جدول المحتويات
- باب جامع الأيمان
- الرجوع إلى نية الحالف
- الرجوع إلى سبب اليمين عند عدم النية
- الرجوع إلى التعيين عند عدم النية والسبب
- الرجوع إلى ما تناوله الاسم عند عدم النية والسبب والتعيين
- ما يتناوله الاسم ثلاثةٌ: شرعيٌّ، فعرفيٌّ، فلغويٌّ
- اليمين المطلقة تنصرف إلى الشرعي
- إن عُدم المعنى الشرعي للفظ؛ فالأيمان مبناها على العرف
- إن عُدم العرفُ؛ رجع للُّغة
- مسائل في الأيمان
- باب النذر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
كنا قد وصلنا في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل" إلى "باب جامع الأيمان".
باب جامع الأيمان
قال المصنف رحمه الله:
أي: هذا باب بيان مسائل الأيمان المحلوف بها.
وسبق أن تكلمنا في الدرس السابق عن أبرز أحكام الأيمان وكفارة اليمين، وهذا بابٌ يذكره الفقهاء في التفصيل في تحديد اليمين، وما الذي يُرجع فيه في اليمين.
الرجوع إلى نية الحالف
قال المصنف رحمه الله:
هذا هو الأصل: يُرجع في اليمين إلى نية الحالف، لكن بشرط: أن يحتمل ذلك اللفظُ، فإن كان اللفظ لا يحتمله؛ فلا يُرجع؛ يعني: لو قال مثلًا: الله أكبر، ثم قال: إني حلفت، هذا لا يحتمله اللفظ، لا بد أن يحتمله اللفظ، وأن يكون الحالف غير ظالمٍ أيضًا، والدليل لهذا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى [1]، والأصل أن الإنسان إنما يُحاسب على نيته، فما في النية هو الأصل؛ ولذلك لو تعارض ما في القلب والنية مع اللفظ؛ فالمقدم ما في القلب، لو أراد رجلٌ أن يقول: طارق، فقال: طالق، لا تطلق زوجته؛ لأنه لم ينو الطلاق ولم يرده، وإنما جرى على لسانه بطريق الخطأ؛ فالعبرة إذنْ بما في القلب، فالأصل أن الأعمال بالنيات، كما قال عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، لكن قلنا: لا بد أن يحتمله اللفظ، وأيضًا لا بد أن يكون غير ظالمٍ، فإن كان ظالمًا بها؛ فلا يرجع في اليمين إلى نيته، وإنما على نية المستحلف؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: اليمين على نية المستحلِف [2]، رواه مسلمٌ، وهذا محمولٌ على استحلاف القاضي، فإذا كان الحالف ظالمًا؛ فالحلف يكون على نية القاضي، وليس على نية الحالف، ونُقل الإجماع على ذلك.
ثم وضَّح المؤلف هذا بأمثلةٍ، وتوسع الفقهاء في ذكر هذه الأمثلة وهذه المسائل وتشعبوا فيها؛ ولذلك لن نطيل كثيرًا، سنقف عند عبارة المؤلف وتوضيحها، وأحيانًا نشير لبعض الخلافات من غير توسعٍ.
قال:
من دعاه إنسانٌ إلى غداءٍ فأبى وحلف أنه لا يتغدى، لكن مقصوده غداءُ غيرِه؛ يعني لا يحنث إذا تَغَدَّى بغداءٍ غيرِ غداء الذي دعاه إن قصد ذلك، وقال: تَغَدَّ معنا، فقال: والله لا أتغدى، ومقصوده: لا أتغدى بغدائك؛ فإنه لا يحنث بغداءِ غيره، فهنا خصَّص هذا العامَّ، قوله: لا أتغدى، خصَّصه النيةُ؛ قال: والله لا أتغدى، مقصوده: غداءك أنت أيها المخاطب؛ فيختص بذلك.
يعني: يُقبل منه تفسيره لهذا الكلام؛ قال: والله لا أدخل دار فلانٍ، ثم قال: والله أنا نويت اليوم فقط؛ فيُقبل منه ذلك حكمًا، لكن ديانةً فيما بينه وبين الله هو على نيته؛ فاختص إذنْ الحِنث بما نَوى، اختصت اليمين بما نوى.
يعني: من قال هذه العبارة: لا عُدْتُ رأيتك تدخلين دار فلانٍ، فدخلتها من غير أن يراها، فإنه يحنث؛ لأن قصده الدخول، وليس قصده الرؤية؛ فالعبرة بما نوى.
الرجوع إلى سبب اليمين عند عدم النية
قال:
فإن لم ينوِ شيئًا؛ رُجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها.
الأصل أن الإنسان لا يعمل عملًا إلا بنيةٍ، لكن أحيانًا ربما ينسى الإنسان ما حلف عليه، أو ربما لا تكون نيته واضحةً، وبعض العامة عندما يُسأل: ماذا نويت؟ يقول: ما أدري، أو لم أنو شيئًا، أو نسيت، بعض الأحيان الإنسان قد تكون ذاكرته ليست قويةً؛ فينسى بسرعة، فإذا لم تتضح النية، لم ينو شيئًا، أو أن النية لم تتضح، قال: "رُجع إلى سبب اليمين وما هيجها"، يُنظر لسبب اليمين الباعث عليها والذي هيَّج تلك اليمين، ثم وضح المؤلف هذا بأمثلةٍ:
قال:
يعني لم يحنث، هذا قال: والله لأقضين زيدًا غدًا، أو لأقضين دينك غدًا، لكن قضاه اليوم وليس غدًا؛ فإنه لا يحنث؛ لأن سبب اليمين يوضح أن النية: عدم التأخر عن غدٍ في قضاء الدين؛ فإذا قضاه قبل غدٍ؛ يكون قد حقَّق ما حلف عليه؛ فلم يحنث.
قال: والله لا أبيع هذا الثوب إلا بمئةٍ، ثم باعه بمئةٍ وعشرةٍ؛ فإنه لا يحنث؛ لأن سبب اليمين يدل على أن نيته أنه لن يبيع هذا الثوب بأقل من مئةٍ، فهو قد باعه بأكثر من مئةٍ فحقَّق ما حلف عليه.
يعني: إذا قال: والله لا أدخل بلد كذا؛ بسبب الظلم الواقع فيها، ثم زال هذا الظلم فدخلها؛ فإنه لا يحنث.
