عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي المحاضرة الثانية عشرة في هذه المادة مادة: عقود المعاوضات المالية، تكلمنا في المحاضرة السابقة عما ورد في الربا من النصوص الدالة على عظيم إثمه ومعصيته، وذكرنا بعض ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة، ثم بعد ذلك تكلمنا عن الحكمة من تحريم الربا، وذكرنا بعض وجوه الحكمة من تحريم الربا، ثم تكلمنا عن إنظار المعسر.
وبدأنا بعد ذلك في تعريف الربا، وقلنا: الربا معناه في اللغة: الزيادة.
ومعناه شرعًا: الزيادة في أشياء مخصوصة.
الأشياء التي يجري فيها الربا
بعد ذلك ننتقل للحديث عن علة الربا، يعني ما الأشياء التي يجري فيها الربا؟
يُعبّر بعض الفقهاء عن ذلك بعلة الربا، وبعضهم بالضابط فيما يجري فيه الربا وما لا يجري فيه، يعني: هل يجري الربا في كل شيء؟ أو أنه يجري في أشياء مخصوصة؟
مثلًا في التعريف الذي ذكرناه قبل قليل، قلنا: الزيادة في أشياء مخصوصة، وهذا يدل على أن الربا لا يجري في كل شيء، وإنما في أشياء مخصوصة، عيّنها الشارع، لو بعت مثلًا قلمًا بقلمين، هل هذا يجري فيه الربا؟ نقول: يعني هذا يقودنا إلى معرفة الضابط فيما يجري فيه الربا وما لا يجري فيه الربا، جاء في حديث عبادة بن الصامت أنّ النبي قال: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد [1].
وجاء في بعض الروايات: هاء وهاء [2]، وسواء بسواء [3]، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد، أو استزاد، فقد أربى [4].
فهنا ذكر النبي في هذا الحديث ستة أصناف، بعض الفقهاء قصروا الربا على هذه الأشياء الستة، وقالوا: لا يجري الربا في شيء سواها، هذا مروي عن قتادة وطاووس، وهو مذهب الظاهرية.
الحقيقة أنّ هذا القول قول ضعيف، لو قيل بهذا القول الحقيقة ينفتح الربا في البنوك على مصراعيه، ولا شك أن الشريعة الإسلامية لا تُفرّق بين متماثلين؛ ولذلك فحصر الربا في هذه الأصناف الستة، هذا لا شك أنه قول ضعيف؛ ولهذا ذهب أكثر علماء الأمة إلى أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة وما وافقها في العلة؛ لأن هذه الشريعة الكاملة المحكمة، لا يمكن أن تُفرّق بين متماثلين؛ ولأنه قد وردت عدة نصوص وآثار تدل على جريان الربا فيما عدا الستة المنصوص عليها، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبي نهى عن المزابنة، قال: والمزابنة هي أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمر كيلًا، وإن كان كرمًا، -وهذا محل الشاهد يعني عنبًا- أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام [5].
ففي هذا الحديث أدخل نوعًا جديدًا غير الأنواع الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت ، وهو الزبيب والعنب، فدل ذلك على أن الربا لا ينحصر في الستة المنصوص عليها في حديث عبادة ، إذًا القول الصحيح هو ما عليه جمهور العلماء، ما عليه أكثر علماء الأمة، من أن الربا لا ينحصر في الأشياء الستة المنصوص عليها في حديث عبادة ، وإنما يشمل هذه الأشياء الستة وما شاركها في العلة، وهذا يقودنا إلى معرفة العلة التي يجري فيها الربا، يعني: لا بد من أن نعرف ضابطًا، أو علة يكون من خلال هذا الضابط، أو هذه العلة، نعرف ما الذي يجري فيه الربا، وما الذي لا يجري فيه.
