logo
الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(2) تفسير آيات الصيام في سورة البقرة

(2) تفسير آيات الصيام في سورة البقرة

مشاهدة من الموقع

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن يتفقهوا في دينهم، كل واحد من الرجال والنساء عليه أن يتفقه في دينه، عليه أن يتعلم ما لا يسعه جهله، هذا واجب؛ لأنك مخلوق لعبادة الله، ولا طريق إلى معرفة العبادة ولا سبيل إليها إلا بالله، ثم بالتعلم والتفقه في الدين، فالواجب على المكلفين جميعًا أن يتفقهوا في الدين، وأن يتعلموا ما لا يسعهم جهله، كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف يزكون؟ كيف يحجون؟ كيف يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ كيف يعلمون أولادهم؟ كيف يتعاونون مع أهليهم؟ كيف يدعون ما حرم الله عليهم؟ يتعلمون، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [1].

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام في حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي البناء العلمي، نستكمل في هذه الحلقة ما بدأناه من درس تفسير آيات الأحكام يصاحبنا فيه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، وأستاذ الفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام، باسمي وباسمكم جميعًا أيها المشاهدون نرحب بفضيلة الشيخ فأهلًا وسهلًا بكم.

الشيخ: أهلًا، حياكم الله، وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المشاهدين.

المقدم: موضوعنا أيها المشاهدون في هذه الحلقة هو آيات الصيام في سورة البقرة، نستمع وإياكم إلى تلاوة هذه الآيات، ثم نعود لنكمل الشرح والتعليق مع فضيلة الشيخ.

آيات الصيام في سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].

المقدم: استمعنا وإياكم إلى آيات كريمات تحدثت عن الصيام في سورة البقرة، تفضل يا فضيلة الشيخ للتعليق على هذه الآيات.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..

هذه الآيات هي آيات الصيام التي ابتدأها ربنا سبحانه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ففيها فرضية الصيام، والصيام قد مر بمراحل، فرضيته مرت بمراحل:

مراحل فرضية الصيام:

  • المرحلة الأولى: إيجاب صيام عاشوراء؛ كان هذا بعد الهجرة، فكان أول ما فرض صيام عاشوراء كان صيامه واجبًا، ثم بعد ذلك نزلت هذه الآيات فنسخ وجوب صيام يوم عاشوراء، وبقي الحكم على الاستحباب، نسخ بهذه الآيات.
  • المرحلة الثانية: لما فُرض صيام رمضان كان ذلك على مرحلتين:
    • المرحلة الأولى: كان المطيق للصيام القادر مخيرًا بين أن يصوم وبين أن يطعم، إن شاء صام وإن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا؛ لكن الصيام خير من الإطعام: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، يعني: الصيام خير من الإطعام، فكان الإنسان مخيرًا بين أن يصوم أو أن يُطعم، يدفع الفدية: فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184].
    • ثم بعد ذلك أتت المرحلة الثانية: وهي فرض الصيام عينًا، وأن من شهد رمضان، وكان قادرًا حاضرًا يجب عليه أن يصوم رمضان، وليس له أن يعدل إلى الإطعام ما دام قادرًا على الصيام، فنُسخ التخيير بإيجاب الصيام عينًا؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].

الحكمة من التدرج في فرضية الصيام

الحكمة من هذا التدرج هي أن الصيام لما كان شاقًّا على النفوس، ويعني نزل أيضًا غير مألوف بالنسبة للناس وقت التشريع في ذلك الحين، فكان من حكمة الله ​​​​​​​ أن يكون إيجاب هذا الأمر الشاق متدرجًا، وهذه هي حكمة الشريعة: التدرج في إيجاب بعض الأمور الشاقة، وفي أيضًا تحريم بعض الأمور التي ألفتها النفوس وأدمنت عليها مثل الخمر.

الخمر لما أراد الله تعالى تحريمه كان ذلك بالتدرج، كان أولًا: أشار إشارة لذلك: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67] فوصف الرزق الحسن، وسكت عن السكر، ثم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، ثم نزل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، ثم المرحلة الأخيرة أن الله تعالى حرم الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90].

لماذا هذا التدرج؟ لأن القرآن نزل على قوم كان الكثير منهم مدمنين لشرب الخمر، والمدمن لا يمكن قطعه عن الإدمان مباشرة، فكانت الحكمة تقتضي التدرج معه في ذلك، فإذن حكمة الشريعة الإسلامية هي التدرج في إيجاب الأمور الشاقة، أو في تحريم الأمور التي قد أدمنوا عليها وألفوها.

فالصيام إذن مر بهذه المراحل، بهذا التدرج صيام عاشوراء، ونسخ الوجوب، ثم بعد ذلك التخيير بين الصيام والإطعام، ثم بعد ذلك نسخ التخيير بإيجاب صيام رمضان عينًا، فنزلت هذه الآيات.

ابتدأها ربنا سبحانه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كُتِبَ أي: فُرض عليكم الصيام.

كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فالصيام من العبادات التي كُتبت على جميع الأمم من نوح ومن بعده، وهذا يدل على عظيم شأن هذه العبادة أن الله تعالى فرضها على جميع الأمم في جميع الشرائع، هذا يدل على شرف هذه العبادة، وعلى عظيم شأنها.

مثل الصلاة، الصلاة في جميع الشرائع، كذلك أيضًا: الصيام عبادة الصيام، وكذلك الزكاة: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55]؛ فهذه العبادات في جميع الشرائع، فإذا علمنا بأن الصيام قد فُرض على من قبلنا، وعلى الأمم السابقة هذا مما يهون على النفوس تقبل هذا الأمر؛ لأن الإنسان إذا اشترك معه غيره في الأمر يهون عليه، فيقول: أنا مثلي مثل الناس، هذا عند العامة إذا أمر بشيء، يقول: أنا مثلي مثل الناس.

فكذلك أيضًا هنا يعني الله تعالى يقول: فُرض عليكم أنتم أيها المؤمنون الصيام، وكان مفروضًا على الأمم السابقة قبلكم، فهذا من باب تخفيف الأمر عليهم: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فكتبه الله تعالى على الأمم السابقة.

