logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(91) كتاب الأيمان- من قوله: "لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى .."

(91) كتاب الأيمان- من قوله: "لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى .."

مشاهدة من الموقع

هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

حيَّاكم الله تعالى في هذا الدرس في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع، والتوفيق لما يُحب ويرضى.

اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].

كتاب الأيمان

كنا قد وصلنا إلى:

كتاب الأيمان.

تعريف الأيمان

الأيمان معناها في اللغة: الأيمان جمع يمينٍ، واليمين هو: الحَلِف والقَسَم، هذا معناه في اللغة.

واصطلاحًا يُعَرِّفه الفقهاء بأنه: تأكيد حكم المحلوف عليه بِذِكْر مُعظَّمٍ على وجهٍ مخصوصٍ.

يعني: كأن الذي يحلف أو يُقْسِم يقول: أُؤكد لك هذا الشيء بمقدار ما في نفسي من تعظيم المحلوف عليه.

"على وجهٍ مخصوصٍ" يعني: بصفةٍ مخصوصةٍ، أو بصيغةٍ مخصوصةٍ، فلو أتى القَسَم أو اليمين بغير صيغة القَسَم لا يكون يمينًا.

لو قال -مثلًا-: سبحان الله! لأفعلنَّ كذا. أو: الله أكبر لأفعلنَّ كذا.

هذه ليست يمينًا، فالمراد بالصيغة المخصوصة: أن تكون بأحد حروف القسم مقرونًا باسمٍ من أسماء الله أو صفةٍ من صفاته، أو تكون في معنى اليمين مما ذكر أهل العلم أنه في معنى اليمين.

الحلف بالحرام

من ذلك: التَّحريم، إذا حرَّم الإنسان شيئًا غير الزوجة فإنه يجري مجرى اليمين، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1]، ثم قال سبحانه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، فدلَّتْ هاتان الآيتان على أن مَن حرَّم شيئًا تكون عليه كفارةُ يمينٍ.

فتحريم الحلال يجري مجرى كفارة اليمين ما عدا تحريم الزوجة على الخلاف المعروف بين الفقهاء الذي سبق في كتاب الظِّهار، وسيأتينا أيضًا الكلام عن هذه المسألة.

كذلك الطلاق المُعلَّق إذا لم يُرِد المُطلِّق به الطلاق، وإنما أراد حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، فهذه على القول الراجح تجري مجرى اليمين، ولا يقع طلاقًا؛ لأنه لم يَنْوِ الطلاق، فيجري مجرى اليمين.

إذن هناك أمورٌ تجري مجرى اليمين وإن لم تأتِ بصيغة القَسَم، لكنها مسائل محدودةٌ نصَّ عليها الفقهاء، وإلا فالأصل أن القَسَم يأتي بصيغة القَسَم.

ما تنعقد به اليمين

قال:

لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى، أو اسمٍ من أسمائه، أو صفةٍ من صفاته؛ كَعِزَّة الله وقُدرته وأمانته.

"لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى" الحَلِف بالله: والله، "أو اسمٍ من أسمائه" كـ: والرحمن، والعزيز، والحكيم، والخالق، أو صفةٍ من صفات الله تعالى، قال: "كَعِزَّة الله" تعالى، قال: وعِزَّة الله، أو: وقُدرة الله.

حكم الحلف بأمانة الله

قال: "وأمانته"، ما المقصود بأمانة الله؟

أمانة الله: هي الفرائض والودائع التي اؤْتُمِنَ عليها العباد، وقد اختلف الفقهاء في انعقاد اليمين بها على قولين:

  • القول الأول: أنها تنعقد اليمين بها، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة وقولٌ عند الشافعية.
  • والقول الثاني: لا تنعقد اليمين بأمانة الله إلا أن ينوي الحَلِف بصفة الله، وهذا مذهب المالكية والشافعية، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الذي يحلف بأمانة الله إن أراد بذلك صفة الله تعالى انعقدت يمينه وإلا فلا.

حُكم مَن قال: يمينًا بالله، أو قسمًا، أو شهادةً

وإن قال: يمينًا بالله، أو قسمًا، أو شهادةً؛ انعقدتْ.

لو قال الإنسان: يمينًا بالله لأفعلنَّ كذا، أو لا أفعل كذا، أو قسمًا بالله لأفعلنَّ كذا، أو أُقسم بالله لأفعلنَّ كذا، أو لا أفعل كذا، "أو شهادةً" أشهد بالله لأفعلنَّ كذا، أو لا أفعل كذا؛ فإنها تنعقد يمينًا، وحكى المُوفَّق ابن قُدامة اتِّفاق العلماء على ذلك؛ لأنه لو حذف هذا الفعل ولم يقل: لأفعلنَّ بالله، قال: بالله، وقع يمينًا، يعني: لو حذف كلمة "يمينًا" فقال: بالله لأفعلنَّ كذا، وقع يمينًا.

لو قال: قسمًا أو أُقسم بالله، لو حذف "قسمًا" أو "أُقسم" أصبحت "بالله" فكانت يمينًا.

إذن لو حُذِفَتْ كلمة "أُقسم" من قوله: "أُقسم بالله"، فإنها ستكون "بالله"، و"بالله" من صيغ القسم، فإذا أظهر ذلك الفعل ونطق به كان أولى بثبوت الحكم.

وعلى هذا مَن قال: أُقسم بالله كذا، هذه تُعتبر يمينًا.

لو قال: قسمًا بالله كذا، هذه تُعتبر يمينًا.

لو قال: يمينًا بالله كذا، فإنها تُعتبر يمينًا.

حُكم الحَلِف بالقرآن والكتب المُنزَّلة

قال:

وتنعقد بالقرآن.

يعني: لو قال: "والقرآن" انعقدتْ يمينه؛ لأن القرآن كلام الله ، وكلامه صفةٌ من صفاته، فيكون قد حَلَفَ بصفةٍ من صفات الله .

وبالمصحف.

يعني: تنعقد اليمين إذا قال: "والمصحف لأفعلنَّ كذا"؛ لأن ما بين دَفَّتَي المصحف هو القرآن الذي هو كلام الله .

وبعض العلماء يقول: إن أراد بالمصحف القرآن الذي هو كلام الله جاز، وإن أراد الورق -ورق المصحف- فإنه لا يجوز، لكن المُتبادر عند جميع المسلمين عندما يقول: "والمصحف" أنه لا يريد الورق، إنما يريد كلام الله ، فلا يخطر ببال أحدٍ أنه يريد الورق ولا يريد القرآن، ولا يريد كلام الله سبحانه، هذا بعيدٌ، فالمُتبادر عند قول الإنسان: "والمصحف" أنه يحلف بالقرآن، فلا بأس بذلك.

وبالتوراة ونحوها من الكتب المُنزَّلة.

