عناصر المادة
ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل”، ولا زلنا في كتاب الطلاق، وصلنا إلى كنايات الطلاق.
الطلاق له صريحٌ، وكنايةٌ، تكلمنا عن الصريح في الأسبوع الماضي، وننتقل بعد ذلك للكلام عن كنايات الطلاق، ثم بعد ذلك ما يختلف به عدد الطلاق، ثم بعد ذلك تبعيض الطلاق، ومسائل يندر وقوعها؛ ولذلك لن نفصِّل فيها كثيرًا، وإنما سنشرح عبارة المؤلف مع الاشارة باختصارٍ لما فيه خلافٌ، لكن الفقهاء يذكرونها حتى إذا وقعت؛ يكون طالب العلم على درايةٍ بها؛ مثلًا: لو طلق ظُفر زوجته، أو نصف زوجته، أو نصف طلقةٍ، ونحو ذلك، هذه مسائل نادرة الوقوع، ما سمعنا يومًا من الأيام أن أحدًا طلق ظفر زوجته أو شعر زوجته، أو قال: ربع طلقةٍ أو نصف طلقةٍ، لكن هذه مسائل نادرة الوقوع يذكرها الفقهاء؛ لذلك لن نتوسع فيها، وإنما سنذكرها بشيءٍ من الإجمال والاختصار، أما المسائل العملية التي يكثر السؤال عنها، ويَحتاج إليها طالب العلم، هذه -إن شاء الله- هي التي سنفصِّل فيها، وهذا هو منهج السلف، السلف الصالح كانوا إذا سأل السائل عن مسألةٍ؛ قالوا: هل وقعت؟ فإن وقعت؛ وإلا قالوا: حتى تقع.
كناية الطلاق
حسنًا، ننتقل إذنْ إلى كناية الطلاق:
قال:
وكنايته لا بد فيها من نية الطلاق.
“كنايات الطلاق”: هي الألفاظ التي تدل على معنى الطلاق مع احتمال غيره، يعني: يأتي بلفظٍ يحتمل معنى الطلاق ويحتمل معنى غير الطلاق؛ مثل أن يقول: الْحَقي بأهلك، يحتمل أنه يريد الطلاق فيقع طلاقًا، ويحتمل أنه لا يريد الطلاق فلا يقع؛ ولهذا كعب بن مالكٍ في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا لما أمره النبي بأن يعتزل زوجته؛ قال لزوجته: الْحَقي بأهلك [1]، ولم يُرِد طلاقًا، فلم يقع طلاقًا.
أقسام كناية الطلاق
قسَّم الفقهاء الكناية إلى قسمين:
ظاهرةٍ وخفيةٍ.
والظاهرة: كل لفظٍ احتمل الفراق على وجه البينونة، فهي ألفاظٌ موضوعةٌ للبينونة، سميت ظاهرةً؛ لأن معنى الطلاق فيها أظهر.
أما الخفية: فهي الألفاظ الموضوعة لطلقةٍ واحدةٍ.
قال:
فالظاهرة:
يعني: الألفاظ الموضوعة للبينونة.
يقع بها الثلاث.
حتى ولو نواها واحدةً على المذهب.
أما الخفية: يقع بها واحدةً.
ولا يقع أكثر من واحدةٍ إلا إذا نوى.
ألفاظ الكنايات الظاهرة
ثم ذكر المؤلف الألفاظ أو الكنايات الظاهرة، وظاهر كلام المؤلف أنها على سبيل الحصر، والصحيح: أن الكنايات لا تنحصر، وحتى الألفاظ الصريحة لا تنحصر، فحَصَرَها المؤلف في خمسة عشرة جملةً، وهي:
قال:
أنتِ خليَّةٌ.
“خليةٌ” يعني: خاليةٌ من الزوج.
وبَرِيَّةٌ.
“بريةٌ” يعني: بريئةٌ من الزوج.
وبائنٌ.
“بائن” من البين: وهو الفراق والانفصال عن الزوج.
وبَتَّةٌ.
“بَتَّةٌ” من البَت: وهو القطع، يعني: مقطوعةٌ عن الزوج.
وبَتْلَةٌ.
“بتلةٌ” كذلك بمعنًى قريبٍ من معنى “بتةٍ”، يعني: من قطع الوصل؛ ولذلك كانت مريم عليها السلام تسمى “البتول”؛ لأنها منقطعةٌ عن النكاح.
وأنت حرةٌ.
حرةٌ: يعني هذه من الكنايات أيضًا الظاهرة، يعني: لا حبس عليك بالنكاح.
وأنت الحَرَجُ.
الحرج: يعني الحرام والإثم، وبعض الناس قد يريد بذلك الطلاق.
وحبلك على غاربك.
يعني: خليت سبيلك، فأنت لست ممسَكةً بعقد النكاح.
وتزوجي من شئت.
يعني: طلَّقتك، فلكِ أن تختاري زوجًا بعدي حسب ما تشائين.
وحللتِ للأزواج.
يعني: طلَّقتك فأصبحتِ حلالًا للأزواج، تتزوجين من شئتِ.
ولا سبيل لي عليك، أو لا سلطان.
يعني: طلقتك فلا سبيل لي عليك.
قالوا: فهذه الألفاظ الخمسة عشر هي ألفاظ الطلاق الكنائية الظاهرة.
وكذلك أيضًا:
وأعتقتك.
يعني: هو كقوله: وأنت حرةٌ.
وغطي شعرك وتقنعي.
أما الخفية:
ألفاظ الكنايات الخفية
فأيضًا ذكر المؤلف عدة ألفاظٍ:
اخرجي، واذهبي.
“اخرجي”: اخرجي من البيت، يحتمل أن يريد طلاقًا؛ فيقع طلاقًا، ويحتمل ألا يريد؛ فلا يقع، أو “اذهبي”؛ هذه كنايةٌ خفيةٌ.
أو ذوقي، أو تجرعي.
يعني: ذوقي مرارة الطلاق، تجرعي مرارة الطلاق.
أو خلَّيتك، أو أنت مُخلَّاةٌ، وأنت واحدةٌ.
يعني: واحدةٌ من المطلقات.
ولست لي بامرأةٍ.
هذه يكثر وقوعها: “لست لي بامرأةٍ”، هذه يكثر وقوعها، يقول الرجل لزوجته: لست لي بامرأةٍ، هل يقع بها الطلاق؟
إن اقترن بذلك النية، نوى الطلاق؛ يقع، وإن لم ينوِ؛ لا يقع.
واعتَدِّي.
يعني: اعتَدِّي بعد طلاقي لكِ.
واستبرئي.
من استبراء الرحم.
واعتزلي.
يعني: لأني طلقتكِ فاعتزلي، وكوني وحيدةً بعيدةً عني.
والْحقي بأهلك.
هذه التي ذكرناها قبل قليلٍ، وقلنا: إنها قالها كعب بن مالكٍ لامرأته، فإن نوى بها طلاقًا؛ وقع، وإن لم ينوِ بها طلاقًا؛ لم يقع.
وأيضًا هذا جاء في ابنة الجَوْن، ابنة الجون كانت امرأةً جميلةً، فغار منها بعض زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، فقلن لها: إذا جاءك النبي عليه الصلاة والسلام فقولي: أعوذ بالله منك، الله أعلم هل هذا يصح عن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن غيرهن قال ذلك؟ المهم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل عليها قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد عذتِ بعظيمٍ، الْحقي بأهلك [2]، فندمت ندمًا عظيمًا على هذا الذي حصل منها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: كيف تقول للنبي عليه الصلاة والسلام أعوذ بالله منك؟! هذه كلمةٌ عظيمةٌ في حق النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا طلقها عليه الصلاة والسلام مباشرةً.
هل غُرِّر بها؟ الله أعلم، قيل: إنه غُرِّر بها، وقيل: إنه وقع منها ذلك، لكن بكل حالٍ: هذه الكلمة العظيمة لا تقال بحق النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال: لما قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد عذتِ بعظيمٍ، الحقي بأهلك.
ولا حاجة لي فيكِ، وما بقي شيءٌ.
هذا أيضًا من ألفاظ الكناية، هذا أيضًا يحصل من بعض العامة، يقول: ما بقي شيءٌ، أو يقول: الذي بيني وبينكِ انتهى، هذا من كنايات الطلاق، إن نوى الطلاق؛ وقع الطلاق، وإلا فلا، وأغناكِ الله، يعني: أغناك الله عني بالطلاق، هذه أيضًا من كنايات الطلاق.
وإن الله قد طلقكِ، أو قد أراحكِ مني.
هذه أيضًا من كنايات الطلاق، إن نوى طلاقًا؛ وقع، وإلا فلا.
وجرى القلم.
يعني: جرى القلم بطلاقك.
وقوع الطلاق بألفاظ الكناية
فهذه كنايات الطلاق.
والمؤلف قسمها إلى ظاهرةٍ وخفيةٍ.
والقول الثاني: أن هذه الألفاظ وما كان في معناها لا يقع بها الطلاق إلا بالنية.
والكنايات الظاهرة الأمر على ما نوى؛ إن نوى؛ وقع، وإن لم ينوِ؛ لم يقع، إن نوى واحدةً؛ وقع واحدةً، وإن نوى أكثر؛ وقع أكثر، وهكذا أيضًا الكنايات الخفية.
فالقول الثاني يقولون: إن كنايات الطلاق تقع بحسب نية الزوج، بغض النظر عن كونها ظاهرةً أو خفيةً، واحدةً أو أكثر؛ بحسب نيته.
واستدلوا لذلك بقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى [3].
وجاء في قصة رُكانة: أنه لما طلق امرأته البتَّة فأخبر النبي بذلك فقال: والله ما أردت إلا واحدةً؟، قال: والله ما أردت إلا واحدةً، فردها عليه النبي ، وطلق الطلقة الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان [4]، وفي سند القصة مقالٌ، وأيضًا في قصة ابنة الجَوْن قال: الْحقي بأهلك [5]، فجعل النبي عليه السلام طلاقها بهذا اللفظ.
فإذنْ القول الراجح: هو القول الثاني، وهو أن كنايات الطلاق تكون بحسب نية الزوج، من غير تفريقٍ بين الكنايات الظاهرة والخفية.
وأما بالنسبة لوقوعها طلقةً أو أكثر أيضًا بحسب نيته: إن نوى واحدةً؛ تكون واحدةً، وإن نوى أكثر؛ تقع بحسب نيته.
