جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، هذا البرنامج يدور في فلك الفقه وما يتعلق به من مسائل وأحكامٍ، يصحبنا فيه ضيفنا الدائم، فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي واسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
التورق
كنا شيخنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن بيع المرابحة للآمر بالشراء، وذكرنا جملةً من المسائل والأحكام التي يكثر السؤال عنها في هذا الموضوع، ولعلنا في هذه الحلقة نتحدث عن مسألةٍ مهمةٍ: وهي ما يتعلق بالتورُّق المنظم.
وابتداءً -قبل الدخول في حكم هذه المعاملة- لو بينتم لنا ما صورة التورُّق المنظم؟
معنى التورق
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقبل الحديث عن صورة التورُّق المنظم؛ يحسن أن نُبيِّن معنى التورُّق، ما معنى التورق؟
هذه الكلمة تعني: طلب الوَرِق، والوَرِق: الفضة، أو الدراهم، أو المال، و"التورُّق": هذا المصطلح ورد بهذا اللفظ في كتب الفقه الحنبلي، وأرادوا به: أن يشتري المرء سلعةً نسيئةً، ثم يبيعها نقدًا لغير البائع بأقل مما اشتراها به؛ ليحصل بذلك على النقد.
والتورُّق معروفٌ بغير هذا اللفظ عند الفقهاء الآخرين، وبعضهم يسمي التورُّق بـ"الزَّرْنَقة"، وبعضهم يذكر صورة التورُّق من غير تسميةٍ لها عندما يتكلمون عن العِينة أو عن بيوع الآجال، فهذا هو التورُّق الفردي.
الفرق بين التورُّق وبيع العِينة
ويختلف التورُّق عن العِينة؛ فالعِينة: أن يبيع السلعة بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يشتريها من المشتري بأقل منه نقدًا؛ كأن يبيع سيارةً بخمسين ألفًا مؤجلةً، ثم يشتريها بأقل، يعني: يشتريها بأربعين ألفًا نقدًا؛ وبذلك يتبين: أن التورُّق يكون بين ثلاثة أطرافٍ، وأن العِينة تكون بين طرفين، يبيع السلعة بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يشتريها بأقل منه نقدًا.
والعينة محرمةٌ عند جمهور الفقهاء، وقد ورد فيها أيضًا بعض الأحاديث التي تدل على تحريمها؛ منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام: إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم [1]، أخرجه أبو داود، وهو بمجموع طرقه ثابتٌ.
وأما التورُّق: فأكثر العلماء على الجواز، أكثر العلماء على جواز التورُّق، واستدلوا بعموم الأدلة المُبِيحة للبيع؛ ومنها: قول الله : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، ولا يوجد ما يدل على تحريم التورُّق.
والتورُّق عقدان منفصلان:
- يشتري الإنسان سلعةً بثمنٍ مؤجلٍ ويملك السلعة ويقبضها، انتهى هذا العقد.
- ثم يأخذ هذه السلعة ويبيعها لشخصٍ آخر، لطرفٍ ثالثٍ، أو يذهب بها إلى الحَرَاج [2] ويبيعها لطرفٍ ثالثٍ، هذا عقدٌ آخر.
فهما عقدان منفصلان ليس بينهما ارتباطٌ، والأصل في المعاملات الحِل والإباحة؛ ولهذا التورُّق الفردي الأصل فيه الجواز.
هذا هو التورق بصورته المبسطة، وصورته الموجودة في كتب الفقه.
المقدم: أحسن الله إليكم، هل يمكن أن نُبرِز فرقًا جوهريًّا بين التورُّق وبيع العِينة؟
الشيخ: الفرق: هو أن التورُّق يكون بين ثلاثة أطرافٍ بعقدين منفصلين، أما العِينة فتكون بين شخصين، يبيع له السلعة بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، السلعة تذهب وترجع مرةً أخرى، ويَثبت في ذمة المشتري ثمنٌ أكثر؛ يعني يقول مثلًا: أبيعك هذه السلعة بخمسين ألفًا مؤجلةً، فتذهب إليه السلعة، ثم تعود إليه مرةً أخرى، ويُعطيه أقل منه نقدًا، والغرض منه: بيعُ نقدٍ بمؤجلٍ، لكن أدخلوا بينهما هذه السلعة، فهي حِيلةٌ على الربا، بينما التورُّق ثلاثة أطرافٍ: إنسانٌ بحاجةٍ إلى سيولةٍ نقديةٍ، يذهب للسوق ويشتري سيارةً بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يبيعها لطرفٍ ثالثٍ نقدًا، فالعقدان منفصلان؛ فالعِينة محرمةٌ، والتورُّق جائزٌ.
