logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(15) برنامج مجالس الفقه- عقد الاستصناع وعقد التوريد

(15) برنامج مجالس الفقه- عقد الاستصناع وعقد التوريد

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه أبرز المسائل الفقهية والنوازل المتعلقة بذلك، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

عقد الاستصناع

شيخنا، في هذه الحلقة سنتناول جملةً من المسائل، وأول ما نبدأ به: الحديث عن عقد الاستصناع، هذا العقد الذي أصبح له رواجٌ في زماننا، وكثيرٌ من الناس يتعامل به، فلعلنا نأخذ جملةً من الأحكام المتعلِّقة بعقد الاستصناع، وقبل الدخول في الأحكام الفقهية المتعلقة به، فلو وضحتم لنا تعريف عقد الاستصناع وما المراد به؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فـ"الاستصناع": هذه الكلمة مأخوذةٌ من استصنع الشيء، أي: دعا إلى صنعه، والصناعة: حرفة الصانع، وعمله الصَّنعة.

فالاستصناع في اللغة: طلب صناعة الشيء.

ومعناه في اصطلاح الفقهاء: أن يطلب إنسانٌ من آخر شيئًا لم يُصنع بعد، ليُصنَع له طِبْقَ مواصفاتٍ محددةٍ بمواد من عند الصانع مقابلَ عوضٍ محددٍ، ويقبل الصانع بذلك.

ويُلاحظ هنا: أن العقد إنما يقع على شراء ما سيصنعه الصانع، فيكون العقد إذنْ على العين والعمل، وتكون كلها من الصانع.

أما إذا كانت العين من المستصنِع لا من الصانع؛ فإن العقد في الحقيقة يكون تجارةً لا استصناعًا، ونوضح هذا بالمثال، مثلًا: إذا ذهبت إلى الخياط وطلبت منه أن يخيط لك ثوبًا والقماش من عند الخياط؛ فهذا يُعتبر استصناعًا، لكن لو أنك أحضرت القماش للخياط، وطلبت منه أن يخيطه لك مقابل أجرةٍ معلومةٍ؛ فهذا لا يعتبر استصناعًا، هذه إجارةٌ؛ فإذنْ هناك فرقٌ بين الإجارة والاستصناع، فإذا كانت المواد من الصانع؛ فهو استصناعٌ، أما إذا كانت المواد من المستصنع وليست من الصانع؛ فهي إجارةٌ.

ومثل ذلك أيضًا: لو أن أحدًا طلب من مُقاولٍ أن يبني له بيتًا بمواصفاتٍ معينةٍ، والمواد على حساب المقاول -كما يقال: على المفتاح- فهذا يَصدُق عليه أنه استصناعٌ، ولكن إذا كان طالب البناء هو الذي يُحضر المواد، والمقاول مجرد عاملٍ يعمل فقط، هو الذي يقوم ببناء البيت، وليس له علاقةٌ بشراء المواد؛ فهذا يُسمى: إجارةً، ولا يسمى: استصناعًا.

الفرق بين عقد السَّلَم وعقد الاستصناع

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، يرتبط كثيرًا كلام الفقهاء في عقد الاستصناع بعقد السَّلَم، فهل ثَمَّةَ فرقٌ بينهما؟