طيب، إذا قال: أمرك بيدكِ، أو طلقي نفسك، فهل هذا من كنايات الطلاق؟
هذا رجلٌ امرأته طلبت منه الطلاق، قال: أمرك بيدك، أو طلقي نفسك، نعم، هذا توكيلٌ من الزوج لزوجته في تطليق نفسها، ويجوز للزوج أن يوكِّل زوجته في تطليق نفسها -كما مر معنا في درس سابق– ويستمر هذا الحق لها ما لم يَفسخ الوكالة.
قال:
ولا تُشترط النية في حال الخصومة والغضب، وإذا سألته طلاقها.
يعني: لا تُشترط النية في ألفاظ الكناية حكمًا، يعني: عند القضاء في حال الخصومة والغضب.
وإذا سألته أن يطلقها، فأجاب بلفظٍ من ألفاظ كناية الطلاق اكتفاءً بدلالة الحال؛ ففي هذه الأحوال -في حال الخصومة، وفي حال الغضب، وإذا سألت الطلاق- يقولون: لا تُشترط النية.
فلو قال في هذه الحالة: لم أرد الطلاق؛ دُيِّن، ولم يُقبل حُكمًا.
“دُيِّن” يعني: فيما بينه وبين الله، ولم يُقبل حُكمًا أمام القضاء؛ فمثلًا رجلٌ قال لامرأته في حال الغضب: الْحقي بأهلك، فرفعت عليه قضيةً عند المحكمة أنه طلقها، فالقاضي يحكم بطلاقها، فإن قال: إني ما نويت الطلاق، نقول: أمام القضاء يحكم بالظاهر، لكن فيما بينك وبين الله تُدَيَّن، يدين فيما بينه وبين الله.
قال: “دُيِّن ولم يُقبل حُكمًا”، يعني: لماذا فرَّقنا بين كونه يُدَيَّن، ولم يقبل حكمًا؟
لم يقبل حكمًا إذا تعلق بطرفٍ آخر، والطرف الآخر لم يسلِّم له، قال لزوجته: الْحقي بأهلك، فادعت أنه طلقها، ورُفع الأمر للمحكمة، فإن القاضي يحكم بطلاقها؛ لأن هذا وقع في حال خصومةٍ وفي حال غضبٍ.
لكن لو أن المرأة لم ترفع عليه قضيةً، وقال: أنا ما أردت بقولي: الْحقي بأهلك، لم أرد الطلاق؛ فلا يقع طلاقًا، فإذنْ يفرَّق بين ما يُديَّن فيه الإنسان، وبين ما يُقبل حكمًا، ما يقبل حكمًا يعني: أمام القضاء، ويُديَّن فيما بينه وبين الله.
باب ما يختلف فيه عَدد الطلاق
ثم قال المصنف رحمه الله:
باب ما يَختلف فيه عَدد الطلاق
يملك الحر والمبعَّض ثلاث طلقاتٍ.
الحر يملك ثلاث تطليقات بالإجماع؛ لقول الله تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[البقرة:229]، ثم قال بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَهَا، يعني: الثالثة، فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
فالحر له ثلاث تطليقاتٍ بالإجماع، وهكذا المبعَّض، يعني: مَن بعضُه حُرٌّ وبعضه عبدٌ.
والعبد طلقتين.
العبد، الأصل: أن العبد على النصف من الحر؛ كما قال الله : فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ -يعني من الحرائر- مِنَ الْعَذَابِ.
فالأصل: أن العبيد على النصف من الأحرار، لكن ثلاث طلقاتٍ، لو قلنا: على النصف، كم تكون؟ طلقةً ونصفًا، والطلاق لا يتبعَّض، فجُبِر هذا النصف؛ فلذلك قيل: للعبد تطليقتان، له طلقتان، وقد جاء في هذا في حديثٍ مرفوعٍ إلى النبي : طلاق العبد تطليقتان، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره [6]، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، ولكن -كما ذكر الترمذي- العمل عليه عند أهل العلم، ورُوي ذلك عن عددٍ من الصحابة، فالحر إذنْ يملك ثلاث تطليقاتٍ، والعبد طلقتين.
الطلاق البائن
ويقع الطلاق بائنًا.
“بائنًا”: البينونة تنقسم إلى قسمين: بينونةٍ كبرى، وبينونةٍ صغرى، وقد ذكر المؤلف هذين القسمين جميعًا، لكن قبل أن نذكر كلام المؤلف في الأربع المسائل، البينونة الكبرى معناها: أن يطلقها ثلاثًا فتبين منه بينونةً كبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، البينونة الصغرى: تبين منه، لكن تحل له بعقدٍ ومهرٍ جديدٍ، تحل له بعقدٍ ومهرٍ جديدٍ.
فمتى تكون البينونة كبرى، ومتى تكون البينونة صغرى؟ وعندنا طبعًا الرجعية، الرجعية: لو طلقها طلقةً أو طلقتين؛ هذه رجعيةٌ، وسيأتي الكلام عن أحكام الرجعة -إن شاء الله- في الدرس القادم.
إذنْ عندنا ثلاثة أمورٍ: رجعيةٌ، وبائنةٌ بينونةً صغرى، وبائنةٌ بينونةً كبرى، لا بد لطالب العلم أن يفهم ويضبط هذه المصطلحات.
رجعيةٌ: هي المطلقة طلقةً واحدةً أو طلقتين، هذه ما دامت في العدة؛ فزوجها له الحق في مراجعتها بغير إذنها، أو بغير رضاها.
بائنةٌ بينونةً كبرى، يعني: طلقها ثلاث طلقاتٍ، لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
بائنةٌ بينونةً صغرى: هي التي لها عدة صورٍ؛ كأن تكون مختلعةً مثلًا، هذه تبِين بينونةً صغرى، مطلقةً طلاقًا رجعيًّا، لكنه لم يُراجعها في العدة، خرجت من العدة، تكون بائنةً بينونةً صغرى.
مسائل الطلاق البائن
المؤلف ذكر هذه المسائل، قال:
ويقع الطلاق بائنًا في أربع مسائل:
المسائل الثلاث الأولى: بينونةٌ صغرى.
والمسألة الرابعة: بينونةٌ كبرى.
المسألة الأولى قال:
إذا كان على عوضٍ.
والطلاق الذي على عوضٍ يسمى ماذا؟ خلعًا، يعني: إذا كان خلعًا؛ فالخلع تبِين به المرأة بينونةً صغرى بالإجماع.
المسألة الثانية من مسائل البينونة الصغرى:
أو قبل الدخول.
أو قبل الدخول، وذلك لأن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها، وإذا كان لا عدة عليها؛ فإنها تبِين بالطلاق مباشرةً؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
رجلٌ عقد على امرأةٍ ثم طلقها؛ بانت منه مباشرةً، لو أراد أن يُرجعها؛ لا بد أن يرجعها بعقدٍ ومهرٍ جديدٍ ورضاها.
الصورة الثالثة من صور البينونة الصغرى:
أو في نكاحٍ فاسدٍ.
يعني: إذا كان الطلاق في نكاحٍ فاسدٍ؛ فتبِين بينونةً صغرى؛ لأنها إذا لم تحل بالنكاح الفاسد لعدم صحته؛ فلا تحل بالرجعة فيه.
الصورة الرابعة: وهي من صور البينونة الكبرى:
أو بالثلاث.
يعني: طلق زوجته ثلاًثا فتبِين منه بينونةً كبرى، هذا رجلٌ طلق زوجته وبقيت عنده في البيت حتى أكملت عدتها، ثلاثة قروءٍ، ثم بعد انقضاء العدة أراد أن يرجعها، فهل له ذلك؟ وهل بانت منه؟ بانت منه بينونةً صغرى، له ذلك لكن بشرط رضاها، وبعقدٍ ومهرٍ جديدٍ، كأنه يريد أن يتزوجها من جديدٍ.
لكن لو كان في أثناء العدة؛ يرجعها من غير رضاها، أما إذا انتهت العدة؛ فقد بانت منه، لكن بينونةً صغرى، وهكذا المختلعة أيضًا تبِين بينونةً صغرى، وهكذا أيضًا المطلقة في نكاحٍ فاسدٍ.
أما المطلقة ثلاثًا فهذه هي التي تبِين بينونةً كبرى.
ألفاظ الطلاق المركبة من صريحٍ وكنايةٍ
قال:
ويقع ثلاثًا إذا قال: أنت طالقٌ بلا رجعةٍ، أو البتة، أو بائنًا.
سبق في الدرس السابق أن ذكرنا صور الطلاق، وقلنا: إما أن يكون بكلمةٍ واحدةٍ؛ مثل: أنت طالقٌ بالثلاث، أو يكون بعدة كلماتٍ: طالقٌ، ثم طالقٌ، ثم طالقٌ، ذكرنا هذه الصور في الدرس السابق، لكن هذه الصورة التي ذكرها المؤلف هنا، هذه مركبةٌ، صورةٌ مركبةٌ من صريحٍ وكنايةٍ، أنت طالقٌ: هذا صريحٌ.
“بلا رجعةٍ أو البتة أو بائنًا”، إذا قال: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ بلا رجعةٍ، سبق أن ذكرنا أن طلاق الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ يعتبر طلقةً واحدةً، لو قال: طالقٌ بالثلاث، أو أنت طالقٌ ثلاثًا، ذكرنا أنه يقع طلقةً واحدةً.
فكذلك أيضًا هنا لا يمكن أن نعتبرها ثلاثًا، إذا قال: أنت طالقٌ بلا رجعةٍ أو البتة أو بائنًا؛ لا يمكن أن نعتبرها ثلاثًا إذا كنا لا نعتبر بالثلاث، أنت طالقٌ بالثلاث، لا نعتبرها ثلاثًا؛ فمن باب أولى أننا لا نعتبر أيضًا هذه ثلاثًا.
لكن يرد إشكالٌ آخر:
وهو كيف لا نعتبرها ثلاثًا وهو قد أتى باللفظ الصريح؟! قال: أنت طالقٌ بلا رجعةٍ، فكيف لا نعتبرها ثلاثًا؟! فالمذهب عند الحنابلة: أنه يقع ثلاثًا إذا أتى بهذا اللفظ، والقول الثاني: أنها مركبةٌ من صريحٍ وكنايةٍ، فهو صريحٌ في طلقةٍ واحدةٍ وكنايةٍ فيما زاد على ذلك.
فنقول: إذا قال: أنت طالقٌ بلا رجعةٍ؛ يقع طلقةً واحدةً، إلا إذا نوى ثلاث طلقاتٍ فيقع ثلاث طلقاتٍ، هذا اختيار ابن تيمية رحمه الله وجمعٍ من المحققين من أهل العلم.