التورق المنظم
المقدم: أحسن الله إليكم، هنا إذنْ عندنا التورُّق الفردي، أو التورُّق العادي والعِينة، دخلت معاملةٌ بينهما، وهي ما يُعرف بمسألة "التورُّق المنظم"، فما المقصود بها يا شيخ؟
الشيخ: ذكرتُ أن أكثر الفقهاء يرون جواز التورُّق بصورته الفردية العادية المعروفة، ولكن توسعت بعض البنوك والمؤسسات في التورُّق حتى نقلت الصورة المعروفة عند الفقهاء إلى صورةٍ أخرى، وأصبح يطلق عليها في الاصطلاح المعاصر: "التورُّق المنظم"، ويعني بــ"التورُّق المنظم": قيام المصرف بعملٍ نمطيٍّ يتم فيه ترتيب بيع سلعةٍ من أسواق السلع العالمية أو غيرها للمستورِق بثمنٍ آجلٍ، على أن يلتزم المصرف بأن ينوب عنه في بيعها لمشترٍ آخر بثمنٍ حاضرٍ، وتسليم الثمن لطالب التورُّق؛ معنى ذلك: أن العميل الذي يأتي للبنك ويُبدي الرغبة في الحصول على سيولةٍ نقديةٍ، يعرض عليه البنك سلعةً من السلع المملوكة له، ثم يبيعها له بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يُوكِّل العميلُ البنك في بيعها لطرفٍ ثالثٍ؛ ليحصل العميل بهذه العملية على ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ، ويثبت في ذمته للبنك أكثر منها؛ يعني: بمجرد أنه يوقع على أوراق الشراء، على أنه اشترى هذه السلعة، ويُوقِّع أنه وكَّل البنك في بيعها لطرفٍ ثالثٍ، بهذه التوقيعات على الأوراق؛ يحصل على ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ، ويثبت في ذمته أكثر منها.
والفرق بين هذا التورُّق والتورُّق الفردي الذي تكلَّمنا عنه قبل قليلٍ: أن التورُّق الفردي تتم فيه المعاملة بصورةٍ تلقائيةٍ، يتحرك فيها الفرد لحاجته، ويكون ذلك على بضاعةٍ حقيقيةٍ في الأسواق.
أما التورُّق المنظم: فهو مركَّبٌ، ويحتاج إلى إجراءاتٍ معينةٍ وعقودٍ ووثائق وسلعةٍ محددةٍ في أسواقٍ معينةٍ، وفي التورُّق الفردي: المستورِق هو الذي يشتري السلعة، وهو الذي يبيعها، والبائع لا علاقة له ببيع السلعة مطلقًا، لكن في التورُّق المنظم: البائع هو الذي يتوسط في بيع السلعة بنقدٍ لصالح المستورِق بموجب توكيلٍ بعد أن يشتريها له، فهذا التورُّق بهذا الترتيب؛ يعني مجرد أن العميل يأتي للبنك ويقول مثلًا: أريد سيولةً نقديةً، بمثلًا: ثلاثمئة ألف ريالٍ، فيقول البنك: عندنا سلعةٌ، نبيعها لك بثمنٍ مؤجلٍ، ويُوقِّع ورقةً على الشراء، ثم يُوكِّل العميلُ البنك في بيعها في السوق، ويُحوِّل البنك قيمة هذه السلعة في حساب العميل، ويثبت في ذمته أكثر منها، بهذا الترتيب وهذا التنظيم، بحيث إن البنك يقوم بكل شيءٍ، والعميل فقط يُوقِّع على أوراقٍ ويحصل على ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ، ويَثبُت في ذمته أكثر منها.