حلف أنه لا يكلم زيدًا من الناس؛ لكونه يشرب الخمر، ثم إن زيدًا تاب، ومنَّ الله عليه وترك شرب الخمر فكلمه؛ فإنه لا يحنث؛ لأن حلفه إنما كان لسببٍ معينٍ وقد زال ذلك السبب.
الرجوع إلى التعيين عند عدم النية والسبب
قال:
هذا رجلٌ حلف، قلنا: يُرجع لنيته؛ فإن قال: لم أنو شيئًا، أو لم تتضح النية؛ قلنا: يرجع للسبب الذي هيَّج اليمين، قال: ليس هناك سببٌ واضحٌ؛ إذنْ يرجع إلى التعيين، إن عُدمت النية وسبب اليمين؛ رجع إلى التعيين بالإشارة؛ لأن التعيين أبلغ من دلالة الاسم على المسمَّى؛ لكونه يَنفي الإبهام بالكلية، بخلاف الاسم؛ يعني كما يقول الفقهاء: إنه لو شهد رجلان على شخصٍ بعينه؛ وجب على الحاكم الحكم عليه، بخلاف ما لو شهدا على شخصٍ باسمه؛ فلا بد أن يتأكد الحاكم من أن هذا هو ذلك الشخص الذي سُمي، فالتعيين بالإشارة أقوى من التسمية بالاسم، ثم وضح المؤلف هذا بأمثلةٍ:
قال:
قال: والله لا أدخل دار فلان ابن فلانٍ هذا، فدخلها بعد أن باعها لغيره، أو دخلها بعد أن هُدمت وتحولت إلى فضاءٍ؛ فإنه يحنث، لماذا؟ لأن عين المحلوف عليه ما زالت باقيةً، وقد تعينت بالإشارة؛ فحنث حتى لو تحولت إلى حالٍ أخرى.
مثالٌ آخر:
قال: "والله لا أكلم هذا الصبي"، ثم إن هذا الصبي كَبِر سِنُّه وصار شيخًا فكلمه؛ فإنه يحنث.
قال: والله لا آكل هذا الرطب، ثم مع مرور الزمن أصبح تمرًا فأكله، فإنه يحنث؛ وذلك لأن عين المحلوف عليه باقيةٌ وقد تعينت بالإشارة.
الرجوع إلى ما تناوله الاسم عند عدم النية والسبب والتعيين
قال المصنف رحمه الله:
فإنْ عُدم النية والسبب والتعيين؛ رُجع إلى ما تناوله الاسم.
إن عُدمت هذه الأمور الثلاثة: النية، والسبب، والتعيين؛ فيرجع إلى ما يتناوله الاسم؛ لأنه لا مُعارِض له، فوجب الرجوع إليه.
ما يتناوله الاسم ثلاثةٌ: شرعيٌّ، فعرفيٌّ، فلغويٌّ
وما يتناوله الاسم، قال المصنف:
يعني الاسم له ثلاثة أنواعٍ:
- اسمٌ شرعيٌّ.
- واسمٌ عرفيٌّ.
- واسمٌ لغويٌّ.
فمراعاته اليمين على هذا الترتيب، يعني: يُقدم الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي، كما سيأتي في الأمثلة.
الاسم الشرعي يُعني: ما له معنًى في الشرع ومعنًى في اللغة، فينصرف الاسم إلى المعنى الشرعي؛ لأن هذا هو المتبادر؛ مثل الصلاة، الصلاة معناها في اللغة: الدعاء، ومعناها في الشرع: أقوالٌ وأفعالٌ مخصوصةٌ، مفتتَحةٌ بالتكبير، ومختتمةٌ بالتسليم، الصلاة المعروفة، فلو قال: والله لأصلين الآن، ولا نية له ولا سبب ولا تعيين؛ فيُرجع لوضع هذا اللفظ شرعًا، وهي الصلاة الشرعية المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، إن لم يكن لهذا اللفظ معنًى شرعيٌّ؛ يُرجع لمعناه العرفي، وهو ما وُضع له في العرف؛ مثلًا: الراوية، تُطلق في اللغة على الحيوان الذي يُستقى عليه الماء، لكن تُطلق عرفًا على المَزَادة التي يوضع فيها الماء، فتُحمل على المعنى العرفي، لو قال: والله لأشترين راويةً، فاليمين تتعلق بالراوية المعروفة عند الناس، التي يوضع فيها الماء، وليس المعنى اللغوي.
اليمين المطلقة تنصرف إلى الشرعي
قال:
هذا هو الأصل: أن اليمين تنصرف إلى الاسم الشرعي، وهي مقدمةٌ على الاسم العرفي والاسم اللغوي.
يعني: تُحمل على المعنى الصحيح من الاسم الشرعي، لا المعنى الفاسد.
ثم ضرب المؤلف لهذا الضابط أمثلةً:
قال: والله لا أتزوج، والله لا أبيع والله لا أشتري، لكنه عقد عقدًا فاسدًا؛ من نكاحٍ أو بيعٍٍ أو شراءٍ؛ لم يحنث بذلك، لماذا؟ لأن هذه إذا أُطلقت؛ إنما تتناول المعنى الصحيح، فالبيع إذا أُطلق في الشرع؛ إنما يراد به البيع الصحيح، ولا يتناول الفاسد؛ ولهذا قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، وإنما أحل الصحيح من البيع.
هذا يُستثنى من الضابط السابق، وهو أن تكون يمينه أصلًا على ما لا يصح بيعه شرعًا؛ كأن يحلف ألا يبيع خمرًا، ثم باع الخمر؛ فإنه يحنث بهذه الصورة.
إن عُدم المعنى الشرعي للفظ؛ فالأيمان مبناها على العرف
إذا لم يوجد معنًى شرعيٌّ، قال المصنف:
فإن عُدم الشرعي؛ فالأيمان مبناها على العرف.
إن عُدِم المعنى الشرعي للَّفظ؛ فيُرجع إلى معناه العرفي، وقلنا: إنه مقدمٌ على اللغوي، وقلنا: اللفظ له معنًى شرعيٌّ وعرفيٌّ ولغويٌّ، يُقدم الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي، إذا عُدم المعنى الشرعي؛ فيُرجع للمعنى العرفي، كما مثَّلنا بـ"الراوية".
