logo
الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(13) تفسير آيات الأحكام- من قوله "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.."

(13) تفسير آيات الأحكام- من قوله "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.."

مشاهدة من الموقع

المُقدِّم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".

نحن وإياكم في تفسير آيات الأحكام، ضيفنا في هذه الحلقة فضيلة الشيخ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.

باسمي وباسمكم جميعًا، أُرحِّب بفضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.

المُقدِّم: شيخنا الكريم، كنا نتحدث بعد أن انتهينا من آيات الربا، وقفنا عند قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.. [البقرة:281]، ثم آية الدَّيْن.

فهل تأذنون باستماع تلاوةٍ لهذه الآيات ثم نعود للشرح والتعليم؟

تفسير قوله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ..

القارئ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

المُقدِّم: تفضَّل يا شيخنا بالتعليق على الآيات.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول ربنا تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، هذه الآية هي آخر آيةٍ نزلت من القرآن، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وعاش النبي بعدها تسع أو سبع ليالٍ، وقيل عاش ثلاث ساعاتٍ بعدها، فهي آخر آيةٍ نزلت من القرآن.

ومناسبتها ظاهرةٌ؛ فإن الله وعظ الناس بأن يتقوا ربهم ويتقوا هذا اليوم الذي يُرجَعون فيه إلى الله، ومَن مات فقد قامت قيامته، كأنه يُقال: اتقِ الله ، واتقِ ما سيأتي بعد هذه الحياة الدنيا، وهو هذا اليوم الذي تُرجَع فيه إلى الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، فهذه هي آخر آيةٍ نزلت من القرآن الكريم.

نبدأ أولًا بالكلام عن المعاني:

وَاتَّقُوا يَوْمًا: التقوى: هي أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقايةً، باتِّباع أوامره واجتناب نواهيه، هذه هي تقوى الله . لكن قد تُضاف التقوى إلى غير الله سبحانه كما في هذه الآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا، المقصود باليوم: يوم القيامة، يعني: اتقوا شرَّ هذا اليوم، وذلك بأن تستعدوا له بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.

هذا اليوم تُرجَعون فيه إلى الله ، فإن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يَكْدَح فيها ويَكْدَح، ثم لا بُدَّ أن يَرجِع إلى الله سبحانه، ولا بُدَّ من لقاء الله سبحانه، كما قال : يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، فالإنسان يسير في هذه الحياة الدنيا، يتقلب فيها بين أحوالٍ شتَّى، ثم في الأخير يرجع إلى الله ، ويلقى الله سبحانه.

لا بُدَّ في الأخير من نقطةٍ، وهذه النقطة يتوقف عندها تمامًا، وهي نقطة لقاء الله سبحانه، إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، يعني: هذه نقطةٌ فاصلةٌ بين عالم الدنيا والآخرة بالنسبة للإنسان، وهي ساعة الاحتضار، عندما تحين ساعة الاحتضار هذه ساعة النقلة من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، يرجع الإنسان فيها إلى ربه سبحانه، يُلاقي الله ، ينتقل من دار العمل إلى دار الجزاء والحساب؛ لذلك يقول بعضهم: إن الموت هو ولادةٌ جديدةٌ، يعني: مرحلةً جديدةً من حياة الإنسان.

مراحل حياة الإنسان

حياة الإنسان تقلُّبٌ في مراحلَ، كان في البداية عَدَمًا، ثم بعد ذلك نُطْفةً، ثم عَلَقةً، ثم مُضْغةً، ثم عِظامًا، ثم كُسِيَتِ العِظام لحمًا، ثم نُفخ فيها الروح، ثم خرج من هذا الرحم الضيق المُظلِم في ظُلُماتٍ ثلاثٍ إلى الدنيا، إلى دارٍ رَحْبةٍ واسعةٍ وهي هذه الدنيا، ثم يعيش في هذه الدنيا ما شاء الله أن يعيش، ثم بعد ذلك يرجع إلى الله ، يُلاقي الله : إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، يرجع إلى الله بعدما يُقفَل في وجهه باب العمل وينتقل إلى دار الجزاء والحساب، ومَن مات فقد قامت قيامته.

الأصل في الجزاء أنه يكون في الآخرة

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ: تُوفَّى يعني: تُعطَى كل نفسٍ ما كسبت؛ أي: إنها تُعطَى ثوابها وأجرها المكتوب لها إن كان العمل صالحًا، أو تُعطَى العقاب على عملها إن كان العمل سيئًا؛ ولهذا قال: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. فالتوفية والجزاء عن الأعمال في الأصل إنما يكون في الدار الآخرة، فالإنسان في هذه الدنيا يعمل ويعمل، لكن الجزاء ثوابٌ أو عقابٌ، الأصل أنه يكون في الدار الآخرة.

وقد يجزي الله تعالى الإنسان في الدنيا بعض الجزاء، سواءً على عمله الصالح أو على عمله السيئ؛ فمثلًا: صلة الرحم: قد يجزي الله تعالى الإنسان على صلة الرحم في الدنيا بعض الجزاء، بأن يَبسُط له في رزقه، وأن يَنْسأ له في أثره، أيضًا قد يرزقه الله من حيث لا يحتسب: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

فقد يجزى بعض الجزاء في الدنيا، لكن جزاء التوفية الكامل هذا إنما يكون في الآخرة، هكذا أيضًا بالنسبة لمن يعمل السيئات، قد يُجزَى ويُعاقَب عليها بعض العقوبة في الدنيا، لكن العقوبة الكاملة إنما تكون في الآخرة؛ ولذلك قد نجد أن بعض الناس يكون قد طغى وبغى وظلم وفسد وأفسد، ومع ذلك لا يُعاقَب في الدنيا؛ لأن الدنيا ليست هي دار الجزاء، وإنما دار الجزاء هي الدار الآخرة.

تجد أن بعض الناس ربما يتساءل: كيف أن الله تعالى لم يَجْزِ فلانًا وهو فعل ما فعل من الفساد ومن البغي ومن كذا؟!

