عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلي آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي المحاضرة الثالثة عشرة، في هذه المادة، مادة عقود المعاوضات المالية، وكنا قد تكلمنا في المحاضرة السابقة عن علة الربا، وما الذي يجري فيه الربا؟ وما الذي لا يجري فيه؟
وذكرنا كلام أهل العلم في هذه المسألة، هي مسألة كبيرة يتفرع عنها مسائل كثيرة، ذكرنا أنّ العلة في الربا للعلماء فيها كلام، واختلفت آراء العلماء والمذاهب الإسلامية اختلافًا كبيرًا، ولكن القول الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم: أن العلة في الربا هي بالنسبة للذهب والفضة الثمنية؛ ولغير الذهب والفضة الطُّعم، مع الكيل أو الوزن.
الأوراق النقدية
في الوقت الحاضر تُوجد الأوراق النقدية، أصبح تعامل الناس الآن، ليس بالذهب والفضة فيما يتعلق بالتداول، وإنما أصبحت بالأوراق النقدية، حلّت الأوراق النقدية محل الذهب والفضة في التعاملات بين الناس، كان الناس في السابق يتعاملون بالدنانير التي هي من الذهب، وبالدراهم التي هي من الفضة، لكن في الوقت الحاضر حلت هذه الأوراق النقدية محل الذهب والفضة، فأصبح الناس يتعاملون بها، سواء كانت ريالات، أو جنيهات أو ليرات أو دولارات، أو يورو، أو غير ذلك من الأوراق النقدية.
وموضوع الأوراق النقدية جرى بحثه في عدد من الهيئات العلمية والمجامع الفقهية، وبحث علماء الأمة هذا الموضوع، وكان في أول الأمر في التكييف الفقهي ومعرفة حقيقة الأوراق النقدية، وكيف تُنزّل، كان فيها اختلاف بين العلماء، ثم بعد ذلك في الآونة الأخيرة استقر رأي العلماء المعاصرين على أن الأوراق النقدية أنها نقد قائم بذاته، يقوم مقام الذهب والفضة، وأنّ العلة فيه الثمنية.
ومن أبرز الهيئات العلمية التي بحثت في هذا الموضوع، مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة، وكذلك أيضًا مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، وبين يدي الآن قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، حول هذا الموضوع، استعرض هذا القرار كان في الدورة الخامسة من دورات المجمع الفقه الإسلامي، جاء في هذا القرار:
- أولًا: أنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيها هي مطلق الثمنية -في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة-، هذه المسألة أشرنا لها في المحاضرة السابقة، وقلنا: إن القول الراجح في علة الربا في الذهب والفضة أنها الثمنية، وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل، وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقوَّم الأشياء في هذا العصر، اختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، كان في أول الأمر يقابل هذه الأوراق النقدية غطاء في مؤسسة النقد، أو في البنك المركزي، ويكتب على الأوراق النقدية: تتعهد مؤسسة النقد العربي السعودي بالنسبة للريالات بدفع قيمة هذا السند لحامله، أو نحو ذلك من العبارات، لكن بعد ذلك أصبحت كثير من الأوراق النقدية ليس لها غطاء، فإذًا الأوراق النقدية الموجودة الآن ليست كلها مغطاة بالذهب أو الفضة، وإنما مصدر قيمتها في حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وهذا هو سر مناطها بالثمنية، وهذا أيضًا نبّه عليه مجمع الفقه الإسلامي، وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة، هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية؛ ولذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يُقرّر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين، من الذهب والفضة، إذًا هذا هو الذي قد أقرّه مجمع الفقه الإسلامي، أنّ الأوراق النقدية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه: فضلًا ونسيئة، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها، معنى ذلك أن الأوراق النقدية تأخذ حكم الذهب والفضة تمامًا، في كل شيء، في جريان الربا، وفي الزكاة، وفي كل شيء.
- ثانيًا: يعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته، كقيام النقدية في الذهب والفضة، وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا، والأوراق السعودية مثلاً الريالات السعودية جنس، والدولارات جنس، والجنيهات جنس، والليرات جنس، فكل أوراق نقدية، تتعدد بتعدد جهات الإصدار، وكل عملة ورقية نقد مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلًا ونسيئة.