فهذا اللفظ إذنْ مركبٌ من صريحٍ وكنايةٍ، من صريحٍ وكنايةٍ، يقول: أنت طالقٌ بلا رجعةٍ، أو أنت طالقٌ البتة، أو أنت طالقٌ البتلة؛ فإذنْ بعض الألفاظ يجتمع فيها الصريح والكناية، فـ: أنت طالقٌ، هذا تقع به واحدةً، أما ما زاد على ذلك: بلا رجعةٍ، أو بتةً، أو بتلةً، أو نحو ذلك؛ هذه كنايةٌ يُرجع فيها لنيته؛ فإن نوى ثلاثًا؛ وقع ثلاثًا، وإن نوى واحدةً؛ وقع واحدةً؛ هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
قال:
وإن قال: أنت الطلاق، أو أنت طالقٌ؛ وقع واحدةً، وإن نوى ثلاثًا؛ وقع ما نواه.
إذا قال: أنت الطلاق، أو أنت طالقٌ، الأصل أنه يقع واحدةً، لكن يقول المؤلف: إنه إن نوى ثلاثًا؛ وقع ثلاثًا؛ لأنه إذا قال: أنت الطلاق، يعني كأنه قال: أنت الطلاق كله، وأنت طالقٌ، يحتمل أنه يقصد الثلاث، فعلى المذهب: أنه يقع ثلاثًا.
والقول الثاني: أنه يقع به طلقةً واحدةً؛ لأنه إذا رجحنا أنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث؛ يقع واحدةً، فهذه الصورة من باب أولى.
قال:
ويقع ثلاثًا إذا قال: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثره أو جميعه، أو عدد الحصى، ونحوه، أو قال لها: يا مئة طالقٍ.
هذه على المذهب تقع ثلاثًا، والقول الراجح أنها تقع واحدةً؛ تخريجًا على مسألة ما إذا قال: أنت طالقٌ بالثلاث.
تذكرون في الدرس السابق ذكرنا خلاف العلماء فيما لو قال: أنت طالقٌ بالثلاث، وقلنا: إن القول الذي عليه كثيرٌ من المحققين منه أهل العلم أنها واحدةٌ؛ لحديث ابن عباسٍ كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكرٍ وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدةً -يعني: إذا كان مجموعًا بكلمةٍ واحدةٍ- فقال عمر: “إن الناس قد تعجلوا في أمرٍ كانت لهم في أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم”، فأمضاه عليهم [7].
والحق ما كان عليه الأمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكرٍ.
وأيضًا قلنا: إن هذا هو مدلول لغات العرب: الكلمات المجموعة تقتضي أنها واحدةٌ، وإلا لو قلنا: لا، إنها تقتضي بعددها، لما كان هناك داعٍ أن الإنسان إذا صلى يكرر: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين، يقول: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين، ويكفي، لكن التكرار له مدلولٌ في لغة العرب، العرب لا تعتبر هذا إلا واحدةً، فقلنا إذنْ: إذا قال: أنت طالقٌ بالثلاث، واحدةٌ على قول الراجح؛ هكذا أيضًا في هذه المسائل، القول الراجح: أنها واحدةٌ، لو قال: طالقٌ كل الطلاق، أو أكثره أو جميعه، أو عدد الحصى، أو عدد النجوم، أو عدد الكواكب، أو عدد البشر، أو نحو ذلك؛ لا يقع إلا واحدةً.
وإن قال: أنت طالقٌ أشد الطلاق، أو أغلظه أو أطوله، أو ملء الدنيا، أو مثل الجبل، أو على سائر المذاهب؛ وقع واحدةً ما لم ينوِ أكثر.
هذا يؤكد رجحان ما ذكرنا من أن هذه الصور كلها لا يقع فيها إلا واحدةٌ؛ لأن الطلقة الواحدة -حتى على المذهب يقولون- يصح أن توصف بأنها ملء الدنيا، أو مثل الجبل، أو أشد الطلاق أو أغلظه، أو نحو ذلك.
إذنْ هذه الكلمات كلها لا يقع بها إلا واحدةٌ، إلا إذا قال: أنت طالقٌ، ثم طالقٌ، ثم طالقٌ، أو: طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، ونوى ثلاثًا، هنا تقع ثلاثًا.
ما عدا ذلك لا يقع إلا واحدةً، هذا هو القول الراجح، وهذا هو الذي عليه الفتوى.
مداخلة:…
الشيخ: سبق أن ذكرنا هذا، إن كانت لا تحيض: ثلاثة أشهرٍ، وسيأتينا أيضًا تفصيلٌ لهذا في باب العدة: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].
الطلاق لا يتبعض
ثم قال المصنف رحمه الله:
فصلٌ
والطلاق لا يتبعَّض بل جزء الطلقة كَهِيَ.
هذا يصلح أن يكون ضابطًا في هذا الباب: وهو أن الطلاق لا يتبعض، فلو طلق زوجته نصف طلقةٍ أو ربع طلقةٍ أو ثلث طلقةٍ؛ يقع طلقةً كاملةً، ولذلك قال: “بل جزء الطلقة كهي”، في قول عامة أهل العلم.
وإن طلق بعض زوجته؛ طَلُقت كلها.
لو أن التبعيض كان للزوجة، قال: نصفك طالقٌ، أو ربعك طالقٌ؛ فتَطلُق كلها حتى لو كان على سبيل المزاح، رجلٌ أراد أن يمازح زوجته، قال: ربعك طالقٌ، ما الحكم؟
تقع طلقةً، تقع، الطلاق ليس مادةً للهزل: ثلاثةٌ جِدُّهن جِدٌّ، وهزلهن جِدٌّ..، وذكر منها: الطلاق [8]، يمازحها بأمرٍ غير الطلاق، أما أن يمازحها بالطلاق؛ يقع طلاقًا.
مداخلة:…
الشيخ: يترتب عليه أن تبقى في بيت زوجها حتى تنقضي عدتها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا في حالةٍ واحدةٍ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، يجب أن تبقى في بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، والحكمة ذكرها الله في آخر الآية: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
ثم قال:
وإن طلَّق منها جزءًا لا ينفصل؛ كيدها ورجلها وأُذنها وأنفها؛ طَلُقت، وإن طلق جزءًا ينفصل؛ كشعرها وظفرها وسنها؛ لم تطلق.
يعني: هذه مسائل نادرة الوقوع، يقول: إن طلق جزءًا لا ينفصل؛ فإنها تطلق، وإن طلق جزءًا ينفصل فإنها لا تطلق، ومثل الجزء الذي لا ينفصل مثل: اليد والرجل ونحو ذلك، والمنفصل مثل: الشعر والظفر، وهذه مسائل نادرة الوقوع.
ثم قال المصنف رحمه الله:
وإذا قال: أنت طالقٌ، لا بل أنت طالقٌ؛ فواحدةٌ.
يعني: قال: أنت طالقٌ ثم نفى، قال: لا بل أنت طالقٌ، فيقع واحدةً؛ لأنه صرَّح بنفي الأولى.
صور الطلاق
وإن قال: أنت طالقٌ طالقٌ طالقٌ؛ فواحدةٌ، ما لم ينوِ أكثر.
هذه سبق أن تكلمنا عنها في الدرس السابق، وقلنا: بحسب نيته؛ إن نوى تأكيدًا أو إفهامًا؛ وقعت واحدةً، وإن نوى ثلاثًا؛ وقعت ثلاثًا، حسنًا إذا لم ينوِ شيئًا؟ إذا لم ينوِ شيئًا، بعض العامة تقول: ماذا نويت؟ يقول: ما أدري ما نويت، لا أتذكر، أو ما أعرف، فنقول: الأصل أنه يقع واحدةً؛ لأن هذا هو المتيقَّن، وما زاد على ذلك فمشكوكٌ فيه، والأصل استمرار النكاح.
قال:
وأنت طالقٌ، أنت طالقٌ، وقع ثنتان، إلا أن ينوي تأكيدًا متصلًا أو إفهامًا.
لو قال: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، تقع طلقتين إذا نوى ثنتين، أما إذا نوى تأكيدًا أو إفهامًا؛ وقعت واحدة، وهذا بالنسبة للمدخول بها.
أما غير المدخول بها فتبِين بالأولى، فيكون قوله: أنت طالقٌ، الثانية في غير محلها، فلا تقع لم تصادف محلًّا.
وأنت طالقٌ فطالقٌ أو ثم طالقٌ؛ فثنتان في المدخول بها، وتبِين غيرها بالأولى.
لو قال: أنت طالقٌ فطالقٌ، أو طالقٌ ثم طالقٌ؛ فتكون ثنتين، ولو جعلها ثلاثًا؛ تكون ثلاثًا.
قال:
وتبِين غيرها بالأولى.
يعني: غير المدخول بها تبِين بالأولى، حسنًا، هذا رجلٌ دخل بامرأته وقال لها: أنت طالقٌ ثم طالقٌ ثم طالقٌ، تقع كم طلقةً؟ ثلاثٌ.
حسنًا، قال لها: أنت طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ، كم؟ ثلاثٌ.
حسنًا، امرأةٌ غير مدخولٍ بها، عقد عليها وقال لها: أنت طالقٌ ثم طالقٌ ثم طالقٌ، تقع واحدةً؛ لأنه لما قال: أنت طالقٌ، بانت منه، فقوله: ثم طالقٌ ثم طالقٌ، لم تصادف محلًّا، فلا تقع إلا واحدةً، وهكذا لو قال لها: أنت طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ.
قال:
وأنت طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، فثلاثٌ معًا، ولو غير مدخولٍ بها.
لو قال: أنت طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، لِمدخولٍ بها؛ وقع ثلاثًا، لكن لو قال لغير مدخولٍ بها: طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، المؤلف يقول: إنها ثلاثٌ، لكن قوله: “ولو”، إشارةٌ للخلاف القوي في المذهب، والقول الثاني: إن غير المدخول بها تبِين بالأولى، وهذا هو القول الراجح، إذا قال أصلًا: أنت طالقٌ، بانت منه.
فقوله: وطالقٌ وطالقٌ، هذا يصادف غير محلٍّ؛ فلا يقع شيئًا، فتكون لغوًا.