فنقول: الدنيا ليست دار التوفية، دار التوفية على الأعمال هي دار الآخرة، دار الجزاء هي دار الآخرة، دار العدالة المُطلَقة هي الدار الآخرة، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، ليست بدار عدالةٍ مُطلَقةٍ، فيها ظالمٌ ومظلومٌ، وقد لا يُعاجَل الظالم بظُلمه، قد يبقى يظلم ويبطش بهذه الدنيا، لكن يُؤخِّر الله له العقوبة في الآخرة كما قال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].

فإذًا؛ هذه الحقيقة لا بُدَّ أن يفهمها المسلم؛ لأن بعض العامة يُصبح عندهم شيءٌ من الارتباك، هناك يفعل كذا وكذا ومع ذلك لم يُعاقَب! فالدنيا ليست بدار توفيةٍ للأعمال، إنما دار التوفية هي الآخرة، دار الجزاء الآخرة، ودار العدالة المُطلَقة الآخرة، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، هذا في الدار الآخرة، فهذا معنى قوله سبحانه: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ.

ثم أكَّد العدالة المُطلَقة، فقال: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، عدالةً مُطلَقةً في منتهى الدقة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8].

أبرز الفوائد من الآية

أبرز فوائد هذه الآية: وجوب اتِّقاء يوم القيامة الذي يُرجَع فيه الإنسان إلى الله سبحانه، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، واتِّقاؤه يكون بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.

وأيضًا من الفوائد: أن التقوى قد تُضاف لغير الله كما ذكرنا، مثلًا: قد تقول: "اتقِ"، لكن لغير الله تعالى كما في هذه الآية وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، اتقِ دعوة المظلوم، اتقوا النساء كذلك.

أيضًا من الفوائد: أن دار التوفية هي الدار الآخرة، وأن الجزاء الكامل على الأعمال إنما يكون في الدار الآخرة، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، فالإنسان لا يُوفَّى على عمله توفيةً كاملةً إلا يوم القيامة.

وأيضًا من الفوائد: أن الدار الآخرة هي دار العدالة المُطلَقة؛ لقوله ​​​​​​​: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، فلا ظُلمَ في الدار الآخرة، وإنما يَنال الإنسان جزاءه ثوابًا أو عقابًا، ويتعجب المُجرِمون من هذه الدقة! وكما قال سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ يعني: الأعمال، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

المُقدِّم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم، ننتقل لآيات الدَّيْن.

تفسير آية الدَّيْن

الشيخ: عندنا آيتان: آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ..، والآية التي بعدها: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ..، وبها ننتهي من تفسير آيات الأحكام في سورة "البقرة" إن شاء الله.

القارئ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۝ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم [البقرة:282-283].

المُقدِّم: تفضَّل يا شيخنا بالتعليق على الآية.

الشيخ: نعم، هذه الآية -آية الدَّيْن- هي أطول آيةٍ في كتاب الله ، سبحان الله! أطول آيةٍ في القرآن في توثيق الديون! وهذا يدل على أهمية توثيق الديون، وأن الإنسان ينبغي أن يحرص على التوثيق؛ لأن التوثيق له فوائدُ كثيرةٌ، وقد أشار الله تعالى إلى شيءٍ من هذه الفوائد: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا.

فالإنسان إذا وثَّق لا يرتاب ولا يَشُكُّ، والإنسان إذا وثَّق أيضًا يقطع طمع الآخرين فيه؛ لأن الإنسان إذا لم يُوثِّق فربما يطمع طامِعٌ ويجحد حقَّه الذي له؛ ولذلك هذه الآية تدل على أهمية التوثيق، وأنه ينبغي أن يجعل المسلم هذا التوثيق مبدأً في حياته؛ إذ إن أطول آيةٍ في القرآن هي في الإرشاد إلى توثيق الديون.

طبعًا هذه الآية يقولون: إنها أطول آيةٍ في القرآن، و : ثُمَّ نَظَرَ [المدثر:21]، أطول آيةٍ: آيةُ الدَّيْن، وأقصر آيةٍ: ثُمَّ نَظَرَ.

المُراد بالدَّيْن في الآية

قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، الدَّيْن: هو كل ما ثَبَتَ في الذمة من حقوق الله تعالى أو حقوق الآدميين.

والمُراد به في الآية: ما ثَبَتَ في الذمة من حقوق الآدميين؛ كالقرض مثلًا، وكالبيع بثمنٍ مُؤجَّلٍ، والصداق المُؤجَّل، ونحو ذلك.

إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: يعني: إلى مُدةٍ محدودةٍ.

مشروعية كتابة الدَّيْن

فَاكْتُبُوهُ؛ أي: اكتبوا الدَّيْن المُؤجَّل إلى أجله، وهذا فيه إرشادٌ للكتابة، مع أن -يعني- أكثر الذين نزلت عليهم هذه الآية كانوا من الأُميين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولكن هذا القرآن هو لجميع الأمة. ثم أيضًا حتى مَن لا يعرف القراءة ولا الكتابة بإمكانه أن يستعين بمَن يعرف القراءة والكتابة، فالكتابة مُهمةٌ؛ ولذلك أرشد الله إلى كتابة الدَّيْن، قال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، بِالْعَدْلِ وهذا يعني: أن العدل هو ضد الجَوْر، والمُراد بالعدل: ما طابَقَ الشرع.

وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ: لا يأبَ؛ أي: لا يمتنع كاتبٌ إذا طُلِب منه الكتابة؛ وذلك لأنه -كما ذكرنا- كان مَن يعرف الكتابة من العرب في ذلك الوقت قليلٌ، فربما أن بعضهم يَمَلُّ ويمتنع ونحو ذلك، والله تعالى يقول: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ يعني: لا يمتنع، إذا طُلِبَ منه الكتابة فينبغي أن يُبادِر.

وقوله: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ قيل: إن "الكاف" هنا للتشبيه؛ أي: يَكتُب كتابةً حسب علمه كما علَّمه الله أن يَكتُب، وتكون مُستوفيةً لما ينبغي أن تكون عليه.