يعني: يجوز الحَلِف بالتوراة، وتنعقد اليمين بها؛ لأنها من كلام الله سبحانه، وكذلك الإنجيل والكتب المُنزَّلة.

حُكم الحَلِف بغير الله

ومَن حَلَفَ بمخلوقٍ -كالأولياء والأنبياء عليهم السلام- أو بالكعبة ونحوها حَرُمَ، ولا كفَّارة.

يَحْرُم الحَلِف بغير الله تعالى؛ يَحْرُم الحَلِف بالأنبياء، ويَحْرُم الحلف بالأولياء، ويَحْرُم الحلف بالكعبة، ويَحْرُم الحلف بغير الله تعالى عمومًا؛ لقول النبي : مَن حَلَفَ بغير الله فقد كفر أو أشرك [2]، وقال: مَن كان حالفًا فَلْيَحْلِفْ بالله أو لِيَصْمُتْ [3] متفقٌ عليه.

فالحلف بغير الله تعالى كبيرةٌ من كبائر الذنوب، لكن لا تجب به كفَّارةٌ؛ ولهذا قال المُصنِّف: "ولا كفَّارة"، "حَرُمَ ولا كفَّارة"، لماذا؟

لأن الحلف بغير الله تعالى يُخالف اليمين التي وجبتْ فيها الكفَّارة، فاليمين التي وجبتْ فيها الكفَّارة قصد بيمينه تعظيم الله سبحانه، فإذا لم يفعل ما حَلَفَ عليه لزمته الكفَّارة، بخلاف الحلف بغير الله تعالى، هو حَلِفٌ بغير الله سبحانه، تعظيمٌ لغير الله، فإذا لم يفعل ما حَلَفَ عليه فإنه يأثم، ولا كفَّارة عليه في ذلك.

قال ابن مسعودٍ : "لَأَنْ أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أَنْ أحلف بغيره صادقًا".

وعلَّل لذلك ابن تيمية فقال: "لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك".

والمسلم ينبغي له ألا يُكْثِر من الحلف، فإن الله تعالى ذكر في القرآن أن كثرة الحلف من خصال المنافقين، كما قال سبحانه عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16]، وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56]، يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة:96].

وأَمَرَ الله بحفظ الأيمان فقال: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]، فينبغي ألا يُكْثِر الإنسان من الحلف، وألا يَحلف إلا عند الحاجة.

ونُقِلَ عن الإمام الشافعي أنه قال: "ما حَلَفْتُ بالله صادقًا ولا كاذبًا".

لكن إذا احتاج الإنسان إلى الحلف فلا بأس؛ فقد أمر الله نبيَّه بالحلف في القرآن في ثلاثة مواضع، والنبي حَلَفَ في عدة مواضع، فإذا احتاج الإنسان إلى الحلف فلا بأس بذلك.

شروط وجوب كفَّارة اليمين

ننتقل بعد ذلك لشروط وجوب الكفَّارة.

قال:

فصلٌ:
وشروط وجوب الكفارة خمسة أشياء.

يعني: مَن حَلَفَ على شيءٍ يفعله ولم يفعله، أو حَلَفَ على ترك شيءٍ ففعله؛ فتجب الكفارة، لكن يُشترط لوجوبها خمسة شروطٍ:

أن يكون الحالف مُكلَّفًا

أحدها: كون الحالف مُكلَّفًا.

والمُكلَّف هو العاقل البالغ، فلا تجب الكفارة على النائم، ولا على الصغير، ولا على المجنون.

فلو حَلَفَ شخصٌ وهو نائمٌ، يعني: هو نائمٌ وأصبح يتكلم.

بعض الناس يتكلم وهو نائمٌ، فَحَلَفَ بالله تعالى، هنا لا تنعقد يمينُه بالإجماع؛ لأن القلم مرفوعٌ عنه.

وهكذا الصغير الذي لم يبلغ؛ لأن القلم مرفوعٌ عنه، وإن كان ينبغي أن يُعوَّد على عدم الإكثار من الحلف؛ ولهذا قال إبراهيم النخعي: "كان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد".

وأيضًا المجنون لو حَلَفَ فليس عليه كفارةٌ؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلم كذلك.

أن يكون الحالف مُختارًا

الثاني: كونه مُختارًا.

فلو حَلَفَ مُكْرَهًا لم تنعقد يمينُه؛ لقول النبي : إن الله قد تجاوز عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه [4].

أن يكون الحالف قاصدًا لليمين

الثالث: كونه قاصدًا لليمين، فلا تنعقد ممن سبق على لسانه بلا قصدٍ، كقوله: "لا والله" و"بلى والله" في عرض حديثه.

لا بد أن يكون قاصدًا اليمين، قاصدًا الحَلِف.

أما ما يجري على اللسان من غير قصدٍ فلا تنعقد به اليمين، كقول الرجل: "لا والله" و"بلى والله" أثناء حديثه؛ لقول الله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ، وهذه قد وردتْ في موضعين: في سورة البقرة، وأيضًا في سورة المائدة.

ففي سورة البقرة: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225].

وفي سورة المائدة: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89].

فَلَغْو اليمين -كما قالت عائشة رضي الله عنها- هي قول الرجل: "لا والله" و"بلى والله"، يعني: من غير قصدٍ.

فما يجري على اللسان من غير قصدٍ لا تنعقد به اليمين.

أن تكون اليمين على أمرٍ مُستقبلٍ

الشرط الرابع: كونها على أمرٍ مُستقبلٍ، فلا كفارة على مَاضٍ.

يعني: لا بد أن تكون الكفارة على أمرٍ مُستقبليٍّ، ويُنْشِؤها إنشاءً.

أما الحَلِف على أمرٍ ماضٍ فلا كفارة فيه؛ لأن من شروط الانعقاد: إمكان بِرِّه وحِنْثِه، وهذا في الماضي غير واردٍ وغير مُمْكِنٍ، فإن حَلَفَ على أمرٍ ماضٍ كاذبًا فهذه هي اليمين الغَمُوس عند جمعٍ من أهل العلم.

حكم مَن تعمَّد الحَلِف كاذبًا

وقال عنها المؤلف:

بل إنْ تعمَّد الكذبَ فحرامٌ، وإلا فلا شيء عليه.

يعني: الحَلِف بالله صادقًا لا كفارة فيه، لكن تعمُّد الحَلِف كاذبًا اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة عليه:

الجمهور على أنه لا كفارة عليه، الجمهور -الحنفية والمالكية والحنابلة- لا كفارة عليه، وقالوا: لأنه لا دليل يدل على وجوب الكفارة في اليمين الغَمُوس، وهي أعظم من أن تُكَفَّر.

قال ابن مسعودٍ: "كنا نَعُدُّ من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغَمُوس".

القول الثاني قول الشافعية، وهو: أن عليه الكفارة، وهو مثل قولهم في القتل العمد.

القتل العمد الشافعية قالوا: فيه الكفارة.