فهذه صور الطلاق، ينبغي أن يحرص طالب العلم على ضبطها، وسبق أن ذكرنا أصولًا وضوابط في الدرس السابق، فينبغي أن تُضبط هذه الضوابط في الطلاق، وتُضبط أصول الصور التي تُرَدُّ لها بقية الصور، هذه ذكرناها في الدرس السابق، كل هذا الكلام الذي ذكره المؤلف ذكرناه في الضوابط التي أشرنا لها في الدرس السابق، فهذه الضوابط ينبغي لطالب العلم أن يحفظها وأن يضبطها وأن يفهمها جيدًا؛ لأن جميع صور الطلاق تُرَدُّ لهذه الضوابط.
الاستثناء في المطلَّقات والطَلَقات
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لأحكام الاستثناء، وهذا الفصل مرتبطٌ بالاستثناء الذي يتكلم عنه الأصوليون في كتب أصول الفقه، وهذا يدل على الارتباط القوي بين الفقه وأصول الفقه، ولذلك لا يمكن أن تَضبط الفقه إلا بضبط أصول الفقه، وينضم لذلك أيضًا الحديث؛ فهذه العلوم الثلاثة ينبغي أن تكون متوازيةً، ولا يمكن أن تتفقه التفقُّه الصحيح إلا إذا جمعت بين هذه العلوم الثلاثة: الفقه، وأصول الفقه، والحديث.
فهذا الاستثناء يذكره الأصوليون ويتكلمون عنه في كتب الأصول.
حكم الاستثناء في النصف فأقل
قال:
ويصح الاستثناء في النصف فأقل، من مطلَّقاتٍ وطَلَقاتٍ.
أولًا: الاستثناء من الثَّنْي: وهو الرجوع، ثنى الشيء، ثنى رأس البعير إذا عطفه إلى ورائه، فهو إخراج بعض الجملة بـ(إلا) أو ما يقوم مقامها من متكلمٍ واحدٍ.
هل يصح استثناء أكثر من النصف؟
أولًا استثناء النصف، استثناء النصف يصح، النصف فأقل يصح استثناؤه عند عامة أهل العلم، أما استثناء أكثر من النصف فعند الحنابلة لا يصح، ولهذا قال: “ويصح الاستثناء في النصف فأقل من مطلقات وطلقات”، فإذا كان الاستثناء للنصف فأقل؛ فيصح عندهم، أكثر من النصف؛ لا يصح، وعلى هذا؛ لو قال: أنت طالقٌٌ ثلاثًا إلا اثنتين؛ فعلى المذهب يصح هذا الاستثناء أو لا يصح؟ لا يصح لأنه أكثر من النصف؛ فيقع ثلاثًا.
وهذه المسألة الأصولية: وهي استثناء أكثر من النصف، أولًا لا خلاف بين العلماء في عدم صحة استثناء الكل، فلا يصح أن يقول عندي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم، هذا لغوٌ.
ثانيًا: لا خلاف بينهم في صحة استثناء النصف فأقل، وإنما الخلاف في صحة استثناء أكثر من النصف، فالمذهب عند الحنابلة: أنه لا يصح، وقالوا: إن أهل اللغة عدُّوا ذلك عِيًّا في الكلام، وقال ابن جنيٍّ: لو قال: مئة إلا تسعةً وتسعين، ما كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامه عِيًّا من الكلام ولُكْنةً”.
وذهب الجمهور إلى أنه يصح استثناء أكثر من النصف، قالوا: ما المانع من ذلك؟
وذكر هذا أيضًا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، والشافعي -كما قال ابن إسحاق- كلامه في اللغة حجةٌ؛ لأن الشافعي في أول أمره ذهب لقبيلة هُذيلٍ، وأخذ اللغة عنهم، يقولون: إنه لم يلحن قط، كان فصيحًا، وكما قال ابن إسحاق: إن كلامه حجةٌ، فالإمام الشافعي ذكر هذا، وأنه يصح استثناء أكثر من النصف.
واستدل الجمهور بقول الله تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، أيهم أكثر الآن؟ المخلصون أو الغاوون هنا؟ الغاوون، لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، والآية الأخرى، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، قالوا: فاستثنى كل واحدٍ منهما من الآخر، ولا بد أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، والأكثر هم الغاوون، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[الأنعام:116]، ومع ذلك استثناهم؛ فدل ذلك على صحة استثناء أكثر من النصف؛ قالوا: ولأن الرجل لو قال: لفلانٍ علي عشرةٌ إلا سبعةً؛ كان مُقرًّا له بثلاثةٍ عند عامة الفقهاء، وهذا هو القول الراجح، القول الراجح: هو قول الجمهور، وهو أنه يصح استثناء أكثر من النصف.
تظهر ثمرة الخلاف فيما لو قال رجلٌ لزوجته: أنت طالقٌ ثلاثًا إلا ثنتين، فعلى المذهب عند الحنابلة: تقع ثلاثًا، وعلى قول الجمهور: تقع واحدةً.
ثم فرَّع المؤلف على قولهم، قال:
فلو قال: أنت طالقٌ ثلاثًا إلا واحدةً؛ طلقت ثنتين، وأنت طالقٌ أربعًا إلا ثنتين؛ يقع ثنتان.
هذه متفرعةٌ على مذهب الحنابلة في أنه لا يصح استثناء أكثر من النصف.
قال:
ونسائي الأربع طوالق إلا ثنتين؛ طَلُق ثنتان.
لأنها نصف الأربع، وعندهم الاستثناء إذا كان نصفًا فأقل؛ يصح.
فإذنْ نخلُص من هذا إلى أنه يصح استثناء النصف وأقل من النصف وأكثر من النصف على القول الراجح، الذي لا يصح استثناؤه: الكل، ما عدا ذلك يصح.
هل يشترط الاتصال عند الاستثناء في الطلاق؟
ثم انتقل المؤلّف لمسألةٍ أخرى في الاستثناء: وهي اشتراط الاتصال، قال:
وشرطٌ في الاستثناء اتصال معتادٍ لفظًا أو حكمًا؛ كانقطاعه بعطاسٍ ونحوه.
يعني: هل يشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه؟
هذه مسألةٌ أصوليةٌ، وهذه أيضًا تفيدنا في مسائل أخرى، إذا حلف إنسانٌ فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث.
طيب، لو حلف ثم قال بعد مدةٍ: إن شاء الله، هل ينفعه ذلك أو لا ينفعه؟
هذه المسائل ترجع إلى مسألةٍ أصوليةٍ: وهي هل يشترط اتصال المستثنَى بالمستثنَى منه؟
لهم في ذلك قولان:
- القول الأول: أنه يشترط، هذا هو المذهب عند الحنابلة، وقال به جمهور الأصوليين، وعللوا لذلك؛ قالوا: إن غير المتصل يقتضي رفع ما وقع بالأول، والطلاق إذا وقع لا يمكن رفعه، بخلاف المتصل، فإن الاتصال يجعله جملةً واحدةً، فلا يقع الطلاق قبل تمامها، إلا أن يكون انقطاعه بنحو عطاسه ونحوه، يقولون: إن هذا لا يقطع الاتصال حكمًا.
- والقول الثاني: أنه يصح الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، لكن ما لم يَطُل الفصل عرفًا، وهذا هو القول الراجح، اختاره ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، واستدلوا لذلك بما جاء في “الصحيحين” أن النبي قال: إن الله حرم مكة فلم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أُحلت لي ساعةً من نهارٍ، ثم قال، وهذا موضع الشاهد: لا يُختلى خَلَاها، ولا يُعضد شجرها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا تُلتقط لُقَطتها إلا لمعرِّفٍ، فقام العباس وقال: يا رسول الله، إلا الإذْخِرَ [9]؛ فإنه لصاغتنا [10] وقبورنا، قال: إلا الإذْخِر [11].
والإذخر مستثنًى من ماذا؟ من قوله : لا يُختَلى خَلَاها، ولاحِظ أنه أتى بعده كلامٌ: لا يُختلى خَلَاها، ولا يُعضد شجرها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا تُلتقط لُقَطتها إلا لمعرِّفٍ، ثم تكلم العباس، ثم استثنى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: إلا الإذخر، وهذا يدل على صحة الفصل بين المستثنى والمستثنى منه.
فإذنْ هنا انفصل المستثنى من المستثنى منه، ومع ذلك صح ذلك، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث في “الصحيحين”.
وأيضًا استدلوا بقصة سليمان عليه الصلاة والسلام، والقصة في “الصحيحين”، لما قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأةً، كلٌّ تلد غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونسي، فطاف بهن ولم تلد إلا امرأةٌ نصف إنسانٍ، قال عليه الصلاة والسلام: لو قال: إن شاء الله؛ لكان دَرَكًا لحاجته ولم يحنث [12].
ووجه الدلالة: أنه لو قال: إن شاء الله؛ نفعه الاستثناء، مع أن المستثنى غير متصلٍ بالمستثنى منه؛ لأنه قال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يكن هناك اتصالٌ، ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام: لو قال: إن شاء الله؛ لكان دَرَكًا لحاجته ولم يحنث.
وهذا القول الثاني هو القول الراجح: أنه لا يشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه، لكن لا بد أن نضبط ذلك بضابطٍ، وهو ألا يطول الفصل عرفًا؛ لأننا إذا فتحنا المجال، ماذا لو استثنى بعد سنةٍ؟ يعني: هنا يَرِد هذا بعد عشر سنين، لا بد إذنْ من هذا الضابط: بشرط ألا يطول الفصل عرفًا.
بعض العلماء اشترطوا شرطًا آخر: وهو النية، يعني: أن ينوي الاستثناء قبل كمال المستثنى منه، وهذا محل خلافٍ، والقول الراجح: أنه لا يشترط؛ إذ لا دليل على اشتراطه.
طيب، لو أن رجلًا قال لزوجته: أنت طالقٌ ثلاثًا، فقال له أحد الحاضرين: إلا اثنتين، قال: إلا اثنتين، ينفعه هذا الاستثناء، أم لا ينفعه؟
على القول الراجح ينفعه، أولًا: لأنه لا يشترط الاتصال، ثانيًا: لأنه يصح استثناء أكثر من النصف.
حكم الطلاق في الزمن
ثم قال المصنف رحمه الله:
في طلاق الزَّمَن.
يعني: حكم الطلاق في الزمن، في: الماضي والحال والمستقبل.
إذا قال: أنت طالقٌ أمس، أو قبل أن أتزوجك، ونوى وقوعه؛ إذنْ وقع وإلا فلا.