وقيل: إن "الكاف" هنا للتعليل؛ أي: إنه يَكتُب لما علَّمه الله ، فيشكر الله تعالى على نعمته، وكما علَّمك الله الكتابة وغيرك لم يُعَلَّم، فينبغي أن تشكر الله وتَكتُب للناس. وكلا المعنيين صحيحٌ. 

وعندنا قاعدةٌ في التفسير، هي: أن الآية إذا احتملت معنيين أو أكثر وليس بينها تضادٌّ بأيِّ وجهٍ من الوجوه، فتُحمَل على هذه المعاني كلها؛ لأن هذا أبلغ في الدلالة، ولأن هذا يتوافق مع إعجاز القرآن العظيم الذي يدل الدلالات الكثيرة باللفظ الوجيز.

ثم قال سبحانه: فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلْيُمْلِلِ يُمْلِل يعني: يُمْلِي، و"يُمْلِل": لغة أهل الحجاز، و"يُمْلِي" لغة تميمٍ، وجاء باللغتين القرآن الكريم، وبهذه الآية قال: وَلْيُمْلِلِ بلغة أهل الحجاز، وأيضًا جاءت "يُمْلِي" لغة تميمٍ في آيةٍ أخرى بسورة "الفرقان"، فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5].

فاللغتان وَرَدَتا في القرآن الكريم: "يُمْلِل" و"يُمْلِي"، وكلتاهما لغتان صحيحتان، "يُمْلِل": لغة أهل الحجاز، و"يُملي": لغة تميمٍ.

الذي وَرَدَ هنا في آية الدَّيْن لغة أهل الحجاز: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، يعني: يُمْلِي، المقصود: يُمْلِي الذي عليه الحق.

وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا: يعني: عندما يُمْلِي ليتقِ الله في ذلك، ولا يَبخس من الحق شيئًا؛ لا في كميته، ولا في كيفيته، ولا في نوعه.

فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ: يعني: لا يستطيع أن يُمْلِل؛ لكونه سَفِيهًا يعني: لا يُحسِن التصرف، أَوْ ضَعِيفًا: الضعف هنا ضعف الجسم وضعف العقل، فضعف الجسم المُراد به: الصغير، وضعف العقل المراد به: المجنون.

أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ: لا يقدر على أن يُمْلِي لخرسٍ أو لغيره، إما لخرسٍ وإما لعدم قُدرةٍ، بعض الناس ما يستطيع أن يُمْلِي، يُصيبه عِيٌّ في الكلام، أو أنه أخرس.

فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ: يعني: وليُّ هذا الإنسان السفيه أو الضعيف، وليُّه الذي تولَّى شؤونه -من أبٍ أو غيره- هو الذي يُمْلِي بدلًا عنه، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، يعني: إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على مَن له الحق.

مشروعية الإشهاد على الدَّيْن

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ: بعدما أمر الله بكتابة الدَّيْن أمر بالإشهاد عليه بعد الكتابة، لا تكفي الكتابة بل لا بُدَّ من الإشهاد. وسيأتي الكلام عن حكم الإشهاد؛ هل هو واجبٌ أو مُستحبٌّ؟

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ: وهنا قال: "شهيدَيْن"، ولم يَقُل: "شاهدَيْن"؛ وذلك لأن مُطلَق الشاهد قد يكون زورًا، فأتى بصيغة المُبالَغة كأنه شاهِدٌ قد عَرَفَه الناسُ بعدالة الشهادة حتى صار شهيدًا، وقد تكررتْ منه الشهادة العادلة وائتمَنَه الناسُ. فهذا هو السر في أن الله اختار كلمة شهيدٍ، ولم يقل: "شاهدًا"، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ، ولم يقل "شاهدَيْن"، فكأن المعنى: استشهِدوا مَن عُرِفَ بالعدالة، وتكررتْ منه الشهادة، وعَرَفَه الناس بالشهادة العادلة، لا تأخذ أيَّ شاهدٍ، فقد يكون هذا الشاهد شاهدَ زورٍ ونحو ذلك.

مِنْ رِجَالِكُمْ: يعني: في الأمور المالية تكفي شهادة شاهدَيْن من الرجال.

طيب، النساء هل يَشهدن في الأمور المالية؟ قال: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، يعني: إن لم يكن الشاهدان رَجُلَيْن؛ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وهذا يدل على التخيير، مع ترجيح الرَّجُلَيْن على الرَّجُل والمرأتَيْن فرجلٌ وامرأتان، وهذا طبعًا في الأمور المالية، في المال وما يُقصَد منه المال.

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ: يعني: يكون هؤلاء الشهود مَرْضيين عند الناس، وهذا يدل على اشتراط العدالة في الشهداء، وأنه لا بُدَّ أن يكون هؤلاء الشهود عدولًا، فلا بُدَّ إذًا أن يكون هؤلاء الشهود مَرْضيين عند الناس. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، يعني: عُرِفَتْ عدالتهم.

ذكر ابن كثيرٍ هنا مقولةً عن بعض السلف، قال: "هل تعلمون مظلومًا دعا ربَّه فلم يستجب له؟ ثم أجاب: قال: هو رَجُلٌ باع بيعًا إلى أجلٍ فلم يُشهِد ولم يَكتُب، فلما حَلَّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربَّه فلم يستجب له؛ لأنه عصى ربه"، يقول: يعني هذا الذي فرَّط لم يَكتُب الدَّيْن ولم يُشهِد عليه، ثم جُحِدَ الدَّيْن، ثم يقوم ويدعو الله تعالى على هذا الذي جحده وقد فرَّط؛ كيف يريد إجابة دعوته وهو الذي قد خالف هذه التوجيهات من الله بتوثيق هذا الدَّيْن؟!

ثم قال سبحانه: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، تَضِلَّ بمعنى: تنسى، المقصود بالضلال هنا: النسيان، أَنْ تَضِلَّ يعني: تنسى.

إِحْدَاهُمَا: إحدى المرأتين.

فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى: يعني: هذا هو المعنى؛ لكون شهادة المرأتين تُعادِل شهادة الرَّجُل، وسنُبيِّن إن شاء الله في الفوائد لماذا، لماذا جُعِلَت شهادة المرأتين تُعادِل شهادة رَجُلٍ؟ ما هو السبب؟ هل لأن الرجل أكثر حفظًا أم لسببٍ آخر؟ سنُبيِّن هذا في الفوائد إن شاء الله.

حُكم تحمُّل الشهادة وأدائها

ثم قال سبحانه: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا، يعني: لا يمتنع الشهداء عن تحمُّل الشهادة أو أدائها، على الشاهد أن إذا دُعي لتُحَمُّل الشهادة أن يقبل؛ لأن هذا من التعاون مع أخيه المسلم على البر والتقوى، كذلك إذا شهد يجب عليه أن يُؤدِّي الشهادة. فإذًا؛ لا يأبَ الشهداء إذا دُعوا إلى الشهادة، إذا ما دُعوا تَحُّملًا أو أداءً.

وَلَا تَسْأَمُوا: يعني: لا تَمَلُّوا.

أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ: اكتُب كل شيءٍ، ما دام أنه دَيْنٌ، اكتُب كل شيءٍ وأشهِدْ عليه حتى لو كان صغيرًا. 

ذَلِكُمْ: يعني: ما سبق من الإرشادات والأحكام.

أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: يعني: أَقْوَم وأَعْدَل.

وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ: يعني: أقرب إلى إقامة الشهادة.

وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا: يعني: أقرب لانتفاء الريبة.

الفرق بين البيع والتجارة.. وحُكم الزكاة فيهما

ثم استثنى الله من ذلك قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً، التجارة: كل صفقةٍ يُراد بها الربح، كل ما يُراد به الربح فهذا تجارةٌ، فالبيع الذي يُراد به الربح تجارةٌ؛ ولذلك الزكاة تجب في العقار الذي يُراد به التجارة، لكن العقار الذي أُعِدَّ للبيع ولم يُرِد صاحبه به التجارة هل تجب فيه الزكاة؟ إنسانٌ عنده عمارةٌ، ثم أراد أن ينتقل من حَيٍّ إلى حَيٍّ، عرضها للبيع وبقيت سنتين ما اشتراها أحدٌ، هل تجب فيها الزكاة؟

الجواب: لا؛ لأنها لم تُعرَض للتجارة وإنما للبيع، والله تعالى فرَّق بين البيع والتجارة، قال: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ... أكمل الآية؟ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ [النور:37].

معنى ذلك: أن البيع يختلف عن التجارة؛ فمن يَعرِض مثلًا سلعته للبيع ليس بالضرورة أن يكون قصد بذلك التجارة، فإذا كان مجرد البيع بقصد التخلُّص، بقصد الرغبة عنها، بقصد بيعها لأجل الحصول على السيولة، هذا لا يُعتبَر تجارةً؛ فلا تجب فيها زكاةٌ لو حال عليها الحول. لكن الذي يَجزِم بنِيَّة البيع في الحال أو في المستقبل بقصد التربح؛ هذه هي عروض تجارةٍ، وهي التي تجب فيها الزكاة.

حُكم كتابة التجارة الحاضرة والإشهاد عليها

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً: يعني: هذا مقابل قوله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، يعني: ليست مُؤجَّلةً وإنما حاضرةٌ.

تُدِيرُونَهَا: يعني: تتعاطونها فيما بينكم، وهذا يؤكد معنى التجارة؛ التجارة لا بُدَّ فيها من الإدارة وطلب التربُّح.

فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا: يعني: التجارة الحاضرة لا يلزم كتابتها، أنت لو أردتَ الآن أن تشتري -مثلًا- من محلٍّ سلعًا وتنقد الثمن مُباشَرةً، ما يلزم أنك تكتب ولا أن تُشهِد، ذهبتَ لمحل تسوُّقٍ، اشتريت مثلًا بضاعة بخمسمئةٍ ريال ثم أعطيتهم المبلغ، لا يلزم لا إشهادٌ ولا كتابةٌ؛ لهذه الآية؛ لقوله ​​​​​​​: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً، ما دامت أنها حاضرةٌ، ما يحتاج الأمر إلى إشهادٍ ولا إلى كتابةٍ.

وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ هذا تأكيدٌ للإشهاد عند البيع.

معنى قوله: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ

وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ، وَلَا يُضَارَّ مأخوذةٌ من الإضرار، فأصلها "ولا يُضارَر"، هل هي لا يُضارَر أو لا يُضارِر؟ تحتمل المعنيين:

فإذا قلنا: "لا يضارَر" للمفعول، فمعنى ذلك: أنه لا يُضارَّ الكاتب ولا الشهيد؛ لأن هذا مُحسِنٌ، وما على المُحسِنين من سبيل ولا يجوز أن يُضارَّ.

وأيضًا تحتمل المعنى الثاني "ولا يُضارِر" الكاتب أو الشهيد، يعني: بأن يَكتُب كتابةً فيها زورٌ، أو يَشهد شهادةَ زورٍ. وكلا المعنيين صحيحٌ.

وَإِنْ تَفْعَلُوا: بمُضارَّة الكاتب أو الشهيد.

فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ: الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته.

الواو وأثرها في فهم معنى قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ

وَاتَّقُوا أَمْرَ الله، يعني: ختم الله تعالى هذه الآية بالأمر بتقواه.

وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ: الواو هنا للاستئناف وليست جوابًا للشرط، ليس المعنى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ؛ لأنه لو كان كذلك لقال: "ويُعلِّمكمْ" بالجزم بإسكان الميم، لكن هنا بضم الميم: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، فهي على الاستئناف.

ولذلك تجد أن بعضهم يقول: إن من يتقِ الله فإن الله يُعلِّمه ويستدلُّ بالآية: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، هذا استدلالٌ غير صحيحٍ؛ لأن التعليم يحصل مع تقوى الله ومع غير تقوى الله، بعض الناس من أفجر الفجار ومع ذلك عنده علمٌ، عالمٌ حتى في أمور الشريعة، عالمُ السوء عالمٌ عنده علمٌ غزيرٌ، لكن ليس عنده تقوى.