والجمهور قالوا: لا كفارة فيه.

الخلاف هنا كالخلاف هناك.

والشافعية استدلوا بعموم قول الله تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89] بعد أن ذكر صفة الكفارة، قالوا: هذا يشمل كل يمينٍ، ومنها اليمين الغَمُوس.

والراجح هو قول الجمهور؛ لأن اليمين الغَمُوس إنما تكون في الماضي، ومن شروط انعقاد الكفارة: إمكانية البِرِّ أو الحِنْث فيها، وهذا إنما يكون في المُستقبل.

وأما ما استدلَّ به الشافعية من عموم الآية: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ، فالمراد بها اليمين المُنعقدة، بدليل أول الآية: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89].

نحن قلنا: اليمين الغَمُوس، ما المراد باليمين الغَمُوس؟

اليمين الغَمُوس -أولًا- من كبائر الذنوب، كما جاء في حديث عبدالله بن عمرو، عن النبي قال: الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغَمُوس [5].

فقيل: إن اليمين الغَمُوس هي اليمين الكاذبة مطلقًا، وذلك بأن يَحْلِف بالله كاذبًا؛ سُمِّيتْ بذلك لأنها تَغْمِس صاحبها في الإثم، ثم في النار، نسأل الله العافية.

وقال بعض العلماء: إن اليمين الغَمُوس هي اليمين الكاذبة في مجلس القاضي.

وقال بعضهم: هي اليمين الكاذبة التي يُقْتَطع بها حقُّ امرئٍ مُسلمٍ.

وقد جاء في إحدى روايات البخاري عن عبدالله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغَمُوس، قلتُ: وما اليمين الغَمُوس؟ قال: الذي يَقْتَطِع مال امرئٍ مسلمٍ هو فيها كاذبٌ [6].

قال الحافظ ابن حجر .. انتبه لهذا التَّعليق من الحافظ ابن حجر على هذا الحديث، فهذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه"، لكن كلمة "قلتُ" و"قال" تحتاج إلى أن نتأكد: مَن القائل "قلتُ"؟ ومَن الذي قال؟

يقول الحافظ ابن حجر: "القائل "قلتُ" هو عبدالله بن عمرو الراوي، والمُجيب "قال: الذي يَقْتَطِع مال امرئٍ مسلمٍ" هو النبي ، ويحتمل أن يكون السائل مَن دون عبدالله بن عمرو، والمُجيب هو عبدالله أو مَن دونه".

ثم قال الحافظ ابن حجر: "ثم وقفتُ على تعيين القائل "قلتُ: وما اليمين الغَمُوس؟" وعلى تعيين المسؤول، فوجدتُ الحديث في "صحيح ابن حبان" بالسند الذي أخرجه به البخاري، فقال في آخره بعد قوله: ثم اليمين الغَمُوس: "قلتُ لعامرٍ: ما اليمين الغَمُوس؟" فظهر أن السائل عن ذلك هو فراس بن يحيى الهمداني، والمسؤول هو عامر الشعبي".

فيكون القائل: "الذي يَقْتَطِع مال امرئٍ مسلمٍ" هو الشعبي، ويكون القائل: "قلتُ" هو فراس الهمداني.

يقول الحافظ ابن حجر بعدما ظفر بهذه الفائدة العظيمة: "فلله الحمد على ما أنعم، ثم لله الحمد، ثم لله الحمد، فإني لم أَرَ مَن تحرَّر له ذلك من الشُّراح".

فالحافظ ابن حجر فَرِحَ بهذه الفائدة العظيمة النَّفيسة، وهو فرحٌ من باب الفرح بالعلم، والعلم له لذَّةٌ خاصةٌ إذا كان ذلك مع المُعاناة والعثور على فوائد نفيسةٍ يفرح بها العالِم أو طالب العلم فرحًا عظيمًا.

إذن هذا الحديث وإن كان في البخاري إلا أن القائل: "الذي يَقْتَطِع مال امرئٍ مسلمٍ هو فيها كاذبٌ" ليس النبي ، وليس عبدالله بن عمرو، إنما هو عامر الشعبي، فلا تقوم به حُجَّةٌ، وإلا لو كان من كلام النبي عليه الصلاة والسلام لكان حُجَّةً، وهو في "صحيح البخاري" أيضًا، لكن -كما ذكرنا- القائل هو الشعبي.

وعلى هذا فالقول الراجح في معنى اليمين الغَمُوس: أنها كلُّ يمينٍ كاذبةٍ؛ لأنه ليس هناك دليلٌ على تخصيصها بشيءٍ معيَّنٍ، لكنها تختلف في الكِبَر والعِظَم والإثم بحسب ما يترتب عليها من الظلم والشر، فأشدّها وأشدّ ما يكون منها ما يُقْتَطَع بسببه حقُّ امرئٍ مُسلمٍ.

وهذه اليمين الغَمُوس عقوبتها -في الغالب- مُعجَّلةٌ في الدنيا قبل الآخرة، وقد جاء في قصة القسامة -كما في الصحيحين من قول ابن عباسٍ- لمَّا حَلَفَ ثمانيةٌ وأربعون رجلًا من قريشٍ على دمِ إنسانٍ في القسامة، وكانوا قد حلفوا كاذبين، قال ابن عباسٍ: "فوالذي نفسي بيده، ما حال الحولُ ومن الثمانية وأربعين عينٌ تَطْرِف".

سبحان الله! هلكوا جميعًا.

اليمين الغَمُوس تقصم صاحبها، وهذا أمرٌ معروفٌ مُتواترٌ، والقصص في هذا مشهورةٌ ومُتواترةٌ بأن اليمين الغَمُوس تقصم صاحبها، وأنه يُعاجل بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة في الغالب.

حِنْث الحالف بمُخالفة ما حلف عليه

الخامس.

من الشروط.

الحِنْث بفعل ما حَلَفَ على تركه، أو ترك ما حَلَفَ على فعله.

يعني: يُشترط لوجوب الكفارة: أن يَحْنَثَ في يمينه.

كيف يَحْنَث؟

بأن يفعل ما حَلَفَ على تركه، أو يترك ما حَلَفَ على فعله.

يعني: مَن لم يَحْنَث، وَبَرَّ في يمينه؛ لم ينتهك حُرمة القسم، فلا كفارة بالإجماع.

قال:

فإن كان عيَّن وقتًا تعيَّن.

يعني: إن عيَّن الحالفُ وقتًا لليمين بلفظه أو نِيَّتِه تعيَّن، وتعلَّقتْ يمينُه به.

كأن يقول: والله لا أذهب للمكان الفلاني، أو لا أُكلم فلانًا. وينوي يومًا أو يومين، فيتعلق الحِنْث بهذه المدة، فلو ذهب للمكان الفلاني بعد يومين لم يَحْنَث.