وذكر المؤلف أمثلةً أخرى:
قال:
لأن الوطء يُطلق في العرف على الجماع، وإن كان يُطلق في اللغة على وطء الرِّجل والقَدَم، لكن إذا عُدم المعنى الشرعي؛ فإنه يُحمل على المعنى العرفي، وهو الجماع.
قال: والله لا أطأ، أو لا أضع قدمي في دار فلانٍ، فيحنث بدخول تلك الدار على أي صفةٍ كانت؛ راكبًا أو ماشيًا أو حافيًا أو منتعلًا، لماذا؟ لأن وطء الدار يُطلق في العرف على مُطلَق الدخول، سواءٌ دخلها راكبًا أو دخلها ماشيًا أو حافيًا أو منتعلًا؛ لأن مقصوده: الامتناع من دخولها، فيحنث بالدخول بأي صورةٍ كانت.
قال: والله لا أدخل بيتًا، فيحنث بدخول المسجد؛ لأن المسجد سماه الله تعالى بيتًا، فقال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، والنبي عليه الصلاة والسلام أيضًا سماه بيتًا: ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله.. [3].
وكذلك لو دخل الحمَّام؛ فيصدق عليه أنه دخل بيتًا؛ لأن الحمام المقصود به: المغتسل الذي كان يوجد في البلاد الباردة ويَغتسل فيه الناس، وليس المقصود به: المرحاض، لو حلف لا يدخل بيتًا، فدخل الحمام؛ فإنه يحنث، لأن الحمام يُعتبر بيتًا، وقد جاء في الحديث: بئس البيت الحمام؛ لأنه يَكشف عن أهله الحياء [4]، أخرجه البيهقي، وفي سنده مقالٌ.
وأيضًا يدخل في ذلك: بيت الشَّعْر، لو حلف لا يدخل بيتًا، فدخل بيت الشعر؛ فإنه يحنث؛ لأن بيت الشعر يَصْدق عليه أنه بيتٌ حقيقةً وعرفًا، كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا [النحل:80].
يعني هذه أمثلةٌ لتوضيح الفكرة، يعني: حلف لا يضرب فلانة، لكنه خنقها، أو نتف شعرها، أو عضها، فإنه يحنث بذلك؛ لأن قصده إيلامها، وقد تحقق بما ذكر.
إن عُدم العرفُ؛ رجع للُّغة
ثم قال المصنف رحمه الله:
يعني الآن قلنا: يُرجع في تحديد اليمين إلى النية، ثم إلى السبب الذي هيَّجها، ثم إلى التعيين بالإشارة، ثم إلى الاسم، ونُقدِّم الاسم الشرعي، ثم العرفي، ثم آخر مرحلة الاسم اللغوي.
قال: "فإن عُدم"، يعني ما سبق كله عُدِم، وعدم العرف؛ رجع إلى اللغة، إذا لم يوجد في الاسم معنًى شرعيٌّ، ولا معنًى عرفيٌّ؛ فيرجع إلى المعنى اللغوي.
ثم وضح المؤلف هذا بأمثلةٍ، قال:
إذا حلف لا يأكل لحمًا، ولم يكن له نيةٌ، ولم يكن هناك سببٌ ولا تعيينٌ بالإشارة، وليس هناك أيضًا معنًى شرعيٌّ ولا معنًى عرفيٌّ؛ نرجع للمعنى اللغوي، فيحنث بأكل كل ما يسمى في اللغة لحمًا، ومن ذلك: لحم الطيور؛ كالدجاج والسمك والبط ونحو ذلك؛ لأن هذا يسمى لحمًا، والله تعالى يقول: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14]، بل حتى يحنث بأكل اللحوم المحرمة؛ كالميتة والخنزير، وأيضًا الحيوانات غير المأكولة؛ كالفهد ونحوه، لكن لا يحنث بما لا يُسمى لحمًا؛ كالشحم والكبد والكُلْية والأَلْية ونحو ذلك؛ يقولون: لأن إطلاق اللحم في اللغة لا يتناول شيئًا من ذلك.
يعني: حلف لا يأكل لبنًا؛ يحنث بتناول جميع أنواع اللبن، سواءٌ كان حليبًا أو رائبًا أو مائعًا أو مجمدًا أو جبنًا، هذا كله يدخل في ذلك، ويحنث أيضًا حتى لو شرب لبن امرأةٍ؛ لأن اسم اللبن يدخل في هذا.
حلف لا يأكل رأسًا ولا بيضًا، يحنث بأكل كل رأسٍ وبيضٍ، حتى بأكل رأس الجراد.
وأيضًا حلف "لا يأكل بيضًا"؛ يحنث بأكل بيض الجراد؛ لدخوله في مسمى الرأس والبيض.
يعني: إذا حلف لا يأكل فاكهةً؛ فإنه يحنث بكل ما يتفكه به عادةً من أنواع الفواكه؛ مثل البطيخ، البطيخ يعتبر فاكهةً، لكن الأشياء التي لا تعتبر فاكهةً لا يحنث بأكلها؛ كالقثاء والخيار، هذه خضراواتٌ وليست فواكه، فلا يحنث بأكلها.
وأيضًا الزيتون لا يحنث بأكله؛ لأنه لا يعتبر فاكهةً، وكذلك "الزعرور الأحمر"، الزعرور الأحمر: ثمرةٌ تُشبه الرُّمَّان من حيث الشكل الخارجي، فهي لا تدخل في الفاكهة؛ فلا يحنث بأكلها.
حلف لا يتغدى، فأكل بعد زوال الشمس؛ فإنه لا يحنث إذا لم يكن له نيةٌ، لماذا؟ لأن الغداء عند العرب من طلوع الفجر إلى الزوال، العرب تُسمِّي الغداء ما كان قبل الزوال، يعني قبل أذان الظهر، هذا الغداء، العرب كانت تتغدى قبل الزوال، يعني قبل الظهر، بخلاف واقع الناس اليوم أن الغداء بعد الظهر، لكن عند العرب كانوا يتغدون قبل الظهر، ولهذا كما جاء في الحديث عن سهل بن سعدٍ قال: "ما كنا نَقِيل ولا نتغدَّى يوم الجمعة إلا بعد الزوال" [5]، يعني الجمعة استثناء، استثناءً يتغدون بعد الزوال، وإلا فالأصل أنهم يتغدون قبل الزوال، وهكذا أيضًا بالنسبة للقيلولة؛ القيلولة قبل الزوال، لكنهم الجمعة استثناءً يجعلون القيلولة بعد الزوال.
