logo
الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(7) تفسير آيات الأحكام- من قوله "والمطلقات يتربصن بأنفسهن.."

(7) تفسير آيات الأحكام- من قوله "والمطلقات يتربصن بأنفسهن.."

مشاهدة من الموقع

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم -أيها المشاهدون الكرام- في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".

نحن وإياكم على مائدة كتاب الله في تفسير آيات الأحكام، مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية. فمرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، حيَّا الله الإخوة المشاهدين.

المقدم: كنَّا يا شيخنا الفاضل قد وصلنا عند قول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، نستأذنكم في سماع تلاوةٍ لهذه الآيات، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليم.

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228].

المقدم: تفضَّل يا شيخنا بالتعليق على الآيات.

تفسير قوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ.. 

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع، والفقه في الدين، والتوفيق لما يحب ويرضى.

مراحل علاج الخلاف الزوجي في الشريعة

وصلنا في آيات الأحكام إلى قول الله : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وهذه الآيات تتكلم عن أحكام الأسرة؛ وذلك لأن للأسرة لها شأن عظيم في دين الإسلام، فبصلاح الأسرة يصلح المجتمع، وبفسادها يفسد المجتمع؛ ولذلك نجد أن الشريعة الإسلامية عنيت بشؤون وأحكام الأسرة.

عندما نتأمل في القرآن العظيم نجد أن الله ذكر أحكامًا دقيقةً لأحكام الأسرة: ذكر أحكامًا دقيقةً للنكاح، وأيضًا للمهر، وكذلك أيضًا للشقاق بين الزوجين، فإذا وصل الشقاق بين الزوجين إلى مرحلة لا يمكن معها العلاج، بأن سلك الزوج جميع الطرق، وكذلك الزوجة إذا كانت المشكلة من الزوج، سلك الزوجان جميع الطرق للمعالجة، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، ثم في الآيات التي بعدها: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]؛ ذكر الله تعالى أربع مراحل للعلاج.

كذلك أيضًا الزوجة، أحيانًا تكون المشكلة من الزوج وليست منها، فعندما يصبح استمرار الحياة الزوجية عَنَتًا ومشقَّةً، ولا يُؤدِّي إلى تحقيق مقاصد النكاح من السكن والاستقرار والراحة، ومن السعادة؛ فحينئذٍ يكون الفراق خيرًا من النكاح؛ لأنه بالفراق ربما أن كُلًّا منهما يرتبط بآخر يسعد معه كما قال الله سبحانه: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]؛ ربما أن هذا الرجل لا يناسب هذه المرأة ويناسبها رجلٌ آخر، وربما أن هذا الزوج لا تناسبه هذه المرأة لكن تناسبه امرأةٌ أخرى، فالنفوس قد تأتلف وقد تختلف، قد يحصل بينها اتفاق، وقد يحصل بينها تنافر، وبعض الناس لا يرتاح لطبيعة إنسانٍ معين ويرتاح لطبيعة آخر.

هذه المعاني راعتها الشريعة الإسلامية، فإذا استُنفِدت جميع الحلول وأصبح استمرار هذا العقد –عقد النكاح– عَنَتًا ومشقَّة؛ فحينئذٍ يُصار إلى الطلاق. والطلاق عندما يُصار إليه، لا بد فيه من اتباع الشرع؛ بأن يُطلِّق الرجل امرأته طلقةً واحدةً في طُهرٍ لم يُجامعها فيه، ويكون له حقُّ المراجعة طِيلة العدَّة.

ما هي العدَّة؟

العدَّة هي الثلاثة قروءٍ المذكورة في الآية الكريمة إذا كانت المرأة ممن تحيض، أما إذا كانت المرأة ممن لا تحيض؛ كالآيسة الكبيرة في السن، أو الصغيرة، أو التي في حكمهما، فهذه عدَّتها ثلاثة أشهر، كما قال الله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].

لكن إذا كانت المرأة ممن تحيض فالله بيَّن عدَّتها في هذه الآية فقال سبحانه: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228].

وَالْمُطَلَّقَاتُ يعني: اللاتي قد طُلِّقْن، اللاتي قد طلَّقَهن أزواجُهن.

معنى يَتَرَبَّصْنَ

يَتَرَبَّصْنَ يعني: ينتظرن في العِدَّة، فالتربُّص يعني حَبْس النفس، كأنها تحبس نفسها في العدَّة عن الأمور التي لا تفعلها في غير العدَّة، ومن ذلك أيضًا أنها تحبس نفسها عن أن تتزوَّج برجلٍ آخر ما دامت في العدَّة.

عِدَّة المرأة التي تحيض

ما هي عِدَّة المرأة التي تحيض؟

هنا قال الله تعالى: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وقروء جمع "قُرْء"، والقُرْء يُطلق في اللغة العربية على الحيض ويُطلق على الطُّهر، كما قال ابن عبدالبر: "لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء في أن القُرْء يُراد به الحيض ويُراد به الطُّهر". يعني هذا بالإجماع: أن القرء يُراد به الحيض ويُراد به الطُّهر، فهو من الأضداد في اللغة العربية. هناك بعض المصطلحات من الأضداد، معنى من الأضداد: أنها تُطلق على الشيء وعلى ضدِّه؛ القرء يُطلق على الحيض ويُطلق على الطُّهر. فهذا في اللغة العربية له نظائر.

المراد بالقرء

لكن اختلف العلماء في المراد بالقرء في هذه الآية: هل المراد به الطُّهر، أو المراد به الحيض؟ وإن كانت اللغة العربية تُعطي المَعْنَيَيْن جميعًا -تُعطي معنى الطُّهر وتُعطي معنى الحيض- قولان للفقهاء ولأهل العلم.

والقول الراجح: أن المراد به الحيض، بدلالة السنة؛ فإن النبي  قال لإحدى النساء: امكثي حتى تمضي أقراؤك[1]؛ فالسنة دلَّت على أن المقصود بـ"القُرْء" الحيض.