هل الأفضل الوفاء باليمين أو الحِنْث فيها؟

الجواب: الأفضل ما تقتضيه المصلحة؛ فإن كانت المصلحة الحِنْث فالأفضل الحِنْث، وإن كانت المصلحة الوفاء فالأفضل الوفاء.

وبعض الناس يظن أن الأفضل دائمًا الوفاء باليمين، وهذا غير صحيحٍ، فالله تعالى يقول: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224]، يعني: لا تجعلوا اليمين بالله تعالى مانعةً لكم من أن تَبَرُّوا وتتقوا وتُصلحوا بين الناس، بل افعلوا هذا وكَفِّروا عن أيمانكم.

والنبي يقول: والله لأن يَلَجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثَمُ له عند الله من أن يُعطي كفَّارته التي افترض الله عليه [7] متفقٌ عليه.

وقوله: والله لأن يَلَجَّ يعني: يستمر ويتمادى لأجل أن يَبَرَّ بيمينه.

ويقول: آثَمُ يعني: أقرب للإثم منه للبِرِّ.

يعني: كأنَّ النبي يقول: لا يجعل الإنسان يمينه مانعةً له من البِرِّ والإحسان لأهله.

لأن يَلَجَّ أحدكم يعني: يتمادى ويستمر بيمينه في أهله آثَمُ أقرب للإثم منها للبر عند الله من أن يُعطي كفَّارته التي افترض الله عليه يعني: إذا كانت المصلحة أن يُكفِّر فالأفضل والبِرُّ أن يُكفِّر، ولا يتمادى في يمينه التي أراد بها منع خيرٍ لأهله ونحو ذلك.

ويقول النبي : إنِّي والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمينٍ فَأَرَى غيرها خيرًا منها إلا كفَّرتُ عن يميني، وأتيتُ الذي هو خيرٌ [8] متفقٌ عليه.

فعلى هذا نقول: إن كانت المصلحة في البرِّ بيمينه فالأفضل البر، وإن كانت المصلحة في أن يَحْنَث في يمينه فالأفضل الحِنْث.

قال:

وإلا لم يَحْنَثْ حتى ييأس من فِعْلِه بِتَلَفِ المحلوف عليه أو موت الحالف.

يعني: إن لم يُعين وقتًا للوفاء بيمينه لم يَحْنَث حتى ييأس من فِعْلِه، سواء كان ذلك بتلف المحلوف عليه، أو بموت الحالف، أو بأي أمرٍ آخر يُؤديه إلى اليأس من البرِّ بيمينه.

ولذلك النبي في قصة صُلح الحُديبية لمَّا حصل الصلح وأراد الصحابة الرجوع، وكان الصحابة مُتشوِّفين للذهاب للبيت والطواف بالكعبة، فقال عمر: أوليس كنتَ تُحَدِّثنا أنَّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال عليه الصلاة والسلام: بلى، فأخبرتُك أنَّا نأتيه العام؟ قال: قلتُ: لا. قال: فإنك آتيه ومُطَّوِّفٌ به [9]، فدلَّ ذلك على أن مَن حَلَفَ على شيءٍ لا يُشترط منه أن يأتي به على الفور؛ لأن فعله مُمكِنٌ في أي وقتٍ.

حكم الاستثناء في اليمين

قال:

ومَن حَلَفَ بالله لا يفعل كذا، أو ليفعلنَّ كذا إن شاء الله، أو إن أراد الله، أو إلا أن يشاء الله، واتَّصل لفظًا أو حُكْمًا؛ لم يَحْنَث فَعَلَ أو تَرَكَ.

مُراد المُصنِّف أنَّ مَن حَلَفَ وقَرَنَ يمينَه بالمشيئة لم يَحْنَث.

كأن يقول: والله لا أفعل كذا إن شاء الله، أو إن أراد الله، أو إلا أن يشاء الله؛ فإنه لا يَحْنَث.

ولذلك يقولون: لا يَحْنَث فقيهٌ قط؛ لأن الفقيه كلما أراد أن يَحْلِف قَرَنَ الحَلِف بقول: "إن شاء الله"، فلا يحنث سواءٌ تحقَّق ما حَلَفَ عليه أو لم يتحقق.

يدلُّ لذلك قول النبي : مَن حَلَفَ فقال: إن شاء الله؛ فقد استثنى، فلا حِنْثَ عليه [10]، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بسندٍ جيدٍ.

وفي الصحيحين في قصة سليمان  لمَّا قال: لَأَطُوفَنَّ الليلة على تسعين امرأةً، تَلِدُ كلُّ امرأةٍ منهنَّ غلامًا يُقاتل في سبيل الله. فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يَقُلْ -وفي روايةٍ: فنسي- فلم تَلِدْ منهنَّ إلا امرأةٌ واحدةٌ نصف إنسانٍ، قال عليه الصلاة والسلام -وهذا محل الشاهد-: لو قال: إن شاء الله، لم يَحْنَث، وكان دَرَكًا لحاجته [11].

لو قال: إن شاء الله، لم يَحْنَث فهذا دليلٌ على أن مَن قَرَنَ يمينه بالمشيئة فإنه لا يَحْنَث، والله تعالى ذكر عن أصحاب الجنة قال: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ۝ وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17- 18] يعني: لم يقولوا: إن شاء الله.

واشترط المُصنِّف لعدم وجوب اليمين عند قَرْن اليمين بالمشيئة قال:

واتَّصل لفظًا أو حكمًا؛ لم يَحْنَث، فَعَلَ أو تَرَكَ، بشرط: أن يقصد الاستثناء قبل تمام المُسْتَثْنَى منه.

أفاد المؤلف أنه يُشترط لعدم الحِنْث شرطان إذا قال: إن شاء الله:

  • الشرط الأول: اتِّصال المُسْتَثْنَى بالمُسْتَثْنَى منه.
  • والشرط الثاني: أن يقصد الاستثناء قبل تمام المُسْتَثْنَى منه.

وسبق الكلام عن هذه المسألة في الاستثناء في الطلاق، وهي تُبْحَث في كتب الأصوليين في "باب: الاستثناء"، وأن القول الراجح: أنه لا يُشترط اتصال المُسْتَثْنَى بالمُسْتَثْنَى منه، وقد جاء في حديث ابن عباسٍ عام فتح مكة أن النبي قال: إنَّ الله حرَّم مكة، فلم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ، لا يُخْتَلَى خَلَاها، ولا يُعْضَد شجرها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تُلْتَقَط لُقَطَتها إلا لِمُعَرِّفٍ، قال العباس -عمّ النبي عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله، إلا الإِذْخِر لصاغتنا وقبورنا. فقال النبي : إلا الإِذْخِر [12].

