جدول المحتويات
- باب الذَّكاة
- كتاب الصيد
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته إلى يوم الدين.
حيَّاكم الله تعالى في هذا الدرس في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
وصلنا في التعليق على "السلسبيل" إلى:
باب الذَّكاة
تعريف الذَّكاة
الذَّكاة في اللغة: مادة "الذَّكاة" تدل على معنى: تمام الشيء، ومنه سُمِّي الذبح: ذَكَاةً؛ لأنه فيه إتمامٌ للزُّهوق.
وقال بعض أهل اللغة: إن الذَّكاة من الذَّكاء، وهو الحِدَّةُ والنُّفوذُ؛ وذلك لأنه في الذبح يكون الذبحُ بآلةٍ حادَّةٍ نافذةٍ.
والذَّكِيُّ يقولون: نافذ البصيرة، حادُّ الذِّهن.
إذن مادته في اللغة العربية تدور حول هذين المَعْنَيَيْن.
أما معناها اصطلاحًا فعرَّفها المُصنِّف رحمه الله فقال:
اعترض بعض العلماء على هذا التعريف، قالوا: إنه لا يشمل الحيوان المُمتنع من الذبح، مثل: بعير نَدَّ وشَرَدَ وهرب، أو مثل: بقرة هربتْ وتوحَّشَتْ، أو مثل: ضأن ذهب وهرب ولم يُقْدَر عليه؛ فهنا يُشْرَع أن يُعْقَر كما سيأتي، يعني: يُذْبَح في أي مكانٍ من جسده، وهذا التعريف لا يشمله.
ولذلك أضاف بعض العلماء لهذا التعريف عبارة: "أو عقر مُمْتَنِعٍ"، يعني: ذبح أو نحر الحيوان المقدور عليه أو عقر مُمْتَنِعٍ.
إلا أنه أيضًا اعتُرِضَ على هذا التعريف بأنه غيرُ مانعٍ، فإذا قلنا: ذبح أو نحر الحيوان المقدور عليه، فيدخل في ذلك مُحَرَّم الأكل، ويدخل في ذلك أيضًا الحيوان البحري، ومُحَرَّم الأكل لا يُذَكَّى، والبحري أيضًا لا يُذَكَّى؛ ولذلك أضاف بعض العلماء لهذا التعريف قيدًا، وهو: المأكول البَرِّي.
فيكون التعريف بناءً على هذه التقييدات وهذه الملحوظات: "ذبح أو نحر الحيوان المأكول البَرِّي، أو عقر مُمْتَنِعٍ"، وهذا تعريفٌ جامعٌ مانعٌ.
يعني: نُضيف إلى تعريف المؤلف: "المأكول البَرِّي" حتى يكون مانعًا، ونُضيف أيضًا: "أو عَقْر مُمْتَنِعٍ" حتى يكون جامعًا، فيكون التعريف بهذا تعريفًا جامعًا مانعًا: "ذبح أو نحر الحيوان المأكول البَرِّي، أو عقر مُمْتَنِعٍ".
والحكمة من مشروعية الذكاة: تطييب الحيوان المُذَكَّى؛ ولهذا فإن الميتة إنما حُرِّمتْ لما يترتب على موتها من احتقان الفضلات والرطوبات في الدم، وكذلك احتقان الدم الخبيث فيها، والذَّكاة تُزيل ذلك الدم، وتُزيل تلك الفضلات؛ ولهذا ما لا دمَ له يسيل من الحشرات لا يَنْجُس بالموت.
الحشرات التي لو قُتِلَتْ لا يسيل منها دمٌ، هذه طاهرةٌ، ليست نجسةً، كالبعوض -مثلًا- والذباب والحشرات الصغيرة؛ وذلك لأنه ليس لها دمٌ يسيل، فمسألة احتقان الدم والفضلات غير واردةٍ فيها، ويدل على ذلك قول النبي : إذا وقع الذبابُ في شراب أحدكم فَلْيَغْمِسْهُ ثم لِيَنْزَعْه؛ فإنَّ في إحدى جناحَيْه داءً، والأخرى شفاءً [1].
ووجه الدلالة: أنه لو كان الذباب يَنْجُس بالموت لما أمر النبي بِغَمْسِه في الشراب، فأخذ الفقهاء من هذا قاعدةً هي: أن ما لا دمَ له يَسيلُ فإنه طاهرٌ، وليس نجسًا.
شروط الذَّكاة
قال:
يعني: شروط الذَّكاة أربعةٌ.
الشرط الأول: كون الفاعل عاقلًا، مُمَيِّزًا، قاصدًا للذَّكاة
ويُعبِّر عن هذا الشرط بعضُهم بأهلية المُذَكِّي، بأن يكون المُذَكِّي عاقلًا، مُمَيِّزًا، قاصدًا للذَّكاة.
أن يكون المُذَكِّي عاقلًا: فلا تَحِلُّ ذكاة المجنون ولا السَّكْرَان.
مُميِّزًا: لا تَحِلُّ ذكاة غير المُمَيِّز؛ وذلك لأن هؤلاء لا يعقلون النية، ولا تصحُّ منهم النية، ولا يصحُّ منهم قصد التَّذكية، لكن الصبي المُمَيز تصحُّ ذكاته؛ وذلك لأنه توجد منه نيةٌ وقصدٌ، فلا يُشْتَرَط في التَّذكية -إذن- البلوغ.
وأما قصد التَّذكية فبعضهم قال: إنه ليس مُرتبطًا بشرط أهلية المُذَكِّي؛ ولذلك أفردوه بشرطٍ مُستقلٍّ؛ لأن شرط قصد التَّذكية ليست له علاقةٌ بالأهلية، وبعضهم جعله تابعًا، وأتى بالعبارة التي ذكرها المُصنِّف: "أن يكون الفاعل عاقلًا، مُميِّزًا، قاصدًا للذكاة"، ولا مُشاحةَ في الاصطلاح.
والدليل لاشتراط قصد التَّذكية قول الله : إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، والفعل لا بد فيه من قصدٍ.
وبناءً على ذلك: لو وقعتْ آلةٌ حادَّةٌ على رقبة حيوانٍ فمات، لم يَحِلَّ؛ لعدم قصد التَّذكية.
يعني مثلًا: رمى بالسكين فوقعتْ على رقبة حيوانٍ فمات، هنا لا يَحِلُّ؛ لعدم قصد التَّذكية، أو رمى بندقيةً في الهواء فسقط طيرٌ، لا يَحِلُّ؛ لعدم قصد التَّذكية.
حكم ذبيحة المرأة
قال:
المرأة تَحِلُّ ذبيحتُها؛ لعموم الأدلة، ومنها قول الله : إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ.
وقد جاء في ذلك حديث كعب بن مالكٍ قال: كانت لهم غنمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ -يعني: بجبل سَلْعٍ- فأَبْصَرَتْ جاريةٌ لنا بشاةٍ من غنمنا موتًا -تكاد تموت- فكسرتْ حجرًا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي . فسأل النبي فأمره بأكلها [2].
وهذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه"، يعني: هو صحيحٌ وصريحٌ في حِلِّ ذكاة المرأة، فالمرأة في التَّذكية كالرجل.