وهذا كله يقتضي ما يأتي: - أولًا: لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب وفضة، وغيرهما نسيئة مطلقًا، يعني لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، سواء من جنس واحد، أو من جنسين مختلفين، فلا يجوز مثلًا بيع عشرة ريالات بأحد عشر ريالًا، ولا بيع أيضًا عشرة ريالات مثلًا بثلاثة دولارات من غير تقابض، لا بد من التقابض، حتى مع اختلاف الجنس، لا بد من التقابض؛ لماذا؟ لأن العلة واحدة، وما دام أن العلة واحدة فلا بد من التقابض، مع اتحاد الجنس، أو مع اختلاف الجنس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: فإذا اختلفت الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد [1].
ثانيًا: لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلًا، سواء كان ذلك نسيئة، أو يدًا بيد، إذا كان الجنس واحدًا كريالات بريالات، فلا بد من التقابض والتماثل، قد أشرنا في المحاضرة السابقة، إلى أنه عند اتحاد العلة واتحاد الجنس لا بد من التقابض والتماثل؛ ولذلك عند صرف مثلًا مائة ريال، لا بد من أن تكون بمائة ريال، فلا تزيد، لا تكن بمائة وعشرة مثلًا؛ لماذا؟ لأن العلة واحدة، والجنس واحد، لكن عند صرف الريالات بالدولارات، أو بعملة أخرى، مع اختلاف الجنس يشترط التقابض فقط، ولا يشترط التماثل.
ثالثًا: يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد كما مثلنا، يجوز صرف مثلًا ريالات بجنيهات، أو بليرات، لكن مع التقابض، لا يشترط التماثل، لكن مع التقابض.
رابعًا: وجوب زكاة الأوراق النقدية، إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان، والعروض المعدة للتجارة، إذًا الأوراق النقدية تجب فيها الزكاة، كما أنها تجب في الذهب والفضة، فتجب في الأوراق النقدية أيضًا.
نصاب الأوراق النقدية
ما نصاب الأوراق النقدية؟ نصاب الأوراق النقدية هو أدنى النصابين من الذهب والفضة، طيب نصاب الذهب كم؟ نصاب الذهب خمسة وثمانون جرامًا، يعني عشرون مثقالًا، وهي خمسة وثمانين جرامًا، نصاب الفضة مئتا درهم، وهي تعادل خمسمائة وخمسة وتسعين جرامًا، فإذا بلغت الأوراق النقدية أدنى النصابين من الذهب والفضة، وجبت فيها الزكاة، طيب في الوقت الحاضر أيهما أرخص؟ الذهب أم الفضة؟ لا شك أنّ الفضة أرخص من الذهب بكثير؛ ولذلك في وقتنا الحاضر، يقدر نصاب الأوراق النقدية بالفضة وليس بالذهب؛ لأن الفضة أرخص من الذهب، ونحن قلنا: في هذه قاعدة: تجب الزكاة في الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من الذهب أو الفضة، يعني خمسة وثمانون جرامًا في الوقت الحاضر، يعني قيمتها بالأوراق النقدية كبيرة، تتجاوز لا شك ألف ريال، لكن نصاب خمسمائة وخمسة وتسعين جرامًا من الفضة قيمته أقل بكثير من هذا يعني الجرام من الفضة ما وصل إلى ريال، تتراوح قيمته ما بين ستين إلى سبعين إلى ثمانين هللة، فهي يعني تعادل من خمسمائة ريال، قد يقل هذا الرقم، وقد يقل، وقد يزيد، وقد تصل الأوراق النقدية إلى أربعمائة ريال، وقد يصل إلى خمسمائة، وقد يصل إلى ستمائة، بحسب سعر الفضة، قاعدة أنك تعرف مقدار الجرام من الفضة، وتسأل أصحاب محالّ الذهب والفضة كمْ مقدار الجرام؟ فإذا قالوا مثلًا: مقدار الجرام سبعون هللة، فاضرب هذا في خمسمائة وخمسة وتسعين جرامًا، فيخرج لك مباشرة نصاب الأوراق النقدية، يخرج لك مباشرة نصاب الأوراق النقدية، إذًا تعرف قيمة الجرام من الفضة، وتضربه في خمسمائة وخمسة وتسعين، ويخرج لك نصاب الأوراق النقدية، وبذلك لا نستطيع أن نضع رقمًا ثابتًا لنصاب الأوراق النقدية؛ لماذا؟ لأنه مرتبط بالذهب والفضة، ومن المعلوم أن أسعار الذهب والفضة تتفاوت من وقت لآخر.