عِلَّة الربا
اختلف العلماء في علة الربا، أو في الضابط فيما يجري فيه الربا على أقوال كثيرة:
- فقال بعضهم: إن العلة هي الكيل أو الوزن، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، قالوا: إن العلة هي الكيل أو الوزن، فعندهم أنه يجري الربا في كل مكيل أو موزون، ولا يجري الربا فيما عدا المكيل والموزون.
- وقال آخرون: العلة في الذهب والفضة غلبة الثمنية، وفيما عداها الطُّعم، وهذا مذهب الشافعية.
- وقال آخرون: العلة في الذهب والفضة غلبة الثمنية، وفيما عداها الاقتيات والادخار، وهذا الذي ذهب إليه المالكية.
والقول الصحيح في هذه المسألة -وهو الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم-: أن العلة في الربا في النقدين -يعني الذهب والفضة- الثمنية، فيقاس عليهما كل ما جعل أثمانًا، كالأوراق النقدية في وقتنا الحاضر، وفيما عدا النقدين العلة هي الكيل أو الوزن مع الطُّعم.
مرة أخرى القول الصحيح والراجح في علة الربا في النقدين، يعني في الذهب والفضة: الثمنية، وفيما عداهما الكيل أو الوزن مع الطعم، وهذا قول عند الحنابلة، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختار هذا القول الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني، واختاره أيضًا أبو العباس ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع، ووجّه هذا القول: أن الذهب والفضة وما يقوم مقامهما في التعامل بين الناس، وفي تقويم الأشياء، كالأوراق النقدية في وقتنا الحاضر، بها قوام الأموال، والمقصود منها أن تكون معيارًا يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فكان التعليل بالثمنية تعليلًا بوصف مناسب.
وأما ما عدا النقدين وما في معناهما، فالعلة فيها الطُّعم مع الكيل أو الوزن، أما الطعم فلحديث معمر بن عبدالله أنّ النبي قال: الطعام بالطعام مثلًا بمثل [6]، رواه مسلم.
ففي هذا الحديث إشارة إلى علة الطعم؛ لأنه قال: الطعام بالطعام.
وأما الكيل والوزن، فقد قال الموفق ابن قدامة رحمه الله نهي النبي عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل يتقيّد بما فيه معيار شرعي، وهو الكيل والوزن؛ إذ إن الطعم بمجرده لا تتحقق به المماثلة؛ لعدم المعيار الشرعي، فوجب تقييده بالمعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن، إذًا الدليل لهذه العلة هو هذا الحديث: الطعام بالطعام مثلًا بمثل أما الطعام بالطعام فهو إشارة لعلة الطعم، وأما قوله: مثلًا بمثل إشارة إلى المعيار الشرعي، والمعيار الشرعي هو الكيل والوزن، فتكون العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن.
وبناء على هذا ما اجتمع فيه الكيل أو الوزن مع الطعم، فإنه يجري فيه الربا؛ وذلك كالبر مثلًا، والتمر والأرز والذرة واللحم والخل واللبن والدهن، ونحو ذلك، هذه كلها يجري فيها الربا، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم، لا ربا فيه، يعني: طبعًا من غير النقدين، الشيء غير المطعوم، الذي لا يؤكل ولا يشرب من غير النقدين، يعني من غير الذهب والفضة والأوراق النقدية، هذه لا يجري فيها الربا، كالسيارات والآلات والأجهزة الكهربائية والأجهزة الإلكترونية، وما ذكرته في أول حلقة بيع قلم بقلمين، هذه كلها ما يجري فيها الربا؛ لأنها ليست مطعومة، ولا أيضًا مكيلة ولا موزونة، فهي لا يجري فيها الربا، لو أردت أن تبيع جوال باثنين، يعني هاتف واحد جديد، باثنين مستعملين، هل هذا يجري فيه الربا؟ لا، ما يجري فيه الربا؛ لماذا؟ لأنه ليس مطعومًا ولا مكيلًا ولا موزونًا، طيب لو أردت أن تبيع سيارة بسيارتين، سيارة مثلًا قيمتها خمسين ألفًا، بسيارتين قيمتهما خمسين ألفًا، هل هذا يجري فيه الربا؟ لا يجري فيه الربا؛ لأن السيارة ليست مطعومة ولا مكيلة ولا موزونة أيضًا، فهي لا يجري فيها الربا.