فهذا هو القول الراجح إن القُرْء المراد به الحيض، ثم أيضًا دلالة السياق تدل لهذا المقصود: وهو أن المقصود به الحيض. فعلى هذا يكون معنى الآية: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة:228] يعني: يَحْبِسْن أنفسهن وينتظرن ثلاث حيضات؛ بأن يمضي على المرأة المطلقة ثلاث حيضات.

النهي عن كتمان ما في الأرحام

ثم قال سبحانه: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ... [البقرة:228]، الأرحام جمع "رحم"، وهو موضع تكوين الجنين.

إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:228]، وهذا يدل على أن قول المرأة معتبرٌ؛ لأنه لا يُعلم هذا الأمر إلا من جهتها، لا يُعلم أنها حامل أو غير حامل إلا من جهتها؛ فلا يجوز لها أن تكتم أمر حملها لأن أمر الحمل مؤثر على العدة، فإن المرأة إذا كانت حاملًا فعدتها إنما تكون بوضع الحمل؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ لهؤلاء المطلقات أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228]، فإذا كانت المرأة حاملًا لا بد أن تُبيِّن ذلك؛ حتى يتبين أن العدة إنما تكون بوضع الحمل.

ثم قال: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:228]، وهذا فيه إغراءٌ للالتزام بذلك، يعني: إن كُنَّ صادقات في الإيمان بالله وباليوم الآخر فيجب عليهن أن يُبيِّنَّ ولا يكتمن حملهن، ولا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن. هذا هو معنى الآية.

أحكام الرجعة

ثم قال سبحانه: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228]، بُعُولتهن: البُعُولة جمع "بَعْل"، والبَعْل: هو الزوج كما قال الله تعالى في قصة إبراهيم  عن امرأة إبراهيم: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي يعني: زوجي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72].

فـ"بُعُولتهن" يعني: أزواجهن أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ يعني: بإرجاعهن ما دُمْنَ في العدة، ما دمن في العدة فهم -الأزواج- أحقُّ بذلك؛ وذلك أن المطلقة طلاقًا رجعيًّا للزوج أن يُرجعها بغير إذنها وبغير رضاها؛ لأنها ما زالت في العدة وحكمها حكم الزوجة.

فهذا الرجل طلق امرأته طلقة واحدة ثم لم تمضِ ثلاث حيضات؛ له أن يرجعها، يرجعها بأن يقول: "راجعتُكَ"، ويُشهد شاهدين، وبذلك ترجع، أو بالفعل بالوطء مثلًا مع نية الإرجاع فترجع.

فالزوج إذًا أحق بالإرجاع، وليس للمرأة إذنٌ أو رضًا في ذلك ما دامت في العدة، لكن إذا خرجت من العدة فلا تَحِلُّ له إلا بعقد ومهر جديدين.

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228] يعني: أن هذا الرد إنما يكون للأزواج، إِنْ أَرَادُوا بذلك إِصْلَاحًا وائتلافًا والتئامًا بينهما، ولا يريد بذلك المُضَارَّة، ولا يريد بذلك الشقاق، وإنما يريد بذلك الإصلاح بأن تكون نيته حسنة بهذا الإرجاع.

حقوق الزوجين وواجباتهما

ثم قال سبحانه: وَلَهُنَّ يعني: للزوجات سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ أو غير مطلقات مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] يعني: لهن حقوقٌ وعليهنَّ واجبات، لهن حقوقٌ بالمعروف، وعليهنَّ واجباتٌ بالمعروف؛ فكلٌّ من الزوج والزوجة له حقوقٌ وعليه واجباتٌ، فيجب عليه أن يُؤدِّي الواجبات التي عليه بالمعروف، وله الحقوق على الطرف الآخر بالمعروف، وَلَهُنَّ يعني: للزوجات مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني: مثل الواجبات بالمعروف.

وهذه الجملة جملةٌ قصيرةٌ لكن فيها من البلاغة والبيان شيءٌ عظيم؛ اختصرَتْ حقوقَ وواجبات الزوجين في هذه الجملة: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فهذه المرأة نقول لها: عليك واجبات ولك حقوق، قومي بالواجبات التي عليك ولكِ حقوق على زوجك: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228].

معنى قوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ

ولما قال الله تعالى ذلك وذكر هذه المماثلة بين الزوجين في الحقوق والواجبات، ربما يتوهَّم متوهِّمٌ المساواة بين الرجل والمرأة في هذا، فالله تعالى بيَّن عدم التسوية، فقال: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] يعني: جعل الله تعالى للرجال درجة على النساء؛ أي فضلٌ في الخَلق وفي الخُلق وفي المنزلة، وكذلك أيضًا في الإنفاق وفي الطاعة، كما قال الله سبحانه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34].

وهذا ليس فيه تقليلٌ من شأن المرأة وتقليلٌ من شأن النساء كما يدَّعي بعض الناس، ولكن هذا حتى تستقر الحياة الزوجية؛ لأن الحياة الزوجية شركة بين الطرفين، بين رجل وامرأة، فلا بد أن يكون هناك مديرٌ لهذه الشركة، وإلا ما تستقيم إذا كان كلٌّ منهما مديرًا، كلٌّ منهما رأسًا، ما تستقيم الحياة الزوجية، لا بد أن يكون أحدهما مديرًا لهذه الشراكة الزوجية.

ولهذا؛ الله تعالى حسم هذه القضية، والله تعالى هو خالق البشر، وهو أعلم بما تصلح به أحوال البشر، فقال: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، لكن هذا لا يقتضي بَخْس المرأةِ حقوقَها، ولا يقتضي أيضًا ظلمها، لكن هذا أمرٌ قدره الله ​​​​​​​ وقضاه بأن جعل الرجال لهم فضلٌ بدرجة على النساء حتى تستقيم أمور الحياة الزوجية.

بيان أن التفضيل للجنس لا للأفراد

وهذا التفضيل تفضيلٌ للجنس وليس للأفراد، فلا يأتي أحدٌ يقول مثلًا: "إن أيَّ رجل أفضل من أية امرأة"، هذا غير صحيح، يعني: لو يأتي إنسان مثلًا فاسق أو زنديق هل نقول: إنه أفضل من عائشة ومن خديجة رضي الله عنهما ومن هؤلاء النساء الفُضْليات؟! هذا غير وارد، لكن المقصود من حيث الجنس، وهذا تقتضيه حكمة الله .