لكن في اختلاف بين صيام المسلمين وصيام الأمم السابقة في بعض الأمور، كما أن الصلاة مثلًا تختلف أيضًا، الصلاة عندنا خمس صلوات، وبعض الأمم السابقة عندهم صلاتان، وبعضهم.. فهي تختلف أيضًا، فقد تختلف في بعض الجزئيات، لكن من حيث الأصل الصيام مفروض علينا وعلى الأمم السابقة.

تفسير قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ..

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184] وهي أيام شهر رمضان، وهنا وصفها الله تعالى بالأيام المعدودات أيضًا من باب تخفيف الأمر، كأنه يقال: فرض عليك الصيام، لكن ليس صيام السنة كلها، كلها أيام معدودات، كلها شهر واحد، ثلاثون أو تسعة وعشرون يومًا، فهذا أيضًا من باب التخفيف.

انظر إلى عظيم رحمة الله تعالى بعباده كيف أنه لما أراد أن يوجب عليهم الصيام أتى بهذا الأسلوب الذي فيه التخفيف والمراعاة لأحوالهم ولمشاعرهم، فبين أولًا: أنكم لستم الوحيدون بهذا الأمر، كتب على جميع الأمم السابقة.

ثم قال أيضًا: مدته ليست طويلة هي أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ من السنة شهر واحد من اثني عشر شهرًا،

أبرز الأعذار المُبيحة للفطر

ثم أيضًا قال بعد ذلك: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184] مع ذلك من عنده عذر يجوز له الفطر؛ ومن أبرز هذه الأعذار: المرض أو السفر.

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يقضيه في وقت آخر، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ عند الجمهور معنى يُطِيقُونَهُ يعني: أن القادرين على الصيام مخيرون بين الصيام وبين أن يدفعوا فدية طعام مسكين عن كل يوم، كان هذا في المرحلة الثانية التي سبقت مرحلة إيجاب صيام رمضان عينًا على الجميع؛ فكانوا مخيرين، فكان الذين يطيقون القادرين على الصيام مخيرين: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ.

فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ إن أراد أن يجمع بين الصيام والإطعام فهذا خير، هذا مزيد تطوع وخير، أو أراد أن يزيد في الإطعام على إطعام مسكين جعلها إطعام مسكينين هذا خير أيضًا فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.

وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ يعني: الصيام خير من الإطعام، هو يجوز الصيام ويجوز الإطعام، لكن الصيام خير من الإطعام، هذا إذن من باب التدرج معهم، حتى تألف النفوس، وتُقبل على الصيام وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184].

تفسير قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ..

ثم قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] اختص الله تعالى شهر رمضان بأن القرآن أنزل فيه، لكن كيف أُنزل القرآن في رمضان، ونحن نعلم أن القرآن نزل على نبينا محمد متدرجًا في ثلاث وعشرين سنة؟ فما معنى إذن نزول القرآن شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ؟

ثم قال في الآية الأخرى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] هو نزل في رمضان، ونزل في ليلة القدر، طيب نعلم أن القرآن ما نزل جملة واحدة، ما نزل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام جملة واحدة.

فهذا معلوم من الواقع: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء:106] فهو نزل في ثلاث وعشرين سنة، إذن ما معنى نزول القرآن؟

للعلماء في ذلك رأيان:

  • الرأي الأول: يقولون: إن المعنى أن القرآن أنزل في ليلة القدر في رمضان: أنه أنزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا قد روي عن ابن عباس، لكن يُشكل على هذا أن بعض الآيات نزلت لأسباب معينة.
    يعني مثلًا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] يعني: هذه نزلت لما جاءت هذه المرأة وجادلت النبي عليه الصلاة والسلام في زوجها لما ظاهر منها، فكيف قد يكون نزل جملة واحدة هذا يشكل.
    ولذلك يعني هذا القول فيه إشكالات، فيه هذه الإشكال، وفيه حتى أيضًا أنه ما ورد في حديث صحيح إنما روي عن ابن عباس، وأيضًا حتى الرواية عنه في سندها مقال.
  • ولذلك الرأي الثاني: هو الرأي المعتمد عند كثيرين من المحققين من أهل العلم، وهو أن معنى نزول القرآن في رمضان ابتداء نزوله، فابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر في رمضان، هذا هو القول الراجح في معنى نزول القرآن.

فيكون هذا الخير العظيم القرآن يعني رحمة وخير للناس يقرؤون كلام ربهم ​​​​​​​، يخاطبهم الله ​​​​​​​ به، فهذا القرآن العظيم هذا الخير العظيم الذي نزل على البشرية، والذي رحم الله تعالى به البشرية كان ابتداء نزوله في ليلة القدر في رمضان.

فيكون القول الراجح إذن في معنى: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] يعني: ابتداء نزوله كان في رمضان، وكان في ليلة القدر، فاكتسبت ليلة القدر شرفها بنزول القرآن فيها، يعني في ابتداء نزول القرآن فيها، يعني يكون أول آية نزلت من القرآن ما هي؟

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] تكون اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ هي نزلت في ليلة القدر في شهر رمضان، هذا هو القول الراجح في معنى نزول القرآن في رمضان.

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ هذا وصف لهذا القرآن العظيم.

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يعني: من كان حاضرًا شَهِدَ من الشهود بمعنى: الحضور، حضر شهر رمضان، فلم يكن مسافرًا، فيجب عليه أن يصوم، وهذه الآية نسخت الآية السابقة.

الآية السابقة كان الإنسان مخيرًا بين الصيام والإطعام، في هذه الآية أوجب الله تعالى على المسلمين الصيام عينًا: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ما في تخيير، فأوجب الله تعالى على الناس الصيام عينًا فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].

سبب تكرار رخصة الإفطار للمريض والمسافر

وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا [البقرة:185] هنا كرر الله تعالى الرخصة؛ لماذا كرر الله تعالى الرخصة؟

يعني الله تعالى ذكرها في الآية السابقة: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] هنا أيضًا كرر الله تعالى الرخصة: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185].