فإذًا؛ ليس بالضرورة أن الإنسان إذا اتقى الله أنه يحصل على العلم، قد يتقي الله ولا يحصل على العلم؛ ولذلك فهذا الاستدلال الذي استدلَّ به بعض الناس استدلالٌ غير صحيحٍ، يقول: من ثمرات التقوى العلم، والدليل: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، هذا استدلالٌ غير صحيحٍ. لو كانت الآية: "واتقوا الله ويعلمكمْ" بإسكان الميم؛ لكان هذا صحيحًا، لكن الله تعالى قال: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، فهي استئنافيةٌ، وَيُعَلِّمُكُمُ الواو استئنافيةٌ هنا، فأمر الله بتقواه، ثم استأنف وقال: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ.

يمكن أن يستدل على أن تقوى الله تُعين الإنسان على طلب العلم، وأنها تضبط له وقته وأموره بأدلةٍ أخرى، لكن لا يُستدَلُّ بهذه الآية؛ لأن الاستدلال بها فيه تكلُّفٌ وَلَيٌّ لهذه الآية، لا تدل هذه الآية على هذا المعنى. وكما ذكرنا، فإن التعليم قد يحصل مع تقوى الله ومع غير تقوى الله. فإذًا؛ الواو هنا واوٌ استئنافيةٌ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، ثم قال: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ.

وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: سبحانه وتعالى أحاط علمه بكل شيءٍ، الصغير والكبير، يعلم السرَّ وأخفى، لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء جلَّ وعلا.

أبرز الفوائد والأحكام من الآية

ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام من هذه الآية:

أولًا: أهمية توثيق الديون؛ وذلك لأن الله جعل أطول آيةٍ في القرآن الكريم في إرشاداتٍ متعلقةٍ بتوثيق الديون، وهذا يدل على أهمية التوثيق، وأن الإنسان إذا دايَنَ غيرَه إما بقرضٍ أو بيعٍ مُؤجَّلٍ أو بغير ذلك، فينبغي أن يُوثِّق هذا الدين بالكتابة وبالشهود، وألا يُفرِّط في ذلك، وأن يكون الإنسان مُرتبًا فلا يكون فوضويًّا؛ لأن بعض الناس عنده فوضى، تجد أنه يبيع بالدَّيْن، ويشتري بالدَّيْن، وليس عنده كتابٌ، وليس عنده شهودٌ، ثم بعد سنوات تتغير الأمور، ثم يقع في مُشاحَناتٍ ومُخاصَماتٍ مع مَن تَبايَعَ معهم، أو ورثته يقعون في مُشاحَناتٍ معهم، ولو أنه رتَّب أموره ووثَّق هذا الدَّيْن؛ لسَلِمَ من ذلك كله؛ ولهذا قال: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا

وهذا فيه إشارةٌ أيضًا إلى أنه ينبغي أن يُرتِّب جميع أمور حياته، ليس فقط فيما يتعلق بالدَّيْن، تكون أموره كلها مُرتَّبةً، ويُرتِّب وقته، يُحسِن إدارة وقته، ولا يكون فوضويًّا يذهب عليه الوقت، عندما يتبايع بالدَّيْن لا يُوثِّق وتكون حياته مبنيةً على الارتجال والفوضى، بل ينبغي أن تكون مبنيةً على الترتيب وعلى التوثيق، فإن ذلك مما يُريحه ويحفظ له حقوقه، وأيضًا يقطع دابر النزاع والمُخاصَمة مع الآخرين.

أيضًا من فوائد هذه الآية: جواز الدَّيْن؛ لقوله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، والدَّيْن -كما ذكرنا- يشمل القرض الذي يُسميه الناس بـ"السَّلَف"، وقد وَرَدَتْ تسميته بـ"السَّلَف" في بعض الأحاديث، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيْعٌ [1]، الذي يُسمَّى "القرض الحَسَن" أو "السَّلَف"، ويشمل كذلك البيع بثمنٍ مُؤجَّلٍ، فالبيع بثمن مُؤجَّلٍ هو دَيْنٌ، وهو جائزٌ، وكان ابن عباسٍ رضي الله عنهما يستدلُّ على جواز السَّلَم بهذه الآية، ويقول: "أشهد أن السَّلَف قد أحلَّه الله في كتابه"، ويقرأ هذه الآية؛ لأن السَّلَمَ دَيْنٌ.

ومن ذلك أيضًا: أنه تجوز الزيادة في الثمن مقابل الدَّيْن، وذلك أثناء إنشاء العقد، وليس بعد إنشاء العقد، يعني: عندما يأتي إنسانٌ يريد أن يشتري سيارةً قيمتها نقدًا خمسون ألفًا، وقيمتها مُؤجَّلةً سبعون ألفًا، فهذا جائزٌ ولا بأس به، وقد نُقِل الإجماع على ذلك، نقله الحافظ ابن حجرٍ وغيره. ومُخالَفة بعض المعاصرين في هذا وأنها لا تجوز، هذه مسبوقةٌ بالإجماع على الجواز.

ثم أيضًا مالك السلعة هو حُرٌّ في تحديد الثمن، هو يقول: إن أردتَ أن تشتري مني هذه السلعة، أنا أرغب أن أبيعها عليك نقدًا بخمسين ألفًا، وأرغب أن أبيعها عليك مُؤجَّلًا بسبعين ألفًا، هو حُرٌّ في تحديد الثمن، لماذا نفرض عليه أن يبيعها بخمسين ألفًا؟! هو حُرٌّ.

فإذًا، الزيادة في قيمة السلعة مقابل الأجل عند إنشاء العقد لا بأس بها، لكن بعدما يَثبُت الدَّيْن في الذمة لا تجوز الزيادة في الدَّيْن مقابل زيادة الأجل؛ لأن هذا هو نظير ربا الجاهلية، في الجاهلية كانوا إذا حلَّ الدَّيْن على المَدين، أتى الدائنُ المَدينَ وقال: إما أن تَقضي وإما أن تُرْبِي.