إذا قال: أنت طالقٌ أمس، أو أنت طالقٌ قبل أن أتزوجك، ونوى وقوعه في الحال؛ فإنه يقع، أما إذا لم ينوِ وقوعه، وإنما يخبر خبرًا؛ فلا يقع، فإذا نوى وقوعه في الحال؛ وقع؛ لأنه أقر على نفسه بما هو أغلط في حقه، أما إذا لم ينوِ وقوع الطلاق؛ فإنه لا يقع.
وأنت طالقٌ اليوم إذا جاء غدٌ؛ فلغوٌ.
يعني: مثل هذه العبارة: أنت طالقٌ اليوم إذا جاء غدٌ، فيعني: لا يمكن أن يجيء غدٌ اليوم، لا يمكن أن يجيء غدٌ إلا بعد ذهاب اليوم، فكلامه هذا يعتبر لغوًا، ولا يقع به طلاقًا.
وأنت طالقٌ غدًا، أو يوم كذا.
فإن الطلاق يقع، أنت طالقٌ غدًا، إذا أتى غدٌ؛ فإنه يقع، أنت طالقٌ في يوم كذا؛ يقع، لكن متى يقع؟ بأول يومٍ أو بآخره؟
قال:
وقع بأولهما.
يعني: بأول الغد، وبأول اليوم.
طيب، ما أول اليوم؟ الفجر، أول اليوم: الفجر، وأول الليل: غروب الشمس، فعندنا ليلٌ ونهارٌ، أول الليل: غروب الشمس، وأول النهار، أو اليوم -النهار يسمى اليوم- سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7]، فأول اليوم وأول النهار: الفجر، وأول الليل: غروب الشمس.
أما ما هو متعارفٌ عليه اليوم: أن أول اليوم بعد الثانية عشر صباحًا، هذا مصطلحٌ غربيٌّ أتى إلينا من الغرب، ليس معروفًا عند المسلمين تحديد الثانية العشرة، أن ما بعد الثانية العشرة بداية اليوم، هذا أتى من الغرب، وإلا عند المسلمين ليس هذا معروفًا، العجيب أن بعض الحجاج يعتمد على هذا في الرمي وفي غيره! فينبغي التنبيه على هذا، أن هذا مصطلحٌ غربيٌّ، أن عند المسلمين بداية اليوم من طلوع الفجر، وبداية الليل من غروب الشمس؛ مثلًا: الليلة هذه، هل هي ليلة الاثنين أو ليلة الثلاثاء؟ ليلة الثلاثاء؛ لأن الليل يسبق النهار، فيقال: ليلة الثلاثاء، وبعد الفجر يقال: يوم الثلاثاء، فالليل يسبق النهار.
إذنْ إذا قال: أنت طالقٌ غدًا، أو يوم كذا؛ وقع الطلاق بأوله: وهو طلوع الفجر.
ولا يُقبل حكمًا إن قال: أردت آخرهما.
لو قال: أنت طالقٌ غدًا، أو أنت طالقٌ في يوم كذا، قلنا: يقع في أول اليوم، لو قال: أنا نويت آخر اليوم، لا يقبل حكمًا أمام القضاء، لكن فيما بينه وبين الله يُديَّن.
وأنت طالقٌ في غدٍ، أو في رجبٍ؛ يقع بأولهما، فإن قال: أردت آخرهما؛ قُبل حُكمًا.
إن قال: “في”؛ فيقع في أوله أيضًا، إلا إذا قال: أردت آخرهما، فيُقبَل حُكمًا.
هنا في المسألة السابقة المؤلف قال: لا يقبل حكمًا إن قال: أردت آخرهما، وإذا قال: أنت طالقٌ في غدٍ أو في رجبٍ، قال: يقبل، لماذا فرق المؤلف؟
لأن المسألة الأولى لم يجعلها للظرفية، إنما قال: أنت طالقٌ غدًا أو يوم كذا، أما في هذه المسألة: “أنت طالقٌ في غدٍ أو في رجبٍ”، فجعلها للظرفية؛ ولذلك المؤلف فرق بينهما.
وأنت طالقٌ كل يومٍ؛ فواحدةٌ، وأنت طالقٌ في كل يومٍ؛ فتطلق في كل يومٍ واحدةً.
المؤلف فرَّق بين هاتين الجملتين؛ الجملة الأولى: أنت طالقٌ كل يومٍ، فهذه يقول: طلقةٌ واحدةٌ، إلا إذا نوى ثلاثًا، أما لو قال: أنت طالقٌ في كل يومٍ؛ فتطلق ثلاثًا؛ في اليوم الأول طلقة، في الثاني طلقة، في الثالث طلقة، فتقع ثلاث تطليقاتٍ، وهذه مسائل نادرة الوقوع.
وأنت طالقٌ إذا مضى شهرٌ، فمضى ثلاثون يومًا، وإذا مضى الشهر فبمُضِيِّه.
إذا قال: أنت طالقٌ إذا مضى شهرٌ، يعني: إذا مضى ثلاثون يومًا تطلق، أما لو قال: أنت طالقٌ إذا مضى الشهر، يعني: الذي نحن فيه، فتطلق بانتهاء الشهر، حتى لو كان في اليوم التاسع والعشرين، تطلق بنهاية الشهر.
وكذلك إذا مضت سنةٌ، أو السنة.
يعني: إذا قال: إذا مضت سنةٌ، يُحسب اثنا عشر شهرًا، أما إذا قال: أنت طالقٌ إذا مضت السنة، يعني: بانتهاء هذه السنة التي آخرها شهر ذي الحجة، هذه التفاصيل ما لم توجد نيةٌ أو قرينةٌ، فإن وُجدت نيةٌ أو قرينةٌ؛ فيعمل بها.
باب تعليق الطلاق
ثم انتقل المؤلف للحديث عن تعليق الطلاق، وسبق أن تكلمنا عن الطلاق المعلَّق، لكن المؤلف ذكر صورًا أخرى، قال:
باب تعليق الطلاق
يعني: تعليقه بأداةٍ من أدوات الشرط؛ كــ: (إن، وإذا).
تعليق الطلاق على فعلٍ مستحيلٍ
قال:
إذا عَلق الطلاق على وجود فعلٍ مستحيلٍ؛ كـ: إن صعدت السماء فأنت طالقٌ؛ لم تطلق.
“إذا عَلق الطلاق على أمرٍ مستحيلٍ”، إن صعدت السماء: هذا في زمن المؤلف أنه مستحيلٌ، أما في وقتنا الحاضر فقد أصبح ليس مستحيلًا في الطائرات الآن، فيقول المؤلف بناءً على ما هو موجودٌ في زمنه، أنه إذا علقه على أمرٍ مستحيلٍ؛ لا يقع الطلاق، لكن في وقتنا الحاضر أصبح ليس مستحيلًا، فإذا قال: إن صعدت السماء، يقصد ركوب الطائرة، إن ركبت الطائرة؛ وقع الطلاق، ومما ذكروه من أمثلةٍ للطلاق على فعلٍ مستحيلٍ: أن يقول لها: إن قلبتِ الحجر ذهبًا؛ فأنت طالقٌ، إن قلبت الحجر ذهبًا؛ فأنت طالقٌ، يعني: هذا عُلِّق على أمرٍ مستحيلٍ، فلا يقع طلاقًا.
وإن علَّقه على عدم وجوده كـ: إن لم تصعدي فأنت طالقٌ؛ طلقت في الحال.
يعني: إن علَّق الطلاق على عدم فعل المستحيل؛ يقع الطلاق في الحال كما هو ظاهرٌ.
وإن علَّقه على غير المستحيل؛ لم تطلق إلا باليأس مما علَّق عليه الطلاق، ما لم يكن هناك نيةٌ أو قرينةٌ تدل على الفور ويقيد بزمنٍ؛ فيعمل بذلك.
إن علَّقه على أمرٍ لكنه ليس مستحيلًا؛ كأن قال: إن لم أفعل كذا؛ فأنت طالقٌ، أو: إن لم تفعلي كذا؛ فأنت طالق، فلا تطلق إلا باليأس مما علَّق عليه الطلاق، إلا إذا وجد نيةٌ أو قرينةٌ فيعمل بهما، أو تقييدٌ بزمنٍ معينٍ فأيضًا يعمل بذلك.
تعليق الطلاق مع تقدم الشرط أو تأخره
قال:
فصلٌ
ويصح التعليق مع تقدم الشرط وتأخره.
يعني: لا يضر، إن فعلت كذا؛ فأنت طالقٌ، أو أنت طالقٌ إن فعلت كذا، لا فرق.
كـ: إن إن قمت فأنت طالقٌ، أو أنت طالقٌ إن قمت.
فيصح الأمران.
ويشترط لصحة التعليق أن ينويه قبل فراغ التلفظ بالطلاق، وأن يكون متصلًا لفظًا أو حكمًا.
يعني: يشترط هذان الشرطان:
الأول: أن ينويه قبل الفراغ من التلفظ بالطلاق.
والثاني: أن يتصل بالكلام حكمًا أو لفظًا.
والراجح عدم اشتراط هذين الشرطين؛ إذ لا دليل على هذا الشرط كما مر معنا هذا في الاستثناء.
تفريعًا لذلك قال:
فلا يضر لو عطس ونحوه، وقطعه بكلامٍ منتظمٍ؛ كأنتِ طالقٌ -يا زانية- إن قمتِ، ويضر إن قطعه بسكوتٍ أو كلامٍ غير منتظمٍ؛ كقول: سبحان الله، وتطلق في الحال.
هذه ترجع لمسائل الاستثناء في الطلاق، وذكرنا أنه لا يشترط، وأنه يصح الفصل بين المستثنى والمستثنى منه ما لم يَطُل الفصل عرفًا.
ثم ذكر المؤلف مسائل متفرقةً في هذا الفصل، معظمها مسائل نادرة الوقوع، ونختم بها مسائل الطلاق، قبل أن ينتقل المؤلف بعد ذلك للشك في الطلاق، ثم ينتهي بذلك كتاب الطلاق، وننتقل بعده للرجعة.
قال في مسائل متفرقة:
إذا قال: إن خرجتِ بغير إذني؛ فأنت طالقٌ.
هذا الطلاق المعلق الذي سبق أن تكلمنا عنه في درس سابق، وقلنا: إن قصد الطلاق؛ فيقع طلاقًا بالإجماع، أما إذا لم يقصد الطلاق، وإنما قصد: حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، فالمذاهب الأربعة على وقوع الطلاق إن وقع ما عُلِّق عليه.
والقول الثاني: أنه لا يقع إذا لم ينوِه طلاقًا، قلنا: هذا هو رأي ابن تيمية، وهو الذي عليه الفتوى الآن في العالم الإسلامي، تكلمنا عن الطلاق المعلق بالتفصيل في الدرس السابق.