فإذا حلف أنه لا يتغدى، فأكل بعد الزوال؛ لم يحنث، إلا إذا كان له نيةٌ.
العشاء مأخوذٌ من العَشِي، والعشي: من زوال الشمس إلى منتصف الليل؛ فإذا تعشى، أكل بعد منتصف الليل؛ فإنه لا يحنث.
السُّحور مأخوذٌ من السَّحَر، وهو من نصف الليل إلى طلوع الفجر؛ فإذا حلف أنه لا يتسحر، لكن أكل قبل منتصف الليل؛ فإنه:
هكذا كما ذكرت من حيث اللغة، لكن في عرف الناس: الغداء يجعلونه بعد الزوال، والعَشاء عندهم قد يكون بعد منتصف الليل، وقد يكون قبله، والسُّحور يكون آخر الليل، وقد يكون قبله، فإذنْ يُنظر للنية أولًا، ثم السبب، ثم التعيين بالإشارة، ثم الاسم، يُقدم الاسم الشرعي، ثم العرفي، فإذا كان لهذه الأشياء معانٍ عرفيةٌ؛ تقدم على المعنى اللغوي، لكن لو لم يكن لها معانٍ عرفيةٌ؛ فتتقيد بما ذكره المصنف.
لأن الثمرة هي ما يؤكل من الشجرة عادةً، وهي المعنى المتبادر إلى الذهن؛ فلا يحنث بأكل غير الثمرة، لا يحنث مثلًا بأكل ورقها ونحوه.
لو حلف لا يأكل من هذه البقرة؛ يحنث بأكل أي شيءٍ من هذه البقرة؛ من لحمها أو شحمها أو كبدها أو أي شيءٍ منها، لكن لا يحنث بشرب لبنها، ولا بأكل ولدها؛ لأنهما ليسا من أجزائها المتصلة.
ولو حلف:
يعني لو حلف لا يشرب من هذا النهر، أو حلف لا يشرب من هذه البئر، لكنه اغترف بإناءٍ وشرب؛ فيحنث، لماذا؟ لأن الشرب من النهر أو البئر عادةً يكون بالاغتراف إما بيده أو بإناءٍ، فيُحمل على ما جرت به العادة في الشرب؛ ولهذا قال المصنف:
فإنه لا يحنث، لماذا؟ لأن الإناء آلةٌ للشرب، فحقيقة الشرب منه: أن يَكْرَع فيه، ولم يوجد ذلك، فإذا صبَّ مِن إناءٍ وشرب؛ لم يكن شاربًا منه.
مسائل في الأيمان
ثم قال المصنف رحمه الله:
ومن حلف لا يدخل دار فلانٍ.
يعني هذا تشقيق من المصنف في توضيح هذه المسائل، لكن هذا هو الفصل الأخير من "جامع الأيمان".
"مَن حلف لا يدخل دار فلانٍ، أو لا يركب دابته"، فإن ذلك يشمل ما جعله لعبده، لماذا؟ لأن العبد مالٌ لسيده، وكذلك أيضًا بما آجره أو استأجره من دارٍ أو دابةٍ؛ لأن الدار تُضاف إلى ساكنها وتضاف إلى مالكها؛ ولهذا قال سبحانه: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق:1]، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، فأضاف البيوت للنساء، مع أنها لأزواجهن، لماذا؟ لسكناهن فيها، فإذنْ الإضافة تكون للساكن، وتكون للمالك.
لكن إذنْ إذا حلف لا يدخل دار فلانٍ؛ حنث بما جعله لعبده أو بما استأجره أو بما آجره، لكن لا يحنث بما استعاره، أو لا يحنث بركوب دابة فلانٍ، ثم استعار هذه الدابة؛ فإنه لا يملك منافع ما استعاره؛ فلا يحنث، بخلاف المستأجر فإنه يملك منافع العين المستأجرة.
قال:
مَن حلف لا يكلم إنسانًا، فإنه يحنث بتكليم أي إنسانٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، أو ذكرٍ أو أنثى، ويحنث "حتى بقول: اسكت"؛ لأن هذا كلامٌ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصِت؛ فقد لغوت [6]، فقوله: اسكت، أو أنصت، هذا يعتبر كلامًا؛ فيحنث به.
لأن المكاتبة والمراسلة هي نوعٌ من الكلام؛ ولهذا قال الله : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى:51]، فاستثنى من الكلام إرسال الرسول؛ فدل على أنه يشمله، لكن إن كان قصده بالكلام في يمينه: المشافهة؛ لم يحنث إذا كان له نيةٌ؛ فالعبرة بما نوى.
لأنه لم يبدأه بالكلام، ولم يسبقه بالكلام، وإنما تكلما في وقتٍ واحدٍ، فلا يحنث.
من حلف أنه لا ملك له، لكن له دَينٌ على غيره، يقولون: إنه لا يحنث، لماذا؟ لأن المِلك يختص بالأعيان من الأموال، فلا يشمل الدَّين، لكن لو قال وحلف:
لكنه له دَينٌ على فلانٍ، فإنه يحنث، لماذا؟ قالوا: لأن الدَّين مالٌ، يُسمى مالًا، وتجب فيه الزكاة، فإذا حلف لا مال له، أو لا يملك مالًا، وله دَينٌ على فلانٍ؛ فإنه يحنث بذلك، بخلاف ما لو حلف أنه لا مِلك له؛ فإنه لا يحنث لو كان له دَينٌ على فلانٍ؛ ولذلك فرقوا بين المسألتين.
يعني لو قال: "والله لأضربن فلانًا مئةً، فجمع العِصِيَّ وضربه بها ضربةً واحدةً؛ يقولون: إنه لا يحنث، ويكون قد برَّ بيمينه، لكن:
إن حلف ليضربنه مئةً، فجمع العِصِيَّ وضربه بها ضربةً واحدةً؛ فيقولون: إنه يحنث، لماذا؟ لأن الظاهر من هذه اليمين: أنه يريد ضربه بالسوط مئة ضربةٍ؛ لأجل أن يتكرر ألمه بتكرار الضرب.