فيعني هذه القضية يفهمها بعض البشر فهمًا خاطئًا، وتُسبِّب مشاكل كبيرة في بعض المجتمعات، قضية العلاقة بين الرجل والمرأة؛ فنقول: إن الإسلام حفظ للمرأة حقوقها وأيضًا أوجب عليها واجبات، لكن عندما تكون العلاقة بين الرجل والمرأة جعل الله تعالى للرجل درجة على المرأة في التفضيل، في الخَلق وفي الخُلق وفي المنزلة وفي الطاعة وفي الإنفاق:

في الخَلق فجعل الله تعالى الرجل أكمل في الخَلق من المرأة من جهة التحمل والصبر؛ ولذلك يجب على الرجال واجبات لا تجب على النساء، فمثل القتال لا يجب على النساء، يجب على الرجال؛ ولذلك لما قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة[2].

المرأة أيضًا عليها واجبات لا يقوم بها الرجل، فهذه أيضًا لا بد من مراعاتها، فهي تقوم بالحمل وتقوم بالولادة وبالإرضاع، وتقوم بأمور لا يقوم بها الرجل؛ فلكلٍّ منهما طبيعته، ولكل منهما خصائصه.

ولذلك؛ لمَّا حصل مثل هذا الكلام في عهد النبي عليه الصلاة والسلام: أن بعض النساء تَمَنَّين أن يكون لهن مثل ما للرجال؛ أنزل الله : وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32].

فينبغي ألا تشغل المرأة نفسها بمثل هذه القضايا؛ لأن هذه القضايا يُثيرها بعض الناس، خاصةً في وقتنا الحاضر تُثار هذه القضايا، وهذه قضايا حُسمت من رب العالمين وخالق العباد الذي هو أعلم بما تصلح به أحوال العباد.

الحكمة من جعل القوامة للرجل

فهذه الدرجة التي جعلها الله للرجال ليس فيها تقليلٌ من شأن المرأة أو انتقاص أو بخس لِحَقِّها أبدًا، ولكن المقصود هو أن تستقر أمور الحياة الزوجية.

أرأيت مثلًا لو أن مجموعةً في سفر، لا بد أن يُؤمِّروا أحدهم كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا خرج ثلاثة في سفر فَلْيُؤَمِّروا أحدهم[3]، هل تأمير أحدهم يقتضي نقصانًا وتحقيرًا للبقية؟ لا، وإنما حتى ينتظم أمر هؤلاء الجماعة.

وكذلك أيضًا بالنسبة لولي الأمر في الإمامة العظمى، أمرت الشريعة الإسلامية بطاعة ولي الأمر: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]؛ فهذا حتى يستقيم أمر الناس، فهذه أمورٌ لا بد منها حتى تستقيم أمور الحياة.

فهذه الدرجة إذًا جعلها الله تعالى للرجال على النساء في ذلك، قلنا: في كمال الخَلق وفي الخُلُق أيضًا؛ لأن الله لما خلق المرأة خلقها من ضِلَع أعوج من الرجل، الرجل -أبونا آدم- خُلق من تراب، ثم خلق اللهُ أمَّنا حواء من الضِّلَع الأيسر لأبينا آدم  وكان فيه عوج، فاستمر هذا العوج في المرأة كما أخبر بذلك النبي ، قال: إن المرأة خُلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه يعني: لسانها فإن ذهبتَ تُقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج[4]، وهذا يدل على أن النقص والعوج ملازمٌ للمرأة لا بد منه، فلا بد من الصبر، ولا بد من استحضار ذلك.

وهذا من حكمة الله ، من حكمة الله سبحانه أن جعلها كذلك في هذه الدنيا حتى تشتاق النفوس للنعيم في الدار الآخرة، فإنه في الدار الآخرة تَسْلم المرأة من هذا العوج، سواءٌ كانت المرأة التي في الدنيا تكون زوجةً له في الآخرة أو حتى الحور العين؛ ولهذا قال سبحانه: لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25] مُطهَّرة من جميع النقائص ومنها هذا العوج.

وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]؛ الله تعالى عزيزٌ، ومن أسمائه "العزيز"، وله العزة بجميع أنواعها: عزة القَدْر، وعزة القهر، وعزة الامتناع. وهو سبحانه وتعالى حكيمٌ ذو الحكمة البالغة، هو أحكم الحاكمين، هو أعلم بما تصلح به أمور العباد، وأعلم بما تصلح به أحوال العباد، لا يأمر بالشيء إلا لحكمة، ولا ينهى عن شيءٍ إلا لحكمة، ولم يخلق شيئًا إلا لحكمة، وهو الحكيم العليم، أحكم الحاكمين جل وعلا. هذه معاني هذه الآية.

أبرز الفوائد والأحكام من الآية

وننتقل بعد ذلك إلى أبرز الفوائد والأحكام:

المطلقة تعتد بثلاث حيضات

من فوائد هذه الآية: أن المرأة المطلقة يجب عليها أن تعتد بثلاث حيضات؛ لقول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]. وإذا جاء الأمر بصيغة الخبر كان ذلك تأكيدًا له؛ فهذا أتى على صيغة خبرٍ لكنه يقتضي الأمر: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ يعني كأنه أمر واقعٌ صَحَّ أن يُخبَر عنه، فهو أبلغ من أن يقول: "أنتن أيتها المطلقات تربَّصْنَ بأنفسكن".

فجاء بصيغة الخبر، وهذه من الأساليب البلاغية في القرآن، فقال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، كأنه أمرٌ قد انتهى، قد فُرغ منه، أمرٌ واقعٌ فصح أن يُخبر عنه؛ فهذا يقتضي تأكيد الأمر؛ تأكيد أمر المرأة بأن تتربَّص فترةَ العِدَّة، والعدة: هي ثلاثة قروء، فيجب عليها أن تتربص ثلاث حيضات.