قال:
إذا قال: إن خرجت بغير إذنٍ فأنتِ طالق، فأذِن لها ولم تعلم.
يعني: أذِن لها بالخروج ولم تعلم بإذنه فخرجت؛ وقع الطلاق، وعللوا لذلك قالوا: إن الإذن هو الإعلام، ولم يُعلمها بذلك؛ فيقع.
أو علمت وخرجت.
فلا تطلق؛ لأن الخروج ترتب على علمها بالإذن، ثم..
خرجت ثانيًا بلا إذنه؛ طلقت، ما لم يأذن لها في الخروج كلما شاءت.
إذا قال: أذِنتُ لك في الخروج كلما شئت، فإنه لا يقع.
وإن خرجت بغير إذنِ فلانٍ؛ فأنت طالقٌ، فمات فلانٌ وخرجت؛ لم تطلق.
قال: إن خرجتِ بغير إذن فلانٍ؛ مثلًا: بغير إذن أمِّه، أمُّه معه في البيت، قال: إن خرجت بغير إذن والدتي؛ فأنتِ طالقٌ، فماتت والدته وخرجت؛ فإنها لا تطلق.
وإن خرجتِ إلى غير الحمام؛ فأنتِ طالقٌ، فخرجت له ثم بدا لها غيره؛ طلقت.
“فخرجت للحمام ثم بدا لها غيره”، يعني: غير الحمام؛ كالسوق، فذهبت إليه؛ فإنها تطلق؛ لأنها خرجت إلى غير الحمام بغير إذنه.
وهذه المسائل قولنا القول الراجح فيها: أنه إذا لم ينوِ الطلاق؛ فلا يقع طلاقًا، وإنما يجري مجرى اليمين، هذه المسائل كلها، لكن هذه التفصيلات بناءً على المذهب.
ثم انتقل المؤلف لمسألةٍ مهمةٍ: وهي تعليق الطلاق بالمشيئة، قال:
وزوجتي طالقٌ أو عبدي حُرٌّ إن شاء الله، أو إلا إن يشاء الله، لم تنفعه المشيئة شيئًا، ووقع.
فأراد المؤلف أن يبين أن تعليق الطلاق بالمشيئة، وكذلك تعليق العتق، أنه لا ينفع، ورُوي عن قتادة وإياس بن معاوية في رجلٍ قال لامرأته: هي طالقٌ إن شاء الله، قال: ذهبت منه، ورُوي نحو ذلك عن الحسن.
يعني: إن علَّق طلاقها بمشيئة فلانٍ، “وإن قال: إن شاء فلانٌ، فتعليقٌ؛ لم يقع، إلا أن يشاء”: إن علَّق طلاقه بمشيئة إنسان من الناس فهو تعليقٌ صحيحٌ، فإن شاء فلانٌ تطليقها؛ طلقت، وإلا فلا.
وإن قال: إلا أن يشاء، فموقوفٌ، فإن أبى المشيئة أو جُنَّ أو مات؛ وقع الطلاق إذنْ.
إن قال: زوجتي طالقٌ إلا أن يشاء فلانٌ، فموقوفٌ على مشيئته، فإن أبى أن يشاء -أبى المشيئة- وقع الطلاق؛ لأنه أبى أن يشاء عدم وقوع الطلاق، وهكذا لو جُنَّ أو مات؛ وقع الطلاق؛ لعدم تحقق مشيئته.
وأنت طالقٌ إن رأيتِ الهلال عيانًا، فرأته في أول أو ثاني أو ثالث ليلةٍ؛ وقع، وبعدها لم يقع.
هذا الرجل قال لزوجته: أنت طالقٌ إن رأيت الهلال، يقول: إن رأته في أول ليلةٍ؛ وقع الطلاق، إن رأته في ثاني ليلةٍ؛ وقع، إن رأته في ثالث ليلةٍ؛ وقع، إن رأته في رابع ليلةٍ وما بعدها؛ لم يقع.
لماذا فرقوا؟ قالوا: لا يسمى هلالًا إلا في الليلة الأولى والثانية والثالثة، وهذه مسائل -كما ذكرنا- نادرة الوقوع.
حكم طلاق المكره والجاهل
وأنت طالقٌ إن فعلتِ كذا، أو إن فعلتُ أنا كذا، ففعلته أو فعله مكرهًا أو مجنونًا أو مغمًى عليه أو نائمًا؛ لم يقع.
يعني: لم يقع الطلاق في جميع هذه الصور إذا كان على سبيل الإكراه أو الجنون أو الإغماء أو النوم.
وإن فعلته، أو فعله ناسيًا أو جاهلًا؛ وقع.
المؤلف فرَّق بين الإكراه وبين الجهل والنسيان، فقال: إنه في حال الإكراه لا يقع الطلاق، أما في حال الجهل والنسيان يقع.
والقول الثاني: إنه لا فرق بين الجهل والنسيان والإكراه، وهذا هو القول الراجح؛ لعموم قول النبي : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه [13].
فالراجح أنه لا يفرَّق، وأن الطلاق في حال الإكراه والجهل والنسيان لا يقع، وفي حال الإكراه قد يقع، أحيانًا الزوجة تُكرِه الزوج، وأنا أذكر أن رجلًا أتى يستفتي، يقول: إن امرأته قالت: إن لم تطلق؛ فسأرمي نفسي الآن في الشارع، يقول: الطريق سريع، قلت: هل يغلب على ظنك أنها تفعل؟ قال: نعم، أعرف من عقليتها أنها ستفعل، سترمي نفسها في الشارع وستموت، فطلَّق مكرهًا، فهذه من صور الإكراه، وبعضها أيضًا أحيانًا تأخذ السكين إن لم..، أو تأخذ مسدسًا، إن لم تطلق؛ قتلت نفسي، هذه أيضًا من صور الإكراه، فالإكراه لا يُظَن أنه يكون بتهديدٍ مباشرٍ للزوج، أحيانًا الزوجة تُكره الزوج على أن يطلقها بمثل هذه الصور.
فإذنْ طلاق المكره لا يقع، وحال النسيان لا يقع، وحال الجهل لا يقع.
وعكسه مثله.
يعني:
كـ: إن لم تفعلي كذا، أو إن لم أفعل كذا، فلم تفعله، أو لم يفعله هو.
يعني: عكسه بالإثبات، إذا قال: فأنت طالقٌ، فإنه يقع الطلاق، وعكسه مثله، يعني: “كـ: إن لم تفعلي كذا، أو إن لم أفعل كذا، فلم تفعله، أو لم يفعله هو”، فهنا بالنفي، “كـ: إن لم تفعلي كذا، أو إن لم أفعل كذا، فلم تفعله، أو لم يفعله هو”؛ كأن يقول: إن لم تفعلي كذا فأنتِ طالقٌ، فالحكم في جميع هذه المسائل على حسب التفصيل الذي ذكره المؤلف، إلا أنهم في هذه الحال يقولون: الوقوع على التراخي؛ لأن (إن) حرفٌ يقتضي التراخي، فإذا لم ينوِ وقتًا بعينه؛ فلا يقع الطلاق.
وكما ذكرنا: أن هذه المسائل الراجح: أنه لا يقع فيها الطلاق في جميع الصور، ما دام أن هذا وقع في حال الإكراه، أو في حال الجهل، أو في حال النسيان، أو في حال الجنون، أو في حال الإغماء، أو في حال النوم، هذه المسائل كلها لا يقع بها الطلاق، وأن الطلاق المعلق إذا لم يُقصد به الطلاق، وإنما قَصَد حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا؛ فإنه لا يقع الطلاق.
آخر فصلٍ ونقف -إن شاء الله- عند باب الرجعة.
الشك في الطلاق
وهذا فصلٌ مهمٌّ جدًّا، وهو:
الشك في الطلاق
والشكُّ يعتري بعض الناس، لكن من كان موسوسًا؛ فلا يُعتبر شكه مطلقًا، بل لا تُعتبر عنده غلبة الظن، وكثيرًا ما يقع الوسواس في الطلاق، أكثر ما يقع الوسواس في أمرين: في الطهارة، وفي الطلاق، في الطهارة يقع الوسواس من بعض الناس في الوضوء، هل وضوؤه صحيحٌ؟ أو في انتقاض الطهارة، وكذلك أيضًا يقع في الطلاق، حتى إن بعض الناس يُشكِل عليه أن يقرأ كتاب الطلاق من كتب الفقه، بل بعض الإخوة الذين ابتُلوا بالوسواس يقول: حتى آيات الطلاق في القرآن، يقول: إذا وصلت إليها أقلب الشريط؛ لأنه يحصل له وسواسٌ، هل وقع الطلاق أم لا؟ فهذا مرضٌ، مرض الوسواس يُبتلى به بعض الناس، نسأل الله العافية! وهو مرضٌ، مَن وقع له وسواسٌ ينبغي أن يسعى للعلاج، يعالَج كسائر الأمراض، يذهب للطبيب المختص ويعالج، مع أيضًا الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وتقوية الإرادة والتبصُّر في المسألة التي وقع فيها الوسواس.
الأصل هو صحة النكاح واستمرار النكاح، هذا أمرٌ متيقَّنٌ، ووقوع الطلاق خلاف هذا الأصل، فلا نقول بأن الطلاق وقع إلا بأمرٍ واضحٍ، ومع الشك لا يقع الطلاق، وأيضًا عند وقوع الطلاق الأصل أنه يقع طلقةً واحدةً، وما زاد على ذلك مشكوكٌ فيه.
قال المؤلف:
ولا يقع الطلاق بالشك فيه، أو فيما عُلِّق عليه.
الشك معناه: التردد بين أمرين لا مرجِّح لأحدهما على الآخر، فإن كان لأحدهما مرجحٌ على الآخر، ماذا يسمى؟ غلبة ظنٍّ، أو ظنًّا، وإن كان الترجيح للمرجوح، ماذا يسمى؟ وهمٌ، وماعدا ذلك: يقينٌ.
فإذنْ لا يقع الطلاق بالشك في قول عامة أهل العلم، إنسانٌ شك هل طلق المرأة أم لا؟ لا يقع؛ وذلك لأن النكاح متيقَّنٌ والطلاق مشكوكٌ فيه، واليقين لا يزول بالشك.