حكم التورق المنظم
ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى تحريم التورُّق المنظم بهذه الصورة، وصدر بهذا قراراتُ المجامع الفقهية؛ كـ"المجمع الفقهي بالرابطة"، و"المجمع الدولي"، وأن هذا التورُّق بهذا الترتيب وهذا التنظيم لا يجوز؛ وذلك لأنه يجعل هذه العملية شبيهة بالعِينة الممنوعة شرعًا، وأيضًا يجعل هذه العملية تكتنفها الصورية، مجرد أن العميل يأتي ويُوقِّع على أوراقٍ ويحصل على ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ ويثبت في ذمته أكثر منها، فذهبت المجامع الفقهية إلى منع هذا التورُّق المنظم، لكن هناك بعض العلماء المعاصرين قالوا: إن الإشكالات التي ذكرها المانعون يمكن معالجتها بوضع ضوابط تعالج هذه الإشكالات، فإذا وُضعت هذه الضوابط؛ زالت هذه الإشكالات.
وهذه الضوابط هي:
- أولًا: أن تكون تلك السلع مملوكةً للمؤسسة المالية، ومتعينةً لها بموجب الوثائق المُعيِّنة لها قبل بيعها للعميل، لاحظ هنا أنها "مملوكةٌ"، وأيضًا "متعينةٌ، وهذا التعيين مهمٌّ جدًّا، فتكون السلعة التي يُراد بيعها للعميل في التورُّق مملوكةً للبنك مثلًا، وأيضًا تكون متعينةً؛ بحيث مثلًا يكون هناك شهادة ملكيةٍ، والبعض يسميها: "شهادة تخزينٍ"، هذه الشهادة يُكتب فيها اسم السلعة ومكانها ونوعها، ويُكتب فيها -وهو الأهم- الرقم التسلسلي لهذه السلعة، أن رقمها التسلسلي كذا؛ بحيث إذا باعها البنك على العميل؛ يعرف العميل أن هذه السلعة له غُنْمها وعليه غُرْمها، هذا هو الشرط الأول: أن تكون السلعة مملوكةً ومتعينةً.
- والشرط الثاني أو الضابط الثاني: ألا يكون العميل الذي تبيع له الشركة أو البنك السلعة آجلًا هو الذي باع السلعة بصفته مالكًا لها؛ لئلا يكون ذلك من بيع العِينة.
- والشرط الثالث: ألا تتوكل الشركة أو البنك عن العميل في البيع لنفسها.
- والضابط الرابع: ألا تكون السلعة المباعة آجلًا ذهبًا أو فضةً.
- والخامس: ألا يكون هناك مواطأةٌ أو حيلةٌ على التمويل بالفائدة الربوية.
فهذه المحاذير إذا ضُبطت بهذه الضوابط الخمسة؛ تزول معها المحاذير التي ذكرها المانعون، لكن عندما لا تتحقق هذه الضوابط تَرِد الإشكالات التي ذكرها المانعون؛ ولهذا لا بد من تحقيق هذه الضوابط، ولا يمكن تحقيق هذه الضوابط لدى البنك إلا بوجود هيئةٍ شرعيةٍ مع جهاز رقابةٍ يزوِّد الهيئة بتقارير دوريةٍ عن مدى التزام البنك أو المؤسسة المالية بالضوابط الشرعية.
نخلص من هذا إلى أن التورُّق المنظم منه صورٌ جائزةٌ، وصورٌ ممنوعةٌ:
- الصورة الممنوعة: هي التي تَرِد عليها الإشكالات التي ذكرها المانعون من التورُّق المنظم، والتي لا يكون فيها تملُّكٌ، أو لا يكون فيها تعيينٌ، أو تكون صوريةً.
- الصورة الجائزة: هي التي تتحقق فيها هذه الضوابط، إذا تحققت هذه الضوابط؛ زالت الإشكالات التي ذكرها المانعون من التورُّق المنظم، والمصارف الإسلامية الآن تمارس التورق المنظم بصورته الجائزة؛ وعلى ذلك: لا يصح أن نقول: إن التورق المنظم ممنوعٌ مطلقًا، ولا جائزٌ مطلقًا، بل منه صورٌ جائزةُ، وصورٌ ممنوعةٌ.
أفضل مجالات التورق من حيث تحقُّق الضوابط الشرعية
ويبقى هنا سؤالٌ، وهو: ما أفضل مجالات التورق من حيث تحقُّق الضوابط الشرعية؟
يظهر لي -والله أعلم- أن أفضل مجالات التورق عن طريق المصارف بطريق الأسهم، أسهم الشركات النقية، لماذا؟ لوضوح التملك والتعيين فيها، فيأتي طالب التمويل للبنك، ويطلب منهم أن يبيعوه أسهمًا لشركاتٍ نقيةٍ، فيبيعونها له بثمنٍ مؤجلٍ، وتدخل محفظته، له غُنْمها وعليه غُرْمها، ثم يبيعها أو يُوكِّل البنك في بيعها في سوق تداول الأسهم بقيمتها السوقية نقدًا، ويحصل على ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ.