حكم ذبيحة الرَّقيق والجُنُب والفاسق
قال:
يعني: الرَّقيق.
"القِنّ" معناه: الرقيق.
"والجُنُب" وكذلك الفاسق تَحِلُّ ذكاتهم؛ لعموم الأدلة.
حكم ذبيحة أهل الكتاب
أي: تَحِلُّ ذكاتُه.
والمقصود بالكتابي: اليهودي أو النصراني، فهؤلاء هم أهل كتابٍ، فذبائحهم حلالٌ كذبائح المسلمين؛ لقول الله : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:5]، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "طعامهم: ذبائحهم".
فمَن انتسب إلى أُمةٍ يهوديةٍ أو نصرانيةٍ فذبيحته حلالٌ للمسلمين.
وبعض الناس يطرح طرحًا، يقول: إن هؤلاء النصارى الآن -أو كثيرًا منهم- أَشْبَهُ بالملاحدة أو اللا دينيين؛ لأنهم غير مُتمسكين بدينهم.
والجواب: أنهم ما داموا ينتسبون لأهل الكتاب، ما داموا ينتسبون لأُمةٍ يهوديةٍ أو نصرانيةٍ فالأصل حِلُّ ذبائحهم حتى لو لم يتمسكوا بدينهم، فإن الله أحلَّ لنا ذبائحهم مع وقوعهم في الشِّرك الأكبر، كما قال سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]، وقال سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وقال سبحانه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، ومع ذلك أباح الله لنا ذبائحهم.
ما دام أنهم ينتسبون لأُمةٍ يهوديةٍ أو نصرانيةٍ فالأصل حِلُّ ذبائحهم.
وعلى ذلك فاللحوم المُستوردة من بلاد أهل الكتاب الأصل فيها الحِلُّ والإباحة.
وقد جاء في "صحيح البخاري" عن عائشة رضي الله عنها: أن قومًا قالوا للنبي : إن قومًا يأتونا باللحم لا ندري: أَذُكِرَ اسم الله عليه أم لا؟ فقال لهم النبي : سَمُّوا عليه أنتم وكُلُوه [3].
وقوله: سَمُّوا عليه أنتم وكُلُوه فيه نوعُ توبيخٍ، يعني: لماذا تسألون؟! لا تسألوا، ابنُوا الأمر على الأصل، افعلوا ما هو مطلوبٌ منكم من التَّسمية على الأكل، وابنوا الأمر على الأصل ما دام أنه قد ورد من أهل كتابٍ.
حكم ذبيحة المُرتد
قال:
يعني: فلا تَحِلُّ ذكاتُهم.
فالمُرتدّ -الذي ارتدَّ إما بقولٍ أو بفعلٍ أو باعتقادٍ أو شَكٍّ- لا تَحِلُّ ذبيحته، وكذلك الوثنيّ لا تَحِلُّ ذبيحته.
وذكر المُصنِّف هنا: الدُّرْزيّ والنُّصَيْريّ؛ لوجودهم في بيئته؛ لأن أكثر الحنابلة كانوا في بلاد الشام، وكما ذُكِرَ بأن بداية النُّصيرية كانت عام 276، والمؤلف ذكر هؤلاء على سبيل التَّمثيل، وإلا كل مَن وقع في كُفْرٍ لم تَحِلَّ ذبيحته.
الشرط الثاني: الآلة
يعني: من الشروط.
ولو أن المُصنِّف عبَّر وقال: "أن يكون الذبح بآلةٍ مُحدَّدةٍ" لكان هذا أجود في العبارة.
والآلة المُحدَّدة هي التي يحصل بها إنهار الدم؛ لقول النبي : ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسم الله عليه فَكُلُوه، ليس السِّنّ والظُّفُر، وسأُحدِّثكم عن ذلك: أما السِّنُّ فَعَظْمٌ، وأما الظُّفُر فَمُدَى الحبشة [4]، متفقٌ عليه.
الشاهد قوله: ما أَنْهَرَ الدم، فالإنهار لا يكون إلا بمُحدَّدٍ.
جواز الذبح بما أَنْهَرَ الدم
ثم ذكر المؤلف أمثلةً لما يحصل به إنهار الدم فقال:
هذه كلها إذا كانت مُحدَّدةً فَتَحِلُّ التَّذكية بها.
الحجر إذا كان مُحدَّدًا كما في قصة كعب بن مالك، والقصب كذلك، والخشب، والحديد -وهو الغالب- وكذلك السلاح النَّاري بالنسبة للصيد، والسلاح النَّاري بالنسبة للصيد سيأتي، لكن هذا بالنسبة للذكاة لا بد من إنهار الدم.
فإنهار الدم يكون بالسكين، يكون -مثلًا- بحجرٍ مُحدَّدٍ، يكون بقصبٍ مُحدَّدٍ، يكون بخشبٍ مُحدَّدٍ، لا بد أن تكون كلها مُحدَّدةً، أما لو لم يكن مُحدَّدًا فلا تَحِلُّ التَّذكية به.
لكن المُصنِّف هنا قال: "وعَظْم"، فالمؤلف يرى أنه تصح التَّذكية بالعظم.
وقال بعض الفقهاء: لا تجوز التَّذكية بالعظم؛ لأن النبي قال في حديث رافع السابق: أما السِّنُّ فَعَظْمٌ.
والتعليل بكونه عظمًا معقول المعنى؛ لأن العظم إن كان من ميتةٍ فهو نجسٌ، والنَّجس لا يصح أن يُذَكَّى به، وإن كان العظم من مُذَكَّاةٍ ففي الذبح تنجيسٌ له.
والنبي نهى عن الاستجمار بالعظام؛ لأنها زاد إخواننا الجنّ، فإن الجنَّ لهم كل عَظْمٍ ذُكِرَ اسم الله عليه، يجدونه أوفر ما يكون لحمًا.
وعلى هذا فالقول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو اختيار ابن تيمية وجمعٍ من المُحققين من أهل العلم، وهو: أنه لا تَحِلُّ التَّذكية بالعَظْم.
الشرط الثالث: قطع الحُلْقُوم والمَرِيء
من الشروط.
والحُلْقُوم هو مجرى النَّفَس.
والمَرِيء: مجرى الطعام والشراب.
قال:
وهذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء على قولين:
القول الأول: أنه يُشترط قطع الحُلْقُوم والمَرِيء، ولا يُشترط قطع الوَدَجَين.
والوَدَجان: تثنية وَدَجٍ، وهما عِرْقَان غليظان مُحيطان بالحُلْقُوم يخرج منهما الدم بغزارةٍ، لو ذُبِحَت الذَّبيحة تجد وَدَجًا عن اليمين، ووَدَجًا عن اليسار يخرج منهما الدم بغزارةٍ، هذا يُسمَّى: وَدَجًا، وتثنيتُه: وَدَجان.
فالقول الأول -وهو المذهب، وهو الذي ذكره المؤلف- أنه يُشترط قطع الحُلْقُوم والمَرِيء، ولا يُشترط قطع الوَدَجين، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
القول الثاني: أنه يُشترط لِحِلِّ الحيوان بالتَّذكية قَطْعُ ثلاثةٍ من أربعةٍ: الحُلْقُوم والمَرِيء والوَدَجين.