المؤلف قال: “لا يقع الطلاق بالشك فيه، أو فيما عُلِّق عليه”، وهذا ظاهرٌ، والموفق بن القدامة رحمه الله، صاحب “المغني”، قال: “من شك في طلاقه؛ لم يلزمه حكمه، نص عليه أحمد، وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي -يعني: لا يقع الطلاق بالشك- لأن النكاح ثابتٌ بيقينٍ فلا يزول بشكٍّ”، وهذا ظاهرٌ، لكن قال الموفق بن قدامة بعد ذلك: “والورع التزام الطلاق، فإن كان المشكوك فيه طلاقًا رجعيًّا؛ راجع امرأته إن كانت مدخولًا بها، أو جدد نكاحها إن كانت غير مدخولٍ بها، أو قد انقضت عدتها”، يقول: إن الورع أن يحسب على نفسه طلاقًا في حال الشك، ولكن هذا محل نظرٍ، فإن قوله: “إن الورع التزام الطلاق”، لا يُسَلَّم، بل الورع عدم التزام الطلاق، لماذا؟ لأن النكاح يقينٌ، ووقوع الطلاق أمرٌ مشكوكٌ فيه…؛ لأن التزام الطلاق يتسبب في تحريمها عليه وفي إباحتها لغيره، فكيف يكون هذا ورعًا؟! بل الورع أن نقول: إنها تبقى في عصمة زوجها، ولا يزول عنها النكاح إلا بأمرٍ يقينيٍّ، هذا هو الورع.
فالورع إذنْ، لو قال: إن الورع هو التزام الطلاق؛ فهذا يقتضي أن تحرم على زوجها وتباح لغيره، إلا إذا كان الموفَّق يقصد في الطلاق الرجعي فقط، فهذا محتملٌ إذا كان يقصد الطلاق الرجعي؛ بدليل قوله: “فإن كان المشكوك فيه طلاقًا رجعيًّا؛ راجع امرأته”، محتملٌ أنه في الطلاق الرجعي، ما دام أن الشك يعتبرها طلقةً احتياطًا، أما في غير الطلاق الرجعي فليس الورع التزام الطلاق.
قال:
فمن حلف لا يأكل تمرةً مثلًا فاشتبهت بغيرها وأكل الجميع إلا واحدةً؛ لم يحنث.
أراد المؤلف أن يوضح هذه المسألة بهذا المثال، قال: من حلف بالله العظيم لا يأكل تمرةً، فاشتبهت بغيرها وأكل الجميع إلا تمرةً واحدةً؛ لم يحنث عند الفقهاء؛ لاحتمال أن هذه التمرة المتبقية هي التي حلف على عدم أكلها، فيكون هذا مشكوكًا فيه، فلا يحنث، وهكذا أيضًا بالنسبة للطلاق.
حكم من شك في عدد ما طلق
ومن شك في عدد ما طلَّق؛ بنى على اليقين، وهو الأقل.
شك هل طلق ثنتين أو ثلاثًا، اليقين: هو ثنتين، فنعتبره ثنتين؛ لأن ما زاد عليها مشكوك؛ فيه.
ومن أوقع بزوجته كلمةً وشكَّ هل هي طلاقٌ أو ظهارٌ؛ لم يلزمه شيءٌ.
تكلم بكلمةٍ هو شك هل هي طلاقٌ أم ظهارٌ؟ يقول: الأصل استمرار النكاح، ولا يقع شيءٌ.
وهذه المسائل التي في هذا الباب الحقيقةَ تقطع دابر الوسواس، فيقال: إن النكاح متيقَّن، فلا يرتفع إلا بأمرٍ يقينيٍّ، ولذلك ذكرنا في حال الطلاق حال الغضب الشديد، الطلاق حال الغضب الشديد لا يقع؛ لأن النكاح متيقَّنٌ، وحال الغضب الشديد كان ذهنه مشوَّشًا، ولا طلاق في إغلاقٍ، فلا يرتفع الطلاق في حال الغضب الشديد.
وهكذا أيضًا طلاق السكران، قلنا: إن القول الراجح: أنه لا يقع، وأنه رجع إلى ذلك الإمام أحمد، قال: “كنت أقول: إن طلاق السكران يقع، حتى تبينت فقلت: إنه لا يقع”؛ لأن من يقول بطلاقها؛ يأتي اثنتين: يحرمها على زوجها، ويبيحها لغيره، ومن يقول بعدم طلاقها يأتي واحدةً: يبيحها لزوجها.
فإذنْ هذه القاعدة مفيدةٌ جدًّا، وهي أن الأصل استمرار النكاح، وأن النكاح ثبت بيقين، فلا يزول إلا بيقين، فإذا أردنا أن نفتي بالطلاق، لا يكون طلاقًا إلا بأمرٍ واضحٍ كالشمس، وإلا نتمسك بالأصل، الأصل: هو استمرار النكاح، الأصل: هو بقاء النكاح، لا نقول: إن هذه المرأة خرجت من عصمته إلا بأمرٍ واضحٍ كالشمس، أما إذا كان بشكٍّ، أو بغضبٍ شديدٍ، أو في حال سكرٍ، أو لم تتضح نيته، فكل هذه المسائل لا يقع معها الطلاق، فإذنْ الطلاق إنما يقع إذا تيقنه الزوج، أما مع الشك لا يقع عند عامة أهل العلم.
ونقف عند باب الرجعة، بهذا نكون قد انتهينا من مسائل الطلاق، فنقف عند باب الرجعة، نفتتح به الدرس القادم إن شاء الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
السؤال: هل تُجزئ سبع شياهٍ عن بدنةٍ إذا وجب عن الإنسان بدنةٌ أو بقرةٌ؟
الجواب: يجزئ ذلك في الأضحية وفي الهدي، الواحدة من الإبل ومن البقر تجزئ عن سبعةٍ.
أما العقيقة فلا بد أن تكون من الغنم، ولا يصح أن تكون من الإبل ولا من البقر على القول الراجح.
السؤال: يقول ما حكم لبس الجاكيت للمرأة فوق العباءة؟
الجواب: يعني: هذا السؤال أتى في الأسبوع الماضي ولم يوضِّح السائل السؤال، والآن وضحه، وأن المقصود المرأة، إذا كان هذا يثير الفتنة -مفاتن المرأة- فإنه لا يجوز، كل لباس يؤدي إلى الفتنة لا يجوز، فعلى المرأة أن تلبس اللباس الذي لا يلفت النظر إليها ولا يثير مفاتنها، وأن تحرص على أن يكون لباسها محتشمًا ساترًا.
السؤال: هل الذي اشترى يوسف العزيز أو رجلٌ آخر، ثم اشتراه العزيز؟
الجواب: الظاهر أن الذي اشتراه العزيز، أنه هو الذي اشترى يوسف عليه الصلاة والسلام.
السؤال: ما حكم العملات الإلكترونية؛ كـ(البتكوين) ونحوها؟
الجواب: العملات الرقمية؛ كـ(البتكوين) هذه للعلماء المعاصرين فيها قولان:
- القول الأول: أنها محرمةٌ؛ لما تنطوي عليه من التغرير، ولما يوجد فيها من التذبذب الكبير، ولما فيها من المخاطرة.
- والقول الثاني: أنها جائزةٌ؛ لأنها تتحقق فيها خصائص العملات وخصائص النقود.
وكنت فيما سبق توقفت في هذه المسألة، لكن الذي أميل إليه الآن هو القول الثاني: وهو القول بالجواز؛ وذلك لأنها تنطبق عليها خصائص النقود، فهي تصلح أن تكون وسيطًا للتبادل ولتقييم السلع، وأيضًا مستودعًا للنقد، فخصائص النقود منطبقةٌ عليها تمامًا، وأما ما قد يوجد فيها من المخاطرة؛ فهذا موجودٌ في أمورٍ كثيرةٍ لا تختص بها، بل إن الأسهم مع عدم التحديد بنسبةٍ معينةٍ، عندنا في المملكة الارتفاع والانخفاض لا يزيد ولا ينقص عن (10%)، لكن في بعض الدول مفتوحةٌ، الأسهم بدون التحديد بنسبٍ معينةٍ، المخاطرة فيها كالمخاطرة في العملات الرقمية، وقد ذكر هذا بعض المختصين؛ فيُلزَم من قال بتحريم العملات الرقمية أيضًا أن يحرم هذه الأسهم، أيضًا التعامل بالأسهم المخاطرة فيها كبيرةٌ، وأيضًا هناك بعض التعاملات التي تكون المخاطرة فيها كبيرةً، خاصةً عندما يكون التداول عليها كبيرًا، فهذا ليس مبررًا للقول بالتحريم، فالذي يظهر -والله أعلم- هو القول بالجواز، وأنها عملاتٌ كسائر العملات.
وأيضًا بعض الشركات والبنوك ومن عندهم خبراء، وعندهم حرصٌ على دراسة الجدوى بدءوا الآن يتجهون إلى التعامل بها، فلولا أنه يغلب على الظن أن الاستثمار فيها جيِّدٌ؛ لما اتجهوا لذلك، فالذي يظهر -والله أعلم- أنها أقرب للجواز منها للتحريم.
مداخلة:….
الشيخ: لا، هي عملةٌ مشفرةٌ، كسائر العملات، هي عملةٌ كسائر العملات.
مداخلة:….
الشيخ: لا، هي ليست سلعةً، هي عملةٌ كسائر العملات.
مداخلة:….
الشيخ: إي نعم، حتى لو في..؛ لأن هناك دولًا أخرى معترفًا فيها، هو يتعامل..، التعامل الآن عن طريق النت تعاملٌ دوليٌّ.
السؤال: ما حكم ترتيب الصلوات؟
الجواب: ترتيب الصلوات محل خلافٍ بين الفقهاء، ولهم في ذلك قولان:
- القول الأول: أنه واجبٌ، ويسقط في حال الجهل أو النسيان، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
- والقول الثاني: أنه مستحبٌّ، وليس واجبًا، وهذا قول الجمهور.
والقول الراجح: أنه مستحبٌّ؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على الوجوب، وما يذكره أصحاب القول الأول من أدلة الوجوب إنما هي تدل على الاستحباب فقط، فالأظهر -والله أعلم- هو أن الترتيب مستحبٌّ وليس واجبًا؛ ولذلك أصحاب القول الأول لما قالوا بالوجوب؛ رجعوا واستثنوا وقالوا: لا يجب في حال الجهل أو النسيان، فالأظهر عدم الوجوب، ولكنه يستحب استحبابًا مؤكَّدًا.