وأذكر أن أحد المستفتين سألني عن أفضل طريقةٍ للحصول على السيولة النقدية عن طريق البنوك، فقلت له: التورُّق عن طريق الأسهم النقية، فقال: أخشى أن الأسهم إذا دخلت محفظتي؛ أن تنزل قيمتها، قلت: هذا يُؤكِّد حِلَّها؛ لأن معنى ذلك: أنها بيعٌ حقيقيٌّ، وأن فيها قدرًا من المخاطرة، وليست صوريةً، وإنما ربما ترتفع وربما تنخفض، لك غُنْمها وعليك غُرْمها.
فأفضل طريقةٍ للحصول على السيولة النقدية: هي التورُّق عن طريق أسهم الشركات النقية.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
لا بأس أن نخرج قليلًا، أشرتم إلى ملمحٍ مهمٍّ في الحقيقة، وأنتم شيخنا عضوٌ في عددٍ من الجهات في الهيئة الشرعية لبعض المؤسسات والجهات المصرفية، أهمية وجود هيئةٍ شرعيةٍ لدى هذه المؤسسة، وأشرتم إلى ملمحٍ آخر: وهو أهمية وجود هيئةٍ رقابيةٍ تُطبِّق ما تُصدره الهيئة الشرعية على واقع العمل، فلو تحدثوننا حول هذا الموضوع والتأكيد على شأنه.
أهمية وجود هيئةٍ شرعيةٍ ورقابةٍ شرعيةٍ على البنوك
الشيخ: المؤسسات المالية عمومًا -ومنها البنوك- ينبغي أن يكون لها هيئاتٌ شرعيةٌ من طلبة العلم والمشايخ، خاصةً ممن لهم اهتمامٌ بالمعاملات المالية؛ وذلك لأجل تقديم الاستشارات الشرعية لهذه المؤسسات المالية، وأيضًا لا بد من وجود جهاز رقابةٍ؛ لأن وجود هيئةٍ شرعيةٍ بدون رقابةٍ ليس له كبير فائدةٍ؛ لأنه ربما يُضفي الشرعية على هذه المؤسسة، لكن من حيث التطبيق لا يكون دقيقًا، بل لا بد من وجود رقابةٍ تُقدِّم تقارير دوريةً عن مدى التزام هذه المؤسسة المالية أو هذا البنك بقرارات الهيئة الشرعية، فإذا تحقق هذان الأمران: وجود هيئةٍ شرعيةٍ، ووجود رقابةٍ شرعيةٍ؛ فإن المتعامل مع هذه المؤسسة المالية أو مع هذا البنك؛ يَطمئن كثيرًا، وأن هناك من المشايخ ومن طلبة العلم من اطلع على هذه التعاملات ودرسها وأجازها، فهذا يرتقي بمستوى المصرفية الإسلامية، وعندنا -ولله الحمد- في المملكة العربية السعودية تقريبًا جميع البنوك عندنا لديها هيئاتٌ شرعيةٌ، على تفاوتٍ فيما بينها في مستوى الرقابة الشرعية، وبلادنا المباركة -المملكة العربية السعودية- نصَّت رؤية (2030) على أن من الأهداف: أن تكون رائدةً في المصرفية الإسلامية؛ ولذلك فالمصرفية الإسلامية عندنا في المملكة -ولله الحمد- خطت خطواتٍ جيدةً، وتقدمت تقدمًا كبيرًا في هذا المجال والحمد لله.
المقدم: الحمد لله، ونسأل الله جل وعلا أن يُوفِّق الجميع لكل خيرٍ.