الشيخ: عقد الاستصناع عند جمهور الفقهاء يعتبرونه نوعًا من السَّلَم، ولكن الحنفية يرونه عقدًا مستقلًّا، له شروطه وأحكامه، وليس نوعًا من السَّلَم، وهذا في الحقيقة مؤثِّرٌ في الحكم الشرعي للاستصناع، وإن كان عقد الاستصناع معروفًا من قديم الزمان، والنبي -كما جاء في "صحيح البخاري"- اصطنع خاتمًا من ذهبٍ، وجعل فصَّه في بطن كفه إذا لبسه، فلما رأى الناس اتخذوا خواتم من ذهبٍ؛ رقى المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني كنت صنعته لا لألبسه، أو قال: إني كنت أصطنعته وإني لا ألبسه، فنبذه فنبذ الناس [1]، وأشار عليه الصلاة والسلام إلى أنه لم يكن يطلب صناعة هذا الخاتم لأجل التزيُّن، إنما لبسه لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتب كتبًا لرؤساء وملوك العالم، فقيل له: إنهم لا يقبلون هذه الكتب إلا مختومةً، فاستصنع النبي خاتمًا ونقش فيه ختمًا له: "محمد رسول الله" [2]، فكان هذا هو السبب في لبس النبي لهذا الخاتم، ولهذا لاحِظ قول الراوي: "وجعل فصَّه في بطن كفه"؛ وهذا يدل على أنه لم يلبسه للزينة، إنما لبسه للحاجة، لو كان لبسه للزينة؛ لجعل فصَّه ليس في بطن كفه، وإنما إلى ظهر كفه؛ ليكون ذلك أبلغ في الزينة؛ ولهذا فإن لبس الخاتم إذا كان لحاجةٍ؛ يكون سنةً، اقتداءً بالنبي ، لكن يكون من غير الذهب؛ كأن يكون من الفضة، أو من الحديد، يكون سنةً إذا كان لحاجةٍ، أما إذا كان للتزيُّن فيعتبر مباحًا، ولا يُعتبر سنةً، والآن لم تعد هناك حاجةٌ قائمةٌ للبس الخاتم كما كان عليه في الأزمنة السابقة، فالختم الآن يُصنع بطريقةٍ مختلفةٍ، فلم تعد الحاجة قائمةً لصنع الخاتم، لكن الناس الآن -وأتكلم عن الرجال- من يلبسه منهم يلبسه للزينة، فلا يقال: إنه سنةٌ، وإنما مباحٌ، لبسه مباحٌ وليس سنةً، ويكون من غير الذهب، لا يكون من الذهب، لا يجوز للرجال أن يلبسوا الخواتم من الذهب.

حكم عقد الاستصناع

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا، بعد أن عرفنا صورة عقد الاستصناع نذهب إلى الحكم الشرعي لهذا العقد، هل يجوز التعامل به؟ وإن كان التعامل به جائزًا؛ فهل لذلك ضوابط وشروطٌ؟

الشيخ: ذكرنا أن جمهور الفقهاء يعتبرون الاستصناع نوعًا من السَّلَم، فهم يقولون: الاستصناع جائزٌ، لكن يُشترط له ما يُشترط للسَّلَم؛ ومن هذه الشروط: تقديم الثمن الذي هو رأس المال في مجلس العقد، وهذا القول ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة، وأما الحنفية فذهبوا إلى أن عقد الاستصناع عقدٌ مستقلٌّ متميِّزٌ عن السَّلَم بمسائله وأحكامه.

والأظهر -والله أعلم- هو قول الحنفية في هذه المسألة: وهو أن عقد الاستصناع عقدٌ مستقلٌّ عن السَّلَم بمسائله وأحكامه، ولا يُشترط له ما يُشترط للسَّلَم من شروطٍ، ومن ذلك: تقديم الثمن في مجلس العقد.

ولو أردنا أن نذكر المثال السابق لنوضح به الفرق بين قول الجمهور وقول الحنفية في عقد الاستصناع، لمَّا قلنا: إن من يذهب إلى الخياط ويطلب منه أن يخيط له ثوبًا والقماش من الخياط؛ فهذا عقد استصناعٍ، على رأي الجمهور يعتبرونه سَلَمًا، ويُشترط له ما يُشترط للسَّلَم من شروطٍ؛ ومن ذلك: تقديم الثمن في مجلس العقد.

فعلى قول الجمهور: إذا اعتُبِر الاستصناع سَلَمًا؛ يلزم من يذهب للخياط أن يُقدِّم الثمن كاملًا مقدَّمًا، يُعطي الخياط الثمن مقدمًا، وإلا لم يَجُز على قول الجمهور.