فإذًا الشيء غير المطعوم لا يجري فيه الربا، طيب ما وُجد فيه الطعم وحده، لكنه لا يُكال ولا يوزن، فهذا أيضًا لا يجري فيه الربا؛ لأننا اشترطنا أن تكون العلة الطُّعم مع الكيل والوزن، فإذا كانت الطعم فقط لكنه لا يكال ولا يوزن فهذا لا يجري فيه الربا، ومثال ذلك البيض والجوز هذه لا يجري فيها الربا؛ لأنها ليست مكيلة ولا موزونة، وكذلك أيضًا لا يجري فيما إذا كان مكيلًا لكنه غير مطعوم كالأشنان، الأشنان نوع من الأدوات المنظفة التي كانت تستخدم قديمًا، ومثلها في الوقت الحاضر الصابون، هذا لا يجري فيه الربا، إذًا لا يجري الربا إلا فيما كانت العلة فيه الثمنية، كالذهب والفضة والأوراق النقدية، وأيضًا كانت العلة فيه الطعم مع الكيل أو الوزن.
ما الحكم إذا اختلفت علة الربا بين شيئين؟
طيب إذا اختلفت علة الربا بين شيئين، فيجوز فيهما التفاضل والتأجيل، إذا اختلفت علة الربا بين شيئين، فيجوز فيهما التفاضل والتأجيل، نحن ذكرنا كمْ علة؟ ذكرنا علتين:
ذكرنا العلة الأولى: هي الثمنية، في الذهب والفضة والأوراق النقدية.
والعلة الثانية: هي الطعم مع الكيل أو الوزن، إذا اختلفت العلة، فيجوز التفاضل والتأجيل، ونوضح هذا بالمثال، بيع التمر بالأوراق النقدية، العلة في التمر هي ماذا؟ الكيل مع الطعم، بينما العلة في الأوراق النقدية هي الثمنية، فالعلة إذا مختلفة، والقاعدة تقول: إذا اختلفت العلة فيجوز التفاضل والتأجيل؛ ولذلك فهنا لا يشترط عند بيع التمر بالأوراق النقدية فيه التقابض؛ ولذلك لا بأس أن تشتري تمرًا وبثمن مؤجل، تشتري مثلًا تمرًا بألف ريال، وتقول: آتي لك بالألف ريال بعد يوم يومين، شهر شهرين، أو أكثر أو أقل، هذا لا بأس به، ولا يشترط هنا التقابض؛ لماذا؟ لأن العلة مختلفة، وإذا اختلفت العلة جاز التفاضل وجاز التأجيل.
أيضًا بيع الذهب مثلًا بالبُر، بيع الذهب بالبر، أو الأوراق النقدية بالبُر مثلًا، هنا لا يشترط التقابض؛ لاختلاف العلة، العلة في الذهب أو الأوراق النقدية هي الثمنية، بينما العلة في البُر هي الكيل مع الطعم، فالعلة مختلفة، والقاعدة تقول: إذا اختلفت العلة لا يشترط التقابض.
بيع الفضة بالشعير مثلًا، أيضًا العلة مختلفة، علة الفضة الثمنية، وعلة الشعير الكيل مع الطعم، والقاعدة تقول: إذا اختلفت العلة فإنه لا يشترط التقابض، بل يجوز التفاضل والتأجيل.
إذًا نخلص من هذا أنه عند اختلاف العلة لا يُشترط لا تماثل ولا التقابض، يجوز التفاضل ويجوز التأجيل.