ولهذا؛ نُهي الزوج أن يُطلِّق المرأة في حال الحيض؛ لأنها تَطُول عدتها، إذا طلقها في حال الحيض فالحيضة التي طلقها فيها لا تُحتسب، فتطول عليها العدة، بدل أن تكون ثلاث حيضات تكون ثلاث حيضات وزيادة؛ فلهذا يحرم على الرجل أن يُطلِّق امرأته وهي حائض.

هل يقع طلاق الحائض؟

لكن، هل يقع أو لا يقع؟ فيه خلاف بين أهل العلم:

  • أكثر أهل العلم، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة: مذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وحُكي إجماعًا: أن الطلاق يقع، أن طلاق الحائض يقع.
  • والقول الثاني: أن طلاق الحائض لا يقع. هذا قولٌ لبعض أهل العلم، ممن تبنَّاه وانتصر له: ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، واختار ذلك بعض العلماء المعاصرين.

والأقرب -والله أعلم- ما عليه أكثر أهل العلم؛ لما جاء في "صحيح البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حُسبت عليَّ تطليقة[5]، وهذا في "صحيح البخاري" أصح كتاب بعد كتاب الله .

وابن عمر رضي الله عنهما هو الذي طلق امرأته وهي حائض، وهو أعلم بنفسه وبما وجَّهه له النبي عليه الصلاة والسلام، قال : حُسبت عليَّ تطليقة. هذا نصٌّ صريحٌ وصحيحٌ، وهو في "البخاري" وصريح، فإنها حُسبت عليه طلقة واحدة.

ولذلك؛ أكثر أهل العلم على وقوع الطلاق، بل إن ابن المنذر والنووي قالا: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال في زمنهم، لكن الواقع أن المسألة ليست إجماعية فيها خلاف، فهناك قولٌ آخر بعدم وقوع الطلاق.

والأقرب -والله أعلم- ما عليه أكثر أهل العلم من أن طلاق المرأة في حال الحيض يقع، لكن لا تُحتسب تلك الحيضة من العدة، وإنما تنتظر المرأة ثلاث حيضات، ويأثم الزوج بذلك، يأثم الزوج بكونه طلق امرأته وهي حائض. ولهذا؛ الرجلُ إذا أراد أن يُطلِّق امرأته فيطلقها في طُهْرٍ لم يُجامعها فيه طلقةً واحدة.

وجوب العدة على المطلقة

أيضًا من فوائد هذه الآية: أن المرأة يجب عليها أن تعتد، أن المرأة المطلقة يجب عليها أن تعتد بثلاث حيضات، سواءٌ كان طلاقها بائنًا أو غير بائن؛ لعموم قول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، والله تعالى قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ، ولم يفرِّق بين مُطَلَّقة ومُطَلَّقة، فالمُطَلَّقة الرجعية أو البائن: عدَّتها ثلاثة قروء؛ لعموم الآية.

 سبق أن قلنا -في مقدمة هذا الدرس- يُستثنى من ذلك مَن لا تحيض لكِبَرٍ أو صِغَرٍ ونحو ذلك، فهذه عدَّتها كم؟ ثلاثة أشهر: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].

هناك مطلَّقة لا تعتدُّ، هناك مطلَّقة لا تجب عليها العدَّة، من هي يا شيخ محمد؟

المقدم: الحامل؟

الشيخ: الحامل لها عدَّة، عدَّتها بوضع الحمل، لكن هناك مُطلَّقة -امرأة تُطَلَّق- وليس عليها عدَّة إطلاقًا.

المقدم: من طُلِّقت قبل الدخول؟

الشيخ: أحسنت. من طُلِّقت قبل الدخول.

من طُلِّقت قبل الدخول هذه ليس عليها عدَّة؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، فمثلًا رجلٌ عقد على امرأة ثم طلقها؛ هذه ليس عليها عدَّة، وهذا بالإجماع.

أنواع المطلقات وعدة كل منهن

إذًا؛ عندنا -يعني- المطلَّقات أنواع:

  • المطلَّقة التي تحيض؛ هذه عدَّتها ثلاث حيضات.
  • الثاني: المطلَّقة التي لا تحيض، لا تحيض لكِبَرٍ أو صِغَرٍ ونحو ذلك؛ هذه عدَّتها ثلاثة أشهر.
  • الثالث: المطلَّقة الحامل؛ هذه عدَّتها بوضع الحمل.
  • الرابع: المطلَّقة التي لم يُدخل بها؛ فهذه لا عدَّة عليها.

فتكون النساء بالنسبة للعدَّة على أربعة أقسام، هذه الأقسام الأربعة إذا ضبطها طالب العلم ضبط أمر العدَّة.

  • القسم الأول: المطلَّقة التي تحيض، عدَّتها ثلاث حِيَضٍ.
  • القسم الثاني: المطلَّقة التي لا تحيض لصِغَرٍ أو كِبَرٍ ونحو ذلك، هذه عدَّتها ثلاثة أشهر.
  • القسم الثالث: المطلَّقة الحامل، عدَّتها بوضع الحمل.
  • القسم الرابع: المطلَّقة غير المدخول بها، هذه لا عدَّة عليها.

الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب

أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه لو طلقها في أثناء الحيض لم تُحتسب الحيضة التي وقع فيها الطلاق -هذه أشرنا لها-؛ وذلك لأن الحيض لا يتبعَّض، فتُلغى بقية الحيضة التي وقع الطلاق فيها، ولا بد لها من ثلاث حيضاتٍ جديدة، وإلا يلزم على ذلك أن تكون عدَّتها ثلاثةَ قروءٍ وبعضَ القُرء، وهذا خلاف النص. وعلى ذلك: فالحيضة التي وقع فيها الطلاق هذه تُلغى، لا تُعتبر، وتُحسب ثلاث حيضات جديدة.

المرأة مؤتمنة على عدتها

أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه يُرجَع إلى قول المرأة في عدَّتها، فالمرأة مؤتمنة على ذلك.