وأما ما ذكره الله تعالى عن أيوب أنه حلف ليضربن زوجته مئةً، فأفتاه الله بأن يضربها بشِمْراخٍ فيه مئةٌ مرةً واحدةً: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ص:44]، فهذا خاصٌّ بأيوب ، ولم تكن كفارة اليمين قد شُرعت في وقته، لكن هذه قضيةٌ خاصةٌ بأيوب عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا امتن الله تعالى بذلك عليه: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ.
حلف وقال: والله لا أسكن هذه الدار، والله لأخرجن منها، أو والله لأرحلن منها، فيلزمه الخروج بنفسه وأهله وأولاده، وأيضًا بأمتعته؛ لأن هذا هو مقتضى يمينه.
إذا بقي أكثر من زمنٍ يمكنه فيه الخروج عادةً؛ فإنه يحنث.
بحث عن مسكنٍ ولم يجد، فأقام أيامًا وهو يبحث عن المسكن، أو أن زوجته أبت الخروج معه فخرج وحده، فيقولون في هذه الصور: لا يحنث.
يعني حلف ليخرجن من البلد فخرج، أو ليرحلن من البلد، فحكمه ما لو حلف ليخرجن من الدار على التفصيل السابق.
لأن الدار يخرج منها صاحبها في اليوم عدة مراتٍ، فظاهر حاله أنه لم يُرد الخروج المعتاد، وإنما أراد الخروج الذي هو النُّقْلة، والخروج من البلد بخلاف ذلك؛ ولذلك يبر بخروجه وحده إذا حلف ليخرجن من البلد.
يعني لو عاد إلى الدار أو البلد؛ فإنه لا يحنث، إلا إذا كان هناك نيةٌ أو سببٌ يقتضي هِجْران البلد أو الدار، فيحنث بمجرد عَوده.
يعني لو حلف ليسافرن، لكنه سافر سفرًا قصيرًا لا تُقصر فيه الصلاة، يعني أقل من أربعة بُرُدٍ، أقل من (80 كيلومترًا)؛ كأن يسافر مثلًا من مكة إلى جدة، أو من الرياض إلى الخَرْج مثلًا؛ فإنه لا يحنث، ويكون قد بر بيمينه إذا حلف ليسافرن؛ لأنه يصدق عليه أنه سفرٌ.
ولو حلف لا يسافر، لكنه سافر هذا السفر القصير؛ فإنه يحنث؛ لأن هذا يعتبر سفرًا، وأما مسألة القصر: فهذه الشارع رتَّب القصر والترخُّص برُخَص السفر على السفر الذي يبلغ أربعة بردٍ فأكثر، يعني (80 كيلومترًا) فأكثر، لكن أقل من أربعة بُردٍ أو أقل من (80 كيلومترًا) هو يسمى سفرًا، لغةً يطلق عليه سفرٌ، ويسمى سفرًا؛ فلذلك يدخل في هذا، فلو حلف ليسافرن، فسافر أقل من (80 كيلومترًا)، سافر مثلًا (60 كيلومترًا)؛ فإنه يكون قد بر بيمينه ولم يحنث، ولو حلف لا يسافر، فسافر سفرًا (60 كيلو)؛ فإنه يكون قد حنث بذلك.
يعني: كالسفر القصير فيما ذكرت، لو حلف لينامن، فنام نومًا يسيرًا؛ لم يحنث، حلف لا ينام، فنام نومًا يسيرًا؛ يحنث.
لأن إقراره على خدمته استخدام له.
يعني لو حلف، قال: والله ما أَبِيت ببلد كذا، أو لا آكل ببلد كذا، فبات أو أكل خارج بنيان ذلك البلد؛ لم يحنث؛ لعدم تحقق المحلوف عليه.
لأن الفعل يُضاف إلى الموكِّل؛ ولهذا قال سبحانه: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، مع أن الحالق غيرهم، والمقصر غيرهم، لكن لما كانوا موكِّلين؛ أُضيف الحلق والتقصير إليهم؛ وعلى هذا: لو حلف ألا يبيع سيارته لفلانٍ، فوكل من يبيعها إياه؛ فإنه يحنث؛ لأن فعل الوكيل يضاف إلى الموكِّل.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن "جامع الأيمان".
باب النذر
تعريف النذر لغةً واصطلاحًا
النذر معناه في اللغة: الإيجاب، يقال: نَذَر دم فلانٍ؛ يعني أوجب قتله.
واصطلاحًا، أجود ما قيل في تعريفه: "إلزامُ مُكلَّفٍ مختارٍ نفسَه لله تعالى بالقول بشيءٍ غير واجبٍ عليه بأصل الشرع".
"إلزام مكلفٍ": خرج به غير المكلف؛ كالمجنون، وغير البالغ، فلا ينعقد نذرهم.
"مختارٍ": خرج به المُكرَه، فلا ينعقد نذره.
"بالقول": فلا بد من صيغٍ قوليةٍ للنذر، ولا يكفي النية.
"غير واجبٍ عليه بأصل الشرع": يعني كأن يلزم نفسه بشيءٍ مباحٍ أو مستحبٍّ فيكون نذرًا.
حكم إنشاء النذر
هنا المؤلف بيَّن حكم إنشاء النذر، قال: "مكروهٌ"، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو أيضًا مذهب الشافعية؛ لأن النبي نهى عن النذر، وقال: إنه لا يرد من قدر الله شيئًا [7]، فالنهي عن النذر هنا حمل على الكراهة وليس على التحريم، لماذا؟ الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، فلماذا لم نحمل النهي الوارد في هذا الحديث -أن النبي نهى عن النذر- على التحريم، وإنما حملناه على الكراهة؟
أجاب عن هذا السؤال الموفق بن قدامة رحمه الله فقال: "هذا نهي كراهةٍ لا نهي تحريمٍ؛ لأنه لو كان حرامًا؛ لما مدح المُوفِين به -يعني في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]- لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه؛ ولأن النذر لو كان مستحبًّا؛ لفعله النبي وأفاضل أصحابه".
فإذنْ هذا النهي إما أن يكون حرامًا أو مكروهًا؛ أما حرامًا: فلا يمكن أن يكون النذر حرامًا والله تعالى يمدح ويُثني على المُوفِين به؛ فإذنْ يُحمل على الكراهة، فيكون ابتداءً إنشاءُ النذر مكروهًا.