سبحان الله! يعني لا شيء يوجد في القرآن إلا وله أسرار، هذا القرآن كلام الله ، كلام الله المعجز، كل حرف له دلالة وله معنى، وله بلاغة وأسرار، فهذا كتاب ربنا سبحانه هو فوق مستوى البشر في بلاغته، وفي معانيه، وفي كل شيء.

هذا القرآن العظيم لا يعرف قدره إلا من فهم اللغة العربية، وتعمق في معانيه، وفي أسراره، يكفي أن الله تعالى تكلم به، يكفينا هذا أن الله تكلم به، وأن الله تعالى جعله معجزًا، جعل الله تعالى هذا القرآن معجزًا.

فلا يمكن أن يكون التكرار هنا لغير فائدة أبدًا، هنا قال المفسرون: إن الله تعالى كرر الرخصة، حتى لا يتوهم متوهم بأن الرخصة قد نُسخت.

المقدم: خاصة لأن الآية السابقة نسخت؟

الشيخ: نعم؛ لأن الآية السابقة منسوخة، الآية السابقة قد نسخت أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] هذه الآية نسخت بإيجاب صيام رمضان علينا.

فربما يتوهم متوهم يقول: أيضًا حتى الرخصة للمريض والمسافر قد نسخت مع الآية السابقة، فكرر الله تعالى الرخصة ليبين أن الرخصة لم تنسخ، وأنها باقية في حق المريض والمسافر، فهذه هي الحكمة والله أعلم في أن الله تعالى كرر ذكر الرخصة في الآية التي بعدها.

وإلا لو لم يكرر الله تعالى الآية سيأتي من يقول: إن الرخصة للمريض والمسافر نسخت مع الآية، الآية أصلًا منسوخة، فمن حكمة الله أنه أعاد الرخصة في الآية التي بعدها ليبين أن هذه الرخصة لم تنسخ، سبحان الله! يعني هذا التكرار أعطى هذه الفائدة العظيمة.

من مظاهر اليسر والسماحة في الشريعة الإسلامية

وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] يعني انظر رحمة الله بعباده، ورحمة الله أيضًا وتيسيره على هذه الأمة، هذه الأمة جعل الله تعالى أمورها مبناها على اليسر، أزيل عنها كثير من الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وجعل الله تعالى هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس.

فالله تعالى يريد بعباده اليسر، الله تعالى رحيم بعباده، يحب اليسر والتيسير على عباده، يحب من عباده أن يقبلوا على الطاعة، الله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكن لمصلحتهم هم.

حتى إن الله تعالى يفرح بتوبة التائب فرحًا عجيبًا عظيمًا، يصف النبي عليه الصلاة والسلام هذا الفرح يعني سبحان الله! يعني هذا من أعجب ما ورد، يصف النبي عليه الصلاة والسلام هذا الفرح يقول: لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته، وعليها طعامه وشرابه وكان هذا في فلاة يمشي يعني في صحراء، تصور إنسان في صحراء على ناقة، ومعه الطعام والشراب، ثم فقدها، هربت هذه الناقة، ضلت عنه، ذهبت، المهم فقد هذه الناقة وهذه الراحلة، وعليها طعامه وشرابه.

ما ظنك بإنسان في البرية فقد راحلته وعليها طعامه وشرابه ينتظر الموت، ما عنده أكل، ولا عنده شرب، ولا عنده شيء، هو في البرية ما عنده أحد يساعده ويسعفه فنام يعني: بينما هو على هذه الحال أخذه التعب والإرهاق فنام ثم استيقظ وإذا براحلته عليها طعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح [2]، ما ظنك بمستوى فرح هذا الرجل؟ فرح عظيم، فرح إنسان رأى الموت، ثم رأى الحياة.

يقول عليه الصلاة والسلام: لله أشد فرحًا من هذا الرجل سبحان الله! هذا الرب العظيم الذي إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: كن فيكون، ومع ذلك يفرح بتوبة عبده بهذا الفرح العظيم الشديد؛ لماذا؟

الله تعالى ليس بحاجة أصلًا لهذا العبد، والله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين.

وكما قال في الحديث القدسي: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا [3]؛ إذن لماذا هذا الفرح؟

هذا الفرح لأن الله تعالى يحب الإحسان لعباده، يحب أن ينتفع عباده بهذه التوبة، وبهذه الاستقامة، فهو يحب أن يحسن لعباده، يحب التوابين لأجل مصلحة عباده، وإلا هو لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فانظر إلى عظيم إحسان الله ​​​​​​​ لعباده، وعظيم رحمة الله بهم.

ففي هذه الآية يقول سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وأكد هذا المعنى مرة أخرى: وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]؛ ولهذا جعل الله تعالى هذه الشريعة مبناها على اليسر والسماحة والسهولة وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5].

فيعني هذه الشريعة مبناها على السماحة، مبناها على اليسر، مبناها على السهولة، مبناها على رفع الحرج عن المكلفين يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185] يعني: تكملوا عدة شهر رمضان وهي ثلاثون يومًا، أو تسعة وعشرون يومًا إن رئي هلال شوال.

حكم التكبير ليلة العيد

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] وهذا هو التكبير الذي يكون في آخر رمضان، يكون ليلة العيد، إما برؤية هلال شوال، أو باستكمال عدة رمضان ثلاثين يومًا، هنا يبدأ وقت التكبير إلى حين صلاة عيد الفطر، هذا تكبير مطلق، فهنا ذكر الله تعالى هذا التكبير المطلق في هذه الآية.

ولهذا قال بعض أهل العلم وهو اختيار أبو العباس ابن تيمية، قالوا: إن التكبير ليلة عيد الفطر آكد من التكبير ليلة عيد الأضحى أو أيام عشر ذي الحجة؛ لماذا؟ لأن الله ذكره في القرآن، ذكر الله تعالى التكبير ليلة عيد الفطر في القرآن، بينما لم يرد ذكر هذا التكبير في القرآن بالنسبة للتكبير المطلق والمقيد في عشر ذي الحجة، وفي عيد الأضحى وأيام التشريق فهو آكد؛ لأن الله نص عليه في الآية وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [البقرة:185].