الحُلْقُوم واحدٌ، والمَرِيء اثنان، والوَدَجان ثلاثةٌ وأربعةٌ، فإذا قُطع ثلاثةٌ من أربعةٍ حَلَّ.
وعلى ذلك إذا قُطِعَ الحُلْقُوم والمَرِيء وأحد الوَدَجين كفى، أو قُطِعَ الوَدَجان والحُلْقُوم يكفي، أو قُطِعَ الوَدَجان والمَرِيء يكفي، المهم أن يُقْطَع ثلاثةٌ من هذه الأربعة.
هذا هو مذهب الحنفية والمالكية، واختاره ابن تيمية وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم، وهو القول الراجح: لا بد من قطع ثلاثةٍ من أربعةٍ؛ لأن مجرد قطع الحُلْقُوم والمَرِيء دون قطع الوَدَجين لا يحصل به إنهار الدم، وهذا أمرٌ معلومٌ لأرباب الحيوانات وأرباب المواشي؛ لأن الوَدَجين هما اللذان يخرج منهما الدم بغزارةٍ، وعن طريقهما يحصل إنهار الدم، فلا يكفي قَطْع الحُلْقُوم والمَرِيء إلا إذا قُطِعَ الحُلْقُوم والمَرِيء مع أحد الوَدَجين، أو قُطِعَ ثلاثةٌ من هذه الأربعة: الحُلْقُوم والمَرِيء والوَدَجين.
لأنه إذا قَطَعَ رأسه قَطَعَ الأربعة كلها: الحُلْقُوم والمَرِيء والوَدَجين، فَيَحِلُّ من باب أَوْلَى.
إذا ذُكِّيَ ما أصابه سببُ الموت حَلَّ؛ لقول الله تعالى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3].
يعني: لو أن بهيمةً انخنقتْ، فرآها أحد الناس، فأخذ سكينًا وذكَّاها؛ فإنها تَحِلُّ.
وكذلك المريضة: لو وجد هذه الشاة أو الحيوان مريضًا فذكَّاه فإنه يَحِلُّ ما لم يكن أكله مُضرًّا، فأكل المُضرّ لا يجوز، لكن إذا لم يكن مُضرًّا، كأن تكون مكسورةً -مثلًا- أو نحو ذلك فذكَّاها؛ فإنها تَحِلُّ.
يعني: لو اعتدى السَّبُع -من الذِّئب أو الضَّبع- على شاةٍ، وأُدْرِكَتْ وفيها حياةٌ فَذُكِّيتْ بسكينٍ؛ فإنها تَحِلُّ.
لو نَصَبَ شَبَكةً أو فَخًّا، فَذَكَّى هذا الذي قد وجده في الشَّبَكة أو الفَخِّ؛ فإنه يَحِلُّ.
يعني: نَصَبَ له شَبَكةً، فدخلتْ فيها حمامةٌ، ثم ذكَّاها؛ فإنها تَحِلُّ.
طيب، ماذا لو صدمتْ سيارةٌ جملًا أو شاةً أو بقرةً، ثم أُدْرِكَتْ وفيها حياةٌ وذُكِّيتْ بالسكين؟
تَحِلُّ؛ لعموم الآية: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ، المهم أنه حين أدركها أدركها وفيها حياةٌ.
يعني: لو أنقذ حيوانًا من هَلَكةٍ، ثم ذكَّاه؛ فإنه يَحِلُّ.
واشترط المؤلف لِحِلِّ الذَّكاة فيما سبق: أن تكون فيه حياةٌ مستقرةٌ.
قال:
والفقهاء يذكرون أن الحياة المستقرة تتحقق بأحد أمرين:
الأمر الأول: الحركة، فمتى تحرَّك الحيوان حركةً قليلةً أو كثيرةً -حركة يدٍ أو رِجْلٍ أو عينٍ أو أُذنٍ أو ذَنَبٍ أو غير ذلك- حَلَّتْ ذكاتُه؛ لأن الحركة دليلٌ على بقاء الروح، فإن الميت لا يتحرك.
ويُستثنى من ذلك حركة المذبوح؛ لأن المذبوح أو الميت أحيانًا يتحرك حركةً لا إرادية، وهذه لا تدل على الحياة، هذه يعرفها أهل الخبرة، يعني: الميت قد يتحرك أحيانًا حركةً يسيرةً لا إرادية، هذه غير مُعتبرةٍ.
الأمر الثاني: جريان الدم الأحمر الذي يخرج من المذبوح عادةً، الدم الأحمر، وليس الأسود.
كما قال ابن تيمية رحمه الله: "إن الناس يُفرِّقون بين الدم الأحمر والدم الأسود، فالذي يُخْرِج دمًا أسود هذا يدل على أن هذا الحيوان ميتٌ، وإذا خرج الدم الأحمر فهذا يدل على أن الحيوان قد ذُكِّي، وأنه ليس ميتًا، فَيَحِلُّ أكله".
يعني: إذا ذُبِحَ فخرج منه دمٌ أحمر، هذا دليلٌ على أنه لم يمتْ؛ لأنه لو كان ميتًا لكان الدم أسود، وليس أحمر، لكن إذا شُكَّ في تحقق هذين الأمرين أو أحدهما فإنه يَحْرُم؛ لأن الله تعالى شرط لِحِلِّها الذَّكاة فقال: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ، فما شُكَّ في بقاء حياته لم تتحقق ذكاتُه، والأصل عمومًا في باب اللحوم الحظر والمنع إلا ما دلَّ الدليل على حِلِّه.
فالأصل المنع؛ أي: أنه لو شُكَّ في هذا اللحم: هل هو حلالٌ أم حرامٌ؟
فالأصل أنه حرامٌ.
وإذا شُكَّ: هل مات هذا الحيوان بذكاةٍ أو لم يَمُتْ بذكاةٍ؟
فالأصل عدم حِلِّه، فالذبائح الأصل فيها الحُرْمَة والحظر.
هذه قاعدةٌ عند الفقهاء: أن الذبائح الأصل فيها الحُرْمَة والحظر، وليس الحيوان، فالحيوان الأصل فيه الحِلُّ، لكن الذبائح الأصل فيها الحظر والمنع.
ولهذا سيأتينا هذا في باب الصيد في قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عَدِيٍّ: إن غاب عنك يومًا فلم تَجِد فيه إلا أثرَ سهمك فَكُلْ إن شئتَ، وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري: الماء قتله أو سهمُك [5].
إذن الأصل في الذبائح الحظر والحُرْمَة.
قال:
لكن لو قطع الذابحُ الحُلْقُومَ، ثم رفع يده قبل قطع المَرِيء؛ لم يَضُرَّ إن عاد فتمَّم الذَّكاةَ على الفور.
أي: ما قُطِعَ حُلْقُومه من حيوانٍ مُباحٍ قبل تذكيته، أو أُبِينَتْ حِشْوَتُه -والحِشْوَة معناها: الأمعاء- أي: أُزيلتْ أمعاؤه ونحو ذلك مما لا تبقى معه حياةٌ، فهنا وجود الحياة كعدمها؛ فلا يَحِلُّ.