شيخنا، فيما يخص الصور الجائزة: هل من شروط الصور الجائزة: ألا تعود السلعة مرةً أخرى إلى المصرف إذا بِيعت للطرف الثالث؟
الشيخ: نعم، لا تعود للمصرف، المصرف عندما يشتريها ويبيعها للعميل، العميل يبيع لطرفٍ ثالثٍ، لا تعود على المصرف؛ حتى لا تكون من قَبِيل العِينة الثلاثية.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
مقلوب التورُّق (الاستثمار المباشر)
أيضًا من المسائل المتعلِّقة بهذا الموضوع ما يُعرف بـ"مقلوب التورُّق"، أو "الاستثمار المباشر"، ما صورته، وما حكمه الشرعي؟
الشيخ: نعم، في التورُّق المصرفي المنظم، الذي تكلمنا عنه قبل قليلٍ، العميل هو الذي بحاجةٍ للسيولة، ولكن إذا كان الأمر بالعكس، المصرف هو الذي بحاجةٍ للسيولة، والعميل هو المستثمر، هذا هو الذي يسمى: "مقلوب التورُّق"، ويسميه بعضهم: "التورق العكسي"، ويسميه بعضهم: "الاستثمار المباشر"، وربما أيضًا يسمى: "المرابحة العكسية"، أو "الوديعة لأَجَلٍ"، كلها مصطلحاتٌ لهذا التعامل، فيكون المصرف هو الذي بحاجةٍ للسيولة، فيطلب المصرف من عملائه شراء سلعٍ من الأسواق العالمية أو المحلية بسعرٍ حالٍّ، ثم يبيعها العميل للبنك بسعرٍ آجلٍ، ولكن هنا العميل يُوكِّل المصرف في شراء السلعة، ويسلمه الثمن نقدًا، ويشتريها المصرف وكالةً عن العميل، ثم يبيعها العميل للمصرف بثمنٍ مؤجلٍ، وبربحٍ يُتفق عليه.
والسبب في لجوء بعض المصارف لهذه المعاملة: حاجة المصرف للسيولة النقدية، وأيضًا جذب أصحاب رءوس الأموال بإعطائهم أرباحًا كبيرةً من خلال هذه المعاملة، فهذا العميل يقول: أنا عندي مبلغٌ، عندي مليونٌ، مليونان، أو أكثر، يأتي للبنك ويقول: أريد استثمار هذا المبلغ، يقول البنك: وكِّلنا في شراء سلعةٍ، فيُوكِّلهم في شراء سلعةٍ، ثم يقولون: اشترينا هذه السلعة لك، تبيعها لنا؟ يبيعها لهم بثمنٍ مؤجلٍ، فأصبحت عكس التورُّق المنظم؛ ولذلك يسمى: "مقلوب التورق"، أو "الاستثمار المباشر"، أو "التورق العكسي"، وهذا يجري فيه الخلاف الذي ذكرناه قبل قليلٍ في "التورُّق المنظم"؛ فمن العلماء المعاصرين من منع منه، وذكر التسبيب الذي ذُكر في منع التورُّق المنظم من جهةِ مشاهبةِ هذا التعامل للعِينة، وأيضًا لكونه تكتنفه الصورية، ونحو ذلك؛ فمنعوا منه لأجل هذا، لكن يرى بعض العلماء المعاصرين أنه يمكن أن تزول هذه الإشكالات التي ذكرها المانعون بعددٍ من الضوابط، وهي شبيهةٌ بالضوابط التي ذكرناها في "التورُّق المنظم"؛ ومن ذلك:
- أن تكون السلعة مملوكةً ومتعينةً للعميل بموجب وثائق يتسلَّمها العميل.
- وأيضًا: ألا تشتري الشركة أو البنك السلعة آجلًا من العميل إذا كانت هي التي باعتها له بصفته مالكًا لها.
- وألا تتوكل الشركة عن العميل في البيع لنفسها.
- وألا تكون السلعة آجلًا ذهبًا أو فضةً.
- وألا يكون هناك مواطأةٌ أو حيلةٌ على التمويل بالفائدة الربوية، لاحظ أنها هي الضوابط نفسها التي ذكرناها في "التورُّق المنظم".