وهذا يدل على تأكد هذه السنة سنة التكبير ليلة عيد الفطر على وجه الخصوص؛ لأن الله تعالى ذكرها في هذه الآية وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] هذا هو يعني الكلام عن المعنى الإجمالي عن هذه الآيات.

المقدم: تأذن لي يا شيخ عن بعض الأسئلة، ذكرتم حفظكم الله أن الشريعة راعت التدرج في الأحكام في مثل تشريع الصيام، وفي مثل تحريم الخمر، هل يقال للإنسان الذي عنده العادات السيئة أو الأخطاء أو المنكرات: أن يتدرج مع نفسه في تركها؟ يعني إذا كان الإنسان ابتلي بالدخان مثلًا، ابتلي بمعصية، أن يقال له لكيلا يستصعب هذا الأمر في ترك المعصية، يقال له: تدرج في تركها؟

الشيخ: نعم، هذا لا بد منه، وإلا فإن هذا لن يتمكن من الإقلاع عن تلك المعصية التي يصحبها الإدمان، فالمعاصي على قسمين:

في معاصي لا يصحبها إدمان، يستطيع الإنسان أن يتركها من غير أن يلحقه كلفة أو مشقة، لكن هناك بعض المعاصي التي يصحبها إدمان، هذه لا يستطيع الإنسان أن يتركها مباشرة في الغالب، مثل مثلًا الخمر إدمان الخمر، يعني انظر كيف أن الشريعة أتت بتحريم الخمر متدرجًا؛ لأنه كان الإدمان شائعًا في ذلك الوقت.

كذلك بالنسبة للدخان شرب الدخان معصية، لكن عندما يراد مثلًا من هذا أن يقلع عن التدخين ما يستطيع أن يقلع مباشرة؛ ولهذا عيادات مكافحة التدخين لهم طرق وبرامج في هذا بتخفيف التدخين شيئًا فشيئًا ويعطونه لصقات النيكوتين لأجل أن يخفف عنه التدخين، ويجعل له يعني بالتدريج، حتى يقلع عن التدخين.

فمن كان في معصية، وكان مدمنًا عليها متعلقًا بها، فمن الحكمة أن يكون إقلاعه عنها بالتدريج، وأمره بالإقلاع عنها يكون بالتدريج، حتى يكون ذلك متوافقًا ومتوائمًا مع أحوال النفس البشرية، يعني النفس البشرية هكذا النفس البشرية إذا تعلقت بشيء، وأدمنت عليه، فإن تخلصها منه لا يكون فجأة، وإنما يكون بالتدريج.

المقدم: سؤال آخر حفظك الله: يقول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] هذه الآية تدل على أن الشريعة مبناها على اليسر، فهل يصح أن يستدل بهذه الآية أقوام في مناقضة الأحكام الشرعية، فمثلًا يثبت لدينا حكم شرعي بنص واضح، ثم يأتي بهذه الآية، فيقول: الله يقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وهذا ليس من اليسر، فيعمل هذه الآية إعمالًا خاطئًا، ويضرب بها نصوصًا أخرى، هل يصح هذا الاستدلال؟

الشيخ: نعم، هذا لا يصح، هذا من باب تتبع الرخص والتوسع فيها، وعند العلماء مقولة مشهورة: من تتبع الرخص فقد تزندق، هناك يعني ثلاثة مناهج:

  • المنهج الأول: منهج تمييع الأحكام الشرعية، ويستدلون بمثل هذه الأدلة باسم التيسير، وباسم أن الله يريد بكم اليسر، والشريعة مبناها على السهولة، وعلى رفع الحرج، فيقومون بتمييع الأحكام الشرعية، حتى تجد هذا موجودًا لدى بعض الناس لا تسمع منه كلمة حرام، يتولى مثلًا يتصدر الفتيا، لكن لا تكاد تسمع منه كلمة حرام.
    طيب الشريعة أيضًا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات [4]، ما معنى: حفت الجنة بالمكاره؟ لا بد أن يكون هناك تكاليف، ويكون فيها مشقة، وفيها مكاره أيضًا إمساك عن الأمور المحرمة، أيضًا يكون فيها مكاره، قد تكون بعض النفوس تألف بعض الأشياء المحرمة، فالجنة حفت بالمكاره أيضًا.
    ولهذا في آية الحج وإن شاء الله ستأتينا في حلقة قادمة؛ لما ذكر الله تعالى الرخصة قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196] الآية ختمت بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مع أنها أتت في مورد التيسير والترخيص، كلها رخص؟
    وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ [البقرة:196] كل مبنى الآية في الترخيص وفي التسهيل، ومع ذلك ختمت بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196].
    المقدم: لا تتجاوز الرخص.
    الشيخ: نعم، فهذه الرخص يعني ينبغي أن تتقيدوا بها، ولا تتوسعوا فيها، فهذا المنهج منهج التمييع منهج خاطئ يقابله منهج التشديد أيضًا،
  • هناك منهج مقابل: كل شيء حرام، لا تكاد تسمع منه كلمة حلال، كل شيء عنده حرام، فيحب أن يشدد على الناس، ويحرم على الناس، يعني هذا التشديد أيضًا مخالف لما أراد الله تعالى من التيسير على عباده، ومن سماحة هذه الشريعة رفع الحرج.
  • المنهج الثالث: هو منهج الاعتدال، ليس معنى الاعتدال دائمًا الوسط، لا، الاعتدال هو الوقوف مع النصوص، فالنصوص إذا شددت في مسألة نشدد فيها، إذا النصوص جعلت فيها سعة نتسامح فيها، ولا نشدد على الناس؛ يعني مثلًا نصوص شددت في شأن الربا نشدد فيه، لكن بقية المعاملات جعلت الشريعة فيها الأصل الحل والإباحة، فنقول: الأصل هو الحل والإباحة، لا نحرم هذه المعاملة إلا بشيء واضح، فهذا المنهج هو المنهج الحق منهج الاعتدال المبني على اتباع النصوص، هذا هو المنهج الحق، فلا يكون هناك تمييع للأحكام، ولا يكون هناك أيضًا تشديد على الناس.