مِن أين أخذنا هذه الفائدة؟

مِن قول الله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228]، المرأة يُرجَع لها في حملها، في عدَّتها، هل أتت الدورة أو لم تأتِها، هذه المرأة مؤتمنة على نفسها في ذلك، وتُصدَّق في هذا؛ وذلك لأن الله جعل قولها معتبرًا، لو لم يكن قولها معتبرًا لم يكن لِكَتْمِها ما خَلَقَ الله في رحمها أيُّ تأثيرٍ.

فقول الله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ هذا يدل على أن قول المرأة معتبرٌ ومُعتَدٌّ به ويُرجَع إليه، فإذا ادَّعت أن عدَّتها انقضت في زمنٍ يمكن أن تنقضي فيه العدَّة فإنها تُصدَّق، أما إذا ادَّعت أن عدَّتها لم تنقضِ فإنها تُصدَّق.

امرأة مثلًا خلال شهرين قالت: والله أتتني الدورة ثلاث مرات، نُصدِّقها ولا نقول: كيف أتتك الدورة في شهرين؟ فهي مؤتمنة، وقولها معتبر.

ولهذا؛ فالله تعالى قال: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228]، لولا أن قولها معتبرٌ ما قال الله: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ؛ لأن قولها يكون لا فائدة منه ولا قيمة له. لكن لمَّا كان قولها معتبرًا وهو المرجع في ذلك؛ جعل الله تعالى الأمر إليها وحذَّرها، وقال: وإنه لا يَحِلُّ لها أن تكتم ما خلق الله في رحمها.

فإذًا المرأة مؤتمنة على نفسها، فهي يُعتَبَر قولها في الإخبار عن الحيض: كم أتاها من حيضة؟ في الإخبار عمَّا في بطنها إذا كان عندها حملٌ، في الإخبار عن أمورها الخاصة، هذه كلها هي مؤتمنة على ذلك، ويُرجَع إلى قولها في ذلك، ما لم تدَّعِ أمرًا غير ممكن أو غير معقول، لكن إذا ادَّعت أمرًا ممكنًا فإنه يُقبَل منها وهي مُصدَّقةٌ في هذا.

ينبغي تحذير المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته

وأيضًا من فوائد هذه الآية: أنه ينبغي تحذير المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته، تحذيره من عذاب الله إن هو لم يقم بواجب الأمانة وواجب الإخبار، فإن الله تعالى حذَّر المرأة من ذلك وقال: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:228].

وأيضًا ينبغي عند التحذير أن يُربَط ذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإنسان أحيانًا قد يدفعه الهوى لارتكاب بعض المحرَّمات أو الكذب أو نحو ذلك، فينبغي أن يُذكَّر بالله واليوم الآخر، يُذكَّر بالله وعظمته، وأن الله تعالى مُطَّلع عليه، ويُذكَّر أيضًا باليوم الآخر الذي هو صائرٌ إليه؛ فإن هذا هو أعظم رادع، وأعظم كابح لجِماح الهوى؛ ولذلك قال سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، فذكر الله تعالى خوف مقام ربه، خوف اليوم الآخر، هذا أعظم ما يكبح به الهوى.

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى جمع الله تعالى بين نَهْي النفس مع مخافة اليوم الآخر، فأكبر ما يكبح جِماح الهوى هو التذكير بالله وباليوم الآخر، يُقال: أنت ستلقى ربك ، كيف ستواجه ربك؟ هذه المرأة يُقال لها: لا يجوز لك، لا يحل لك أن تكتمي شيئًا من أمورك، سواءٌ كانت من جهة الحيض أو من جهة الحمل، إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر فلا يحل لك أن تكتمي ذلك.

فهذا أيضًا يُقال لأيِّ إنسانٍ مؤتمن، أيُّ إنسانٍ مؤتمن يُقال له هذا الكلام: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا يحل لك أن تكتم شيئًا مما اؤتمنت عليه، بل يجب أن تُؤدِّي الأمانة كما أُمرت.

المطلقة الرَّجعية في حكم الزوجة

وأيضًا من فوائد هذه الآية: أن الرَّجعية في حكم الزوجات؛ لقول الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة:228]، والمقصود بذلك المطلَّقة الرَّجعية؛ فالمطلَّقة الرَّجعية سَمَّى الله تعالى مُطَلِّقَها "بَعْلًا" لأنها ما زالت زوجة، وعند الفقهاء أن المطلَّقة الرَّجعية زوجة؛ ولذلك لو قُدِّر أن أحدهما تُوفِّي، يعني هذا الرجل طلَّق امرأته طلقة واحدة أو طلَّقتين ثم مات الزوج أو ماتت الزوجة، هل يقع بينهما توارث؟ نعم، يقع توارث؛ لأنها ما زالت زوجة وفي حكم الزوجة، بل قال الفقهاء: إن المطلَّقة الرَّجعية ينبغي لها أن تتزيَّن لمُطَلِّقها وأن تَسْتَشْرِف له عسى أن يُرجعها؛ لأنها في حكم الزوجة.

وأيضًا المُطلَّقة الرَّجعية يجب عليها وجوبًا أن تبقى في بيت زوجها حتى تنقضي عِدَّتها، وما عليه عمل بعض الناس من أن المطلَّقة إذا طُلِّقت ذهبت لبيت أهلها؛ هذا لا يجوز: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق:1] هذا أمرٌ للأزواج، لا يجوز لكم أن تُخرجُوهن من بيوتهن، وأيضًا أمر للزوجات، وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا في حالة واحدة إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]، طيب، لماذا؟ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]، يمكن أن هذا الرجل إذا رأى هذه المرأة عنده طِيلة ثلاثة أشهر تقريبًا يعني يَرِقُّ لها، تتغيَّر أمور قناعته، يذهب ما في نفسه فيُرجعها.

فإذًا المطلَّقة الرَّجعية في حكم الزوجة، ويجب عليها أن تبقى في بيت مُطَلِّقها حتى تنقضي عدَّتها، وهذا أمرٌ واجبٌ عليها، فلا تذهب لبيت أهلها، فإن فعلت ذلك فإنها تأثم: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا في حالة واحدة إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، والزوج أحق بإرجاعها من غير إذنٍ ومن غير رضاها: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228]، لكن بشرط: إن أرادوا إصلاحًا، ولم يُرِيدوا بذلك إضرارًا، وإنما أرادوا بذلك الإصلاح.