لكن على قول الحنفية لا يجب ذلك؛ لأنه لا يُشترط في عقد الاستصناع -على قول الحنفية- تقديم رأس المال في مجلس العقد، وقول الجمهور فيه عسرٌ، لو قلنا بهذا؛ ففيه عسرٌ، من الصعب أن يُلزَم الناس بتقديم مثلًا قيمة الثوب كاملةً قبل أن يقوم الخياط بخياطة الثوب، تقديم مثلًا قيمة المقاولة قبل أن يبدأ المقاول في البناء، هذا فيه عسرٌ، وفيه حرجٌ كبيرٌ؛ ولذلك هُجِرَ قول الجمهور، سبحان الله! هذه من غرائب المسائل الفقهية! هَجَر الناس قول الجمهور من قديم الزمان، وعملوا بقول الحنفية في أن الاستصناع عقدٌ قائمٌ بذاته، ويُشبه أن يكون هذا إجماعًا عمليًّا من المسلمين على قول الحنفية في الاستصناع.

فهذا من غرائب المسائل الفقهية! أن يتجه الجمهور لقولٍ، ويعمل المسلمون على مَرِّ الأزمان والأعصار بقولٍ آخر غير قول الجمهور؛ وهذا يدل على أن بعض الأقوال الفقهية التي يكون فيها عسرٌ، ويكون فيها صعوبةٌ في التطبيق لا يُعمل بها، حتى من أراد أن يعمل بها من الفقهاء؛ يجد عسرًا وصعوبةً؛ ولهذا نجد أن قول الجمهور في الاستصناع شبه مهجورٍ، وعمل المسلمين على قول الحنفية، وهو أنه عقدٌ مستقلٌّ بذاته، وفي القول بمنع الاستصناع -على قول الجمهور- حرجٌ كبيرٌ، والله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، والقول بأن عقد الاستصناع عقدٌ مستقلٌّ بذاته -كما هو مذهب الحنفية- يتفق مع الأصول والضوابط الشرعية القاضية بالتيسير على المكلفين ورفع الحرج عنهم، خاصةً وأن المسألة ليس فيها دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يمنع من الاستصناع بالطريقة التي يذكرها الحنفية، وليس هناك دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يوجب على المستصنع أن يُقدِّم رأس المال في مجلس العقد، ومادام أن المسألة ليس فيها دليلٌ صحيحٌ صريحٌ؛ فينبغي ألا يؤخذ بالقول الذي يكون فيه حرجٌ كبيرٌ على المسلمين، والشريعة الإسلامية أجازت السَّلَم مع أنه بيعُ معدومٍ؛ لحاجة عموم الناس إليه، وأيضًا فيه غررٌ، لكنه غررٌ مغتفرٌ بجانب المصالح الكبيرة المترتِّبة عليه، وأباحت الشريعة "بيع العرايا" مع أنه بيع رطبٍ بتمرٍ للحاجة، الأصل فيه المنع، لكن أجازت الشريعة بيع العرايا استثناءً، كل ذلك من أجل التوسعة والتيسير على الناس، ورفع الحرج عنهم.

فالاستصناع من هذا الباب، خاصةً وأن دائرة المعاملات دائرةٌ واسعةٌ، والأصل فيها الحِلُّ والإباحة؛ وعلى هذا نقول: إن القول الراجح -وهو الذي عليه الإجماع العملي للمسلمين- هو أن الاستصناع عقدٌ مستقلٌّ بذاته، وأنه لا يُشترط له تقديم الثمن أو تقديم رأس المال في مجلس العقد؛ وعلى هذا: فمن ذهب مثلًا للخياط ليخيط ثوبًا، والقماش من الخياط؛ لا بأس أن يُؤخِّر تسليم الثمن أو يُقدِّمه، أو يقدم بعضه ويؤخر البعض، وهذا هو الغالب، كل هذا سائغٌ والأمر في هذا واسعٌ.

المقدم: أحسن الله إليكم، وكذلك لو لم ينقده الثمن إلا لاحقًا؟

الشيخ: كذلك أيضًا نعم، الأمر واسعٌ، سواءٌ قدَّم الثمن أو أخَّره، أو أعطاه جزءًا والباقي فيما بعد، كلُّ ذلك لا بأس به.