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه مستحبٌّ، وهذا مذهب الحنفية؛ قالوا: لأن الله مدح الموفين به، وهذا يدل على أنه مستحبٌّ.
ومن العلماء من ذهب أيضًا للتحريم، وحملوا النهي الوارد في الحديث على التحريم، وقالوا: إن الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم.
والراجح -والله أعلم- هو القول الأول: وهو أن إنشاء النذر مكروهٌ، ولا يقال باستحبابه؛ لأنه لو كان مستحبًّا؛ لفعله النبي والصحابة ، ولم يَرِد هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن أفاضل أصحابه، والتحريم: يصعب القول بأن في إنشاء النذر التحريم، والله تعالى مدح الموفين به؛ فالأقرب: أن إنشاء النذر مكروهٌ.
قال:
أخذ المصنف هذا من الحديث السابق، نهى النبي عن النذر وقال: إنه لا يَرُد شيئًا، وإنما يُستخرج به من البخيل [8]، وجاء في حديث أبي هريرة في "صحيح مسلمٍ": إن النذر لا يقرِّب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، لكن النذر يوافق القدر، فيُخرَج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرِج [9].
وقوله: لا يأتي بخيرٍ، يعني: أن عُقباه لا تُحمد، وأكثر الناذرين يندمون، وعندما تستمع لبرامج الإفتاء واستفتاءات المفتين؛ تجد أن كثيرًا من أسئلة المستفتين عن أناسٍ نذروا نذورًا ثم ندموا، ويريدون من المفتي أن يفتيهم بالمَخْرج وبالخلاص، وبعضهم يُضيِّق على نفسه بهذا النذر ويُحرِج نفسه؛ فإذن هو لا يأتي بخيرٍ، وهذا أيضًا يؤيد القول بأنه مكروهٌ، فكيف يكون مستحبًّا والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إنه لا يأتي بخيرٍ؟! لأن قوله: لا يأتي بخيرٍ، هذا ذمٌّ له، وأقل ما يحمل عليه ذلك الكراهة.
وقوله : إنما يُستخرج به من البخيل، يعني: أن الناذر لا يأتي بهذه القُربة تطوعًا محضًا ابتداءً، وإنما يأتي بها في مقابلة شيءٍ آخر علَّق النذر عليه، فيكون بخيلًا بذلك؛ لأن الكريم يأتي بتلك الأعمال الصالحة من غير حاجةٍ إلى أن يُلزم نفسه بهذا النذر، فهذا لا يفعل شيئًا إلا بإلزامٍ؛ يعني يدل على أن عنده بخلًا، يُستخرج به من البخيل، وإلا فالكريم لا يحتاج للنذر، ويعمل الطاعات من غير أن ينذر.
النذر لا ينعقد إلا بالقول الدال عليه
قال:
يعني النذر لا ينعقد إلا بالقول الدال عليه، لكن هل للنذر صيغةٌ معينةٌ؟ الجواب: ليس له صيغةٌ معينةٌ، بل ينعقد بكل قولٍ يدل على الالتزام بالشيء لله تعالى، ومن ذلك أن يقول: لله عليَّ نذرٌ، أو لله علي أن أفعل كذا، أو أعاهد الله أن أفعل كذا، هذه كلها من صيغ النذر، وهنا النذر التزامٌ لله وبالله، فهو أقوى من اليمين؛ اليمين التزامٌ بالله ، يعني تعظيمٌ لله سبحانه بهذا الالتزام، لكن النذر التزامٌ لله وبالله .
ولهذا لو حلف إنسانٌ على أن يأتي بطاعةٍ؛ فهو مخيرٌ؛ إن شاء أتى بها، وإن شاء كفَّر كفارة يمينٍ، قال: والله لأصومن ثلاثة أيامٍ، إن شاء صام ثلاثة أيامٍ، وإن شاء كفَّر كفارة يمينٍ، لكن لو نذر نذر طاعةٍ؛ قال: لله علي نذرٌ أن أصوم ثلاثة أيامٍ؛ يجب عليه أن يصوم ويأتي بهذه الطاعة، وليس له أن يعدل للكفارة؛ لأن النذر أقوى من اليمين، فالنذر -كما قال ابن القيم- التزامٌ لله وبالله، بخلاف اليمين، فإنها التزامٌ بالله .
لا يصح النذر إلا من مكلفٍ مختارٍ
قال:
يعني لا يصح النذر إلا من المكلف المختار؛ فلا يصح من الصبي، ولا من المجنون، ولا من المكره.
أنواع النذر المنعقدة وأحكامها
الأول: النذر المطلق
انتقل المؤلف لأقسام النذر:
هذا يسميه الفقهاء النذر المطلق: لله علي نذرٌ، ويسكت، أو يقول: نذرت ولا أدري ما الذي نذرت عليه، أو لا يسمي شيئًا، أو أيضًا إذا كان مبهمًا، قال: لله علي نذرٌ إن فعلت كذا، ثم لا يفعله؛ فهنا عليه كفارة يمينٍ.
وقد جاء في حديث عقبة : كفارة النذر إذا لم يُسَمَّ كفارة يمينٍ [10]، وهو حديثٌ ضعيفٌ، أخرجه الترمذي وابن ماجه، والمحفوظ في هذا الحديث: كفارة النذر كفارة اليمين [11]، كما عند مسلمٍ، لكن، صح عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: مَن نذر نذرًا ولم يُسَمِّه؛ فكفارته كفارة يمينٍ [12].
فإذنْ النذر المطلق فيه كفارة يمينٍ.
