكأن المؤجر يقول للمستأجر: إن تأخرت عن سداد الدفعة الإيجارية؛ فإنك تدفع فائدةً ربويةً، لكن يسمونه: "شرط غرامة تأخير"، فهذا لا يجوز، هذا رأيته في بعض العقود.
العقود الموجودة الآن في الساحة -فيما وقفت عليه- على الصورة الجائزة: وهي عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ تترتب عليه آثار عقد الإجارة، وليس على الصورة الممنوعة التي منعت منها "هيئة كبار العلماء"، هذه لا تكاد تكون موجودةً الآن -يعني تأجيرٌ وبيعٌ في الوقت نفسه- هذه لا تكاد تكون موجودةً الآن في السوق، الموجود هو الصورة الجائزة؛ أنه عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ تترتب عليه آثار عقد الإجارة، لكن بعض العقود يوجد فيها هذا الشرط: شرط غرامة التأخير، هذا الشرط غير جائزٍ.
وبعضهم يفعل هذا: يضع هذا الشرط، يقول: حتى أحْمِل المستأجر على الالتزام بالسداد، لكن هناك طرقٌ بديلةٌ، هناك طرقٌ أخرى يستطيع المؤجر أن يحْمِل بها المستأجر على السداد من غير أن يفرض عليه هذا الشرط؛ لأن هذا الشرط في حقيقته فائدةٌ ربويةٌ، كأنه يقول: أنا أشترط عليك إذا تأخرت عن سداد هذا الدين: أن تدفع فائدةً ربويةً، فشرط غرامة التأخير لا يجوز؛ ولذلك أدعو من يتعامل بالتأجير المنتهي بالتمليك من شركاتٍ ومؤسساتٍ، وحتى بنوكٍ، وحتى أفرادٍ أيضًا؛ بأن يبتعدوا عن هذا الشرط، لا يضعوا هذا الشرط في العقد؛ لأن هذا الشرط مُشْكِلٌ، وبعضهم ربما يضع هذا الشرط ويقول: إن الغرامة تدفع لوجوه البر، هذا وإن كان محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين، إلا أن الأقرب عدم جوازه؛ ولذلك فينبغي عدم وضع هذا الشرط، والمؤجر لا يؤجر إلا لمن يثق فيه، ويضع ضماناتٍ تُمَكِّنه من استيفاء حقه فيما لو تأخر المستأجر عن سداد الدفعة الإيجارية.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
أخذنا جملةً من الأحكام المتعلِّقة بعقد الإجارة المنتهي بالتمليك، وقبل أن أدخل إلى موضوعٍ آخر، أشرتم إلى ملمحٍ مهمٍّ شيخنا -وينبغي أن يتنبه له طالب العلم، أو حتى من يريد أن يبحث في بعض المسائل والنوازل- إلى أن كلام الفقهاء أحيانًا قد يصدر في زمنٍ من الأزمان على صورةٍ معينةٍ في معاملةٍ، إلا أنه يطرأ على هذه المعاملة تعديلٌ وتحسينٌ أو تطويرٌ لها، فينبغي أن يُستصحب هذا في الحكم؟
الشيخ: نعم هذا صحيحٌ؛ لذلك ينبغي لمن يتكلم عن موضوع "التأجير المنتهي بالتمليك" ألا يقتصر على قرار "هيئة كبار العلماء"، قرار "هيئة كبار العلماء" يشمل صورةً واحدةً وهو له عدة صورٍ، فينبغي أن ينظر: ما هي الصورة التي يُسأل عنها من صور التأجير المنتهي بالتمليك؟ فربما يكون العلماء في فترةٍ إنما قصدوا شيئًا قد سُئِلوا عنه، أو صورةً من الصور، ثم بعد ذلك استجدت صورٌ أخرى؛ فينبغي أن يستصحب هذا.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
أحكام البطاقات البنكية
أيضًا شيخنا من المواضيع الفقهية المهمة التي تمس الحاجة إليها، ولا يكاد يستغني عنها إنسانٌ في هذا الزمان الحقيقة: ما يتعلَّق بأحكام البطاقات البنكية، هذا الموضوع الحقيقة يكاد يمس حاجة الناس عمومًا في زماننا، فلعلنا نأخذ جملةً من المسائل الفقهية المتعلقة بالبطاقات البنكية، ولكن قبل الدخول في الأحكام الفقهية وما يتعلق بذلك، لو أشرتم إلى أهمية هذه البطاقات في واقعنا المعاصر وحاجة الناس إليها.