لكن لو قَطَعَ الذابحُ الحُلْقُومَ، ثم رفع يده قبل أن يقطع المَرِيءَ، فهو يريد الآن أن يقطع المَرِيءَ والحُلْقُومَ، لكن قطع الحُلقوم ثم رفع يده، ثم قطع المَرِيء، فلا يَضُرّ؛ لأن هذا مما يُتسامح فيه.
ما عجز عن ذكاته من الصيد أو من بهيمة الأنعام ونحو ذلك، كأن يقع في بئرٍ، أو أن يتوحش ويذهب -مثلًا- للبَرِّية، أو يصعد الجبل؛ فذكاته تكون بِجَرْحِه في أي محلٍّ في بدنه، يعني: إما -مثلًا- بإطلاق مُسدَّسٍ عليه، أو إطلاق بندقيةٍ، أو نحو ذلك.
إذن ذكاته تكون بِجَرْحِه في أي موضعٍ من بدنه؛ لقول النبي : إن لهذه البهائم أوابدَ كأوابد الوحش، فما غَلَبَكم منها فاصنعوا به هكذا [6]، قاله لما نَدَّ بعيرٌ فطلبوه فأعياهم، فأهوى رجلٌ منهم بسهمٍ فقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غَلَبَكم منها فاصنعوا به هكذا، وهذا في الصحيح، وهو صريحٌ في أن ما عجز عن ذبحه فإن ذكاته تكون بجرحه في أي موضعٍ كان.
وفي وقتنا الحاضر من أيسر ما يكون أن يُطْلَق عليه الرشاش أو البندقية أو المُسدَّس أو نحو ذلك ويَحِلُّ.
فهذا بعيرٌ هرب وصعد جبلًا، وحاولوا الإمساك به فما استطاعوا، فأطلق عليه أحد الحاضرين بندقيةً -مثلًا- أو أطلق عليه مُسدسًا أو نحوه أو سلاحًا ناريًّا، عمومًا أطلق عليه من سلاحٍ ناريٍّ فقتله، فإنه يَحِلُّ ويكون مُباحًا.
الشرط الرابع: التَّسمية
لقول الله : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121].
وقول المُصنِّف: "لا يُجْزِئ غيرها" يعني: لا يُجزئ أن يأتي بغير اسم الله، فلو قال: باسم الرحمن، أو باسم الخالق، أو باسم التواب، ونحو ذلك؛ فلا يَحِلُّ.
قالوا: لأن إطلاق التَّسمية إنما ينصرف إلى "بسم الله"، وهذا هو المذهب عند المالكية والحنابلة.
القول الثاني: أنه لو أُتِيَ بأي اسمٍ من أسماء الله أجزأ، وهذا مذهب الحنفية وقولٌ لبعض المالكية.
القول الثالث: أن التَّسمية إذا أضافها إلى ما يختص بالله، أو لا ينصرف إلا إلى الله تعالى عند الإطلاق؛ فإن هذا يكفي وتُجْزِئ.
قالوا: لعموم قول الله : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118]، والمراد به الاسم المُختص بالله .
وهذا قولٌ قويٌّ رجَّحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
والأحوط أن يقول: "بسم الله"، فلا داعي لأن يُدْخِل نفسه في الخلاف فيقول: باسم الرحمن.
لماذا تَعْدِل عن "بسم الله" إلى "باسم الرحمن" وتُوقع نفسك في الخلاف؟!
الأَوْلَى والأحوط أن يقول: "بسم الله"، لكن مع ذلك لو أتى باسمٍ من الأسماء التي تختص بالله ، ولا ينصرف الذهن إلا إلى الله سبحانه، فالأقوى والأرجح أن هذه الذَّكاة حلالٌ.
وقت التَّسمية عند الذَّبيحة
أي: أن التَّسمية تكون عند حركة اليد بالذبح، يقول: "بسم الله" إذا أراد أن يذبح، هكذا: "بسم الله، والله أكبر".
ولو كانت التَّسمية قريبةً من الذبح فيُتسامح في ذلك، فلو قال: "بسم الله" ثم شرع يَحُدُّ السكين، أو قال: "بسم الله" ثم شرب ماءً، أو قال: "بسم الله" ثم تحدث مع مَن بجواره، أو قال: "بسم الله" ثم أتته مكالمة جوالٍ غير طويلةٍ، يسيرةٌ، ثم ذبح؛ فيُتسامح في ذلك.
حكم التَّسمية بغير العربية
يعني: لو قال: "بسم الله" بغير العربية أجزأ؛ لأن المقصود هو ذكر اسم الله ، فيحصل بأي لغةٍ كانت.
حكم التَّكبير بعد التَّسمية عند الذبح
أي: يُسَنُّ أن يقول مع "بسم الله": "الله أكبر"، وهذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، لقد كان يُسمِّي ويُكبِّر عند الذبح، فيقول: "بسم الله، والله أكبر"، لكن "بسم الله" وجوبًا، و"الله أكبر" استحبابًا.
حكم مَن ترك التَّسمية عند الذبح ناسيًا أو جاهلًا
اختلف الفقهاء فيمَن نسي التَّسمية عند الذبح، هل تحلُّ هذه الذبيحة أم لا؟
على قولين:
- القول الأول: أن الذبيحة تَحِلُّ، وهذا الذي عليه المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، بل حُكِيَ إجماعًا -حكاه ابن جرير الطبري- لعموم الأدلة الدالة على رفع المُؤاخذة عن النَّاسي؛ لقول النبي : إن الله قد تجاوَزَ عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه [7].
وقد بوَّب البخاري في "صحيحه" بقوله: "باب: التَّسمية على الذبيحة ومَن ترك مُتعمدًا"، ثم قال البخاري: "قال ابن عباسٍ: ومَن نسي فلا بأس، وقال الله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، والنَّاسي لا يُسمَّى فاسقًا".
وكما يُقال: "إن فِقْهَ البخاري في تراجمه"، وهذا الاستنباط من الإمام البخاري استنباطٌ دقيقٌ، كأنه يقول: إن الله تعالى قال: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، لكن النَّاسي لا يُسمَّى فاسقًا بالإجماع، فدلَّ ذلك على أن قوله: وَإِنَّهُ يعني: تعمُّد ترك التَّسمية فسقٌ، وهذا يُفهم منه عدم مُؤاخذة النَّاسي، وأن ذبيحته حلالٌ.
- القول الثاني: أن مَن ترك التَّسمية على الذبيحة عند ذبحه ناسيًا حَرُمَ عليه أكلها.
وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية، ومن المعاصرين اختاره ابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
واستدلوا بعموم الأدلة التي تدل على اشتراط التَّسمية، كقول الله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، وعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فَكُلُوه [8]، قالوا: قد قُرِنَ في هذا الحديث بين إنهار الدم والتَّسمية، فكما لا تَحِلُّ الذَّبيحة لو لم يتم إنهار الدم نسيانًا، فكذا لو ترك التَّسمية نسيانًا لا تَحِلُّ.
والشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله يقول: إنه إذا نسي التَّسمية تُرْمَى هذه الذبيحة كالميتة. قال: لأن الإنسان إذا قيل له: ارمها، فإنه في المرة القادمة لن يترك التَّسمية، ولن ينساها.
والقول الراجح -والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو: أن مَن ترك التَّسمية ناسيًا فإن ذبيحته حلالٌ، وقد حُكِيَ إجماعًا، وإن كانت حكاية الإجماع لا تَصِحُّ، لكن حكاية الإجماع تدل على أن هذا الرأي رأي أكثر علماء الأمة، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة، وأيضًا دليله قويٌّ.
يعني: الدليل الذي ذكره البخاري: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ النَّاسي لا يُسمَّى فاسقًا بالإجماع، فهذا يدل على أن النَّاسي غير داخلٍ في عموم الآية: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، فالنَّاسي لا يُسمَّى فاسقًا، فلا يدخل في عموم الآية.
ولهذا قال الحافظ ابن عبدالبر عن القول الثاني وهو: أنه لا تَحِلُّ ذبيحة مَن ترك التَّسمية ناسيًا، قال: "هذا قولٌ لا نعلمه رُوِيَ عن أحدٍ من السلف ممن يُختلف عنه فيه إلا محمد بن سيرين ونافعًا مولى ابن عمر، وهذان يلزمهما أن يتَّبعا سبيل الحُجَّة المُجتمعة على خلاف قولهما".
يعني: يُشير ابن عبدالبر إلى أن قولهما شاذٌّ، ويلزمهما اتِّباع الإجماع.
فالقول الراجح -والله أعلم- أن مَن ترك التَّسمية ناسيًا فإن ذبيحته تَحِلُّ، لكن مَن تركها جاهلًا فالمذهب عند الحنابلة أنه لا تَحِلُّ ذبيحته، فيُفرِّقون بين مَن تركها ناسيًا، ومَن تركها جاهلًا.
والراجح أنه لا فرق، فمَن ترك التَّسمية جاهلًا -ومثله يُعْذَر بالجهل- حَلَّتْ ذبيحته؛ لعموم الأدلة السابقة، وهي تشمل الجاهل والنَّاسي.
حكم الذبيحة التي سُمِّيَ فيها بغير الله
قال:
لأنه يكون قد أُهِلَّ به لغير الله، فإذا ذكر -مثلًا- مع اسم الله: اسمَ المسيح، أو مَن يعتقد أنه وليٌّ من الأولياء، أو نحو ذلك؛ هذا شركٌ، وهذا قد أُهِلَّ به لغير الله، فلا تَحِلُّ هذه الذبيحة بالإجماع، حتى لو كان الذابح كتابيًّا؛ لقول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة:3].
ذكاة الجنين
ثم قال المُصنِّف رحمه الله:
وتَحْصُل ذكاةُ الجنين بذكاة أُمِّه.
وقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ عن النبي ، وهو حديث أبي سعيدٍ: ذكاة الجنين ذكاة أُمِّه [9]، وهو حديثٌ جيدٌ، سنده جيدٌ.
وعلى هذا إذا ذُكِّيَت الشاةُ وفي بطنها جنينٌ فَذَكاةُ أُمِّه ذكاةٌ له.
ابن القيم له كلامٌ جميلٌ حول هذه المسألة، قال: "ذكاةُ أُمِّه ذكاةٌ له؛ لأنه جزءٌ من أجزائها، كَيَدِها ورأسها، وأجزاء المذبوح لا تفتقر إلى ذكاةٍ مُستقلةٍ، والحمل ما دام جنينًا فهو كالجزء منها، لا ينفرد بِحُكْمٍ، فإذا ذُكِّيَت الأم أتت الذَّكاة على جميع أجزائها التي من جُمْلتها الجنين، فهذا هو القياس الجَلِي لو لم يكن في المسألة نصٌّ".
يعني: يقول ابن القيم: حتى لو لم يصح الحديث: ذكاة الجنين ذكاة أُمه، فالقياس الصحيح يقتضي أن ذكاةَ الجنين ذكاةُ أُمه؛ لأن الجنين يُعتبر جزءًا من أجزائها، كَيَدِها ورِجْلها ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى ذكاةٍ مُستقلةٍ.
يعني: إنْ خرج الجنينُ حيًّا فلا بد من ذكاته، ولا يقال: إن ذكاته ذكاة أُمه؛ لأنه أصبح مُستقلًّا.
مكروهات الذبح
الكالَّة تعني: غير الحادَّة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إذا ذبحتُم فَأَحْسِنوا الذَّبح، وَلْيُحِدَّ أحدُكم شفرتَه، فَلْيُرِحْ ذبيحتَه [10]، والذبح بآلةٍ كالَّةٍ يُنافي الإحسان المأمور به، وفيه تعذيبٌ للحيوان.
يعني: يُكْرَه ذلك، وقد جاء في هذا حديثٌ -لكن في سنده مقالٌ- من حديث أبي هريرة : أن النبي بعث بُدَيْل بن وَرْقَاء الخُزاعي يصيح في فِجَاج مِنًى: ألا إن الذَّكاة في الحَلْق واللَّبَّة، ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تَزْهَق [11]، لكن الحديث -كما ذكرنا- رواه الدارقطني، وهو حديثٌ ضعيفٌ.
لكن هذا الحكم قال به عامة أهل العلم؛ وذلك لأن سَلْخ الحيوان أو كسر عنقه قبل زُهُوق روحه فيه تعذيبٌ للحيوان، ويُنافي الإحسان المأمور به شرعًا، فكان ذلك مكروهًا.
سُنن الذَّبح
لأن هذا هو هدي النبي : إضجاع المُذَكَّى على شِقِّه الأيسر، وأيضًا يُوجَّه للقبلة، ويُمسك رأسه بيده اليسرى، ويذبح بيده اليمنى، والنبي عليه الصلاة والسلام فعل ذلك.
ولكن لو وَجَّه الذبيحة إلى غير القبلة فإنه يُجْزِئ، لكن يكون قد ترك الأفضل، وترك السُّنة.
ولو أنه أضجعه على جنبه الأيمن وذبحه أجزأ أيضًا، لكن هذا خلاف السُّنة.
يُسَنُّ الإسراع في الذبح؛ لأنه يدخل في الإحسان المأمور به: إذا ذبحتُم فَأَحْسِنوا الذَّبح، وهذا من عظمة الشريعة الإسلامية: أنها أمرتْ بالإحسان حتى للحيوان، بل حتى عند قتل الحيوانات المُؤذية كالوَزَغ أو ما يُسمَّى بالظَّاطور، فقد جاء في حديث أبي هريرة : أن النبي قال: مَن قتل وَزَغًا، الوَزَغ أو الظَّاطور أو البُرْص، مَن قَتَل وَزَغًا في أول ضربةٍ كُتِبَتْ له مئة حسنةٍ، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك [12].