الثاني: نذر اللَّجَاج
هذا يسميه الفقهاء نذر اللَّجَاج والغضب، وإن كان لا يلزم منه أن يكون فيه لَجَاجٌ أو غضبٌ، لكن الفقهاء ذكروا ذلك؛ لأنه غالبًا يصحبه شيءٌ من هذا، وهو تعليق النذر بشيءٍ يُقصد منه المنع أو الحض على فعله، أو التصديق أو التكذيب؛ كأن يقول: إن كلمتك؛ فلله عليَّ نذرٌ أن أصوم سنةً أو أحج، يريد منع نفسه من تكليمه، أو يقول: إن لم أعطك دينك؛ فلله علي نذرٌ أن أتصدق بكذا، يريد حث نفسه على سداد الدين، أو إن كان هذا الخبر غير صحيحٍ؛ فلله علي نذرٌ أن أتصدق بكذا، أو إن لم يكن هذا الخبر كاذبًا؛ فلله علي نذرٌ أن أتصدق بكذا؛ فهذا نذرٌ يريد صاحبه به المنع أو الحض، أو التصديق أو التكذيب، فهذا ما الحكم فيه؟
قال المصنف:
الثالث: النذر المباح
قال:
"المباح" يعني: ما استوى فعله وتركه، لله علي أن ألبس هذا الثوب، لله علي نذرٌ أن أركب هذه السيارة، ونحو ذلك من الأمور المباحة، الحكم في هذا قال:
يعني بين أن يفي بالنذر أو أن يكفر كفارة يمينٍ، وقد جاء في حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده: أن امرأةً أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفِ بنذرك [15]، أخرجه أبو داود.
هذا يقال: إنه مثالٌ للنذر المباح.
الرابع: النذر المكروه
يعني: ينذر شيئًا مكروهًا في الشرع؛ كأن يطلق زوجته بدون بسببٍ، بدون مسوغٍ شرعيٍّ؛ فهنا الأفضل أن يكفر كفارة يمينٍ ولا يفعله؛ لأن ترك المكروه أولى من فعله.
لكن إن فعله؛ فلا كفارة عليه، وإن لم يفعله؛ فيكفر كفارة يمينٍ.
الخامس: نذر المعصية
نذر المعصية يحرم الوفاء به قولًا واحدًا؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: من نذر أن يعصي الله فلا يَعصِه [16].
كفارة نذر المعصية
قال:
يعني إذا نذر نَذْرَ معصيةٍ؛ يكفر كفارة يمينٍ، وهذه المسألة فيها قولان للفقهاء:
- القول الأول: أنه تجب عليه الكفارة، وهذا المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: لا نذر في معصيةٍ، وكفارته كفارة يمينٍ [17]، أخرجه أصحاب السنن؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي سنده مقالٌ، ولكن قالوا: إن الأصول والقواعد الشرعية تقتضي وجوب الكفارة في نذر المعصية؛ لأن الناذر نذر معصيةٍ ارتكب إثمًا بمجرد نذره، فهو أحوج إلى الكفارة؛ لمحو الإثم، وأيضًا قالوا: إن هذا مرويٌّ عن عددٍ من الصحابة، فهو مرويٌّ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وجابرٍ وعمران وسَمُرة .
- والقول الثاني: قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية: أن نذر المعصية ليس فيه كفارةٌ، وقالوا: الأصل براءة ذمة المكلف، والحديث الذي استدل به الموجبون للكفارة -لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمينٍ- حديثٌ ضعيفٌ.
والراجح: القول الأول، وهو مذهب الحنابلة، وهو أن نذر المعصية فيه كفارةٌ؛ أولًا لأن الحديث مِن العلماء مَن صحَّحه؛ كالحافظ ابن حجرٍ، وحتى ولو قلنا بضعف الحديث؛ فقد قال بمُوجَبه عددٌ من الصحابة كما ذكرنا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعِمران وسمرة ، وأيضًا الناذر نَذْر معصيةٍ ارتكب إثمًا؛ فهو أحوج إلى الكفارة.
فالراجح والله أعلم: أن نذر المعصية فيه الكفارة.
قال:
يعني من نذر أن يصوم يوم العيد؛ قضى يومًا، ومن نذر صوم أيام التشريق؛ قضى ثلاثة أيامٍ، ولا يصوم يوم العيد ولا أيام التشريق، لكن ينعقد نذره، فتصح منه القربة، ويُلغى تعيينه؛ لكونه معصيةً، فيقضي يومًا مكانه، ويكفر كفارة يمينٍ، يعني نَذَر أن يصوم يوم العيد، نقول: صم يومًا مكان يوم العيد، وكَفِّر كفارة يمينٍ.
السادس: نذر التبرر
ويسمى نذر الطاعة، ومَثَّل له المصنف:
هذا يسميه العلماء نذر الطاعة، وهو على نوعين:
- النوع الأول: أن ينذر الطاعة مطلقًا من غير أن يعلق ذلك بشرطٍ؛ كأن يقول: لله علي أن أصوم كذا، أو لله علي أن أتصدق.
- الثاني: أن يعلق نذره بشرطٍ لله تعالى: عليَّ نذرٌ إن شفى الله مريضي أن أصوم يومًا أو يومين أو ثلاثةً؛ فقال:
يعني نذر الطاعة يجب الوفاء به؛ لقول النبي : من نذر أن يطيع الله فليطعه [18]، فنذر الطاعة يجب الوفاء به، وليس له أن يكفر كفارة يمينٍ، وإنما يفي بنذر الطاعة.
ومن نذر نذر طاعةٍ ولم يف به؛ فهو على خطرٍ عظيمٍ؛ ولذلك بيَّن الله عقوبة من نذَر نذْر طاعةٍ ولم يَفِ به فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ [التوبة:75]، معاهدة الله هي من صيغ النذر، إذا قال: أعاهد الله، أو لله علي عهدٌ، كما سبق، هذه من صيغ النذر، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ يعني: نَذَرَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [التوبة:75]، هذا نذر الطاعة، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني: لما تحقق النذر بَخِلُوا بِهِ لم يفوا بهذا النذر، وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:76]، ما عقوبتهم؟ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:77]، يعني عقوبتهم شديدةٌ، وهي أن يُلقَى النفاق في قلوبهم إلى الممات، وقد لا يشعرون بهذه العقوبة، وهذا من أشد ما يكون من العقوبات، نسأل الله العافية!
وهذا يدل على أن الإنسان إذا نذَر نذْر طاعةٍ؛ فعليه أن يفي بذلك النذر، وإلا فهو على خطرٍ عظيمٍ من أن يُعاقَب بهذه العقوبة، وأن يلقى النفاق في قلبه إلى الممات ولا يُوفَّق للتوبة، لكن لو عجز عن الوفاء بنذر الطاعة، أو شق عليه مشقةً شديدةً؛ كأن ينذر أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فما استطاع لمرضٍ أو كبرٍ ونحوه؛ فإنه يُكفر كفارة يمينٍ.