فلم يتَّصل هنا المُسْتَثْنَى بالمُسْتَثْنَى منه؛ لأنه قال: إن الله حرَّم مكة، تكلَّم النبي كلامًا، ثم تكلَّم العباسُ، ثم استثنى النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فلم يتصل المُسْتَثْنَى بالمُسْتَثْنَى منه، فدلَّ ذلك على عدم اشتراط اتصال المُسْتَثْنَى بالمُسْتَثْنَى منه.

الشرط الثاني: أن يقصد الاستثناء قبل تمام المُسْتَثْنَى منه.

أيضًا هذا لا دليل عليه، والراجح أنه لا يُشترط؛ لأن النبي في القصة السابقة لم يقصد استثناء الإِذْخِر إلا حينما سأله العباس.

وعلى هذا فالقول الراجح: عدم اشتراط هذين الشرطين: الاتصال، وقصد الاستثناء، فمتى حَلَفَ وقال: إن شاء الله؛ لم يَحْنَث، بل حتى لو حَلَفَ وقال له أحد الحاضرين: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله، فإنه لا يَحْنَث.

ننتقل بعد ذلك إلى:

ما يأخذ حكم اليمين من الألفاظ

قال المُصنِّف رحمه الله:

فصلٌ:
ومَن قال: طعامي عليَّ حرامٌ، أو إنْ أكلتُ كذا فحرامٌ، أو إن فعلتُ كذا فحرامٌ؛ لم يَحْرُم، وعليه إنْ فَعَلَ كفارةُ يمينٍ.

حكم مَن يُحَرِّم على نفسه ما هو حلالٌ

يعني: مَن حرَّم على نفسه حلالًا سوى زوجته -هذا أشرنا إليه في مقدِّمة الدرس- لم يَحْرُم ذلك الذي حرَّمه، وفيه كفارةُ يمينٍ؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، فسمَّى اللهُ تعالى التَّحريمَ: يمينًا، ودلَّت الآية على أن مَن حرَّم على نفسه شيئًا لا يَحْرُم، وأنه يَحِلُّ له بالكفارة.

فلو قال: طعامكم عليَّ حرامٌ. أو قال: إن دخلتُ بيتَ فلانٍ فحرامٌ، أو إن ذهبتُ إلى مكانِ كذا فحرامٌ عليَّ، أو يَحْرُم عليَّ كذا؛ فلا يَحْرُم ذلك الشيء، لكن تكون عليه كفارةُ يمينٍ إلا إذا حرَّم زوجته، قال لزوجته: أنتِ عليَّ حرامٌ.

فهذه سبق أن تكلَّمنا عنها في "كتاب: الظِّهار"، وذكرنا خلاف الفقهاء فيها؛ فالحنابلة يَرَوْن أنه ظِهارٌ، وذكرنا أن القول الراجح: أنه بحسب نِيَّتِه؛ فإن نوى التَّحريم فهو ظِهارٌ، وإن نوى الطلاق فهو طلاقٌ، وإن نوى اليمين فهو يمينٌ، والغالب على الناس أنهم يريدون بذلك اليمين.

حكم مَن يَحْلِف بالبراءة من الدِّين ونحوها

قال:

ومَن قال: هو يهوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو يعبد الصليبَ أو الشَّرْقَ إن فعل كذا، أو هو بريءٌ من الإسلام، أو من النبي ، أو هو كافرٌ بالله تعالى إن لم يفعل كذا؛ فقد ارتكب مُحَرَّمًا، وعليه كفارةُ يمينٍ إن فعل ما نفاه، أو ترك ما أَثْبَتَه.

وهذا رُوِيَ فيه حديثٌ عن النبي : أنه سُئِلَ عن الرجل يقول: هو يهوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو بريءٌ من الإسلام. قال: كفارة يمينٍ [13]، هذا الحديث أخرجه البيهقي، لكنه ضعيفٌ، ولكن هذا الكلام من كبائر الذنوب؛ لقول النبي : مَن حَلَفَ على ملةٍ غير الإسلام فهو كما قال [14]، وهذا الحديث رواه البخاري، لكن هل عليه كفارةٌ أم ليس عليه كفارةٌ؟

قولان للفقهاء:

  1. من الفقهاء مَن قال: لا كفارة عليه. وهذا مذهب المالكية والشافعية وروايةٌ عند الحنابلة.
  2. والقول الثاني: أن عليه كفارةً. وهذا رُوِيَ عن سفيان وإسحاق، وهو مذهب الحنفية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه أُثِرَ عن عددٍ من الصحابة، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه؛ لأن مَن أتى بهذه الألفاظ أقلّ ما يُكفِّر به ذنبَه كفارةُ يمينٍ.

وهكذا لو أتى بالعبارات المُنكرة الأخرى، لو قال: هو يعبد الصليبَ أو يعبد الشرقَ إن فعل كذا، أو بريءٌ من الإسلام أو من القرآن أو من النبي ، أو هو كافرٌ إن لم يفعل كذا. فيكون قد ارتكب كبيرةً من الكبائر، فعليه التوبة، ومن تمام التوبة: أن يُكفِّر كفارة يمينٍ.

فالقول الراجح إذن: أنه يجب عليه مع التَّكلم بهذه الأشياء كفارةُ يمينٍ.

حكم مَن أخبر عن نفسه أنه حَلَفَ ولم يكن حَلَفَ

قال:

ومَن أخبر عن نفسه بأنه حَلَفَ بالله، ولم يكن حَلَفَ؛ فكذبةٌ لا كفارةَ فيها.

يعني: قال: حلفتُ أنك تفعل كذا، إخبارًا، وليس إنشاءً، وهو لم يحلف؛ فلا يُعتبر ذلك يمينًا، وإنما هذه كذبةٌ، فعليه التوبة، ولا كفارة.

يمين الإكرام

طيب، هنا مسألةٌ ذُكِرَتْ في "السلسبيل"، وهي مسألة يمين الإكرام.

يمين الإكرام المقصود بها: الحَلِف لإكرام المُخاطَب في قوله: والله ما أدخل قبلك، والله لا آخذ فنجان القهوة قبلك، والله لتجلسنَّ في هذا المكان. وهو يريد بذلك إكرام المُخاطَب، ثم لم يتحقق ما حَلَفَ عليه، فهل تجب بذلك كفارة يمينٍ أم لا؟

قولان للفقهاء:

  • القول الأول: أنه تجب بذلك كفارةُ يمينٍ.
    وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ لعموم الأدلة الدالة على أن الحالف إذا حَلَفَ وحَنِثَ أنه تلزمه كفارةُ يمينٍ.
  • والقول الثاني: أنه ليس في ذلك كفارةٌ.
    واختاره ابن تيمية وابن عثيمين -رحمة الله عليهما- واستدلَّا بقصة أبي بكرٍ مع أضيافه من أصحاب الصُّفَّة؛ حيث إن الأضياف أَبَوا أن يأكلوا الطعام حتى يأتي أبو بكرٍ، وكان غائبًا، فلمَّا حضر وعَلِمَ بالحال غَضِبَ، فقال لهم: "والله لا أطعمه أبدًا"، ثم بعد أن أكلوا أكل أبو بكرٍ من الطعام وقال: "إن ذلك من الشيطان"، يعني: يقصد يمينه.