هذه الضوابط إذا طُبِّقت؛ تزول معها الإشكالات التي ذكرها المانعون لـ"مقلوب التورُّق"، فالذي يظهر في "مقلوب التورُّق": أنه يقال فيه ما قيل في "التورُّق المنظم"، ومنه صورٌ جائزةٌ، ومنه صورٌ ممنوعةٌ؛ الصور الممنوعة: هي التي لا تتحقق فيها هذه الضوابط، أو تختل فيها بعض هذه الضوابط ولو واحدٍ منها، أما إذا تحققت هذه الضوابط كلها؛ فيكون هذا التورُّق من الصورة الجائزة، وإذا تحققت هذه الضوابط؛ فما الإشكال في هذا النوع من التعامل؟! والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، والناس أيضًا يريدون التوسع والحصول على سيولةٍ نقديةٍ، ولا يُحقِّق لهم هذا إلا المصارف، فلو مُنعت هذه التعاملات بهذه الضوابط؛ هذا ربما يُلحِق الحرج والضيق على كثيرٍ من الناس، فكثيرٌ من الناس الآن يحتاجون للبنوك، الآن الشاب، حتى لو كانت وظيفته جيدةً، ربما لا يستطيع أن يحصل على مسكنٍ في سن شبابه إلا بمساعدة البنك، لا بد من مساعدة البنوك، والبنوك عندها صيغٌ جائزةٌ شرعًا تستطيع أن تُساعد بها هذا الشاب للحصول على مسكنٍ، لكن لو قلنا لهذا الشاب: لا تتعامل مع هذه البنوك مطلقًا، ربما لا يستطيع بدخله الوظيفي أن يحصل على بيتٍ يملكه بمفرده، فهذه البنوك -الحقيقةَ- تُقدِّم خدمةً للناس بتوفير السيولة النقدية مع أقساطٍ مريحةٍ على سنواتٍ طويلةٍ.
فالمهم: هو تحقق الضوابط الشرعية، صحيحٌ لو استطاع الشاب أن يستغني عن البنك؛ فهذا هو المفضل، ولكن أكثر الناس ربما لا يمكنه ذلك إلا بمساعدة البنوك، ونجد في الواقع أن الأرباح التي تتقاضاها البنوك هي أقل أرباحٍ في السوق.
فإذنْ حاجة الناس لتمويلات البنوك حاجةٌ ماسةٌ وكبيرةٌ، فلا بد أن تُضبط هذه التعاملات بالضوابط الشرعية، ويقال للناس: إنها إذا ضُبطت بالضوابط الشرعية؛ فيجوز التعامل معها، هذا أحسن من أن يُقفَل الباب أو يسد، ويقال: لا تتعاملوا مع البنوك، طيب إلى أين يذهب هؤلاء الناس؟! لا نقول هذا من باب التبرير بضغط الواقع، ولكن نقول هذا من باب أن دائرة المعاملات، ودائرة البيع دائرةٌ واسعةٌ، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، والأصل في المعاملات الحِل والإباحة، فلا نقول بالتحريم إلا بدليلٍ واضحٍ.
فإذا تحققت هذه الضوابط، سواءٌ أكان في "التورُّق المنظم"، أو في "التورُّق العكسي"؛ زالت معها الإشكالات التي يخشاها المانعون من "التورُّق المنظم"؛ وعلى ذلك نقول: إن "التورُّق المنظم" و"التورُّق العكسي" له صورةٌ جائزةٌ، وصورةٌ ممنوعةٌ، فلا نقول: "إن التورُّق المنظم" و"التورُّق العكسي" جائزٌ بإطلاقٍ، ولا نقول: إنه ممنوعٌ بإطلاقٍ.
ومن أراد من الإخوة المستمعين التوسُّع في هذا؛ فقد ذكرتُ التفاصيل في كتاب "فقه المعاملات المالية المعاصرة"، فأُحِيلهم على هذا المرجع لمن أراد التوسُّع في هذه المسائل.
الفرق بين "التورق العكسي" و"التورق المنظم"
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، إذنْ نستطيع أن نُفرِّق بين حقيقة "التورُّق العكسي" و"التورُّق المنظم": أن السيولة في "التورُّق المنظم" هي بصفِّ العميل، هو الذي يحتاج إلى السيولة، بخلاف "التورُّق العكسي"، فالسيولة التي يحتاجها هي المصرف أو المؤسسة المالية؟
الشيخ: نعم صحيحٌ، في "التورّق المنظم" العميل هو الذي يريد الحصول على السيولة النقدية، فالبنك يشتري سلعةً ويبيعها له بثمنٍ مؤجلٍ، لكنه يُقدِّم له خدمةً، يقول: أنا أبيعها، أتوكَّل عنك في بيعها في السوق وأُودِع لك ثمنها، إذا ضُبطت بالضوابط الشرعية؛ لا إشكال فيها.