اتحاد العلة
ننتقل بعد ذلك إلى مسائل اتحاد العلة، إذا اتحدت العلة، إذا اتحدت علة الربا في شيئين فلا يخلو:
إما أن يكون من جنس واحد، أو من جنسين، فإن كان من جنس واحد فيُشترط لصحة بيع أحدهما بالآخر شرطان:
- الشرط الأول: التماثل في القدر.
- والشرط الثاني: التقابض قبل التفرق.
مثال ذلك: بيع الذهب بالذهب، فالعلة واحدة، والجنس واحد، العلة هي الثمنية، والجنس هذا ذهب وهذا ذهب، فيشترط التقابض والتماثل، فتبيع مثلًا مائة جرام ذهب، بمائة جرام ذهب، ولا بد من التقابض.
بيع التمر بالتمر، هنا العلة واحدة، والجنس واحد، ويشترط التقابض والتماثل، بيع بُر ببر، العلة واحدة، والجنس واحد، فيشترط التقابض والتماثل.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة السابق: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلى أن قال: يدًا بيد، مثلًا بمثل [7]، يعني: بيّن النبي عليه الصلاة والسلام هذين الشرطين، وهما التقابض والتماثل، طيب هذا إذًا عند اتحاد الجنس لا بد من هذين الشرطين: التقابض والتماثل.
ما يشترط إذا اختلف الجنس مع اتحاد العلة؟
إذا اختلف الجنس، طبعًا مع اتحاد العلة، اختلاف الجنس مع اتحاد العلة، كتمر بِبُر، فهنا يشترط شرط واحد فقط، وهو التقابض؛ لقول النبي : فاذا اختلفت الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد [8]، عند بيع التمر بالبر يُشترط التقابض فقط، عند بيع البر بالملح يُشترط التقابض فقط، عند بيع الذهب بالفضة، يُشترط التقابض فقط، عند بيع الذهب بالأوراق النقدية، يُشترط التقابض فقط؛ لماذا؟ لأن العلة واحدة وهي الثمنية، لكن الجنس مختلف، هذا ذهب وهذه أوراق نقدية، فيُشترط إذًا التقابض.
الجنس يُعرّفه الفقهاء بأنه هو الشامل لأشياء مختلفة، بأنواعها، التمر مثلًا جنس، والبُر جنس، وهكذا.
النوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، فالتمر مثلًا جنس له أنواع، التمر السكري نوع، التمر الخلاص نوع، التمر الصفري نوع، التمر البرحي نوع، وهكذا، الذي يؤثر في الحكم هل هو اختلاف الجنس أم اختلاف النوع؟
الجواب: الذي يؤثر هو اختلاف الجنس، وليس اختلاف النوع، اختلاف النوع لا أثر له، وبناء على ذلك لا يجوز بيع كيلو تمر سكري بكيلوي تمر خلاص، حتى لو كانت قيمته متساوية، فمثلًا أيضًا لو أن شخصًا عنده عشرة أو عشرين كيلو جرام تمر سكري، وعند شخص آخر أربعون كيلو جرام تمر صفري، وقيمتهما واحدة في السوق، فقال: أريد أن أشتري منك عشرين كيلًا من التمر السكري بأربعين كيلًا من التمر الصفري مثلًا، هل هذا يجوز؟ نقول: لا يجوز، طيب حتى لو كان هناك تقابض؛ لماذا؟
لأنه عند اتحاد العلة واتحاد الجنس لا بد من التقابض والتماثل، طيب هنا هذا تمر سكري، وهذا صفري، نقول: حتى ولو كان؛ لأن اختلاف النوع لا أثر له في الحكم، المؤثر هو اختلاف الجنس، أما كونه سكري أو خلاص أو خضري أو برحي هذا لا لا يؤثر في الحكم، لكن لو كان تمر ببر نعم نقول: لا بأس بالتفاضل مع اشتراط التقابض.