وأيضًا قصة أبي بكرٍ في تأويل الرؤيا، فإن رجلًا أتى النبيَّ وأخبره أنه رأى رؤيا، فقال أبو بكرٍ: يا رسول الله، بأبي أنت، والله لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرها. فَعَبَرَها، ثم قال: أَخْبِرْني يا رسول الله، أَصَبْتُ أم أخطأتُ؟ قال: أصبتَ بعضًا، وأخطأتَ بعضًا، قال: فواللهِ لَتُحَدِّثني بالذي أخطأتُ. قال عليه الصلاة والسلام: لا تُقْسِم [15]، متفقٌ عليه.

قالوا: فأبو بكرٍ حَلَفَ وحَنِثَ، ولم يأمره النبي بكفارةٍ.

وقالوا أيضًا: إن مقصود الحالف هو الإكرام، والإكرام قد تحقَّق، فلم يَحْنَث الحالفُ من جهة المعنى والنَّظر.

والقول الراجح -والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو: أن يمين الإكرام تَجِب الكفارةُ بالحِنْث فيها؛ لعموم الأدلة.

وأما قصة أبي بكرٍ فليست صريحةً في أن أبا بكرٍ لم يُكفِّر عن يمينه، حتى لو لم يُنْقَل ذلك، فالظاهر أن النبي يَعْلَمُ أن أبا بكرٍ سيُكفِّر عن يمينه، وأنه يعلم الحكم، فأبو بكرٍ هو أعلم الصحابة، فلم يَحْتَج إلى إخباره بذلك.

وأما قولهم: إن المقصود هو الإكرام؛ فيلزم على قولهم ما لو حَلَفَ إنسانٌ بقصد الإهانة والإغاظة، يَلْزَم من ذلك أنه لا كفارةَ، ويُؤدي ذلك إلى تعطيل الكفارة، ولا قائل بذلك.

وأما كثرة وقوع هذه الأيمان في أوساط الناس فهذا لا يُعتبر مُسوِّغًا لإسقاط حكم الكفارة، بل يُؤْمَرون بحفظ أيمانهم، ويُخْبَرون بأن مَن حَلَفَ وحَنِثَ فإنه تلزمه الكفارة.

وعلى ذلك فهذه الأيمان التي نسمعها في المجالس، هذا يحلف، وهذا يحلف، ثم ينصرفون ولا يُكفِّرون، هذا خطأٌ، وهم على قول أكثر أهل العلم مُؤاخَذون؛ هؤلاء الذين حَلَفوا وحَنِثُوا في أيمانهم.

ولذلك فالأحسن في مثل هذا إذا أردتَ أن تحلف على إنسانٍ لإكرامه أن تَقْرِن يمينك بقول: إن شاء الله. يعني: والله لتقومنَّ إن شاء الله، والله لا أدخل قبلك إن شاء الله، والله لا آخذ قبلك فنجان القهوة إن شاء الله. إذا قلتَ: "إن شاء الله" لم تَحْنَث، سواءٌ تحقَّق ما حَلَفْتَ عليه أو لم يتحقق.

التَّخيير والترتيب في كفَّارة اليمين

ثم انتقل المُصنِّف رحمه الله إلى الكلام عن كفَّارة اليمين فقال:

وكفارة اليمين على التَّخيير: إطعامُ عشرة مساكين، أو كسوتُهم، أو تحريرُ رقبةٍ مُؤمنةٍ.

وهذا بإجماع العلماء؛ لقول الله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89].

إذن الكفارة جاءت منصوصًا عليها: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبةٍ، هذا على التَّخيير، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ على الترتيب.

مقدار الإطعام في كفَّارة اليمين

لكن هذا الإطعام اختلف الفقهاء: هل هو مُقَدَّرٌ أم غير مُقَدَّرٍ؟

  • القول الأول: أن الإطعام في الكفارة مُقَدَّرٌ.
    وهذا قول الجمهور الذي عليه المذاهب الأربعة.
  • القول الثاني: أنه غير مُقَدَّرٍ، وأن المرجع في ذلك للعُرْف.
    وهذا ذهب إليه ابن تيمية، ونُسِبَ للإمام مالك.

والجمهور القائلون بأن الإطعام مُقَدَّرٌ اختلفوا في تقدير الإطعام؛ فبعضهم قال: نصفُ صاعٍ. وبعضهم قال: صاعٌ. واختلفوا اختلافًا كثيرًا.

والراجح هو القول الثاني، وهو: أن المرجع في تحديد مقدار الإطعام إلى العُرْف؛ لأن القاعدة: أن الأمر إذا وَرَدَ في الشرع مُطلقًا، ولم يكن له حدٌّ في اللغة، ولا في الشرع، فالمرجع في ذلك للعُرْف.

وبناءً على ذلك له أن يجمع هؤلاء المساكين العشرة فَيُغَدِّيهم أو يُعَشِّيهم مثلًا.

وأيضًا في وقتنا الحاضر لو ذهب إلى المطعم واشترى طعامًا يكفي عشرةً، ووزَّعه على عشرة مساكين؛ أجزأ.

يذهب -مثلًا- إلى المطعم ويقول: أعطني أَرُزًّا مع لحمٍ، أو أَرُزًّا مع دجاجٍ لعشرة نَفَرٍ. فيأخذه ويُعطيه عشرة مساكين يُجزئ.

أما الإدام فبحسب العُرْف؛ إن كان في بلدٍ يَأْتَدِم فيه الناس عادةً فلا بد أن يدفع مع الحَبِّ أو مع الأَرُزِّ إدامًا، وإن كان في بلدٍ لا يَأْتَدِمون فيه فلا يلزمه أن يُفَضِّل الفقراء على أهله، والله تعالى يقول: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ.

فمثلًا: في بلاد الخليج العربي الناس يَأْتَدِمون مع الأرز، يعني: يكون لحمٌ أو دجاجٌ مع الأرز، فهنا يلزم في إخراج الكفارة أن يَخْرُج معها إدامٌ، لكن لو كان الإنسان في بلدٍ الناسُ لا يَأْتَدِمون فيه، فلا يلزم إخراج الإدام مع الحَبِّ أو الأرز.

أو كسوتهم.

الحنابلة ذهبوا إلى أن العِبْرة في الكُسوة بالنسبة للرجل ثوبٌ يُجْزِئه في الصلاة، وللمرأة دِرْعٌ وخِمَارٌ، يعني: قميصٌ وخِمَارٌ، لكن هذا لا دليل عليه.

والراجح في الكسوة كما قلنا في الإطعام: أن المرجع في ذلك للعُرْف؛ لأن المقصود من الكسوة يتحقق بأي شيءٍ يُطْلَق عليه: كسوةً، وفي كل بلدٍ بِحَسَبِه.