شروط عقد الاستصناع

المقدم: أحسن الله إليكم، إذا تقرر القول بالجواز في عقد الاستصناع؛ فهل مَن أجازه أجازه بإطلاقٍ، أم أن لهم شروطًا في ذلك؟

الشيخ: أجازوه بشروطٍ؛ ومن أبرز هذه الشروط: تحديد مواصفات الشيء المطلوب صناعته تحديدًا وافيًا يمنع من التنازع عند التسليم؛ وذلك بأن تُذكر الصفات التي يَختلف بها الثمن، فيذكر جنس المستصنَع، يذكر نوعه وقدره وأوصافه المطلوبة، وهذا أيضًا من شروط صحة السَّلَم، وهو كذلك شرط في الاستصناع، بل ربما يكون اشتراطه في الاستصناع آكد؛ لأن إجراء عقد الاستصناع مع عدم الاتفاق على تحديد مواصفات المستصنَع مظنَّةٌ للنزاع بين الطرفين.

أيضًا من الشروط: تحديد الأجل؛ وذلك قطعًا للنزاع، ولا يُشترط -كما ذكرنا- تعجيل الثمن، بل يجوز تعجيله، ويجوز تأخيره إلى وقت القبض أو إلى ما بعده، ويجوز تقسيطه، بخلاف السَّلَم الذي يُشترط لصحته تعجيل الثمن كله، هذه هي أبرز الشروط التي إذا توفرت؛ يجوز عقد الاستصناع معها.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم الشرط الجزائي في عقد الاستصناع

شيخنا، من المسائل التي يفعلها بعض من يتعامل بهذا العقد: أن يفرض شرطًا جزائيًّا في عقد الاستصناع، ولاسيما على الصانع فيما لو تأخر عن التسليم في الوقت المحدد، يفرض عليه شرطًا جزائيًّا، فهل مثل هذا الشرط سائغٌ شرعًا؟

الشيخ: إذا كان الشرط الجزائي على الصُّنَّاع؛ فلا بأس به، أما إذا كان على المستصنِع؛ فإنه لا يجوز، يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا على الصانع إذا لم ينفذ ما التزم به، أو حتى تأخر في تنفيذه؛ مثال ذلك: رجلٌ اتفق مع مقاولٍ على أن يبني له بيتًا بمبلغٍ معينٍ في مدةٍ لا تزيد على سنةٍ، وتكون المواد من المقاول، يعني يبنيه -كما يقال- على المفتاح، ولكن شَرَط عليه شرطًا جزائيًّا بأنه إذا تأخر في بناء ذلك البيت بعد تلك المدة؛ فإنه يَخصم عليه مبلغًا؛ مثلًا: مئة ريالٍ عن كل يوم تأخير، أو خمسمئة ريالٍ، أو أكثر أو أقل، هذا هو الشرط الجزائي، لا بأس بذلك، إذا حصل التراضي بين الطرفين على هذا الشرط؛ فلا بأس به، والشرط الجزائي إذا كان على غير الدَّين؛ فلا بأس به، وقد أجازه "المجمع الفقهي"، وأيضًا "هيئة كبار العلماء" قديمًا أجازت الشرط الجزائي، بشرط أن يكون على غير الدَّين؛ فعلى هذا: لا بأس بهذا الشرط، ما لم تكن هناك ظروفٌ قاهرةٌ حالت دون تنفيذ البناء في الوقت المحدد؛ كمرضٍ أو جائحةٍ أو نحو ذلك، لكن لا يجوز أن يكون الشرط الجزائي على المستصنِع، وفي مثالنا السابق: لو أن الصانع -الذي هو المقاول- شرط على المستصنِع -أي: طالب البناء- احتساب غرامة تأخيرٍ عن كل يومٍ إذا تأخر في تسديد ما عليه من مستحقاتٍ؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأنه شرطٌ جزائيٌّ على الدَّين؛ لأن المستحقات التي للصانع على المستصنِع هي في الحقيقة دينٌ، وهو شرطٌ جزائيٌّ على الدين، والشرط الجزائي على الدين محرمٌ، وهو نظير ربا الجاهلية، كانوا في الجاهلية إذا حلَّ الدين على المدين؛ قال الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن تُربي، فإن قضى الدين؛ وإلا أخَّره وزاد عليه في الدين، فالشرط الجزائي في الدين هو نظير ربا الجاهلية.