في مثالنا السابق: لو أنه باع له هذه السيارة بسبعين ألفًا يُسدِّدها بعد سنةٍ، ثم بعد سنةٍ أتى الدائنُ للمَدينِ وقال له: أنا أطلبك سبعين ألفًا، فإما أن تقضي لي السبعين ألفًا الآن، أو أؤخرها لك السنة المُقبِلة لكن تكون ثمانين ألفًا، هذا هو الذي لا يجوز، هذا هو ربا الجاهلية، كانوا إذا حلَّ الدَّيْن على المَدين قال الدائنُ للمَدين: إما أن تَقضي وإما أن تُرْبِي.

لكن عند ابتداء العقد لا حرج أن يزيد في ثمن السلعة مقابل الأجل؛ لأنه حتى الآن لم ينشأ الدَّيْن بعد، ففرقٌ بين المسألتين، فبعض الناس الْتبس عليه الأمر، فجعل هذه مثل تلك، وهذا غير صحيحٍ.

فإذًا؛ الزيادة في ثمن السلعة لأجْل الدَّيْن ولأجْل الأجَل عند إنشاء العقد لا بأس بها، ونُقِل إجماع العلماء على ذلك.

أقسام الدَّيْن من حيث الأجل

أيضًا قوله: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يدلُّ على أن الدَّيْن ينقسم إلى:

  • دَيْنٍ بأجلٍ مُسمًّى.
  • ودينٍ بأجلٍ غير مُسمًّى.
  • وأيضًا دينٍ بأجلٍ مجهولٍ.

فالدَّيْن إلى غير أجلٍ هذا جائزٌ؛ مثل: أن يشتري سلعةً ولا يُعطيه الثمن ولا يُعيِّن له أجلًا؛ ففي هذه الحال: لهذا الدائن أن يُطالِب المَدين في الحال، بمجرد أن ينتهي العقد له أن يُطالِبه.

أما الدَّيْن إلى غير أجلٍ مُسمًّى فهذا لا يجوز؛ مثل: أن يشتري سلعةً ويقول: إلى قدوم زيدٍ، أو إلى حصول كذا، يُعلِّقها بأمرٍ مجهولٍ؛ فهذا لا يجوز؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: من أَسلفَ في شيءٍ؛ فليُسلِف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلومٍ [2].

أيضًا من فوائد الآية: جواز السَّلَم، وقد ذكرنا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه استدلَّ بهذه الآية على جواز السَّلَم. والسلم: هو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مُؤجَّلٍ بثمنٍ مقبوضٍ في مجلس العقد. فهذه الآية استدلَّ بها على جواز السَّلَم، وهو جائزٌ بالإجماع.

ومن فوائد هذه الآية: مشروعية كتابة الدَّيْن المُؤجَّل؛ لقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.

وهل كتابة الدَّيْن واجبةٌ أو غير واجبةٍ؟

مِن العلماء مَن قال بوجوبها، ولكن أكثر أهل العلم قالوا: إن كتابة الدَّيْن غير واجبةٍ؛ لأن الله تعالى قال في الآية التي بعدها: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ، هذا يدل على أنه إذا حصلت الثقة ونحو ذلك لا تجب الكتابة؛ ولهذا قال ابن عطيةَ في تفسيره: "الأصل عدم وجوب الكتابة؛ لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه"، له أصلًا أن يهب هذا الحق وأن يتركه بالإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه؟! وهذا استنباطٌ دقيقٌ، يقول: الأصل عدم وجوب الكتابة؛ لأن للمرء أن يهب هذا الحق وأن يدعه بالإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه؟!

فإذًا؛ الكتابة غير واجبةٍ، ومما يدل على هذا دلالة السُّنة، فقد باع النبي عليه الصلاة والسلام بيوعاتٍ لم يكتبها.

فإذًا؛ الكتابة مُستحبةٌ، كتابة الدَّيْن مُستحبةٌ استحبابًا مُؤكَّدًا، لكنها ليست واجبةً.

أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل؛ لقوله ​​​​​​​: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، فلا يُجْحِف مع الدائن ولا مع المَدين، وإنما يكون عدلًا في كتابته.

ومن فوائد هذه الآية: أنه ليس للكاتب أن يمتنع عن الكتابة كما علَّمه الله ؛ لقوله: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثم أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله ​​​​​​​: فَلْيَكْتُبْ.

وأيضًا من فوائد هذه الآية: أن مَن عليه الحق يُمْلِل، من عليه الحق يُمْلِي ولا يَكتُب. وينبغي أن يكون الكاتب كاتبًا بين الطرفين، يكون طرفًا مُحايدًا إن تيسَّر؛ لقوله ​​​​​​​: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فأمر الله تعالى بأن يُمْلِي، ولم يقل: "وليكتب الذي عليه الحق"، وإنما قال: وَلْيُمْلِلِ، فالمَدين هو الذي يُمْلِي؛ لأن الكتابة عليه للدائن، وليس الدائن هو الذي يُمْلِي، وإنما المَدين؛ لأنه هو الذي عليه الحق، ولأن الكتاب حجةٌ عليه، حتى لا يُؤخَذ بسيف الحاجة، فجعل المَدين هو الذي يُمْلِي على الكاتب، فالمَدين يقول للكاتب: اكتب كذا وكذا، والدائن يستمع.

ومن فوائد هذه الآية: أنه يَحرُم على مَن عليه الدَّيْن أن يبخس شيئًا، لا كميةً، ولا نوعًا، ولا صفةً؛ لقوله ​​​​​​​: وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.

ومن فوائد هذه الآية: أن الولي يقوم مقام المُولَّى عليه في الإملاء؛ لقوله ​​​​​​​: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، وهذا يدل على أن أسباب القصور ثلاثة:

  • أولًا: السَّفه.
  • وثانيًا: الضعف.
  • وثالثًا: عدم الاستطاعة.