أبرز الأحكام والفوائد من آيات الصيام

ننتقل بعد ذلك لأبرز الأحكام المستنبطة من هذه الآيات:

أولًا: دلت هذه الآية على أن فرض الصيام مر بمراحل، وتكلمنا عن هذه المراحل، مرحلة أولًا فرض صيام عاشوراء، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصيام لكن مع التخيير بين الصيام والإطعام، ثم نسخ ذلك بإيجاب صيام رمضان عينًا، وهذا كما ذكرنا هذا من باب التدرج في إيجاب هذا الشيء الشاق على النفوس، فمن حكمة الله ​​​​​​​ ​​​​​​​أن جاءت فرضية الصيام بهذا التدرج.

أيضًا من أحكام هذه الآية وفوائدها: بيان شرف وفضيلة عبادة الصيام؛ وذلك أن الله تعالى فرضها على جميع الأمم، فهي موجودة في جميع الشرائع، وهذا يدل على عظيم شأن هذه العبادة، والصيام عبادة اختص الله تعالى بالأجر والثواب عليها، يقول النبي عليه الصلاة والسلام قال الله تعال: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به [5]؛ فاختص الله تعالى بأن يجزي على الصيام جزاء خاصًا من عنده، كما يقال: العطية بقدر معطيها، والله تعالى هو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فما ظنك بالعطاء والفضل والأجر على الصيام؟!
نوضح هذه المسألة بمثال:
لو أن معلمًا عنده طلاب متفوقون، فهؤلاء الطلاب المتفوقون، قال: أنت يا فلان لك جائزة كذا، وأنت يا فلان لك جائزة كذا، وأنت يا فلان لك جائزة كذا، وأما أنت يا فلان فلك جائزة خاصة عندي، ما ظنك بهذه الجائزة؟ هل هي أفضل بجوائز زملائه أو أقل؟

المقدم: لا تقارن.

الشيخ: أفضل يعني جائزة خاصة، أنت لك جائزة كذا، وأنت كذا، وأنت كذا، لكن أنت يا فلان عندك جائزة خاصة، كلمة جائزة خاصة تشعر بأنها جائزة قيمة ليست كجوائز زملائه، هكذا أيضًا عبادة الصيام، الله تعالى اختص بأن يأجر على الصيام أجرًا خاصًا من عنده، ليس من باب الحسنة بعشر أمثالها، لا، أجر خاص كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها قال الله: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به وهذا يشمل صيام الفريضة، وصيام النافلة.

ولهذا أقول للإخوة الذين يحرصون على صيام النوافل، أقول: ما أعظم أجر هؤلاء! ما شاء الله بعض الناس يوفق لعبادة الصيام، بعض الناس يصوم يومًا ويفطر يومًا، وبعضهم يصوم الاثنين والخميس، بعضهم يصوم ثلاثة أيام من الشهر.

صيام النوافل أيضًا فيه أجر عظيم، فيه ثواب جزيل، فقول الله: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به يشمل صيام الفريضة، وصيام النافلة.

سؤال: لماذا هذا التشريف والاختصاص للصوم، مع أن الصلاة مثلًا هي أفضل العبادات؟ لكن لماذا قال الله: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به؟

هل عندك جواب يا شيخ محمد؟

المقدم: نعم، ربما لأن الصيام يرجع إلى الصبر، والله تعالى يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

الشيخ: نعم، هذا يعني جواب قد قيل به، لكن قد يقال أيضًا: إن الصلاة تحتاج إلى صبر، الحج يحتاج إلى صبر، كل عبادة تحتاج إلى صبر، لكن الجواب الأحسن في هذا: هو أن الصوم سر بين العبد وبين ربه؛ لأن الإنسان قد يكون في المكان الخالي لا يراه أحد بإمكانه أن يأكل وأن يشرب.

هل هناك مراقبة لصيقة على الصائم طيلة النهار؟ أبدًا، هذا ما يمكن، على الأقل يدخل دورة المياه يستطيع أن يأكل ويشرب، لن تجد أحدًا يراقب أحدًا طيلة نهاره، كون هذا الإنسان صام طيلة النهار، ولم يأكل ولم يشرب مخافة الله، وابتغاء الأجر والثواب من الله ​​​​​​​، هذا يدل على عظيم إخلاصه ومخافته لربه، فكان الجزاء عظيمًا؛ لأن الله تعالى يجزي عليه جزاء خاصًا من عنده، فهو يظهر فيه أثر الإخلاص، والصدق مع الله ، هذا هو السر، فالصيام سر بين العبد وبين ربه.

الصلاة قد يصلي الإنسان يرائي، الزكاة قد يفعل الزكاة رياء أو خوفًا مثلًا، مثل ذلك الحج، مثل جميع العبادات، لكن الصوم ما يمكن أن الإنسان يراقب طيلة النهار من البشر، يعني كما ذكرت يعني على الأقل على الأقل سيدخل دورة المياه ما يراه أحد يستطيع يأكل ويشرب.

فكونه يمسك لا يأكل ولا يشرب طيلة نهاره خوفًا من الله، وابتغاء الأجر والثواب من الله ​​​​​​​، هذا يدل على إخلاصه، وعلى عظيم صدقه مع ربه سبحانه، فكان الجزاء عظيمًا، وكان الثواب جزيلًا، فهو إذن يعني هذه العبادة عبادة أجل وأعظم وأشرف العبادات.

أيضًا من الفوائد: أن الله تعالى لما فرض الصيام على المؤمنين ذكر أنه فرضه على الأمم التي قبلنا، وأنه أيام معدودات؛ لأجل التيسير على الناس، وحتى لا يستثقلوا هذا الأمر، وهذا أشرنا له لما تكلمنا عن المعنى.