الشيخ: نعم، هذه البطاقات -كما تفضلتم- لا يكاد أحدٌ ينفَكُّ عنها، يعني عامة الناس يحملون هذه البطاقات، أدناها: بطاقة الصراف الآلي، وقد أصبحت البطاقات البنكية أداة وفاءٍ للديون والحقوق ومقابل الخدمات وأثمان المشتريات بدلًا عن النقود، وأراح هذا حاملَها من حمل النقود، ومن التعرض لمخاطر الضياع والسرقة، وخاصةً في أماكن الازدحام، وحقَّق مصلحة أصحاب الحقوق بضمان أداء حقوقهم بعد التثبُّت بواسطة الجهاز الإلكتروني من مَلاءةِ صاحب البطاقة، وصارت هذه البطاقة هي المفضلة في التجارة وفي الفنادق والمطاعم وغيرها، أيضًا هذه البطاقة كانت سببًا لزيادة المبيعات في المحلات التجارية، وحققت أرباحًا مُجديةً لمُصْدِري البطاقة، فأهميتها كبيرةٌ سواءٌ لحامل البطاقة، أو للمحلات التجارية، أو للجهات المالية الوَسِيطة، ففيها فائدةٌ للجميع.
أنواع البطاقات البنكية
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، هذه البطاقات لها عدة أقسامٍ، كما لا يخفى عليكم، لكن من أشهر هذه الأنواع: ما يُعرف بـ"بطاقة الصراف الآلي"، أو "السحب الفوري"، وكذلك "بطاقة الائتمان"، فلو أشرتم إلى المراد بـ"بطاقة الصراف الآلي" و"بطاقة الائتمان" والفرق بينهما.
الشيخ: بطاقة الصرف الآلي، وتسمى بـ"بطاقات السحب الفوري": هذه هي التي يستخدمها الإنسان للسحب من رصيده، أو الشراء على رصيده، والتحويل على رصيده، هذه لا إشكال في جوازها؛ لأن المستخدم لها إنما يَسحب من رصيده، وحينئذٍ نقول: لا حرج في استخدامها باتفاق العلماء، وتقوم هذه البطاقات مقام المصارفة يدًا بيدٍ؛ وعلى هذا: يجوز أن يُشترى عن طريقها الذهب والفضة، فهي تقوم مقام المصارفة؛ لأنها بطاقات سحبٍ فوريٍّ، وهذه ليس فيها كبير إشكالٍ، حتى لو سحب حامل البطاقة من جهاز صرافٍ لبنكٍ ليس له فيه حسابٌ، يعني لو كان حسابه في بنك (أ) وسحب من جهازِ صرافٍ لبنك (ب)؛ لا بأس بذلك ولا حرج؛ لأنه في الحقيقة إنما يسحب من رصيده لكن عن طريق هذا الجهاز، فهذه البطاقات -بطاقات الصراف الآلي، أو السحب الفوري- ليس فيها كبير إشكالٍ، وكما ذكرت جوازها باتفاق العلماء.
أقسام البطاقات الائتمانية
القسم الثاني: بطاقات الائتمان، وهناك البطاقات الإقراضية، أو ما يسمى بـ"بطاقات الحسم"، وهناك "بطاقات المرابحة الائتمانية".
المقدم: هذه -أحسن الله إليكم- كلها من أقسام البطاقات الائتمانية؟
الشيخ: نعم، من أقسام البطاقات الائتمانية، ويمكن أن تُعرَّف بطاقات الائتمان بأنها: أداة دفعٍ وسحبٍ نقديٍّ يُصدرها مصرفٌ تجاريٌّ أو مؤسسةٌ ماليةٌ تُمكِّن حاملها من الشراء بأَجَلٍ على ذمة مُصدِرها ومن حصوله على النقد اقتراضًا من مُصدِرها أو من غيره بضمانه، وتُمكِّنه من الحصول على خدماتٍ خاصةٍ.