اشتراط إرادة الإصلاح في الرجعة

وأيضًا من فوائد هذه الآية: أنه لا حق للزوج في الرَّجعة إذا لم يُرد الإصلاح؛ لأن الله تعالى قال: إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228]. وبعض أهل العلم يقول: إن هذا ليس على سبيل الشرط، وإنما هو على سبيل الإرشاد، لكن هذا خلاف ظاهر الآية، والواجب هو إبقاء الآية على ظاهرها. فنقول: إذا أردت أن تُراجع زوجتك؛ فلا بد أن تُريد بذلك الإصلاح، ولا تُريد بذلك الإضرار بهذه المرأة.

انتهاء حق الرجعة بانقضاء العدة

وأيضًا من فوائد هذه الآية: أنه لا رَجعة للزوج بعد انقضاء العدَّة؛ لقول الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] يعني: في العِدَّة، وهذا يُفهَم منه أنه بعد العدَّة ليس للزوج الحق في الإرجاع، إلا أن يعقد عليها عقدًا جديدًا، ومهرًا جديدًا، ويتزوجها من جديد. يعني: هذا رجلٌ طلَّق امرأته طلقةً واحدة، وبقي ومضى على هذه الطلقة ثلاث حيضات؛ فهنا تخرج من عصمته ويَحِلُّ لها أن تتزوج بغيره.

إذا أراد أن يُرجعها هو ليس له ذلك، لكن له أن يعقد عليها من جديد، يتزوجها بعقد جديد ومهر جديد وبرضاها وبوليٍّ وبشاهدين، فيتزوجها من جديدٍ وتُحْسَب عليه الطلقة أو الطلقتان السابقتان. لكن لو كان ذلك في أثناء العدَّة؛ فله أن يُرجعها من غير رضاها ومن غير إذنها؛ لقول الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ يعني: في العدَّة إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228]، لكن بعد العدَّة ليس له عليها سبيل، خرجت من عصمته؛ فلا بد من إذنها، لا بد من رضاها، لا بد من مهر جديد، لا بد من عقدٍ بوليٍّ وشاهدين كأنه يتزوجها من جديد، لكن يُحسب عليه الطلاق السابق.

حقوق الزوجين وواجباتهما المرجع فيها للعرف

وأيضًا من فوائد هذه الآية: إثبات الرجوع إلى العُرْف؛ لقول الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، يعني: الحقوق والواجبات للزوجين هذه المرجع فيها للعُرف.

فقد يقول قائل: ما هي الحقوق التي للزوج؟ ما هي الحقوق التي للزوجة؟ ما الواجبات التي على الزوج؟ ما الواجبات التي على الزوجة؟

المرجع في ذلك العُرف؛ لأن كلَّ ما ورد به الشرع ولم يكن له حدٌّ في الشرع ولا في اللغة فالمرجع فيه إلى العُرف. وهذه قاعدةٌ عند أهل العلم، فنقول: العُرف عند الناس، ما هي حقوق الزوج؟ معروفة عند الناس. كذلك ما هي حقوق الزوجة؟ ما الواجبات على الزوجة؟ ما الواجبات على الزوج؟ المرجع في ذلك إلى العُرف؛ ولهذا قال سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

وأيضًا من فوائد هذه الآية: إثبات هذين الاسمين: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، طبعًا قبل هذا قال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].

تفضيل جنس الرجال على جنس النساء في الجملة

وأيضًا من فوائد هذه الآية: تفضيل جنس الرجال على جنس النساء، كما ذكرنا عندما تكلَّمنا عن المعاني، تفضيل جنس الرجال على جنس النساء.

وهذا في الجنس في جملته، ولا يعني هذا تفضيل جميع الرجال على جميع النساء، فقد تكون بعض النساء أفضل من آلاف الرجال، لا يأتي مثلًا رجل زنديق أو فاسق أو..، ونقول: إنه خيرٌ من الصالحات القانتات، خيرٌ من أمهات المؤمنين؛ لأن هذا ذَكَرٌ وهذه أنثى. هذا أبدًا غير مراد، ولا تأتي الشريعة بمثل هذا.

لكن المقصود: أن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، كما نقول: جنس الإنسان مثلًا أفضل من جنس الحيوان، الحيوان مثلًا فيما بينه يتفاضل، فهذا الجنس أفضل من هذا الجنس، وهكذا.

فجنس الرجال أفضل من جنس النساء هذا في الجملة، قد تكون بعض النساء أفضل من كثير من الرجال. وذكرنا وجوه التفضيل: أن التفضيل في الخَلق، وفي الخُلق، وكذلك في الطاعة، وفي -أيضًا- الإنفاق، كما قال الله سبحانه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ [النساء:34]، فأثبت الله التفضيل، ولا قول لأحد مع قول الله سبحانه.

ولهذا ما يُدندِن به بعض الناس في مثل هذه القضايا، نقول: هذه القضايا محسومة، حسمها ربنا سبحانه، الله تعالى هو الذي أخبر بالتفضيل، هو الذي قال: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وهو الذي قال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فذكر الله تعالى أن الرجال لهم القوامة على النساء، وذكر السبب: السبب الأول هو التفضيل الذي أشرنا إليه؛ التفضيل في الخِلقة، التفضيل في الخُلق، التفضيل أيضًا في الطاعة: أن الله تعالى أمر المرأة بطاعة زوجها؛ ولذلك المرأة إذا خرجت عن طاعة الزوج تُسمَّى "ناشزًا"، ويسقط حقها في النفقة والمبيت.

وأيضًا هناك وجهٌ للتفضيل: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، الرجل يجب عليه أن يُنفق على المرأة، والمنفِق عادةً يكون أفضل من المنفَق عليه، اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى؛ لأن البذل والإنفاق يُعتبر قوةً في حق الإنسان، حتى بالنسبة لغير الزوجين أنت تعطي إنسانًا آخر مالًا، فأنت جانبٌ قوي، فاليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، اليد العليا هي المُعطية، السفلى هي الآخِذة.