السؤال: هل الصلاة داخل حدود الحرم المكي تشملها مضاعفة الصلوات؟
الجواب: هذه مسألةٌ خلافيةٌ، والقول الراجح: أن التضعيف الوارد في قول النبي : صلاةٌ في مسجدي هذا تعدل ألف صلاةٍ فيما سواه، إلا المسجد الحرام [14]، أنه خاصٌّ بمسجد الكعبة، بدليل أنه قد جاء ذلك مصرحًا به في بعض الروايات: إلا مسجد الكعبة [15]، وأيضًا لأن الأحكام تختص بمسجد الكعبة، فشد الرَّحل مثلًا خاصٌّ بمسجد الكعبة، لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد [16]، وهذا خاصٌّ بمسجد الكعبة، فلو أراد أن يشد الرحل إلى مسجدٍ من مساجد مكة؛ لم يجُز هذا.
فالأظهر والله أعلم: أن التضعيف الوارد في الحديث خاصٌّ بالمسجد الحرام، الذي هو مسجد الكعبة، لكن مع ذلك، الصلاة داخل حدود الحرم أفضل من الصلاة في الحِل؛ ولهذا لما كان النبي في الحديبية، كان إذا أراد أن يصلي؛ دخل داخل حدود الحرم.
السؤال: هل الخلع يحسب طلقةً؟
الجواب: الخلع، إذا أتى بلفظ الخلع؛ فإنه يعتبر فسخًا، ولا يعتبر طلاقًا، فلا يحسب من الطلاق، لكن إذا أتى الخلع بلفظ الطلاق؛ هل يعد طلاقًا أو فسخًا، هذا محل خلافٍ بين الفقهاء، ولم يتحرر لي القول الراجح في هذه المسألة.
السؤال: كل مرةٍ أشك في صلاتي، ولا ألتفت إلى الشك، هل فعلي صحيحٌ؟
الجواب: نعم، فعلك صحيحٌ، إذا كنت كثير الشكوك والوساوس؛ لا تلتفت للشك، إنما الذي يلتفت للشك الذي ليس كثير الشكوك والوساوس، فهذا هو الذي يعتبر الشك، فإن كان شكًّا متساويًا؛ بنى على اليقين وهو الأقل، فإذا شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ جعلها ثلاثًا، إذا شك هل ركع أو لم يركع؟ اعتبر نفسه لم يركع، وهكذا، أما إذا كان الشك معه تحرٍّ وغلبة ظنٍّ؛ فإنه يعمل بما غلب على ظنِّه، وفي كلا الحالتين يسجد للسهو.
السؤال: متى ينتهي وقت صلاة العشاء؟
الجواب: الوقت الاختياري ينتهي منتصف الليل؛ لقول النبي في حديث عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما: ووقت العشاء إلى نصف الليل [17]، رواه مسلمٌ، وأما الوقت الضروري فيمتد إلى طلوع الفجر، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة، أن الوقت الضروري لصلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، فالعشاء لها وقتٌ اختياريٌّ وضروريٌّ؛ مثل صلاة العصر، لها وقتٌ اختياريٌّ إلى اصفرار الشمس، وضروريٌّ إلى غروب الشمس، هكذا العشاء لها وقتٌ اختياريٌّ إلى منتصف الليل، ووقتٌ ضروريٌّ إلى طلوع الفجر.
السؤال: في حال الجمع، متى تكون السُّنة البَعدية؟
الجواب: تكون السنة بعد الصلاة الثانية، يعني: مثلًا جمع بين المغرب والعشاء، أو بين الظهر والعصر، سنة المغرب أو سنة الظهر يصليها، يقضيها قضاءً، فسنة المغرب تُقضى، وسنة الظهر تُقضى.
السؤال: إذا أتمت النُّفساء أربعين يومًا ولم تطهر فما الحكم؟
الجواب: القول الراجح: أن أكثر مدة النفاس ستون يومًا، وأن ما زاد على ستين يومًا يُعتبر دم فسادٍ، هذا هو القول الراجح؛ وذلك لأنه يوجد من النساء من يستمر معها الدم -دم النفاس- بعد الأربعين على طبيعته قبل الأربعين، فكيف نفرِّق بين الدم الذي قبل أربعين يومًا بدقيقةٍ فنقول: دم نفاسٍ، والدم الذي بعد أربعين يومًا بدقيقةٍ، فنقول: دم فسادٍ مع أن الدم هو الدم، وصفات الدم قبل الأربعين هي نفس صفات الدم بعد الأربعين! فالشريعة لا تفرق بين متماثلاتٍ؛ ولهذا القول الراجح: أن دم النفاس يستمر بعد الأربعين إذا كان على صفات دم النفاس، وأن أكثر مدة النفاس ستون يومًا، وإنما حددنا بستين يومًا؛ لأنه لا يستمر دم المرأة النُّفساء أكثر من ستين يومًا عادةً، وإنما المرأة التي يأتيها الدم بعد ستين يومًا، هذا دم فسادٍ ليس دم نفاسٍ، وهذا مقررٌ عند الأطباء أن هذا ليس دم نفاسٍ، وإنما هو دم فسادٍ، لكن أيضًا عند الأطباء أن المرأة يمكن أن يستمر معها دم النفاس أكثر من أربعين يومًا، خاصةً في الوقت الحاضر مع اضطرابات الهرمونات عند كثيرٍ من النساء أصبح دم النفاس يستمر عند كثيرٍ من النساء أكثر من أربعين يومًا.
فالأظهر -والله أعلم- هو أن أكثر مدة النفاس ستون يومًا، وأن المرأة إذا استمر معها الدم على نفس طبيعته وصفاته بعد الأربعين يعتبر دم نفاسٍ.
السؤال: ما صحة حديث: «من صلى الفجر ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كُتب له أجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ تامةٍ تامةٍ»؟
الجواب: هذا الحديث رواه الترمذي، لكنه حديثٌ ضعيفٌ لا يصح عن النبي ، ولكن يغني عنه ما جاء في “صحيح مسلمٍ” من حديث سمرة أن النبي كان إذا صلى صلاة الفجر؛ بقي في مصلَّاه حتى تطلع الشمس [18]، فالجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس سنةٌ، لكن هل يأتي بعدها بركعتين بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رمحٍ؟ إن كان يريد بذلك ركعتي الضحى؛ فلا بأس، وتكون صلاة الضحى في أول وقتها، أما إن كان يريد سنةً مستقلةً يسميها بعض العامة بـ”صلاة الإشراق”؛ فهذا لا أصل له، والحديث المروي في ذلك حديثٌ ضعيفٌ، ليس هناك صلاةٌ اسمها “صلاة إشراقٍ”، إنما من أراد أن يصلي بعد جلوسه في المسجد وطلوع الشمس وارتفاعها؛ ينويها صلاة الضحى، ولذلك لا تختص أن تكون في المسجد، يمكن أن يذهب ويصليها في البيت، بل صلاته في البيت أفضل، صلاته للضحى في البيت أفضل من صلاته لها في المسجد، وبعض الناس يجلس في المسجد حتى تطلع الشمس ثم يُصلي ركعتين يسميها “صلاة إشراقٍ”، هذا لا أصل له، الحديث المروي في ذلك ضعيفٌ، إلا إذا نوى أنها صلاة الضحى؛ فلا بأس، فتكون صلاة الضحى في أول وقتها.
السؤال: ما المسنون فعله بعد الانتهاء من الوضوء؟
الجواب: المسنون أن يقول: “أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”، فإنه من قال ذلك بعد الوضوء؛ فُتحت له أبواب الجنة الثمانية؛ كما جاء ذلك عن النبي [19]، ولم يَرِد شيءٌ محفوظٌ غير ذلك، أما ذكر: “سبحانك الله وبحمدك..” [20]، فلا يثبت عن النبي ، لم يثبت ذكر يقال بعد الوضوء إلا هذا فقط: “أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”.
السؤال: كيف يكون الصبر على المصيبة والرضا بالمرض والفقر؟
الجواب: الصبر يكون بحبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكِّي، وحبس الجوارح عن الأفعال المحرمة؛ كلطم الخدود ونحوها.
وأما الرضا: فهو حالةٌ نفسيةٌ تجعل الإنسان غير متسخِّطٍ، وأن تكون حاله بعد المصيبة كحاله قبل المصيبة، وقول الأخ الكريم: “بالمرض”، يعني: يرضى بما قدره الله عليه بالمرض، يرضى بذلك، وأن الله قدر عليه هذا المرض، وأن هذا يرجو أن يكون فيه تكفيرٌ لسيئاته ورفعةٌ لدرجاته، فيرضى بذلك، وهكذا الفقر أيضًا، يرضى بأن الله قد قسم له الرزق وهو في بطن أمه، وأنه لن يأتيه من الرزق إلا ما قُدر له ونحو ذلك، فيكون بهذا راضيًا، لكن مع فعل الأسباب، لا يقول: أرضى بالفقر، وهو لم يفعل أسباب الرزق، ويقول: هذا مقدرٌ عليَّ، يفعل الأسباب ويرضى بما قسم الله له، لا يعطل الأسباب؛ فإن لله تعالى سننًا في الكون، يأتي بهذه السنن، ويفعل السبب ويرضى بما قدره الله له.
وبقية الأسئلة نجيب عنها -إن شاء الله- في درس غدٍ.
والله أعلم، وصلى الله وسلم عن نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 5254. |
^3 | رواه البخاري: 1. |
^4 | رواه أبو داود: 2206. |
^5 | سبق تخريجه. |
^6 | رواه الترمذي: 1182، وأبو داود: 2189، وابن ماجه 2080، والبيهقي 15564، واللفظ له. |
^7 | رواه مسلم: 1472. |
^8 | أخرجه أبو داود: 2194، والترمذي: 1184، وابن ماجه:2039، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. |
^9 | الإذْخِر: حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 1/ 33. |
^10 | الصاغة: جمع صائغ، يوقد به النار تحت ما يصوغه. شرح صحيح البخاري لقوام السنة الأصبهاني: 3/ 755. |
^11 | رواه البخاري: 1833، ومسلم: 1353. |
^12 | رواه البخاري: 6720، ومسلم: 1654. |
^13 | رواه ابن ماجه: 2045، والطبراني في المعجم الأوسط: 8273، وابن حبان: 7219. |
^14 | رواه مسلم: 1395، بنحوه. |
^15 | رواه مسلم: 1396، بنحوه. |
^16 | رواه البخاري: 1189، ومسلم: 1397. |
^17 | رواه مسلم: 612. |
^18 | رواه مسلم: 670. |
^19 | رواه مسلم: 234. |
^20 | رواه الطبراني في الأوسط: 1455، والحاكم: 2093. |