أيضًا لا أثر للجودة والرداءة، والقدم والحداثة في باب الربا، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ رسول الله استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جَنِيب، وهو نوع من التمر الجيد، فقال: رسول الله أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، يعني: من التمر الرديء، وجاء تسميته ببعض الروايات بالجمع، والصاعين بالثلاثة، فقال النبي : لا تفعل [9]. وفي رواية: أوه عين الربا [10]، بع الجمع يعني: التمر الرديء بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيبًا يعني: تمرًا جيدًا.
ففي هذا الحديث نهى النبي عن بيع الصاعين من التمر الرديء بالصاع من التمر الجيد، مع أن الظاهر هو تساوي الصاعين من التمر الرديء بالصاع من التمر الجيد في القيمة، ومع ذلك نهي النبي عنه، بل جعله عين الربا، إذًا لا يجوز بيع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الجيد، لا يجوز هذا، بل إن هذا يعني وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عين الربا، لكن النبي أشار إلى مخرج سهل، وهو أن يبيع التمر الرديء بدراهم، ويقبض الدراهم، ويشتري بها تمرًا جيدًا، طيب؛ لماذا وصف النبي بيع الصاعين بالصاع بأنه عين الربا؟
لأن العلة متحدة، والجنس واحد، فالعلة واحدة، وهي الطعم مع الكيل، الجنس واحد هذا تمر وهذا تمر، لكن هذا رديء وهذا جيد هذا لا أثر له في الحكم، كما قلنا؛ ولذلك لا بد من التقابض والتماثل، ولعل الحكمة في ذلك هو أنه من باب سد الذريعة؛ لأن الناس لو فتح لهم هذا الباب فسيفضي ذلك إلى الدخول في أبواب أخرى من الربا، خاصة أن هذه المسائل تدخل في مسائل البيع والشراء والتجارة، وهذه يغلب على الناس التوسع فيها، وكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: إن التجار يُبعثون فجارًا يوم القيامة، إلا من اتقى وبر وصدق [11]، فشوبوا أموالكم بالصدقة [12].
لعل هذه الحكمة؛ وإلا مثل هذه الصورة حقيقة ليس فيها ظلم؛ ولذلك يعني ربط بعض الناس أيضًا الربا بالظلم قد لا يكون يعني مطردًا في جميع الصور، وجميع المسائل، هنا يبيع صاعين من تمر رديء بصاع من التمر الجيد، هذه يعني مع تساويهما في القيمة، هذا ليس فيه ظلم، لكن الشارع له نظر في تحريم مثل هذه الصور، أقول: قد يكون من ذلك سد الذريعة، وقد تكون هناك حِكَم أخرى لا نعلمها، وحُكْم الله تعالى وشرعه: حِكمة الحِكَم، وغاية الحِكَم.
مثل ذلك أيضًا بيع المرأة لحلي قديم بحلي جديد، لا بد فيه من التقابض ولا بد فيه من التماثل؛ لماذا؟ لأن العلة واحدة، العلة في الذهب الثمنية، والجنس واحد، وهو الذهب، هذا ذهب وهذا ذهب، فقلنا: إذا اتحدت العلة، واتحد الجنس، فلا بد من التقابض، ولا بد من التماثل، ولا أثر للقدم والحداثة، ولا للجودة والرداءة في هذا، وبناء على ذلك لو أرادت امرأة أن تبيع حليًّا قديمًا بحلي جديد، فنقول: لا بد من التماثل.