فيعني هذه أمورٌ حسمتها الشريعة؛ ولذلك أنصح -خاصةً بعض الأخوات اللاتي يشتغلن بهذه القضية- بالكف عن هذا الموضوع؛ لأن هذا موضوعٌ حسمه ربنا سبحانه في القرآن، ولا قول لأحدٍ مع قول الله .

والمطلوب من المسلم -رجلًا كان أو امرأة- أن يكون عبدًا لله سبحانه، مقتضى العبودية لله سبحانه: الاستسلام لأحكام الله ولشرعه، وإلا إذا كان الإنسان لا يأخذ من أحكام شرع الله إلا ما وافق عقله وهواه؛ فهذا لا يكون عبدًا لله، وإنما هو عبدٌ لهواه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، بعض الناس هو عبدٌ لهواه، مَن أراد أن يكون عبدًا لله لا بد أن يستسلم لأمر الله ، لشرع الله سبحانه، لحُكمه، لأحكامه، لا بد من الاستسلام والرضا التام بها حتى تُظهِر مقتضى العبودية لله .

فهذه القضيةُ قضيةٌ حسمتها الشريعة، حسمها ربنا في القرآن الكريم. فأقول لك يا أختي المسلمة: لا تشتغلي بها؛ لأن هذه حسمها ربنا سبحانه. ولا يقتضي ذلك -ونؤكد على هذا مرارًا- لا يقتضي ذلك تحقير المرأة، ولا التقليل من شأن المرأة، لكن أمور الحياة لا تستقيم إلا بهذا، لا تستقيم أمور الحياة إلا بأن هذه الشركة أو الشراكة بين الزوجين يكون لها مدير، فإذا كان لها مدير انتظم أمر هذه الشراكة، لكن إذا لم يكن لها مدير يحصل شقاق، ويحصل النزاع بين الزوجين.

إثبات اسمَي: العزيز والحكيم

نختم الكلام عن الفوائد بآخر الآية، قال الله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، فيُستفاد من ذلك إثبات هذين الاسمين: "العزيز" و"الحكيم".

فالله تعالى هو العزيز، له العزة بجميع أنواعها: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع، وهو الحكيم جل وعلا، لا يشرع شيئًا إلا لحكمة، لا يخلق شيئًا إلا لحكمة، لا يأمر بشيءٍ إلا لحكمة، ولا ينهى عن شيءٍ إلا لحكمة.

هذه الحقيقة يجب أن تستقر لدى كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ: أن الله تعالى هو أحكم الحاكمين، سواءٌ عرفنا الحكمة من هذا الأمر أو لم نعرف، وسواءٌ عرفنا الحكمة من هذا النهي أو لم نعرف، الله تعالى حكيم عليم؛ ولذلك يكفي المسلم أن يعرف أن هذا هو حكم الله وحكم رسول الله .

لهذا كان الصحابةُ إذا بلغهم أمرُ الشارع لم يسألوا عن الحكمة، لما أتت امرأةٌ لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقالت: ما بال المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -انظر إلى فقهها-: كان يُصيبنا ذلك على عهد رسول الله ، فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة[6].

أجابت بالحكم، لم تُجب بالحكمة. تقول: الحُكم هو الحِكمة، إذا عرفنا حكم الله؛ فحكم الله هو حِكمة الحِكَم، مع أن عائشة رضي الله عنها لا يخفى عليها أن تقول: الحكمة أن الصلاة تتكرر فيشقُّ قضاؤها، والصوم سبعة أيام أو بضعة أيام في السنة لا يشقُّ قضاؤها. يعني هذه ظاهرة، لكن أرادت عائشة رضي الله عنها أن تُوصل هذه اللفتة التربوية وهذا المعنى إلى هذه المرأة، تقول: إن هذا هو حكم الله ورسوله، إذا كان هو حكم الله ورسوله، فحكم الله ورسوله هو حكمة الحكم وهو غاية الحكم.

وهذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا الكريم، هل يُستفاد من الوسائل الحديثة في مسألة براءة الرحم؟ هل يُقال مثلًا: لو استطعنا إثبات براءة الرحم قبل نهاية العدَّة، هل يُستفاد منها أو يثبت بها حكمٌ شرعيٌّ؟

الشيخ: هذا إنما يُقال لو كانت الحكمة من العدَّة هي براءة الرحم فقط، والواقع أنها ليست الحكمة هي براءة الرحم فقط، هناك أمورٌ أخرى أيضًا مقصودةٌ للشارع: براءة الرحم هذا أمرٌ مقصودٌ، لكن أيضًا هناك أمورٌ أخرى.

لو كان المقصود فقط براءة الرحم لجُعلت العدَّة حيضةً واحدةً؛ لأنه بحيضةٍ واحدةٍ تتحقَّقُ براءةُ الرحم، المرأةُ الحامل لا تحيض. فلو كانت الحكمة هي براءة الرحم لَاكتُفيَ بحيضةٍ واحدةٍ.

لكن، هناك أمورٌ أخرى؛ من هذه الأمور: أن يكون هناك حَرَمٌ بين النكاح الأول والنكاح الثاني، يعني على الأقل هذه المرأة بدل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، تنتظر ثلاث حيضاتٍ، يكون هناك حَرَمٌ فاصلٌ بين الزواج الأول والزواج الثاني؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يُطلِّقونها صباحًا، ويتزوجونها مساءً.

وفي القصة المشهورة: لما طلَّق رجلٌ امرأته في الصباح، أتى رجلٌ يقال له "مطر" فتزوجها في المساء، فأتى زوجُها الأول يُطلِّقها بسيفه، وطرق عليه الباب، فلما فتح الباب له قال:

سلامُ اللهِ يا مطرٌ عليها وليس عليك يا مطرُ السلام
فطلِّقها فلستَ لها بكفءٍ وإلا يَعْلُ مفرقك الحُسام

يعني: أتى بالسيف، هي زوجتُه أول النهار، ومطرٌ يتزوَّجها آخر النهار، ما تقبَّل هذا الرجل وأتى بالسيف.