في "التورُّق العكسي" أو "الاستثمار المباشر" المسألة بالعكس، الذي بحاجةٍ للسيولة هو البنك، والعميل فقط يريد أن يستثمر ماله، وهذه أيضًا إذا ضُبطت بضوابط شرعيةٍ؛ فإنها تكون جائزةً.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
شيخنا، بعد ذكركم لهذه الضوابط للصور الجائزة، هنا العميل كيف له أن يتحقَّق من هذه الضوابط؟ هل مطلوبٌ منه أن يسأل عن حقيقة المعاملة، أم يكفي في ذلك أن يقال له: إن هذه المؤسسة يُشرِف عليها هيئةٌ شرعيةٌ، وهيئةٌ رقابيةٌ؛ وبناءً على ذلك تبرأ ذمته، ما الواجب عليه هنا؟
الشيخ: الواجب عليه أن يسأل: هل هذه المؤسسة المالية عندها هيئةٌ شرعيةٌ؟ فإذا كان عندها هيئةٌ شرعيةٌ ومشايخ محل ثقةٍ؛ فيمكن أن يعتمد على فتياهم، وعلى أيضًا جهاز الرقابة المتفرِّع عن هذه الهيئة الشرعية، فإذا قيل: إنها مُجازةٌ من هؤلاء المشايخ وطلبة العلم، وأنه يوجد جهاز رقابةٍ، وكان مستوى الثقة عند العميل بهذه المؤسسة المالية كبيرًا؛ فتبرأ ذمته إذا تعامل مع هذه المؤسسة المالية.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
العِينة الثلاثية
شيخنا، في ثنايا حديثكم قبل قليلٍ ذكرتم مصطلحًا، وهو ما يسمى بـ: "العِينة الثلاثية"، وأن فيها إشكالًا شرعيًّا، فلو بيَّنتم لنا وللمستمع الكريم ما المقصود بـ"العِينة الثلاثية"؟
الشيخ: أولًا "العِينة": هي أن يبيع السلعة بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، يقول: أبيعك هذه السيارة بخمسين ألف ريالٍ مؤجلةٍ لمدة سنةٍ، ثم يشتريها منه بأربعين ألف ريالٍ نقدًا، يقول: أرجع إلي سيارتي، وخذ هذه الأربعين ألفًا نقدًا، فيثبت في ذمة الطرف الآخر خمسون ألفًا مؤجلةٌ، والطرف الأول تعود إليه سيارته، ويُطالِب صاحبها بخمسين ألفًا مؤجلةٍ.
هذه العِينة محرمة وجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة منعوا منها، ولم يُجِزها إلا الشافعية، والقول الراجح هو قول الجمهور.
العِينة الثلاثية: هي أن السلعة تذهب لطرفٍ ثالثٍ، ثم تعود للطرف الأول؛ يعني: يبيع السلعة له بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يبيعها المشتري لطرفٍ ثالثٍ، ثم الطرف الثالث يبيعها للطرف الأول؛ فمعنى ذلك: أن السلعة تدور بنيهم، فهذه يسميها العلماء: "العِينة الثلاثية"، إذا وقعت عن مواطأةٍ واتفاقٍ؛ فإنها غير جائزةٍ، لكن إذا لم تقع عن مواطأةٍ ولا اتفاقٍ؛ ففيها خلافٌ قويٌّ بين أهل العلم: هل تجوز أو لا تجوز؟ والأقرب -والله أعلم- أن حكمها حكم "عكس العِينة"، و"عكس العِينة" الأقرب فيه هو ما اختاره الموفق بن قدامة: أنها إذا وقعت عن مواطأةٍ واتفاقٍ؛ فإنها لا تجوز، وإذا وقعت عن غير مواطأةٍ؛ فإنها جائزةٌ.
فإذنْ: "العينة الثنائية" لا تجوز مطلقًا، سواءٌ كانت باتفاقٍ أو بغير اتفاقٍ، أما "العِينة الثلاثية" ففيها خلافٌ، هل تجوز إذا وقعت من غير مواطأةٍ ولا اتفاقٍ؟ هذا محل خلافٍ بين أهل العلم، الأقرب أنها إذا وقعت بمواطأةٍ واتفاقٍ؛ فإنها غير جائزةٍ، وإذا وقعت عن غير مواطأةٍ ولا اتفاقٍ؛ فإنها جائزةٌ، مثل "عكس العِينة"، هذا هو الأقرب في هذه المسألة.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم هذا البيان والتوضيح.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر كذلك موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.