يعني مثلًا: في وقتنا الحاضر إذا أردتَ أن تكسو إنسانًا في بلدنا، يعني: تكون بأن يُعْطَى فانيلةً وسراويل وقميصًا، وتكون بهذا قد كسوتَه، وأيضًا إنْ زِدْتَ وأعطيتَه طاقيةً وغُتْرَةً أو شِمَاغًا فتكون كسوةً كاملةً.

عتق رقبةٍ مؤمنةٍ

قال المُصنِّف:

أو تحرير رقبةٍ مُؤمنةٍ.

يعني: عتق رقبةٍ مُؤمنةٍ.

والرِّقُّ الآن انقرض في الوقت الحاضر، وليس له وجودٌ.

حكم التتابع في صيام كفَّارة اليمين

فإن لم يجد صام ثلاثة أيامٍ مُتتابعةً وجوبًا إن لم يكن عُذْرٌ.

يعني: عند عدم القُدرة على إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ فإنه ينتقل إلى البدل، وهو الصيام: صيام ثلاثة أيامٍ، لكن المُصنِّف قال: "مُتتابعة"، واختلف الفقهاء في اشتراط التتابع على قولين:

  • القول الأول: أنه يُشترط، وهذا المذهب عند الحنفية والحنابلة وقولٌ لبعض الشافعية، واحتجوا بقراءة ابن مسعودٍ للآية: "فمَن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ مُتتابعات"، هذه قراءة ابن مسعودٍ.
    قالوا: وابن مسعودٍ سَمِعها من النبي ، سواءٌ قيل: إن قراءته يُحْتَجُّ بها أو لا يُحْتَجّ، المهم أنه سَمِع ذلك من النبي ، فإذا لم يُحْتَجَّ بها فعلى الأقلّ يكون حكمها حكم الحديث المرفوع.
  • القول الثاني -وهو قول الجمهور-: أنه يُستحب التتابع ولا يجب.
    قالوا: لأن الله أطلق الصيام فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ولم يُقيِّد ذلك بالتتابع،
    ولو كان التتابع واجبًا لذكر الله ذلك، كما ذكره في صيام الشهرين في كفارة القتل والظِّهار.

والراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو: أن التتابع في صيام الكفارة مُستحبٌّ، وليس واجبًا؛ لأن القول بوجوبه يحتاج إلى دليلٍ، والإيجاب يقتضي التَّأثيم على مَن لم يفعل، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على الوجوب، لا من كتاب الله، ولا من سُنَّة رسول الله .

أما ما استدلَّ به القائلون بوجوب التتابع بقراءة ابن مسعودٍ: فقراءة ابن مسعودٍ قراءةٌ شاذَّةٌ، والقراءة الشَّاذة لا يُحْتَجُّ بها على القول الراجح، وغاية ما تدل على استحباب التتابع، أما القول بإيجاب التتابع وتأثيم مَن لم يَصُمْ مُتتابعًا فهذا يحتاج إلى دليلٍ.

ما يُكَفِّر به الرقيقُ

قال:

ولا يَصِحُّ أن يُكَفِّرَ الرقيقُ بغير الصوم.

الرقيق لا يستطيع أن يُكفِّر بالعتق، ولا بالكسوة، ولا بالإطعام، وإنما يُكفِّر بالصوم، بصيام ثلاثة أيامٍ؛ لأنه لا مال له.

وعكسه الكافر.

يعني: الكافر لا يَصِحُّ أن يُكفِّر بالصوم؛ لأن الصوم يحتاج إلى نيةٍ، والنية لا تَصِحُّ من كافرٍ، فإذا وجبتْ عليه كفارةٌ يُكفِّر بغير الصوم.

وقت إخراج الكفَّارة

وإخراج الكفَّارة قبل الحِنْث وبعده سواء.

يعني: في الفضل، وفي الثواب.

يعني: سواء أَخْرَجَ الكفارةَ قبل أن يَحْنَث، أو أخرجها بعدما حَنِثَ.

فلو قال رجلٌ: والله لا أفعل كذا. ثم قبل أن يفعله ذهب وكفَّر؛ صحَّ ذلك، أو فعله ثم كفَّر؛ صحَّ ذلك.

يعني: سواء كانت الكفارة قبل الحِنْث أو بعده فالحكم واحدٌ.

ويدل على ذلك قول النبي : إذا حلفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرها خيرًا منها، فَأْتِ الذي هو خيرٌ، وكفِّر عن يمينك [16]، وفي روايةٍ: فكفِّر عن يمينك، وَأْتِ الذي هو خيرٌ [17]، وهذه روايةٌ صحيحةٌ.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن عدَّة مَن قال بجواز تقديم الكفارة على الحِنْث أربعة عشر صحابيًّا.

ولا تُجْزِئ الكفارة قبل الحَلِف بالإجماع، وإنما تجوز قبل الحِنْث.

فرقٌ بين المسألتين: لا تجوز الكفارة قبل الحَلِف، وتجوز قبل الحِنْث.

وهذا يرجع إلى مسألةٍ ذَكَرَها بعض الفقهاء، ومنهم الحافظ ابن رجب ذكر أن تقديم الشيء على سببه مُلْغًى، وتقديم الشيء على شرطه جائزٌ.

انتبه: تقديم الشيء على سببه مُلْغًى، وتقديم الشيء على شرطه جائزٌ.

في مسألتنا هنا: تقديم الكفَّارة على الحَلِف لا يصحُّ.

لو قال: سأدفع الكفارة حتى إذا حَلَفْتُ مُستقبلًا تكون هذه الكفارة لما أحلف عنه مُستقبلًا.

هذا لا يصحُّ؛ لأنه تقديمٌ للشيء على سببه، لكن لو حَلَفَ وقدَّم الكفارة على الحِنْث فلا بأس؛ لأن الحِنْث شرطٌ للوجوب، وليس سببًا للوجوب.

نُوضح هذا بأمثلةٍ: الزكاة تقديمها قبل مِلْك النِّصاب لا يصحُّ.

إنسانٌ ما عنده شيءٌ، وقال: هذه زكاةٌ. أو عنده مالٌ قليلٌ، وقال: هذه زكاةٌ، حتى إذا مَلَكْتُ النِّصاب أكون قد قدَّمتُ زكاتي وأخرجتُها.

نقول: هذا لا يصحُّ؛ لأنه تقديمٌ للشيء على سببه.

لكن إذا مَلَكَ النِّصاب فله أن يُقدِّم الزكاة قبل حولان الحَوْل؛ لأن حولان الحَوْل شرطٌ للوجوب، ومِلْك النِّصاب سببُ الوجوب، ولا يجوز تقديم الشيء قبل سببه، ويجوز تقديمه بعد السبب وقبل الشرط.