المخرج من الربا عند بيع الذهب القديم بالجديد
فإن قال قائل: كيف التماثل؟ الناس لا تقبل أن تشتري حليًّا قديمًا بحلي جديد، فأقول: إذًا تسلك المرأة المخرج الذي ذكره النبي ، وهو أن تبيع الحلي القديم بدراهم، وتشتري بهذه الدراهم حليًّا جديدًا، وهذا مخرج سهل أرشد إليه النبي في قصة التمر الجنين التي سُقتها قبل قليل، وكذلك أيضًا يقال: مثل هذا في الحلي وفي غيره، وهذه يعني من الأخطاء الشائعة عند بعض الناس تجد بعض النساء يأتين ويبعن الحلي القديم ويشترين مقابل هذا القديم حليًّا جديدًا، مع عدم التماثل، وهذا وقوع في الربا، بل في عين الربا، المخرج سهل، وهو أن تبيع الحلي القديم بدراهم، وتشتري بالدراهم حليًّا جديدًا، وهذا يدل -أيها الإخوة- على فضل التفقه في الدين، وثمرة التفقه في الدين، وأن من ثمار التفقه في الدين: أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى غرضه بطريق مباحة.
فعندما تأتي المرأة الآن وتبيع حليًّا قديمًا بحلي جديد مع التفاضل، وقعت في الربا، لكن عندما تبيع حليًّا قديمًا بدراهم، ثم تشتري بالدراهم حليًّا جديدًا، فقد حصلت مقصودها وغرضها، ولم تقع في الربا، وهذا كله من ثمرة الفقه في الدين.
نريد أن نُلخّص ما سبق، وأريد منكم -أيها الإخوة- أن تضبطوا هذه المسائل الدقيقة، هذه مسائل مهمة، ومسائل دقيقة، تحتاج إلى ضبط، وتحتاج إلى عناية؛ ولذلك يعني أنا في آخر هذه المحاضرة أريد أن أُلخّص ما سبق، فأقول:
القول الراجح في علة الربا، أنها في النقدين الثمنية، وكذلك ما كان في معنى النقدين كالأوراق النقدية الثمنية، والعلة في علة الربا في غير النقدين الطُّعم مع الكيل أو الوزن.
نبدأ بالاختلاف:
إذا اختلف علة الربا، فلا يُشترط لا تقابض ولا تماثل، مثاله: بيع تمر بأوراق نقدية، فالعلة مختلفة، العلة في التمر الكيل مع الطعم، وفي الأوراق النقدية الثمنية، فلا يُشترط لا تقابض ولا تماثل عند اختلاف العلة.
إذا اتحدت العلة فننظر للجنس، هل هو متحد أو مختلف، فإذا كان الجنس متحدًا كذهب بذهب، شعير بشعير، فهنا يُشترط التقابض والتماثل.
وإذا كان الجنس مختلفًا مع اتحاد العلة، فهنا يُشترط شرط واحد، وهو التقابض، كبيع تمر ببُر، يُشترط التقابض فقط، ذهب بأوراق نقدية، يُشترط التقابض فقط.
وقلنا: لا أثر لاختلاف النوع في هذا، وإنما المؤثر هو اختلاف الجنس، أيضًا لا أثر للجودة والرداءة، ولا أثر للقدم والحداثة في هذا.
ثم أشرنا للمخرج عند بيع الرديء بالجيد، أو القديم بالجديد، وهو أن يبيع الإنسان هذا القديم أو الرديء بدراهم ويشتري بالدراهم ما أراد من الجديد أو من الجيد.
هذه خلاصة كلام أهل العلم في علة الربا، وما الذي يجري فيه الربا وما الذي لا يجري فيه الربا.
ونلتقي بكم على خير في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1, ^7, ^8 | رواه مسلم: 1587. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2134، ومسلم: 1586. |
^3 | رواه البخاري: 2175، ومسلم: 1590. |
^4 | رواه مسلم: 1588. |
^5 | رواه البخاري: 2205، ومسلم: 1542. |
^6 | رواه مسلم: 1592. |
^9 | رواه البخاري: 2201، ومسلم: 1593. |
^10 | رواه البخاري: 2312، ومسلم: 1594. |
^11 | رواه الترمذي: 1210، وابن ماجه: 2146، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. |
^12 | رواه الترمذي: 1208، والنسائي في السنن الكبرى: 4720، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. |