حكم جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم
خامسًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السَّلَم والشركات، تكون هي كالذهب والفضة، فيصح أن تكون رأس مال في السلم والشركات، والسلم سنتكلم عنه إن شاء الله في محاضرات قادمة بالتفصيل، والشركات مادة عندكم في كلية الاقتصاد، مادة الشركات أيضًا تُدرّس مفصلة في مادة مستقلة.
أمثلة تطبيقية على قرار المجمع
بعد أن ذكرنا أبرز ما ورد في هذا القرار نذكر أمثلة تطبيقية، فأقول:
- أولًا: يشترط التقابض عند بيع الأوراق النقدية بعضها ببعض، أو عند صرف الأوراق النقدية بعضها ببعض، فما كان ريالات مثلًا سعودية بريالات سعودية، لا بد من التقابض والتماثل.
- ثانيًا: عند بيع أو عند صرف الورق النقدي بورق نقدي آخر، هنا يشترط التقابض فقط، فلا يجوز بيع الريالات بالدولارات مع عدم التقابض، كما أشرنا لهذا، أما بالنسبة لاشتراط التساوي فهو يشترط إنما إذا بيع الورق النقدي بجنسه كالريالات بالريالات، أما إذا بيع بغير جنسه فلا يشترط التساوي، لكن لا بد من التقابض.
- نصاب زكاة الأوراق النقدية كما قلنا: هو نصاب أدنى النصابين من الذهب والفضة، وقلنا: إن الفضة أرخص بكثير من الذهب، يشترط التقابض عند صرف الورق النقدي بعضه ببعض، سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه، لكن هنا لا بد من ملاحظة هذا الشرط -أعني التقابض- عند الصرف، وإلا وقع المتصارفان في ربا النسيئة، انتبه لهذه المسألة، لو أن رجلًا طلب من آخر أن يصرف له خمسمائة ريال، فأعطاه أربعمائة ريال، وقال: بقية المبلغ وهو مائة ريال أعطيك إياها غدًا، فهذا لا يجوز؛ لماذا؟ لأن الصرف يشترط له التقابض من المتصارفين، فلا يجوز مثل هذا، المخرج في مثل هذا أن يطلب منه ما يحتاجه على سبيل القرض، يقول: أقرضني وسلفني، وأعيد لك هذا القرض في وقت آخر، وله أن يجعل الخمسمائة ريال وديعة عنده مثلًا، فهذا هو المخرج في مثل هذه المسألة.
- وهذه المسألة تختلف عن مسألة أخرى، وهي ما إذا ذهبت لمحل واشتريت منه سلعة وأعطيته مثلًا خمسمائة ريال، وبحث ولم يجد الباقي، واشتريت منه بثلاثمائة ريال، فأراد أن يعطيك مائتي ريال، لم يجد، فقال: تأتيني غدًا، هذه تجوز؛ لماذا؟ لأن المتبقي دين في الذمة، فهنا ليس عندنا صرف هنا، هنا مجرد أنك اشتريت سلعة، لكن أعطيته مبلغًا أكثر من المبلغ الذي يستحقه، فالباقي دين في ذمته، هذه لا بأس بها، كما أنك ربما تشتري ولا تعطيه مبلغًا أصليًا، ويبقى ثمن هذه السلعة دين في ذمتك أنت أيها المشتري، فلا حرج أن يكون الدين في ذمة البائع، أو ذمة المشتري، لكن الإشكال في مسألة الصرف، عنده صرف نقد بنقد، هنا لا بد من التقابض والتماثل ما دام من جنس واحد كريالات بريالات، فانتبهوا للفرق بين المسألتين؛ لأن بعض الناس يخلط بين المسألتين.
تتفق علة الأوراق النقدية مع علة الذهب والفضة في مطلق الثمنية، قلنا: العلة هي الثمنية، وبناء على هذا يشترط التقابض عند بيع الذهب أو الفضة بأوراق نقدية؛ ولهذا من ذهب إلى محل ذهب واشترى منه حُليًّا لا بد من أن يسلم قيمته لصاحب المحل، وإلا وقع في الربا، عندما تذهب وتشتري حُليًّا من محل ذهب، لا بد من أن تنقده الثمن، ولا يجوز التأجيل في شراء الذهب، لا يجوز التأجيل في دفع الثمن عند شراء الذهب.