إذا كانت البطاقات بطاقاتٍ إقراضيةً وبطاقات الحسم؛ فهذا النوع من البطاقات لا بأس بإصداره، لكن بشرط أن هذه البطاقات إن لم تكن مغطاةً؛ فلا بد أن يُسدِّد حامل البطاقة خلال فترة السماح المجانية؛ لأنه إذا لم يُسدِّد؛ فبعض البنوك تفرض عليه غرامة تأخيرٍ، غرامة التأخير هذه محرمةٌ لا تجوز؛ لأنها نظير ربا الجاهلية؛ إما أن تقضي، وإما أن تربي، لكن المصارف الإسلامية لا تفرض غرامة تأخيرٍ عند التأخر عن السداد، لكنها تضع حامل البطاقة في القائمة السوداء، ولها طرقٌ في هذا، لكن لا تفرض غرامة تأخيرٍ؛ لأن فرض غرامة تأخيرٍ عند التأخر عن السداد لا يجوز بالإجماع.
فهذه البطاقات الإقراضية من المحاذير التي فيها: أنه عند التأخر عن السداد خلال فترة السماح المجانية؛ أن بعض البنوك تفرض غرامة تأخيرٍ، وفرض غرامة تأخيرٍ هذا أمر محرمٌ.
البنوك الإسلامية -كما ذكرنا- لا تفرض غرامة تأخيرٍ، لكن ما يتعلق برسوم الإصدار والتجديد والتكاليف الفعلية الحقيقية هذه لا بأس أن يُحصِّلها البنك؛ لأن البنك يبقى مؤسسةً ماليةً ربحيةً، وليس جمعيةً خيريةً، ولا نستطيع أن نقول: يلزم البنك أن يخدم الناس مجانًا، فما كان مقابل المصاريف الفعلية الحقيقية؛ لا بأس بأخذ رسمٍ عليه؛ وعلى ذلك: لا بأس بأخذ رسمٍ على هذه البطاقات، سواءٌ كان الرسم على الإصدار، أو كان الرسم على التجديد، لكن ليس للبنك أن يأخذ رسمًا على البطاقة نفسها زائدًا على التكلفة الفعلية والمصاريف الإدارية، لكن ما كان مقابل مصاريف إداريةٍ وتكلفةٍ فعليةٍ فلا بأس به.
إذنْ هذه البطاقات (البطاقات الإقراضية) تدور في دائرة القرض، ودائرة القرض دائرةٌ ضيقةٌ؛ لأن الأصل في القرض في الإسلام أن يكون مبنيًّا على الإرفاق، ولا يجوز أن يُؤخذ فائدةٌ على هذا القرض؛ ولذلك استجدَّ نوعٌ آخر من البطاقات الائتمانية، وهي بطاقات المرابحة الائتمانية.
المقدم: أحسن الله إليكم، قبل الدخول في النوع الثاني، إذنْ حقيقة البطاقة الائتمانية الإقراضية: أن مُصدِر البطاقة -وهو المصرف- هو المقرض، وحامل البطاقة هو المقترض.
الشيخ: نعم، هو المقرض إذا كانت غير مغطاةٍ، أما إذا كانت مغطاةً، يعني حامل البطاقة هو الذي وضع فيها الرصيد، فحينئذٍ هو يسحب من رصيده.
المقدم: تكون كحكم البطاقة من النوع الأول.
الشيخ: نعم، مثل بطاقات الصراف الآلي.
المقدم: أحسن الله إليكم، البطاقة الأخرى التي استجدَّت؟
الشيخ: البطاقة التي استجدت: هي بطاقات المرابحة، البنوك لما رأت الإشكالات في القرض؛ أرادت أن تنقل هذه البطاقة من دائرة القرض إلى دائرة المرابحة، فحاملو المرابحة يبيعون له سلعًا، والغالب أنها سلعٌ دوليةٌ، ثم يطلبون منه أن يُوكِّلهم في بيعها، فيبيعون له سلعًا بثمنٍ مؤجلٍ، يكون هو ثمن المرابحة، ثم يُوكِّلونه في بيعها ويحصل على قيمة هذه السلع، فتكون المسألة مسألة بيعٍ وشراءٍ، وتنشأ مديونية المرابحة.
فالبنك يطلب من صاحب البطاقة هذه المرابحةَ برأس المال والربح، المصارف الإسلامية تقول لصاحب أو لحامل هذه البطاقة: إن سددت خلال فترة السماح المجانية؛ فنعدك بإسقاط الربح، لا نأخذ إلا رأس المال فقط، لكن إذا لم تُسدِّد خلال فترة السداد المجانية؛ فنحتسب عليك الأرباح، هذه لا بأس بها؛ لأنها خرجت من دائرة القرض إلى دائرة المرابحة، دائرة المرابحة دائرةٌ واسعةٌ، بيعٌ وشراءٌ، وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ [البقرة:275]، المهم هو أن تخرج من دائرة القرض.