لكن نستفيد من هذا فائدة أخرى، وهي أن من أراد أن يأمر الناس بشيء ثقيل فعليه أن يتلطف معهم، ويذكر مثلًا بعض الأمور التي تسهل وترغب الناس في هذا الأمر، ويعني النفوس قد تأنف مثلًا، وما تقبل بعض الأشياء الشاقة، فمن أراد أن يذكر أمرًا فيه مشقة أو فيه عسر ينبغي أن يلطفه، وأن يذكر ما فيه مثلًا من المحاسن، وما فيه من إيجابيات، أنها مثلًا مدة قصيرة سرعان ما تنتهي، أنه كذا، فهذه من الأمور التي ينبغي أن يراعيها المتحدث.

بل حتى أيضًا إذا أراد الإنسان مثلًا أن ينتقد غيره، ينبغي أن يقرن ذلك بإبراز المحاسن أولًا؛ لماذا؟ لأن النقد أو النصيحة مهما كان ثقيلة على النفس، النقد مر وثقيل على النفس، ينبغي أن تقدم ذلك قبل إبراز بعض المحاسن، مهما كان ستجد بعض المحاسن والإيجابيات في هذا الإنسان الذي تريد أن تنصحه، فتقول مثلًا: رأيت منك الحرص، رأيت منك كذا، وجزاك الله خيرًا، ولكن لاحظت عليك شيئًا كذا شيئًا يسيرًا، أو لعله شيء يسير وهو كذا، فتأتي له بهذا الأسلوب، تجد أنه يتقبل النصيحة، بخلاف ما إذا أتيته وانتقدته انتقادًا مباشرًا.

فالأشياء الثقيلة على النفوس تحتاج إلى تمهيد، وتحتاج إلى أن تذكر معها بعض المحسنات وبعض المرغبات، ولهذا انظر كيف أن الله لما أراد فرضية الصيام أتى بهذا الأسلوب، أولًا: قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] لستم فقط الذين وجب عليكم الصيام، فالأمم السابقة وجب عليهم الصيام.

ثم ذكر الحكمة من الصوم: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] أنتم المستفيدون من فرضية الصيام، هذه هي الحكمة، ثم قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] أنها ليست مدة طويلة، هي فقط أيام معدودات شهر من اثني عشر شهرًا، هو ثلاثون يومًا من ثلاثمائة وأربع خمسين يومًا، فانظر إلى هذا الأسلوب، هذا الأسلوب يعني أسلوب القرآن الكريم، وكان بالإمكان أن الله تعالى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] صوموا خلاص.

المقدم: سمعنا وأطعنا.

الشيخ: نعم، وتقولوا: سمعنا وأطعنا، لكن انظر إلى حكمة الله ​​​​​​​ كيف أنه تلطف مع عباده لما أراد أن يفرض الصيام، وأتى بهذا الأسلوب.

هذا الأسلوب ينبغي أن نستفيد منه في مجال الدعوة إلى الله ​​​​​​​، عندما نخاطب الناس، بل حتى في الأمور الدنيوية أيضًا، إذا أردت أن تخاطب الناس بأمر ثقيل ينبغي أن تقرن ذلك بشيء يحبه الناس ويألفونه.

ولهذا كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول: إني إذا أردت أن آمر الناس بأمر ثقيل أخلط معهم المُرة بالحلوة، يأتي معها بشيء حسن، حتى يخلط هذا بهذا، حتى يسهل عليها.

أيضًا من الفوائد: بيان الحكمة من مشروعية الصيام، فإن الله تعالى لما فرض الصيام بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بيّن الله لنا الحكمة من ذلك، ما هي الحكمة؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] الحكمة من مشروعية الصيام: تحقيق التقوى لله ​​​​​​​، فلا بد أن الصيام ينتج هذه الثمرة، فإذا لم ينتج الصيام هذه الثمرة، فليس لله حاجة في هذا الصيام.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [6]؛ فمعنى هذا أن الصائم ليس فقط يمسك عن الأكل والشرب والجماع والمفطرات الحسية فحسب، بل أيضًا يمسك عن اقتراف المعاصي أثناء الصيام، هذا مطلوب منه في جميع الوقت، لكن يتأكد أثناء الصيام، وكل معصية تقع من الصائم تنقص من أجر الصيام.

ولهذا إذا كثرت هذه المعاصي فقد لا يؤجر الإنسان على هذا الصيام، وإن كان يقع مبرئًا للذمة، لكن قد لا يؤجر عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: من لم يدع قول الزور يعني: المعاصي القولية والعمل به يعني: المعاصي الفعلية، يعني: من لم يدع المعاصي عمومًا فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه يعني ما الفائدة من هذا الصوم؟

إذا كنت إذا صمت وتقترف المعاصي، وتكثر المعاصي من هذا الإنسان من غيبة، من نميمة، من سب، من شتم، من نظر محرم، من استماع محرم، فإذن ما قيمة هذا الصيام؟ ما أثر هذا الصيام عليك؟

إذا كثرت المعاصي من الإنسان، فكل معصية تنقص من أجر الصيام، قد يصل إلى هذه المرحلة، وهي أنه لا يؤجر على هذا الصيام، لكن فقط يقع مبرئًا للذمة، يعني ليس كحالك كحال من لم يصم.

ونظير هذا الصلاة التي يكون الإنسان في هواجس ووساوس، من تكبيرة الإحرام إلى أن يسلم، فهذه لا يؤجر عليها، ليس لك من أجر صلاتك إلا بمقدار ما عقلت منها، لكن هذه الصلاة تقع مبرئة للذمة، ليست حاله كحال من لم يصل، فهي تكفر نفسها.

هذا أيضًا الصيام الذي كثرت فيه المعاصي يقع مبرئًا للذمة، لكن لا يؤجر عليها الإنسان، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه وهذا يدل على أن الصيام ليس فقط إمساك عن المفطرات الحسية فحسب، بل أيضًا إمساك عن الذنوب والمعاصي.

ولهذا كان كثير من السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا، ولا نغتاب أحدًا، فينبغي أن يكون هذا المعنى حاضرًا لدى كل مسلم ومسلمة، وأنه إذا أراد أن يفعل معصية قولية أو فعلية تذكر أنه صائم، فيمسك عنها.