وإنما يُكْتَب له مئة حسنةٍ إذا قتله في المرة الأولى؛ لما في ذلك من الإحسان، فالإحسان مأمورٌ به المسلم في كل شيءٍ: إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ [13].
فهذه الحيوانات ينبغي الإحسان إليها؛ عند ذبحها ينبغي الإحسان إليها، وعند قتلها أيضًا ينبغي الإحسان إليها، فينبغي أن يحرص المسلم على أن يكون لديه نَفَس الإحسان، فإن الله يُحب المُحسنين.
يعني: إذا ذُبِحَ فَغَرِقَ بعد ذبحه، "أو تَرَدَّى" يعني: سقط من مكانٍ مُرتفعٍ، أو وَقَعَ عليه شيءٌ ثقيلٌ يقتله عادةً؛ لم يَحِلَّ أَكْلُه.
وكذا لو ذُبِحَ ثم دَهَسَتْهُ سيارةٌ بعد ذبحه مباشرةً لا يحلّ.
قالوا: لأن موته حصل بسببٍ مُبِيحٍ ومُحَرِّمٍ، فَغُلِّبَ جانب التَّحريم، وفي حديث عَدِيِّ بن حاتمٍ: وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري: الماء قتله أو سهمُك [14].
القول الثاني في المسألة: أنه إذا تأكَّد من أنه قد مات بسبب الذَّكاة والذبح فإنه يَحِلُّ، ولا يضرّ ما حصل له بعد ذبحه.
فلو أنه ذبحه ثم غرق، لكنه تأكد من أنه لمَّا ذبحه زهقتْ روحه، فأصحاب القول الثاني يقولون: إنه يَحِلُّ، أو أنه لمَّا ذبحه تَرَدَّى من عُلُوٍّ، لكنه مُتأكدٌ من أنه زهقتْ روحه بعد ذبحه؛ فيَحِلُّ، أو أنه لما ذبحه وَطِئَ عليه شيءٌ يقتله مثلُه، لكنه مُتأكدٌ من أنه لمَّا ذبحه زهقتْ روحه؛ فإنه يَحِلُّ.
هذا هو القول الراجح في المسألة.
أما حديث عَدِيٍّ فلا ينطبق على هذه المسألة، وإنما يُحْمَل على ما إذا رمى صيدًا فوقع في ماءٍ فمات، فإنه هنا لا يدري: هل الماء قتله أم قتله السهم؟
والأصل في هذا الباب المنع والحظر، لكن في مسألتنا هذه هذا المُذَكِّي تيقَّن ذبحَه وزُهُوقَ روحه، قطع حُلْقُومَه ومَرِيأَهُ ووَدَجَيْه، ثم بعد ذلك سقط في الماء غريقًا، فالأقرب -والله أعلم- أنه يَحِلُّ بالذَّكاة الأولى، فهو ذُكِّيَ وانتهى، وكونه يسقط في ماءٍ ويغرق هذا لا يضرّ.
فلا تضرُّ هذه الأمور كلها إذا حصلتْ بعد زُهُوق الروح، هذا هو القول الراجح في المسألة، فيكون الصواب خلاف ما ذكره المؤلف رحمه الله.
وبهذا نكون قد انتهينا من مسائل وأحكام الذَّكاة.
كتاب الصيد
ننتقل بعد ذلك إلى:
تعريف الصيد
"الصيد" مصدر: صادَ، يَصِيد، صَيْدًا، فهو صائدٌ.
والصيد معناه: اقتناص الصيد.
ويُعْرَف اصطلاحًا بأنه: اقتناص حيوانٍ حلالٍ مُتوحشٍ طبعًا غير مقدورٍ عليه.
لا بد أن يكون الحيوان:
- أولًا: حلالًا، فلا يصحُّ صيد الحرام.
- وأن يكون مُتوحشًا طبعًا، أما المُسْتَأْنَس فلا يُقال عنه: صيد، مثل: الإبل، والبقر، والغنم.
- غير مقدورٍ عليه: فإن كان مقدورًا عليه فلا يصحُّ صيده.
إباحة الصيد
قال:
يعني: الصيد يُباح لقاصده، هذا هو الأصل، فالأصل في الصيد الحِلُّ؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وهذا أمرٌ، لكنه أتى بعد الحظر، فيُفيد الإباحة؛ ولقول الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4].
يعني: يُكْرَه صيد الحيوان لمجرد اللهو واللعب والعبث؛ وذلك لأنه تضييعٌ للوقت.
أما إذا كان فيه ظلمٌ للناس -كالتَّعدي على الزرع والحَرْث والأموال- فهذا مُحرَّمٌ.
لكن حتى لو كان لا يصيد لَهْوًا، وإنما للأكل، فأهل العلم كرهوا كثرة الاشتغال بالصيد، يقولون: الصيد له وَلَعَةٌ، ويُلْهِي القلب ويصدّه عن الطاعة، وتحصل به الفتنة؛ ولذلك ينبغي عدم الإكثار منه؛ لأنه ربما صدَّ الإنسان عن طاعة الله ، وعن تلاوة القرآن والذكر ونحو ذلك، لكن إذا لم يُكثر منه فالأصل فيه الحِلُّ والإباحة.
أفضل المكاسب
يعني: الصيد أفضل مأكولٍ؛ لأنه كَسْبٌ حلالٌ لا شُبْهَةَ فيه.
وبعض الأنبياء كان يأكل من الصيد: كإسماعيل عليه الصلاة والسلام كان يصيد ويأكل من الصيد.
وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب، والمؤلف قال: إن أفضل المكاسب هو الصيد.
وقيل: إن أفضل المكاسب الزراعة -قال به بعض الشافعية والحنابلة- لقول النبي : ما من مُسلمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقةٌ [15]، والزراعة أيضًا ليست فيها شُبهةٌ مُتمحضةٌ في الحِلِّ.
وقيل: إن الأفضل التجارة؛ لأنها من عمل اليد، وأفضل عملٍ للإنسان عمل يده.
وقيل: إن الأفضل عمل اليد عمومًا؛ لعموم قول النبي : ما أكل أحدٌ طعامًا قَطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده [16].
وقيل: إن الأفضل يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وهذا هو القول الراجح: أن الأفضل يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ولا يمكن وضع قاعدةٍ لجميع الناس، وربما كان الأفضل لشخصٍ المفضول لشخصٍ آخر.
فبعض الناس ربما يكون الأنسب له الزراعة، وبعض الناس الصيد، وبعض الناس عمل اليد، وبعض الناس التجارة.
يعني: إنسانًا مثل عالِمٍ كبيرٍ ليس مناسبًا له أن يذهب ويشتغل بالصيد، وينشغل عن العلم ونشر العلم والتعليم -مثلًا- فالصيد قد يُناسب غيره، والزراعة كذلك والتجارة.
المهم أن القول الراجح في هذه المسألة: أن هذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، لكن ينبغي للإنسان أن يكتسب، وأن يعمل، ولا يسأل الناس أموالهم، فَيُكْرَه للإنسان ترك التَّكسب وسؤال الناس أموالهم.
ولما سُئل الإمام أحمد عن قومٍ لا يعملون، ويقولون: نحن مُتوكِّلون. قال: "هؤلاء مُبتدعة".