أما السفه: فبألَّا يُحسِن التصرف؛ يكون سفيهًا. وأما الضعف -كما ذكرنا- فيشمل ضعف البدن وضعف العقل، ضعف البدن يشمل الصغير، وضعف العقل يشمل المجنون. وأما عدم الاستطاعة: فهو الذي لا يقدر على الإملاء لخرسٍ أو لعِيٍّ أو نحو ذلك.

ومن فوائد هذه الآية: قبول قول الولي فيما يُقِرُّ به على من وُلِّيَ عليه؛ لقوله ​​​​​​​: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ.

ومن فوائد هذه الآية: أن البينة والشهود إما أن يكونوا رجلين، أو رجلًا وامرأتين. وجاءت السُّنة أيضًا ببيِّنةٍ ثالثةٍ هي: الرَّجُل ويمين المُدَّعِي، فتكون أنواع طرق الإثبات في هذه المسألة هذه الثلاثة، وهذه تكلَّم عنها الفقهاء بالتفصيل.

سبب جعل شهادة المرأتين تُعادل شهادة رَجُلٍ

أيضًا من فوائد هذه الآية: أن شهادة المرأتين تُعادِل شهادة رَجُلٍ فيما يتعلق بالأموال، في المال وما يُراد منه المال.

والسبب في كون شهادة المرأتين تعادل شهادة رَجُلٍ: الذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس لأن ذاكرة الرجل أقوى من ذاكرة المرأة، فإن الواقع بخلاف هذا، نجد أحيانًا أن بعض النساء أقوى ذاكرةً من كثيرٍ من الرجال، وأنا أُدرِّس في الجامعة طلابًا، وأُدرِّس أيضًا طالباتٍ عبر الشبكة، وأحيانًا الطالبات يتفوقن على كثيرٍ من الطلاب في قوة الذاكرة وقوة الحفظ. فالواقع إذًا أن هناك نساءً أقوى ذاكرةً من الرجال، إذًا ما هو السبب؟

الذي يظهر -والله أعلم- أن السبب: أن المرأة لمَّا كانت مأمورةً بالقرار في البيت وعدم مُخالَطة الرجال، وأيضًا لمَّا كانت الصفقات التجارية والبيوعات ليست هي من أكبر اهتمامات المرأة، فهذا يدل على أن المرأة قد لا تضبط الشهادة فيما يتعلق بالأمور المالية، وأن الرجال أكثر ضبطًا لذلك بسبب كثرة مُزاوَلتهم ومُلابَستهم لها، والإنسان إنما يضبط الشيء الذي يهتم به ويُزاوله ويُمارسه.

ولذلك في شأن الرضاع يُكتفى بشهادة امرأةٍ واحدةٍ، إذا كانت ثقةً في الرضاع، لماذا؟ لأن الرضاع بالنسبة للمرأة من الأمور المهمة، من الشيء الذي تهتم به المرأة؛ فلذلك اكتُفي بشهادة امرأةٍ واحدةٍ. لكن في الأمور المالية ليس هذا أكبر اهتمامات المرأة، الإنسان إذا لم يهتم بالشيء لا يضبطه، في الغالب لا يضبطه، تجد الإنسان يحفظ الشيء الذي يهتم به ويضبطه، والشيء الذي ما يهتم به يضعف ضبطه له، ويضعف حفظه له.

أذكر أنني قابلت رجلًا مشهورًا بقوة الذاكرة فيما يتعلق بالرحلات ونحوها، يصف وصفًا دقيقًا وعجيبًا يتعجب الناس من قوة ذاكرته! لكن عندما طلبت منه أمرًا من الأمور، أن يُعطيني معلومةً في أمرٍ من الأمور، قال: والله ما أحفظ، ما أحفظ هذه المعلومة، مع أنها معلومةٌ سهلةٌ! ولكن لأنها ليست من مواضع اهتماماته.

الإنسان إنما يحفظ الشيء الذي يهتم به، فالمرأة فيما يتعلق بالأموال والصفقات التجارية ونحو ذلك، الأصل أنها لا تهتم بها كثيرًا، ليست هي أكبر اهتماماتها، وخاصةً في الأزمنة السابقة. يمكن في الوقت الحاضر أصبح بعض النساء يُزاولن التجارة أكثر مما كان عليه الأمر في الأزمنة السابقة، لكن مع ذلك تبقى مُزاوَلة الرجال الآن للتجارة أكثر من النساء، هذا هو الواقع؛ فلذلك الشيء الذي لا يُزاوله الإنسان وليس هو أكبر اهتماماته ربما يُنسَى.

فهذا -والله أعلم- هو السبب في جعل شهادة المرأتين تعادل شهادة رَجُلٍ، ليس في هذا احتقارٌ ولا نقصٌ للمرأة أبدًا؛ ولذلك جُعل في باب الرضاع شهادة امرأةٍ واحدةٍ تكفي، وهذا يدل على أن المقصود ليس التقليل من شأن المرأة؛ ولذلك فسَّر النبي عليه الصلاة والسلام نقص عقل المرأة بأن شهادة امرأتين تعادل شهادة الرجل، فهذا هو نقص العقل، ونقص الدِّين قال: أليس إذا حاضتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ [3]، يعني: لا يُتَّخَذُّ من هذه النصوص وسيلةً لتحقير المرأة، أو للتقليل من شأنها، أو لانتقاصها، أبدًا، لا بُدَّ أن تُفهَم هذه النصوص على الوجه الصحيح.

أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم امتناع الشاهد إذا دُعِيَ للشهادة، إذا دُعِيَ لأداء الشهادة فيجب عليه أن يُؤدِّي الشهادة؛ لقوله ​​​​​​​: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ، في الآية التي بعدها: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.

وأما تحمُّل الشهادة، فيقول العلماء إنه فرضُ كفايةٍ وليس فرضَ عينٍ.

وأيضًا من الفوائد: النهي عن السأم في كتابة الدَّيْن، سواءٌ أكان صغيرًا أو كبيرًا، والظاهر أن هذا النهي إنه للكراهة.

أيضًا من فوائد هذه الآية: أن الله تعالى ذكر لكتابة الدَّيْن فوائدَ:

  • الفائدة الأولى: أنه أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ، يعني: أعدل عنده؛ لما فيه من حفظ الحق.
  • والثانية: أنه وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ.
  • والثالثة: أنه أقرب لعدم الريبة وعدم الشك.