بل حتى على سبيل المدافعة، المدافعة تجوز فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] لو سبك أحد يجوز أن تسبه مثلما سبك، لكن إلا إذا كنت صائمًا، المستبان ما قالا فعلى البادئ، ما لم يعتدِ المظلوم [7]، الإثم كله على البادئ، ما لم يعتد المظلوم، فمن سبّك يجوز لك أن تسبه بمثل ما سبك، لكن لا تزيد، إلا إذا كنت صائمًا.

ماذا يقول عليه الصلاة والسلام: فإن سابه أحد، أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم [8]، لا تقابل السباب بمثله، احترامًا لشعيرة الصيام، فإذن لا بد أن الصيام يثمر هذه الثمرة، وهي تحقيق التقوى لله ​​​​​​​، أولًا بالإمساك عن المعاصي، ثانيًا: بفعل الطاعات، فهو الآن صائم متلبس بعبادة.

وأيضًا ينبغي وهو صائم أن يكثر من الطاعات ومن العبادات، فيحافظ على الصلوات، ويكثر من تلاوة القرآن، ويكثر من الذكر، فتكون حاله وهو صائم ليست كحاله وهو ليس صائمًا، فيكون الصيام قد أثمر هذه الثمرة العظيمة: وهي تحقيق التقوى لله ​​​​​​​.

وهذه الثمرة نجدها عند كثير من المؤمنين الموفقين، نجد أن حالهم بعد دخول رمضان أنها تتغير إلى الأحسن يقبلون على المساجد، ويقبلون على الطاعات، ويقبلون على العبادة، هذه علامة خير؛ لأن أبرز ثمرات الصيام: تحقيق التقوى لله سبحانه، بل الصيام إنما شرع لأجل تحقيق التقوى لله ​​​​​​​: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

أيضًا من أبرز الفوائد والأحكام: يرى ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية محكمة، وأنها ليست منسوخة، ويرى أن المعنى: وعلى الذين يكلفونه بصعوبة ومشقة؛ ولذلك ورد عن ابن عباس قراءة: وعلى الذين يطوقونه، القراءة المشهورة يُطِيقُونَهُ [البقرة:184].
لكن ورد عن ابن عباس: يطوقونه، وأن هذا في مثل الشيخ الكبير، والكبيرة في السن، والمرأة الحامل وأمثالهم، فهؤلاء يجوز لهم الفطر والإطعام، المعنى الذي ذكره ابن عباس هو معنى صحيح، لكن يعني هل يقال: إن الآية لم تنسخ؟ الواقع أن الآية نسخت، والمعنى الذي ذكره ابن عباس هو معنى صحيح.

فربما يقال: إن الآية باقية في حق هؤلاء، في حق من لم يستطع الصيام إما لكبر أو لمرض لا يُرجى برؤه، فهؤلاء يفطرون ويكون عليهم فدية، فتكون الآية باقية لم تنسخ في حق هؤلاء.

المقدم: يجوز لهم الفطر.

الشيخ: يجوز لهم الفطر، فالإنسان المريض مرضًا لا يرجى برؤه سنتكلم بعد قليل عن المرض يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا.

كذلك كبير السن يفطر، كبير السن الذي يشق عليه الصيام مشقة غير معتادة يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا.

أيضًا من فوائد وأحكام هذه الآية: أن الله تعالى ذكر الرخصة في الفطر للمسافر وللمريض، فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فالمريض يجوز له الفطر في نهار رمضان، ولكن لا بد أن نعرف ضابط المرض ليس كل مريض، يعني إنسان مثلًا مصاب بزكام ليس له الفطر في نهار رمضان، إذن ما هو ضابط المرض المبيح للفطر؟

ضابط المرض المبيح للفطر

هو المرض الذي يتضرر المريض معه في الصيام يلحقه الضرر، أو يتسبب الصيام في تأخير برئه، أو يشق عليه الصيام مشقة غير معتادة، هذا هو الضابط.

المقدم: ثلاثة أمور.

الشيخ: ثلاثة أمور: إما أن يتضرر بالصيام، أو بتأخر البُرء، أو أنه لا يتضرر لكن يشق عليه الصيام مشقة غير معتادة، الذي يحدد ذلك هو الطبيب المختص؛ لأن بعض العامة يفتي نفسه بنفسه بأنه مريض ويفطر وهو لا يتضرر أصلًا بالصيام، ما يتضرر، مثل مثلًا المريض بمرض الزكام.

المقدم: المزكوم، أو بعض أنواع الكسور.

الشيخ: نعم، مثل مثلًا المزكوم أو بعض أنواع الكسور، أو يعني السكر من النوع الثالث ليس من النوع الأول يستطيع أن يتعايش معه الإنسان، يأخذ مثلًا حبوب السكر مع السحور، أو مع الفطور، ويمكن أن يصوم، فليس كل مريض يباح له الفطر، إذن المرجع في تحديد المرض المبيح للفطر هو الطبيب المختص، فيقال للطبيب المختص: هل يتضرر هذا المريض؟ هل يتسبب هذا المرض بتأخر البُرء؟ هل هذا المريض يشق عليه الصيام يشق على هذا الإنسان مشقة غير معتادة؟ فهنا يجوز له الفطر، يشق عليه مشقة غير معتادة بسبب المرض، فيجوز له الفطر في نهار رمضان.

كذلك أيضًا المسافر؛ قبل أن ننتقل للمسافر: إذا كان الإنسان ليس مريضًا، وشق عليه الصيام بسبب شدة الحر، هل له الفطر في نهار رمضان؟ الجواب: لا، يعني إنسان مثلًا يزاول أعمال في شدة الحر وشق عليه الصيام، نقول: ليس لك الفطر، هذه تساهل فيها بعض الناس، نقول: عليك الصبر، النبي عليه الصلاة والسلام كان يشق عليه الصوم، ويصب القربة على رأسه من شدة الحر، وكان الصحابة أيضًا يفعلون ذلك، بل كان الناس عندنا هنا بالمملكة إلى وقت ليس ببعيد، يعني من قبل ستين أو سبعين سنة فأكثر، كان الناس يعني لم تكن حالهم ميسورة كما هي عليه الآن، ما في مكيفات ما في مراوح.