فإذنْ نقول: إذا كان الشرط الجزائي على الصانع -على المقاول- إذا لم يُنفِّذ ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه؛ فهو جائزٌ، أما إذا كان الصانع أو المقاول هو الذي اشترط الشرط الجزائي على المستصنِع وقال: إن أخرتَ سداد الدفعات؛ أحسب عليك غرامة تأخيرٍ، فإن هذا لا يجوز.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، هل يقال أيضًا: من الضوابط في الشرط الجزائي: أن يكون مقاربًا للضرر الفعلي الحاصل للتأخر؟

الشيخ: نعم، لا يكون مبالغًا فيه، يكون مقاربًا، ولو زاد أيضًا زيادةً ليست مبالغًا فيها؛ فأيضًا يلتزم به، لكن لا يكون مبالغًا فيه، فإذا كان مبالغًا فيه، يُقصد به التهديد؛ فإنه لا يُنفَّذ.

المقدم: أحسن الله إليكم، إذنْ نستطيع أن نُفرِّق بين الشرط الجزائي الجائز وغير الجائز بأنَّ الشرط الجزائي إذا كان في مقابلة الدين؛ فهذا ممنوعٌ منه، وإذا كان في مقابلة العمل؛ فهذا سائغٌ شرعًا؟

الشيخ: نعم صحيحٌ، هذا يصلح أن يكون ضابطًا في الشرط الجزائي: أنه إذا كان محَلُّ الشرط الجزائي هو الدين؛ فإنه لا يجوز، بل هو نظير ربا الجاهلية، وإذا كان محَلُّ الشرط الجزائي غيرَ الدين، لا نقول: العمل، قد يكون العمل، وقد يكون غير العمل، لكن أقول بعبارةٍ أوسع: إذا كان الشرط الجزائي في غير الدين؛ فلا بأس به.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

هذه إلماحةٌ يسيرةٌ حول بعض المسائل والأحكام المتعلِّقة بعقد الاستصناع، ولعلي استأذنكم شيخنا أن نذهب إلى موضوعٍ آخر، وهو أيضًا من العقود التي تَمَسُّ الحاجةُ إليها، ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، نذكر شيئًا من المسائل والأحكام الفقهية التي تَمَسُّ الحاجة إليها.

عقد التوريد

من العقود المستجدة والتي تَمَسُّ الحاجة لها ما يُسمَّى بـ"عقد التوريد"، وهذا العقد من العقود ذات الأهمية في إشباع رغبات الأفراد، أو حتى المؤسسات، وتلبية حاجاتهم في البضائع أو الخدمات أو نحوها، فلعلنا نأخذ شيئًا من الأحكام المتعلِّقة بهذا العقد، لكن قبل أن ندخل إلى تفاصيل أحكامه، نريد أن نعرف ما المقصود بـ"عقد التوريد"؟

الشيخ: المقصود بـ"عقد التوريد": أن يتعهَّد شخصٌ بتوريد سلعٍ معلومةٍ لآخر خلال فترةٍ معينةٍ، أو بصفةٍ دوريةٍ مقابل مبلغٍ ماليٍّ؛ كأن يكون إنسانٌ عنده محلٌّ تجاريٌّ، ويتفق مع مورِّدٍ على أن يُورِّد له سلعًا طبق مواصفاتٍ معينةٍ؛ هذا هو التوريد، ويتعامل به أرباب التجارة وأصحاب المحلات التجارية، يتفقون مع المورِّدين على أن يُورِّدوا لهم سلعًا من الخارج بمواصفاتٍ معينةٍ.