طيب، يقوم مقام النقد بطاقة الصراف الآلي، وتُسمّى بنقطة البيع هذه لا بأس، لا بأس بأن يشترى الذهب عن طريقها، وقد صدر في هذا فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وأن البيع بهذه الصفة عن طريق بطاقة الصراف الآلي أو عن طريق استخدام آلة الصرف المسماة بنقطة بيع، أن البيع بهذه الصفة له حكم التقابض في المجلس، فلا حرج أن تذهب لمحل الذهب، وتشتري منه حُليًّا، وتعطيه البطاقة، ويخصم الثمن من حسابك عن طريق هذه البطاقة، لا حرج في هذا، هذا إذا كانت بطاقة الصراف الآلي، أما بطاقات الفيزا فهذه فيها تأجيل، من المعلوم أنه في الفيزا فيها تأجيل ظاهر؛ ولذلك فقد قرّر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بأنه لا يجوز بيع الذهب والفضة عن طريق بطاقات الفيزا، ونحوها، لا يجوز؛ لأن التأجيل فيها ظاهر، والتقابض هنا لا بد منه، عند بيع الذهب والفضة بالأوراق النقدية، هذه أبرز المسائل المتعلقة بالأوراق النقدية.
مسائل متعلقة بباب الربا
وثمة مسائل متعلقة أيضًا بباب الربا، نذكر منها:
- المسألة الأولى: نقول: سبق تحرير القول في علة الربا، وأنها في الذهب والفضة والأوراق النقدية مطلق الثمنية، وفيما عداها الكيل والوزن مع الطعم، بناء على ذلك يختلف الحكم عند بيع شيئين مما يتحقق فيه علة الربا على النحو الآتي:
أولًا: عند اختلاف علة الربا لا يشترط التقابض ولا التماثل، وهذه المسألة وإن كنا قد أشرنا لها فيما سبق، إلا أن إعادة الكلام فيها، والتركيز عليها مهم جدًّا؛ لأنها مسائل مهمة، ودقيقة أيضًا، عند اختلاف علة الربا لا يشترط التقابض ولا التماثل، كبيع الذهب بالبُر، أو الذهب بالتمر مثلًا، أو التمر بالأوراق النقدية.
ثانيًا: عند اتحاد علة الربا مع اتحاد الجنس يشترط التماثل مع التقابض.
ثالثًا: عند اتحاد علة الربا، مع اختلاف الجنس يتشرط التقابض فقط. - المسألة الثانية: من المسائل المتعلقة بهذا: قاعدة عند الفقهاء وهي الجهل بالتساوي في باب الربا كالعلم بالتفاضل، انتبه لهذه القاعدة، الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، هذه قاعدة عند العلماء في باب الربا، ما معنى الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل؟
أقول: ما يشترط فيه التساوي الذي عبرنا عنه بالتماثل، لا يجوز بيعه مع الجهل بمقداره، كبيع صبرة بر بصبرة بر مثلًا، تمر بتمر جزافًا، من غير تقدير بكيل أو وزن، فإن هذا لا يجوز، فلو أن رجلًا عنده صبرة تمر، أراد أن يبيعها بصبرة تمر أخرى، من غير تقدير بالكيل أو الوزن، فإن هذا لا يجوز، بل لا بد من معرفة مقدارها على وجه دقيق؛ ولذلك لو باعها بهذه الطريقة كأنه في الحقيقة باع تمرًا بتمر مع التفاضل، فهذا معنى قول الفقهاء: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا. - المسألة الثالثة: نقول: إن الشريعة الإسلامية قد بالغت في سد جميع الذرائع الموصلة للربا، ولو من وجه بعيد، صحيح أن الأصل في أبواب المعاملات الحل والإباحة، الذي ما ورد الدليل بتحريمه، وسبق أن قلنا: إنه اختلف اثنان في معاملة من المعاملات أحدهما يقول: بالتحريم، والآخر يقول: بالجواز، فالذي يطالب بالدليل الذي يقول: بالمنع والتحريم؛ لأن الذي يقول: بالجواز الأصل معه، لكن مع ذلك نقول: إنه وإن كان الأصل في أبواب المعاملات الحل والإباحة، إلا أن الشريعة قد شددت في شأن الربا، وسدت جميع ذرائع الربا، وسدت جميع الذرائع الموصلة إليه، ولو من وجه بعيد، ومن ذلك أن النبي عند بيع الرطب بالتمر، ولو مع التساوي في الكيل والتقابض، نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال عليه الصلاة والسلام: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: فلا إذا [2]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، لأن الرطب ينقص إذا يبس، فلا يتحقق فيه التماثل على وجه دقيق.