فكان الصيام إذا وافق شدة الحر يشق على الناس مشقة شديدة، فكانوا يذهبون وينغمسون في البرك، ويستحمون بالماء، ويصبون على رؤوسهم الماء، لكن ليس للإنسان أن يفطر لأجل شدة العطش أو الجوع وهو ليس مريضًا؛ لأنه يستطيع التحمل، الإنسان إذا لم يكن مريضًا، ولم يكن كبيرًا في السن بإمكانه التحمل، يقولون: بإمكان الإنسان أن يتحمل العطش يعني ثلاثة أيام على الأقل، والجوع بإمكانه أن يتحمل أكثر من ذلك.

نحن رأينا بعض الزلازل التي حصل معها هدم للمنازل، وعثر على بعض المفقودين يعني قرأت خبرًا لإنسان بقي تحت الأنقاض أكثر من أسبوعين، وخرج حيًّا، مع ذلك أنه كان لا يأكل ولا يشرب لمدة أسبوعين، ومع ذلك خرج حيًّا.

فيعني الإنسان قد يكون عنده قدرة إذا لم يكن مريضًا، أما إذا كان مريضًا فيعذر، لكن بعض الناس الصبر عنده قليل ضعيف يجزع، نقول: ارفع مستوى الصبر، المهم ألا يكون مريضًا، إذا كان مريضًا هنا يجوز له الفطر، لكن إذا لم يكن مريضًا، نقول: اصبر، إذا مثلًا أحسست بالعطش أو بالجوع، فبإمكانك أن تفعل ما يخفف تصب على رأسك الماء، تجلس تحت المكيف، تنام، ونحو ذلك، لكن أن تفطر بدون عذر، هذا لا يجوز، الفطر بغير عذر من الكبائر.

ومن حكم مشروعية الصيام أيضًا: تدريب النفس على الصبر، بعض الناس ما عنده صبر، الصبر عنده قليل وضعيف.

طيب إذن المريض ذكرنا ضابط المرض الذي يبيح الفطر في نهار رمضان، أيضًا دلت الآية على أن المسافر يباح له الفطر في نهار رمضان، السفر الذي يبيح الفطر هو إذا كانت مسافة السفر ثمانين كيلو متر فأكثر، فهذا يكون سفرًا يبيح الترخص بجميع رخص السفر، ومنها: الفطر في نهار رمضان، لكن كيف تحسب الثمانين كيلو؟ تحسب الثمانين كيلو من آخر عمران البلد، وليس من البيت، من آخر العمران، فيحسب إذا كانت المسافة ثمانين كيلو فأكثر، فإنه يكون مسافرًا، يباح له الفطر في نهار رمضان، القصر، الجمع، تكون مدة المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن.

هل يشترط للمسافر إذا أراد الفطر أن يشق عليه الصيام؟ لا يشترط بالإجماع، فيجوز للمسافر أن يفطر في نهار رمضان، ولو لم يجد مشقة، لكن أيهما أفضل أن يصوم أو يفطر؟ إذا وجد مشقة بالصيام فالأفضل له أن يفطر؛ لأن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، فالأفضل هو الفطر.

أما إذا لم يجد مشقة فالأفضل في حقه الصيام؛ لأنه أسرع في إبراء الذمة؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام لما خرج مع أصحابه في سفر أفطروا كلهم ما فيهم صائم إلا رسول الله وعبدالله بن رواحة، يظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لم يشق عليه الصيام؛ لأن الصحابة كانوا يعتنون لخدمته ويظللونه، وربما أنه لم يجد مشقة في الصيام؛ ولذلك صام عليه الصلاة والسلام.

فإذن يعني هذا الآن يحصل كثيرًا يكون الإنسان مثلًا في السيارة مكيفة، في الطائرة مكيفة، ما يجد مشقة غير معتادة، يعني حاله وهو مسافر كحاله وهو غير مسافر، فهنا الأفضل في حقه الصيام، لكن إذا وجد مشقة فالأفضل في حقه الفطر.

أيضًا في حكم المسافر والمريض: الكبير الذي يشق عليه الصيام مشقة غير معتادة، فهذا يباح له الفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا.

أيضًا من الأحكام: أن المسافر والمريض يجب عليهما القضاء؛ لقوله سبحانه: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] إلا إذا كان المريض مرضًا لا يرجى برؤه، فهنا يطعم عن كل يوم مسكينًا؛ ولأن مرضه مستمر معه، ولا يرجى برؤه، فيطعم عن كل يوم مسكينًا.

أيضًا مما دلت عليه هذه الآيات: محبة الله تعالى للتيسير لعباده؛ لقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وأن هذه الشريعة مبناها على اليسر والسهولة والسماحة، ورفع الحرج عن المكلفين، وأيضًا دلت على أنه ينبغي الحرص على التكبير في آخر رمضان، وهو تكبير مطلق يبتدئ بغروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد.
وأنه ينبغي أن يحرص المسلم على هذه السنة، وأن التكبير ليلة عيد الفطر أفضل وآكد من التكبير أيام التشريق، وفي عشر ذي الحجة، وفي يوم الأضحى؛ لأن الله تعالى قد نص عليه في القرآن وهو أفضل، فينبغي للمسلم أن يحرص على أن يختم شهر رمضان بالتكبير؛ لقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].

المقدم: في ختام هذا اللقاء نشكر لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور سعد بن تركي الخثلان هذا البيان، وهذا التوضيح، نسأل الله أن يجعله من العلم النافع، والعمل الصالح.

شكرًا لكم فضيلة الشيخ وللحضور وعلى هذا العلم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المشاهدين.

المقدم: نلقاكم بإذن الله في حلقة قادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه البخاري: 6309، ومسلم: 2747.
^3 رواه مسلم: 2577.
^4 رواه مسلم: 2822.
^5, ^8 رواه البخاري: 1904، ومسلم: 1151.
^6 رواه البخاري: 1903.
^7 رواه مسلم: 2587.
مواد ذات صلة
  • (1) آيات الوصية من سورة البقرة

    قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9]. على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن…

  • (4) تفسير آيات الحج من سورة البقرة

    قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9]. على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن…

zh