حكم عقد التوريد

المقدم: أحسن الله إليكم، هذا العقد ما حكم التعامل به؟

الشيخ: إذا كان المورِّد يبيع هذه السلع مباشرةً، يبيعها لصاحب المحل وهو لم يملكها بعد؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأنه بيع ما لا يملك، وكذلك أيضًا إذا كان صاحب المحل التجاري طلب من المورِّد هذه السلع طبق مواصفاتٍ معينةٍ، وأعطاه جزءًا من الثمن ولم يُعطه الثمن كاملًا؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأنه يدخل في "بيع الكالئ بالكالئ" [3]، وهذه هي الصورة الشائعة الآن، مع الأسف! هي الصورة الشائعة: أن المورِّد إما أن يبيع ما لا يملك، أو أنه يتفق صاحب المحل مع المورد على أن يكون بصيغة السَّلَم، لكن لا يُعجِّل صاحبُ المحل للمورِّد الثمنَ، لا يُسلِّمه رأس المال في مجلس العقد، فيكون هذا أيضًا محرمًا؛ لأنه من "بيع الكالئ بالكالئ".

البدائل الشرعية لعقد التوريد

إذا قلنا: إن هذه صورةٌ محرمةٌ، وهي البيع المباشر من المورِّد لصاحب المحل، فما هي البدائل لهذه العملية المحرمة؟

هناك بدائل عديدةٌ؛ من أبرزها: أن يُجرَى بعقد الاستصناع -كما قدمنا في أول الحلقة- يُجرى عقد التوريد بعقد الاستصناع؛ وذلك بأن يَعقد المورِّد مع المستورد عقد استصناعٍ بتوريد سلعٍ طِبق مواصفاتٍ معينةٍ تُصنع له إما في الداخل أو الخارج، فهذا هو عقد الاستصناع، لكن هذا المَخرج أو هذه الطريقة إنما تكون في السلع التي سوف تُستصنَع، لكن أكثر السلع التي تُورَّد تكون جاهزةً، لا أنها ستُستصنع، لكن لو كانت السلعة مما سيُستصنع؛ فيمكن أن يُخرَّج ذلك على عقد الاستصناع؛ ويكون جائزًا.

أما إذا كان مَحَلُّ عقد التوريد سلعةً لا تتطلب صناعةً، وهي موصوفةٌ في الذِّمة، ويلتزم المورِّد بتسليمها عند حلول الأجل، فيمكن اعتبار هذا سلمًا، لكن بشرط أن يُعجِّل صاحب المحل جميع الثمن عند العقد، مع مراعاة شروط السَّلَم الأخرى، فصاحب المحل يَنقُد للمورِّد الثمن كاملًا مقدَّمًا.

والواقع: أن أكثر الناس في عقود التوريد لا يرغبون بتعجيل الثمن للمورِّد كاملًا؛ لأنه لا يدري ماذا يكون في المستقبل، وهل سيلتزم هذا المورِّد بالتوريد، فأكثر الناس لا يرغبون في تعجيل الثمن كاملًا للمورِّد، لكن لو عجَّلوا الثمن كاملًا للمورِّد؛ فهذا عقد سلمٍ، ويزول بذلك أيضًا الإشكال.

فإن لم يتيسر لا الاستصناع، ولا السَّلَم؛ فيمكن أن يكون المخرج على سبيل الوعد، فيُبدي صاحب المحل للمورِّد الرغبة في توريد سلعٍ معينةٍ طِبق مواصفاتٍ معينةٍ، ويَعِده بأنه إذا وَرَّد له هذه السلع؛ سوف يشتريها منه، يكون على سبيل الوعد، ويكون الوعد غير ملزمٍ للطرفين، ولا بأس أن يكون ملزِمًا لطرفٍ واحدٍ على القول الراجح، لكنه وعدٌ وليس عقدًا، لا تترتب عليه آثار العقد وإنما هو وعد، فهذا لا بأس به، وهو يُعتبر مخرجًا، لكن يُلاحظ أن يكون الاتفاق المبدئي بين الطرفين على سبيل الوعد غير الملزم للطرفين، أو أنه ملزمٌ لواحدٍ من الطرفين فقط، وأيضًا يُراعى أن يتملَّك المورِّد السلعة وأن يقبضها قبضًا تامًّا، ثم بعد ذلك يبيعها على صاحب المحل، وهذا أيضًا مخرجٌ.