ما الكمية التي سوف تنقص من هذا الرطب إذا يبس؟ الحقيقة قليل، هذا الآن تريد أن تبيع كيلو تمر بكيلو رطب، هنا مع التقابض، ومع التماثل في الكيل هذا كيلو، وهذا كيلو، أو الحقيقة هذا الكيلو هو وزن، المهم، مع التساوي في الوزن، ومع التقابض، ومع ذلك لا يجوز؛ لماذا؟ لأن هذا الرطب سوف ينقص إذا يبس، فلم يتحقق التماثل بين الرطب والتمر على وجه دقيق، الفرق يسير جدًّا، ومع ذلك منع منه النبي ، وهذا يدل على أن الشريعة قد بالغت في سد جميع الذرائع الموصلة للربا، ولو من وجه بعيد، وشددت في هذا الشأن.
وقد جعل الفقهاء هذا الحديث أصلًا لمنع كل ما لم يتحقق معه التماثل، فيما يشترط فيه التساوي، ولو كان التفاوت معه يسيرًا، فقال الفقهاء إنه لا يجوز بيع الربوي بعصيره، إذا قلنا الربوي ما يجري فيه الربا، بعصيره كزيتون بزيت زيتون، أو عنب بعصير عنب، هذا كله لا يجوز، قالوا: ولا يجوز بيع خالص الربوي بمشوبه، لا يجوز بيع خالص الربوي بمشوبه، كَبُر فيه شعير ببُر خالص، هذا قالوا: لا يجوز، ويدخل في ذلك أيضًا بيع الذهب النقي الخالص بذهب مشوب، الذهب النقي الخالص بذهب مشوب، كذهب عيار أربع وعشرين، الذهب من عيار أربع وعشرين، هذا يقولون: إنه ذهب خالص مائة بالمائة، أو مقارب للنقاء، لا يجوز بيعه بذهب من عيار واحد وعشرين مثلًا، ولو مع التساوي في الوزن والتقابض، حتى لو بعت مثلًا عشرة جرامات ذهب من عيار أربعة وعشرين بعشرة جرامات ذهب عيار واحد وعشرين، هذا يقولون: لا يجوز؛ لماذا؟ لأن الذهب من عيار أربع وعشرين ذهب نقي خالص، بينما الذهب من عيار واحد وعشرين، ليس ذهبًا نقيًّا خالصًا، بل هو ذهب مشوب، فلا يتحقق التماثل بينهما على وجه دقيق؛ ولذلك لو أن امرأة عندها ذهب مستعمل من عيار أربع وعشرين، أرادت أن تستبدله بذهب جديد من عيار واحد وعشرين، لا يجوز ذلك مباشرة، لا يجوز حتى مع التساوي في الوزن، لو كان عنده مثلًا نفترض خمسين جرامًا ذهب عيار أربع وعشرين، قال له صاحب المحل: أنا أبيعك بمثلها خمسين جرامًا عيار واحد وعشرين مع التقابض، نقول: هذا لا يجوز، لا بد من التماثل، أيضًا في الأعيرة لا بد من التماثل في هذا؛ لأن الذهب من عيار واحد وعشرين هذا ذهب مشوب.
والمخرج في هذا، هو ماذا؟ هو أن تبيع الذهب المستعمل الذي هو من عيار أربع وعشرين، تبيعه بدراهم، ثم تشتري بالدراهم ذهبًا جديدًا، من عيار واحد وعشرين، أو العكس مثلًا، المهم أنها تبيع الذهب المستعمل بدراهم وتشتري بالدراهم ما أرادت من الحلي الجديد.
ومن ذلك أيضًا قال الفقهاء: لا يجوز بيع نيء ربوي بمطبوخه، فلا يجوز بيع خبز البر بالبر، ولو مع التساوي في الوزن والتقابض؛ لأن النار تعقد أجزاء المطبوخ؛ ولذلك نحن قلنا: إنه لا بد من تحقق التماثل عند بيع الربوي بجنسه على وجه دقيق، وهذا يدل على عناية الشريعة بهذا الباب، وتشديدها في شأن الربا، ومبالغتها في سد جميع الذرائع الموصلة للربا، ولو من وجه بعيد.
وأكتفي بهذا القدر في هذه المسائل، وسوف أستكمل الحديث عن بقية المسائل المتعلقة بالربا في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.