فبعض الناس ربما يترك العمل والكسب ويتخذ سؤال الناس حِرْفَةً، يقول النبي : مَن سأل الناس أموالهم تَكَثُّرًا فإنما يسأل جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلّ أو لِيَسْتَكْثِر [17]، وقال: والذي نفسي بيده، لَأَنْ يأخذ أحدُكم حَبْلَه فَيَحْتَطِب على ظهره خيرٌ له من أن يأتي رجلًا فيسأله، أعطاه أو منعه [18]، وأيضًا: اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفْلَى [19]، اليد العليا: المُعطية، والسُّفْلى: الآخذة.
فينبغي أن يبحث الإنسان عن مصدرٍ للقمة العيش، وألا يمدّ يده للآخرين، ينبغي أن تكون لديه عِزةُ نفسٍ، وأن تكون يده عليا، وليست سُفْلَى، يدٌ عليا مُعطيةٌ، وليست يدًا سُفْلَى آخذةً.
وإذا اجتهد في البحث عن عملٍ فسيُيَسِّر الله تعالى له عملًا، لكن بعض الناس عنده كسلٌ، ويرى أن سؤال الناس حِرفةٌ سهلةٌ تُدِرُّ له الأموال من غير أن يتعب، وكما قال الإمام أحمد عمَّن يفعل ذلك: "هؤلاء مُبتدعة".
فالذي يترك العمل ويبدأ يَشْحَذ من الناس ويسأل الناس هذا خطأٌ، وهذا مُخالفٌ للنصوص، ومُخالفٌ لهدي الأنبياء وأتباع الأنبياء، فينبغي أن يحرص المسلم على أن يعمل وأن يكسب مصدرًا للقمة العيش.
ثم انتقل المؤلف للكلام عن أحكام الصيد، والأصل في الصيد التَّحريم حتى يتيقن الحِلّ، كما ذكرنا قبل قليلٍ: أن الأصل أيضًا في اللحوم والذبائح الحظر والمنع.
فهذا التَّأصيل يُفيد طالب العلم، مثلًا: الأصل في المُعاملات الحِلُّ، والأصل في العبادات الحظر وعدم المشروعية، والأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في الأشياء الطَّهارة.
هنا نقول: الأصل في الصيد الحظر، والأصل في الذبائح واللحوم الحظر، فهذه تُفيد عند التَّرجيح، وعند الاختلاف، وعند عدم وضوح الدليل ترجع المسألة للأصل.
تَذْكِيَة الصيد
قال:
أدرك صيدًا مجروحًا ويتحرك، فلا يَحِلُّ إلا إذا ذكَّاه، أما إذا لم يُذَكِّه فلا يَحِلُّ.
فلو أنه -مثلًا- أدرك حمامةً أو حَجَلًا في شباكٍ، ووجده جريحًا ويتحرك، لا يَحِلُّ إلا بأن يذبحه بالسكين، ولو مات لم يَحِلَّ ما دام أنه أدركه حيًّا.
يعني: لو أن هذا الصيد أدركه في الحال، ولما أدركه مات؛ يَحِلُّ.
شروط الصيد
الشرط الأول: أهلية الصَّائد للذَّكاة
الشرط الأول:
يعني: أن يكون عاقلًا، مسلمًا أو كتابيًّا، مُمَيِّزًا، ولا نقول: بالغًا، وإنما مُميِّزٌ، هذا كونه أهلًا للذَّكاة.
فلا بد إذن أن يكون الصَّائد أهلًا للذَّكاة.
رمى صيدًا فَأَثْبَتَه، ثم رماه ثانيًا لم يَحِلَّ؛ لأنه لمَّا رماه وأَثْبَتَه أصبح مقدورًا عليه، فلا يُباح أكله إلا بتذكيته وذبحه.
فمثلًا: لو أمسك صيدًا بالشِّباك، ثم رمى الصيد لا يَحِلُّ؛ لأنه لمَّا أمسكه بالشِّباك فالواجب عليه أن يُذَكِّيه ويذبحه، ولا يرميه.
الشرط الثاني: الآلة
هذا هو الشرط الثاني: الآلة.
وذكر النوع الأول: أن تكون بمُحدَّدٍ، كالسيف والسكين والسهم، وأيضًا في وقتنا الحاضر السلاح النَّاري بالنسبة للصيد يُعتبر مُحدَّدًا، وكل ما يحصل به إنهار الدم؛ لقول النبي : ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فَكُلُوه [20]، فلا يَحِلُّ ما قُتِلَ بآلةٍ غير مُحدَّدةٍ، كأن يضربه بعصًا أو بحجرٍ، أو يصدمه بالسيارة، فإنه لا يَحِلُّ؛ لأنه يكون مَوقُوذًا إلا إذا أدركه وفيه حياةٌ ثم ذكَّاه فإنه يَحِلُّ.
يعني: يَحِلُّ صيدها.
الآلة الجارحة المُعلَّمة
ثم مثَّل المؤلف لهذه الجارحة المُعلَّمة فقال:
يعني: اصطاد عن طريق جارحةٍ مُعلَّمةٍ، مثل: الكلب، فالكلب من أكثر الحيوانات قابليةً للتعلم، ومثله أيضًا الفهد، ومثل: الباز، ومثل: الصقر، ومثل: العُقَاب، والشَّاهين، ونحو ذلك.
وهذا يدل على شرف العلم؛ لأن صيد الجارحة المُعلَّمة حلالٌ، بينما صيد الجارحة غير المُعلَّمة حرامٌ، كما قال ابن القيم، حتى الجوارح والكلاب تَشْرُف بالعلم، فما بالك ببني آدم؟!
حكم صيد الكلب الأسود
استثنى المؤلف الكلب الأسود، ويُفْهَم من كلامه: أن صيد الكلب الأسود حرامٌ حتى لو كان مُعلَّمًا.
وهذه المسألة للفقهاء فيها قولان:
- القول الأول: أن صيد الكلب الأسود مُحرَّمٌ، وهذا مذهب الحنابلة، وقولٌ لبعض المالكية.
واستدلوا بأن النبي أمر بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، وقال : عليكم بالأسود البَهِيم ذي النُّقْطَتين؛ فإنه شيطانٌ [21]، فَأَمْرُ النبي بقتل الأسود البَهِيم دليلٌ على عدم جواز استبقائه، فلا يُصاد به.
- القول الثاني: أن الصيد بالكلب الأسود مُباحٌ، وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية؛ لعموم الأدلة، ومنها قول الله : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]، وهذا عامٌّ في جميع الكلاب: الأسود وغير الأسود.
القول الراجح -والله أعلم- هو القول الأول، وهو قول الحنابلة، وهو: تحريم صيد الكلب الأسود إلا إن أدركه وهو حيٌّ وذكَّاه؛ وذلك لأن النبي أمر بقتل الكلب الأسود، وقال: إنه شيطانٌ، والأمر بقتله يستدعي المُبادرة إلى إتلافه والتَّنفير منه، واستعماله للصيد فيه إبقاءٌ له وتقريبٌ له، وهذا يُنافي المقصود من قتله.