الشريعة الإسلامية عالجت هذا، جعلت هناك حَرَمًا بين النكاح الأول والنكاح الثاني وهو هذه العدَّة.

فإذنْ العدَّةُ لا تنحصر فقط في تحقُّق براءة الرحم، هناك أمورٌ أخرى مثل ما ذكرتُ مِن أن يكون هناك حَرَمٌ بين النكاحِ الأول والنكاح الثاني، وهناك ربما حِكَمٌ أخرى لا نعلمها، الله تعالى هو أحكم الحاكمين، فشرعه حكمة الحكم وغاية الحكم.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا الكريم، لم تنص الشريعة على بعض الحقوق للزوج، ومثل ما تفضَّلت أن العُرْف واضحٌ فيها. مثالُ ذلك مثلًا: حقوقُ الخدمة، أو مثلًا تربية الأبناء، بعضُ الناس يُثيرُ مسألةً في هذا، ويقول: إنه لا يجب على المرأة شيءٌ في هذا؟

الشيخ: نعم، يعني هل يجب على المرأة أن تخدم زوجها؟ أن تقوم بخدمة المنزل؟ تقوم بالطبخ وبالغسل وبتنظيف البيت ونحو ذلك؟

هذه مسألةٌ محلُّ خلافٍ بين الفقهاء، فالمرجع في ذلك للعُرف. القول الراجح: أن المرجع في ذلك العُرف؛ فإذا كانت هذه المرأة تخدم في بيت أهلِها وليس أهلها ممن يُخدَم؛ فيجبُ عليها كذلك أن تفعل هذا في بيت زوجها. أما إذا كانت المرأة في بيت أهلِها لا تفعل ذلك، لا تقوم بالطبخ ولا بالتنظيف وإنما تُخدَم؛ فهنا قال الفقهاء: يجب على الزوج أن يأتي لها بخادم، هذا هو مقتضى المعروف.

فالمرجع في ذلك إذًا هو العُرف، فإذا كان أهل البلد في عُرفهم أن المرأة تقوم بهذه الأمور، هي التي تقوم بالطبخ، وهي التي تقوم بالتنظيف، وهي التي تقوم بترتيب المنزل؛ فيجب عليها هذا؛ لأن هذا من المعاشرة بالمعروف. وليس من المعاشرة بالمعروف أن المرأة تأتي بيت زوجِها وتترك الطبخ وتترك التنظيف وهي في بيت أهلها تفعل ذلك، إلا إذا كانت في بيت أهلِها تُخدَم؛ تكون من طبقةٍ ومن أسرةٍ يأتون بخَدَمٍ، هي لا تقوم بالطبخ ولا تقوم بالتنظيف ولا تقومُ بأيِّ شيءٍ؛ هنا يقول الفقهاء: يجب على الزوج أن يُحضِر لها خادمة.

فإذًا أرجح الأقوال في هذه المسألة أن المرجع في ذلك إلى العُرف.

المقدم: أحسن الله إليك شيخنا، بماذا تُوصي النساء في موضوع حقوقِ الزوج وما يتوهَّمه البعض من أن المرأة ينبغي ألا تُعطي لزوجها حقًّا وأن تكون ناشزًا عليه، أو تكون ترى نفسها عليه؛ نظرًا لتأثُّرِها بما يُطرح أحيانًا في بعض الوسائل الإعلامية، أو فيما يُؤخذ من الغرب، فأثَّر هذا على بعض نساء المسلمات؟

الشيخ: نعم، يجب على المرأة أن تُطيع زوجها بالمعروف، هذا أمرٌ حسمتْه الشريعة؛ لأن المرأة إذا لم تُطعْ زوجها فلن تستقر أمور الحياة الزوجية، ستبقى هي وزوجها في خصامٍ وفي شقاقٍ ولا تستقيم الحياة الزوجية.

ولذلك؛ نجدُ هذا حتى في غير الحياةِ الزوجية: النبيُّ عليه الصلاةُ والسلام يقول: إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ، فليُؤمِّروا أحدَهم[7]، فإذا أَمَّروا أحدهم تجب طاعته بالمعروف.

وكذلك أيضًا في الولاية العُظمى: الإمام الأعظم، السلطان، تجب طاعته: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]؛ لأن أُمور الحياة لا تستقيم إلا بهذا، فلا جماعة إلا بطاعة، ولا طاعةَ إلا بإمام.

وكذلك أيضًا في الحياة المُصغَّرة: الحياة بين الزوجين لا بد فيها من طاعة، لا بد فيها من مدير، المدير هو الزوج، لا بد للطرفِ الآخر أن يُطيع هذا المدير.

وهذا لا يقتضي الغَضَّ أو التقليل من حقوقِ المرأة، لا، المرأة لها حقوقها كاملةً وعليها واجباتٌ، لكن أيضًا من الواجبات التي عليها: أنها تُطيع زوجها بالمعروف؛ ولذلك يقول النبيُّ كما عند الترمذي وغيره: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها[8].

ولهذا قال بعض أهل العلم كالإمامِ ابن تيمية رحمه الله: "إن حقَّ الزوج على زوجته آكدُ من حقِّ أبويها عليها"؛ لهذه الدرجة! حتى تستقيم الحياة الزوجية لا بد من هذا، لا بد من هذا الأمر.

فعلى المرأة أن تتعبَّد لله بطاعة زوجها؛ لأنها عندما تُطيع زوجها تتقرَّب إلى الله بذلك؛ لأن الشارع هو الذي أمرها بذلك.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، وجزاكم الله خير الجزاء.

في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيها المشاهدون الكرام- على طِيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة بإذن الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه الدارقطني في "سننه": 82، والبيهقي في "الكبرى": 1650.
^2 رواه ابن ماجه: 2784، وأحمد: 25322.
^3 رواه أبو داود: 2609.
^4 رواه البخاري: 5184، ومسلم: 1468.
^5 رواه البخاري: 5253.
^6 رواه البخاري: 321، ومسلم: 335.
^7 سبق تخريجه.
^8 رواه أبو داود: 2140، والترمذي: 1159، وابن ماجه: 1853، وأحمد: 19403.
مواد ذات صلة
zh