هناك أيضًا مخرجٌ آخر، أقول: هو المخرج الرابع: عن طريق الوكالة؛ وذلك بأن يُوكِّل صاحب المحل المورِّد في توريد سلعٍ بأجرةٍ معلومةٍ، فتكون وكالةً بأجرةٍ، وهذا أيضًا مخرجٌ يغفُل عنه كثيرٌ من الناس.

المقدم: يعني تقصدون -أحسن الله إليكم- أن المورِّد يكون وكيلًا؟

الشيخ: أن يكون المورِّد وكيلًا عن صاحب المحل وليس بائعًا، فإذا كان وكيلًا؛ زال الإشكال؛ لأنه يقوم مقام المُوكِّل.

فهذه الآن أربعة مخارج، فنُلخِّص الموضوع، نقول: إنه في عقود التوريد، إذا أبرم صاحب المحل مع المورِّد العقد مباشرةً، والمورِّد لا يملك السلعة، هذا لا يجوز؛ لأنه باع ما لا يملك، ولو أيضًا أبرم معه العقد على أنه سَلَمٌ، يعني قال: ورِّد لي هذه السلعة بمواصفاتٍ معينةٍ؛ فلا بد أن يَنقُد له الثمن في مجلس العقد، وإذا لم ينقد له الثمن في مجلس العقد، أو أعطاه عربونًا أو جزءًا من الثمن؛ فهذا لا يجوز، يكون هذا من قبيل "بيع الكالئ بالكالئ"، هذه الصورة المحرمة، ومع الأسف! -كما ذكرت- هي الصورة الشائعة.

ما هي المخارج؟

ذكرنا أربعة مخارج، وربما بالتأمل يكون هناك مخارج أكثر من هذه الأربعة؛ من المخارج: أن يُجرى عقد التوريد بطريق الاستصناع، لكن هذا إنما يكون في السلع التي تتطلب صناعةً.

المقدم: أحسن الله إليكم، في هذا المخرج، المقصود: أن تكون السلعة معدومةً، حتى لو كانت موجودةً لكن أصلها مُصَنَّعٌ، هل هذا يجعلها مخرجًا؟

الشيخ: لا، هي تُستصنَع، يقول: أريد تصنيع هذه السلع، أريد أن تصنعوا لي سلعًا؛ تصنعوا لي كراسيَّ، تصنعوا لي سياراتٍ، تصنعوا لي كذا.

المقدم: إذنْ هي موصوفةٌ في الذمة وليست موجودةً، هذا المخرج الأول.

الشيخ: هذا المخرج الأول: يكون بطريق الاستصناع.

المخرج الثاني: أن تكون السلعة ليست مما يتطلب صناعةً، فيمكن أن يُجرى عقد التوريد بطريق السَّلَم، فصاحب المحل يَنقد للمورِّد الثمن كاملًا، ويقول: ورِّد لي سلعًا بمواصفاتٍ معينةٍ، هذا سَلَمٌ، والسَّلَم جائزٌ بالإجماع.

المخرج الثالث: أن يكون بطريق الوعد، بأن يَعِد صاحبُ المحل المورِّدَ بأنه إذا أحضر البضاعة؛ سوف يشتريها منه، وكما ذكرنا أنه -على القول الراجح- يمكن أن يكون الوعد ملزمًا لطرفٍ واحدٍ، يعني إذا خشي المورِّدُ أنه ربما يخسر، يُورِّد هذه البضاعة ثم صاحب المحل يتراجع، فيمكن أن يكون الإلزام على صاحب المحل، والوعد إذا كان ملزمًا لطرفٍ واحدٍ؛ فلا بأس به على القول الراجح؛ لأنه لا تترتب عليه آثار العقد، ولو مات هذا الذي وعد وعدًا ملزِمًا من طرف واحدٍ؛ لم يقم ورثته مقامه، فهو وعدٌ ليس عقدًا.