حكم من نذر صوم شهر معين
ثم قال المصنف رحمه الله:
ومن نذر صوم شهرٍ معينٍ؛ لزمه صومُه متتابعًا.
إذا قال: لله عليَّ نذْرٌ أن أصوم شهر محرمٍ أو شهر صفرٍ؛ لزمه أن يصومه متتابعًا، لماذا؟ لأن إطلاق الشهر يقتضي أن يكون متتابعًا.
إذا أفطر أثناء الشهر المعين الذي نذره؛ فإنه يأثم إذا كان ذلك لغير عذرٍ، وأيضًا يلزمه أن يستأنف صوم هذا الشهر من جديدٍ؛ لئلا يفوت التتابع، وتلزمه كفارة يمينٍ؛ لأنه فوَّت محل الصوم، وهو الشهر المعين الذي نذره؛ فعليه هذه الأمور الثلاثة:
- أولًا: أنه يأثم؛ فعليه التوبة.
- ثانيًا: يلزمه استئناف الصوم من جديدٍ.
- ثالثًا: كفارة يمينٍ.
طيب، إن كان لعذرٍ؟ إن أفطر لعذرٍ؟ قال:
إن أفطر في أثناء الشهر المعين لمرضٍ مثلًا أو لحيضٍ بالنسبة للمرأة؛ بنى على ما مضى، ولا يلزمه الاستئناف، لكن عليه كفارة يمينٍ؛ بسبب فوات التتابع.
حكم من نذر شهرًا مطلقًا
قال: لله علي نذرٌ أن أصوم شهرًا، هل يلزمه أن يكون هذا الصيام متتابعًا؟ المؤلف يقول: نعم، يلزمه التتابع في هذه الحال، وهكذا لو نذر صومًا متتابعًا لكنه غير مقيدٍ بزمنٍ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات.
والقول الثاني: قول الجماهير من الحنفية والمالكية والشافعية: أنه لا يلزمه التتابع إلا إذا نواه أو شرطه، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، وعلى ثلاثين يومًا، ويطلق على ما إذا صام ثلاثين يومًا؛ أجزأه، ويَصدُق عليه أنه صام شهرًا ولا يلزمه التتابع.
ولو كان الشهر عند الإطلاق يستلزم التتابع؛ لكان اشتراط التتابع في قول الله : فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن [النساء:92] لغوًا لا حاجة إليه، فلما اشترط الله تعالى التتابع في قوله: شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن؛ دل هذا على أن الشهر -عند الإطلاق- لا يستلزم التتابع.
قال:
يعني إن أفطر أثناء الشهر المطلق لغير عذرٍ؛ لزمه استئناف الصوم من أوله، ولا تلزمه الكفارة؛ لأنه لم يفوت زمن النذر؛ لأن الشهر مطلقٌ، ووجوب استئناف الصوم بناء على القول بوجوب التتابع الذي هو المذهب عند الحنابلة.
وسبق أن ذكرنا أن القول الراجح هو قول الجمهور، وهو القول بعدم لزوم التتابع؛ وعليه: فلا يلزمه استئناف الصوم، وإنما يبني على صيامه السابق.
وهكذا أيضًا في قوله:
يعني أفطر في أثناء الشهر المطلق لعذرٍ؛ خير بين أن يستأنف الصوم من جديدٍ ولا كفارة عليه، وبين أن يبني على صومه السابق ويكفر؛ لأنه فاته التتابع، طبعًا هذا بناءً على القول المرجوح، وهو القول بوجوب التتابع في نذر الشهر المطلق، وسبق أن ذكرنا أن القول الراجح: عدم وجوب التتابع، كما هو قول الجمهور.
حكم من نذر أمرًا مفضولًا فأتى بأفضل منه
هذا رجلٌ نذر أن يصلي لله صلاةً تطوعًا جالسًا فصلاها قائمًا؛ فلا بأس بذلك، لماذا؟ لأن الصلاة قائمًا أفضل من الصلاة جالسًا، فهو انتقل من مفضولٍ إلى فاضلٍ، وقد جاء في حديث عمران بن حصينٍ قال: سألت رسول الله عن صلاة الرجل قاعدًا؟ قال: إن صلى قائمًا؛ فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا؛ فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائمًا؛ فله نصف أجر القاعد [19]، أخرجه البخاري في "صحيحه".
فالنذر يجوز فيه الانتقال لما هو أفضل، لكن من جنسه، ويدل لذلك ما جاء عند أبي داود وأحمد بسندٍ صحيحٍ من حديث جابرٍ : أن رجلًا جاء يوم الفتح إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صلِّ هاهنا، يعني في المسجد الحرام، ثم أعاد عليه، قال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه، قال: شأنَكَ إذنْ [20].
فمن نذر أن يصلي في بيت المقدس أو في المسجد النبوي؛ فله أن يصلي في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في بيت المقدس، وأفضل من الصلاة في المسجد النبوي.
من نذر أن يصلي جالسًا؛ فله أن يصلي قائمًا؛ لأن الصلاة قائمًا أفضل من الصلاة قاعدًا، فإذنْ من نذر نذرًا؛ فله أن ينتقل إلى ما هو أفضل منه من جنسه.
وبهذا نكون قد انتهينا من مسائل وأحكام النذر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
^1 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 1653. |
^3 | رواه مسلم: 2699. |
^4 | رواه البيهقي: 14924. |
^5 | رواه البخاري: 939، ومسلم: 859. |
^6 | رواه البخاري: 934، ومسلم: 851. |
^7 | رواه البخاري: 6608، ومسلم: 1639. |
^8, ^13, ^18 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه مسلم: 1639. |
^10 | رواه الترمذي: 1528، وابن ماجه: 2127. |
^11 | رواه مسلم: 1645. |
^12 | رواه أبو داود: 3322، وابن ماجه: 2128. |
^14 | رواه أحمد: 19888، والنسائي: 3842. |
^15 | رواه أبو داود: 3312. |
^16 | رواه البخاري: 6696. |
^17 | رواه أبو داود: 3290، والترمذي: 1524، والنسائي: 3835، وابن ماجه: 2125. |
^19 | رواه البخاري: 1115. |
^20 | رواه أحمد: 14919، وأبو داود: 3305. |