أيضًا من الفوائد: العمل بالكتابة واعتبارها حجةً شرعيةً، إذا كانت من ثقةٍ ومعروفٍ بخطه.

وأيضًا: أن الشهادات تتفاوت؛ فمنها الأقوم، ومنها القَيِّم، ومنها ما ليس بقَيِّمٍ، فالذي ليس بقَيِّمٍ: هو الذي لا تتوفر فيه شروط قبول الشهادة، والأقوم: الأكمل، يعني مثلًا: شاهدٌ ويمينٌ، هذا مثالُ القَيِّم، الأقوم: شهادة رَجُلَيْن. 

أيضًا من فوائد هذه الآية: الأمر بالإشهاد عند التبايع، وهذا الأمر عند جماهير أهل العلم للاستحباب وليس للوجوب، بدلالة السُّنة؛ فإن النبي اشترى ولم يُشْهِد، هو توجيهٌ وإرشادٌ محمولٌ على الاستحباب وليس على الوجوب.

أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم مُضارَّة الكاتب أو الشهيد، سواءٌ وقع الإضرار منهما أو عليهما، وأن هذه المُضارة فسوقٌ، وهذا يقتضي أن هذا الإضرار من كبائر الذنوب.

تفسير قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ..

ثم قال سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ، يعني: مسافرين، وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، فَرِهَانٌ، وفي قراءةٍ: "فرُهُنٌ".

والرَّهْن: هو توثيقُ دَيْنٍ بعينٍ يُمكِن استيفاؤه منها أو من ثمنها.

يعني: إذا كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا يَكتُب لكم الدَّيْن، فوثِّقوا هذا الدَّيْن بالرَّهْن. وهذا الرَّهْن يكون مقبوضًا من الراهن.

فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ: يعني: إذا كانت هناك ثقةٌ بينكم فيُؤدِّي الذي اؤتُمِن أمانته، ولا يلزم كتابةً ولا إشهادًا ولا رهانًا؛ ولهذا روى ابن أبي حاتمٍ، بإسنادٍ جيدٍ، عن أبي سعيدٍ  أنه قال: "إن هذه الآية نسخت ما قبلها"، وقال الشَّعْبيُّ: "إذا ائتُمِنَ بعضكم بعضًا، فلا بأس ألا تكتبوا وألا تُشهِدوا"، وهذا يدل على أن الكتاب والإشهاد في الآيات السابقة ليس للوجوب وإنما للاستحباب.

ثم قال سبحانه: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ: يعني: مَن يكتم الشهادة مُتعمِّدًا يكون آثِمٌ قَلْبُهُ يعني: وقع في الإثم.

أبرز الفوائد من الآية

أبرز فوائد هذه الآية:

أولًا: أن مَن لم يجد كاتبًا في السفر فإنه يُشرَع له أن يُوثِّق الحق بالرَّهْن المقبوض.

حُكم الرهن.. وهل القبض شرطٌ للزوم الرَّهْن؟

ومن فوائد هذه الآية: جواز الرهن، وهو جائزٌ بالإجماع.

واختلف العلماء: هل القبض شرطٌ للزوم الرَّهْن أم لا بناءً على الاختلاف في هذه الآية؟

  • فمِن العلماء مَن قال: إن القبض شرطٌ للزوم الرَّهْن، يعني: الرهن صحيحٌ، لكنه ليس بلازمٍ؛ لأن الله قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
  • والقول الثاني: إنه لا يُشترَط للزوم الرَّهْن القبض، وإنما يكفي العقد، وهذا هو مذهب المالكية.

الجمهور استدلوا بظاهر الآية، قالوا: إن الله قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ.

وأما المالكية ومن وافقهم فقالوا: إن مَقْبُوضَةٌ تدل على أن أكمل الرَّهْن ما يكون مقبوضًا، لكن ليس فيها دلالةٌ على أنه يُشترَط للزوم الرهن أن يكون مقبوضًا، فلتمام التوثقة بالرهن أن يكون مقبوضًا.

والقول الثاني هو القول الراجح، واختاره جمعٌ من مُحقِّقي أهل العلم، وهو أنه لا يُشترَط للزوم الرَّهْن أن يكون مقبوضًا، بل مُجرَّد أن يُعقَد الرَّهْن فيكون لازمًا بمُجرَّد العقد، ولا يُشترَط للزومه القبض، هذا هو القول الراجح في هذه الآية.

أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه إذا حصل الائتمان -يعني: الثقة- لم يجب رهنٌ ولا إشهادٌ ولا كتابٌ؛ لقوله ​​​​​​​: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ.

أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم كتمان الشهادة وإخفائها، سواءٌ أكان كتمان أصلها أو وصفها، وسواءٌ أكان الباعث على هذا الكتمان القرابة أو الصداقة أو الغنى أو البعد أو الفقر أو نحو ذلك.

أيضًا ظاهر الآية: أن كتمان الشهادة من كبائر الذنوب؛ لقوله ​​​​​​​: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.

ومن فوائد هذه الآية: بيان شمول علم الله لكل شيءٍ، وأن الله مُطَّلِعٌ على أعمال العباد؛ لقوله ​​​​​​​: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، فالله تعالى عليمٌ بكل شيءٍ، وعليمٌ بما يعمله الناس، وتكرَّر في القرآن: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283]، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271]، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:256]؛ إشارةً إلى أن الله تعالى مُطَّلٍعٌ على أعمالكم، خبيرٌ بها، عالمٌ بها.

وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام عن تفسير آيات الأحكام في سورة "البقرة"، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

المُقدِّم: أحسن الله إليكم، ونفع الله بعلمكم الإسلام والمسلمين.

الشيخ: بارك الله فيكم.

المُقدِّم: في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طِيب المُتابَعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234، والنسائي: 4611، وأحمد: 6671.
^2 رواه البخاري: 2240، ومسلم: 1604.
^3 رواه البخاري: 304.
مواد ذات صلة
zh