ولذلك بعض الناس ربما يستغرب، يقول: كيف هي مصارف إسلاميةٌ وعند التأخر عن السداد خلال فترة السماح المجانية تطلب دفع غرامةٍ؟! هي ليست غرامةً، هي أرباح مرابحةٍ، إذا كانت البطاقة بطاقة مرابحةٍ ائتمانيةً، فهذه أرباح مرابحةٍ وليست غرامةً، تكون غرامةً في البطاقات الائتمانية الإقراضية، أما في بطاقات المرابحة فهذه أرباحٌ ومن حق البنك أن يأخذ هذه الأرباح، لكن يقول: إن التزمت بالسداد خلال فترة السداد المجانية؛ فأعدك أن أسقط عنك هذه الأرباح.
فهذه -الحقيقةَ- من مبتكرات المصرفية الإسلامية، استطاعت أن تعالج الإشكالية الموجودة في القرض بنقل هذه البطاقات الائتمانية من دائرة القرض إلى دائرة المرابحة، فأصبح الأمر فيه سعةٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم شراء الذهب والفضة من خلال البطاقات الائتمانية
من المسائل التي يكثر السؤال عنها في الحديث عن البطاقات الائتمانية: حكم شراء الذهب والفضة من خلال هذه البطاقات؟
الشيخ: الذهب والفضة يُشترط عند شرائهما بأوراقٍ نقديةٍ: التقابض يدًا بيدٍ؛ وذلك لاتحاد العلة بين الذهب والفضة وبين الأوراق النقدية، فلا يجوز أن يباع الذهب والفضة بأجلٍ.
ذكرنا في بطاقات الصراف الآلي: أنها فوريةٌ؛ ولذلك يجوز أن يُشترى عن طريقها الذهب والفضة، لا بأس أن تذهب لمحل ذهبٍ وتشتري منه ذهبًا أو فضةً وتُسدِّد عن طريق بطاقة الصراف الآلي، صدر في هذا فتوى من "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية" بالجواز.
البطاقات الائتمانية -سواءٌ أكانت إقراضيةً، أو بطاقات مرابحةٍ- الواقع أن فيها تأجيلًا، لكن فيها قوة ضماناتٍ، فهل يجوز أن يباع الذهب والفضة بهذه البطاقات؟ بطاقة مثلًا (فيزا)، بطاقة (ماستر كارد)؟ فيها خلافٌ قويٌّ بين العلماء المعاصرين؛ فبعضهم يقول: إنه يجوز؛ نظرًا لقوة الضمانات، فصاحب الذهب ضامنٌ الحصول على حقه عن طريق هذه البطاقة بنسبة (100%)، وخالف في ذلك علماء آخرون وقالوا: إن قوة الضمانات ليس مبررًا للقول بجوازها؛ إذ إن التأجيل فيها قائمٌ وظاهرٌ، وحتى لو كان فيها قوة ضماناتٍ، إلا أنها ليست في قوة المصارفة يدًا بيدٍ، ويُمثِّلون مثلًا بتاجرٍ ذي ملاءةٍ كبيرةٍ، ومعروفٍ بالثقة، وسمعته كبيرةٌ في السوق، لو اشترى ذهبًا وقال لصاحب الذهب: أنا سآتيك بالمبلغ غدًا، وصاحب المحل يضمن بأن هذا التاجر سيُسَدِّد له قيمة الذهب (100%)، هل يجوز؟ لا يجوز عند جميع العلماء، فيقولون: كذلك هذه البطاقات.
الحقيقةَ الخلاف فيها قويٌّ، ولا شك أن الأحوط ألا يشتري الإنسان الذهب والفضة عن طريق هذه البطاقات، هذا هو الأحوط، وفيه خروجٌ من الخلاف، "مجمع الفقه" منع من شراء الذهب والفضة عن طريقها؛ بسبب هذا التأجيل، لكن هناك بعض العلماء المعاصرين يُجيزون شراء الذهب والفضة عن طريقها؛ نظرًا لقوة الضمانات فيها، ولكون صاحب المحل ضامنًا الحصول على حقه، وتبقى المسألة خلافيةً، والأحوط ألا يباع الذهب والفضة عن طريقها.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح في مسائل البطاقات البنكية.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: والشكر كذلك موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.