أيضًا الصلاة لا يجوز تقديمها قبل دخول وقتها؛ لأنه تقديمٌ لها قبل سبب وجوبها، فإنَّ سببَ وجوبها دخولُ الوقت، فلا يجوز تقديم الصلاة قبل سببها.

إذن القاعدة في هذا: أن تقديم الشيء على سببه لا يصحُّ، وتقديم الشيء بعد السبب وقبل شرط الوجوب يصحُّ.

إذن تقديم الكفارة قبل الحَلِف لا يصحُّ، وبعد الحلف وقبل أن يَحْنَث في يمينه يصحُّ.

تعدُّد الأيمان وتداخُلها

قال:

ومَن حَنِثَ ولو في ألف يمينٍ بالله تعالى، ولم يُكفِّر، فكفارةٌ واحدةٌ.

هنا انتقل المؤلف للكلام عن مسألة تعدُّد الأيمان وتداخُلها، ولذلك ثلاث حالاتٍ:

  • الحالة الأولى: أن تتعدَّد اليمين والمحلوف عليه واحدٌ، كأن يقول: والله لا أَلْبَسُ هذا الثوب، والله لا أَلْبَسُ هذا الثوب، والله لا أَلْبَسُ هذا الثوب. فهنا تُجْزِئه كفارةٌ واحدةٌ عند الحِنْث.
  • الحالة الثانية: أن تكون اليمين واحدةً، والمحلوف عليه مُتعدِّدًا، يعني: لا يقول: "والله" إلا مرةً واحدةً، لكن المحلوف عليه مُتعددٌ، كأن يقول: والله لا أذهب لفلانٍ، ولا أدخل بيته، ولا أُكلِّمه، ولا آكل طعامَه ولا .. ولا ..، فهنا فيه كفارةٌ واحدةٌ فقط.
  • الحالة الثالثة: أن تتعدَّد الأيمان، ويتعدَّد المحلوف عليه، كأن يقول: والله لا أكلتُ، والله لا شربتُ، والله لا أخذتُ، والله لا أعطيتُ. هل تُجْزِئه يمينٌ واحدةٌ عند الحِنْث أو تتعدَّد الأيمان بتعدُّد المحلوف عليه؟
    قولان للفقهاء:

    • القول الأول: أن عليه كفارةً واحدةً.
      وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو من المُفردات.
      قالوا: لأنها كفارات من جنسٍ واحدٍ، فتداخلتْ كالحدود، كما لو زنى، ثم زنى، ثم زنى قبل إقامة الحدِّ عليه، لا يُقام عليه إلا حدٌّ واحدٌ.
    • القول الثاني -وهو قول الجمهور-: أن لكل يمينٍ كفارةً وحدها.
      هذا هو القول الراجح، وذهب إليه الحنفية والمالكية والشافعية وروايةٌ عند الحنابلة.
      قالوا: لأنها أيمانٌ مُتعددةٌ، وكل يمينٍ مُستقلةٌ عن اليمين الأخرى، وكما أنه لا يَحْنَث في واحدةٍ بالحِنْث في الأخرى، فلا تُكفَّر واحدةٌ بتكفير الأخرى؛ ولعموم قول الله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89].
      وهذا هو القول الراجح: أنه عند تعدد المحلوف عليه وتعدد الأيمان؛ أن لكل يمينٍ كفارةً.
      قول الجمهور هو القول الراجح في هذه المسألة.

طيب، هنا ذُكِرَ في "السلسبيل" تنبيهٌ على أن الحِنْث بالكفارة يكون على الحالف، سواء حَلَفَ على فعله أو على فعل غيره.

بعض العامة يعتقد أن الإنسان إذا حَلَفَ على فعل غيره أنه لا تجب عليه كفارةٌ عند الحِنْث.

هذا غير صحيحٍ، الكفارة تجب على الإنسان سواءٌ حَلَفَ على فعله، أو حَلَفَ على فعل غيره.

فلو قال لصاحبه: والله لا تفعل كذا. فَفَعَلَه؛ فعليه كفارةٌ.

أو قال: والله لتفعلنَّ كذا. ولم يفعله؛ فعليه كفارةٌ، لكن يُستحبُّ إبرار المُقْسِم، يعني: بأن تَبَرَّ يمينه.

يعني: إنسانٌ حَلَفَ عليك: والله ما تفعل كذا. يعني: ينبغي أنك ما تفعله، هذا يُسمَّى: إبرار المُقْسِم؛ لحديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنهما قال: أَمَرَنا رسول الله بسبعٍ. وذكر منها: إبرار المُقْسِم [18].

مَن حَلَفَ عليك ينبغي أن تَبَرَّ يمينه، والنبي يقول: مَن حُلِفَ له بالله فَلْيَرْضَ [19]، فهو من حقِّ المسلم على المسلم، لكن ذلك لا يجب.

يعني: لو حَلَفَ عليك ورأيتَ أنك ما تستجيب له يجوز لك ذلك، ولا تأثم، وليس عليك شيءٌ، ويدل على ذلك فعل النبي حين قال له أبو بكرٍ: "فواللهِ لَتُحَدِّثني بالذي أخطأتُ" يعني: في تعبير الرؤيا، فقد حَلَفَ على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تُقْسِم، ولم يَبَرَّ يمينه؛ لأن النبي رأى المصلحة في ذلك، فدلَّ ذلك على أن إبرار المُقْسِم مُستحبٌّ، وليس واجبًا.

بقي معنا "باب: جامع الأيمان"، وهو بابٌ طويلٌ، وأيضًا "باب: النَّذْر"، ثم ننتهي وننتقل لـ"كتاب: القضاء"، فنُؤجِّل "جامع الأيمان" مع "النَّذْر" إلى الدرس القادم، إن شاء الله.

^1 رواه مسلم: 2699.
^2 رواه الترمذي: 1535 وقال: حسنٌ.
^3 رواه البخاري: 2679، ومسلم: 1646.
^4 رواه ابن ماجه: 2043.
^5 رواه البخاري: 6675.
^6 رواه البخاري: 6920.
^7 رواه البخاري: 6625، ومسلم: 1655.
^8 رواه البخاري: 6623، ومسلم: 1649.
^9 رواه البخاري: 2731.
^10 رواه أبو داود: 3261، والترمذي: 1531 وقال: حسنٌ، والنسائي: 3828.
^11 رواه البخاري: 6720، ومسلم: 1654.
^12 رواه البخاري: 1833، ومسلم: 1353.
^13 رواه البيهقي في "السنن الكبرى": 19838.
^14 رواه البخاري: 6047، ومسلم: 110.
^15 رواه البخاري: 7046، ومسلم: 2269.
^16 رواه البخاري: 6722.
^17 رواه البخاري: 6622، ومسلم: 1652.
^18 رواه البخاري: 2445، ومسلم: 2066.
^19 رواه ابن ماجه: 2101.
zh