وقلنا: المخرج الرابع: وهو الوكالة؛ بأن يُوكِّل صاحبُ المحل المورِّدَ بتوريد السلع.

هذه أربعة مخارج، ولكن بعض الناس يؤتَى من جهة عدم الاهتمام، لا يبالي بمسائل الحلال والحرام، وإلا لو كان عنده اهتمامٌ؛ يستطيع أن يورِّد السلع بطريقةٍ جائزةٍ شرعًا وبعيدةٍ عن المحظور الشرعي.

نحن ذكرنا صورةً واحدةً ممنوعةً، وذكرنا أربعة بدائل جائزةً، فدائرة المباح أوسع من دائرة المحرم؛ ولذلك فالذين هم أصحاب المحلات التجارية عندما يُورِّدون السلع؛ ينبغي أن يلاحِظوا هذا المعنى، وأن يحرصوا على أن يكون التوريد بطريقةٍ جائزةٍ شرعًا.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا، والحقيقة هذا يؤكد بيان فضل العلم وشرفه، وأن الإنسان إذا رزق هذا العلم؛ استطاع أن يأتي إلى مقصوده بطُرقٍ مباحةٍ، ويبارك الله له في ذلك.

لفت نظري في -أحد المخارج- أنكم ذكرتم: أنه لا بأس أن يكون الوعد من طرفٍ دون آخر، ما الإشكال لو كان الوعد المُلزِم من طرفين؟ هل هذا فيه إشكالٌ؟

الشيخ: الوعد المُلزِم للطرفين، من العلماء المعاصرين من يقول: إنه لا يأخذ حكم العقد، ولكن الأكثر -أكثر العلماء المعاصرين- يرون أن الوعد المُلزِم من الطرفين يُشبه العقد، وهذا هو الذي ذهب إليه "مجمع الفقه الإسلامي الدولي"، وأيضًا كثيرٌ من الهيئات الشرعية، على أن الوعد الملزم من الطرفين يشبه العقد، لكن إذا كان ملزمًا من طرفٍ واحدٍ؛ فإنه لا يُشبه العقد.

ما فائدة الإلزام؟ أو ما الأثر المترتِّب على الإلزام؟

الأثر: أن مَن كان الوعد لازمًا له، لو تخَلَّف عن الوعد؛ فيَلزمه أن يُعوِّض الموعود عن الأضرار، فقط يتعدَّى إلى هذا؛ يعني لا يأخذ حكم العقد، لا يترتب عليه أثر العقد، ولكن لو أن هذا الذي قد وعد وعدًا مُلزِمًا تخلَّف عن الوفاء بوعده؛ يلزمه أن يُعوِّض من وعده عن الأضرار بسبب تخلفه عن هذا الوعد.

المقدم: لا يحق له إلزامه بالعقد؟

الشيخ: لا يُعتبر عقدًا، ولا تترتب عليه آثار العقد، وأيضًا لو مات أحد الطرفين؛ لا يقوم ورثته مقامه؛ لأنه مجرَّد وعدٍ، ففرقٌ بين الوعد وبين العقد؛ ولذلك مسألة الوعد -حقيقةً- فيها مخرجٌ، فعندما تضيق بعض المسائل ويلحق الناسَ الحرجُ في بعض العقود؛ فربما يقال لهم: الْجؤوا إلى الوعد.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا فضيلة الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: كذلك الشكر موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 5876، ومسلم: 2091.
^2 رواه مسلم: 2092.
^3 الكالئ بالكالئ: هو بيع الدَّين بالدَّين، وله صور؛ منها: بيع ما في الذمة حالًّا من عروض أو أثمان، بثمن إلى أجلٍ ممن هو عليه، ومنها: جعل رأس مال السلم دَينا. ينظر: الإنصاف للمَرْداوي (12/ 105)، وهداية الراغب لابن قائد النجدي (2/ 465).
مواد ذات صلة
zh