ولذلك كان قتادة رحمه الله يكره صيد الكلب الأسود، ويقول: "أُمِرَ بقتله، فكيف يُؤْكَل صيدُه؟!"، والنبي وصفه بأنه شيطانٌ، فكيف يُصطاد به؟!
ولهذا قال ابن تيمية: "الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجنّ تتصور بصورته كثيرًا".
يعني: كونه شيطانًا لا يعني أنه أصبح جنيًّا، لا، فالمقصود: شيطان الكلاب؛ لأن الشيطان يُطلق على الشيء المارد، المُتَعَفْرِت المارد.
فمعنى: الكلب الأسود شيطانٌ [22] يعني: أنه شيطان الكلاب، لكن مع ذلك قد تتشكل الجنّ بصورته، كما قال ابن تيمية: "الجنّ تتصور بصورة الأسود كثيرًا"، فتتصور بصورة الكلب الأسود، وبصورة القط الأسود؛ "لأن السَّواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة حرارةٍ".
فأكثر ما تتشكل الحيوانات -يعني: الجنّية- باللون الأسود، فإذا وجدتَ -مثلًا- كلبًا أسود أو قِطًّا أسود فهذا أقرب ما يكون أنه جنيٌّ، وإن كان هذا لا يلزم، لكن أكثر ما تتشكل الجنُّ بالأسود؛ لأن القوى الشيطانية تجتمع في الأسود.
والناس من قديمٍ يستوحشون من الحيوان الأسود سوادًا خالصًا؛ لأنه أكثر ما تتصور به الجنّ.
الحاصل أن صيد الكلب الأسود مُحرَّمٌ على القول الراجح.
كيفية تعليم الكلب والفهد الصيد
ثم انتقل المؤلف لكيفية التعليم فقال:
"إذا أُرسل" يعني: أطلقه، يذهب مباشرةً ويقصد الصيد.
"ويَنْزَجر إذا زُجِرَ" نَهَرَه: قِفْ، يَقِف.
"إذا أمسك لم يأكل" لنفسه.
فلا بد من هذه الأمور الثلاثة؛ لكي يكون الكلب مُعلَّمًا.
وهذه الخصال في الكلب مُقرَّرةٌ عند عامة الفقهاء، لكن المُصنِّف جعلها أيضًا مطلوبةً في الفهد فقال: "فتعليم الكلب والفهد"، ولكن أرباب الحيوانات يقولون: إنه يصعب تحقُّق هذه الأمور الثلاثة في الفهد.
في الكلب نعم، ممكنٌ وسهلٌ، لكن في الفهد صعبٌ.
ولهذا قال المُوفَّق ابن قُدامة رحمه الله في "المغني"، ونقلها صاحب "الشرح الكبير"، وقيل: إنها لا توجد في بعض نسخ "المغني".
وعمومًا "المغني" الآن يُحقَّق عندنا في قسم الفقه بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وكون شمس الدين -ابن أخي المُوفَّق- يذكرها في "الشرح الكبير" هذا يدل على وجودها في "المغني"، لكنها لم توجد في النسخة المطبوعة الآن.
وابن مُفْلِح في "المُبْدِع" قال: "لم أجدها في المغني"، ولعلها وردتْ في بعض النُّسخ، ولعل -إن شاء الله- التَّحقيق الجديد لـ "المغني" يُجيب عن هذا الإشكال، لكن بكل حالٍ هذا الكلام ذكره شمس الدين ابن قدامة في "الشرح الكبير".
قال: "لا أحسب هذه الخصال تُعتبر في غير الكلب؛ فإنه الذي يُجيب صاحبه إذا دعاه، ويَنْزَجر إذا زجره، والفهد لا يكاد يُجيب داعيًا، وإن عُدَّ مُتعلمًا فيكون التَّعليم في حقِّه بترك الأكل خاصةً، أو بما يَعُدُّه به أهل العُرْف مُعلَّمًا".
إذن التعليم في حقِّ الفهد يكون بترك الأكل فقط؛ لأنه لا يَسترسل إذا أُرسل، ولا يَنْزَجر إذا زُجِرَ، فالفهد أقلّ درجةً في الإدراك من الكلب، والكلب أكثر قابليةً للتعلم، فيكفي في الفهد أنه إذا أمسك لا يأكل، أما الكلب فلا بد من هذه الخصال الثلاث كلها.
كيفية تعليم الطير على الصيد
قال:
وقد حكى المُوفَّق ابن قدامة الإجماع على ذلك؛ إجماع الصحابة على ذلك، وليس إجماع الفقهاء، وسيأتي أن فيها خلافًا، لكنه إجماع الصحابة.
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "إذا أكل الكلب فلا تأكل، وإذا أكل الصقر فَكُلْ"؛ لأن الكلب تستطيع أن تضربه، والصقر لا تستطيع.
فالكلب يمكن تأديبه وضربه، أما الصقر فهو طائرٌ إذا ضربته سيهرب ويفرّ منك.
وعلى هذا لا يُشترط ألا يأكل إذا أمسك؛ وذلك لأن جوارح الطير تُعلَّم بالأكل، ويتعذَّر تعليمها بترك الأكل: الصقر يتعذَّر تعليمه بترك الأكل، والشاهين يتعذَّر تعليمه بترك الأكل، بخلاف الكلب، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وذهب الشافعي إلى أن الطير كالكلب في تحريم ما أكل منه من صيده، يعني: أنه لا بد أن يُمسك إذا صاد ولا يأكل، فإن أكل لم يَحِلَّ الصيد؛ لحديث عَدِيٍّ: ما علَّمْتَ من كلبٍ أو بازٍ، ثم أرسلتَه وذكرتَ اسم الله فَكُلْ مما أمسك عليك، قلتُ: وإن قَتَلَ؟ قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئًا فإنما أمسكه عليك [23]، هذا الحديث أخرجه أبو داود، ولو كان صحيحًا لكان صريحًا في المسألة، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.
وعلى هذا فالراجح قول الجمهور، وهو: أنه لا يُشترط لِحِلِّ أكل ما صاده الطير ألا يأكل منه، بل لا بأس، فلو أكل الصقر من الصيد يَحِلُّ الصيد، المهم أنه يَسترسل إذا أُرسل، ويَنْزَجر إذا زُجِرَ، ويُجيب الداعي؛ لأن هذا هو المأثور عن عامة الصحابة ، أما حديث عَدِيٍّ فكما ذكرنا هو حديثٌ ضعيفٌ.
يُشترط أن يَجْرح الصائدُ الصيدَ
قال:
يعني: يُشترط أن يَجْرح الصائدُ الصيدَ.
فلو أن الكلب أو الفهد أو الصقر المُرْسَل قَتَلَ الصيدَ بِصَدْمِه بجسمه، أو بضربه على الأرض، أو بخنقه، من غير أن يجرحه؛ فلا يُباح أكله؛ لأنه أصبح مَوقُوذةً، ولا بد من إنهار الدم؛ لقول النبي : ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسم الله عليه فَكُلُوه [24].
الشرط الثالث: قصد الفعل
لا بد أن يُرْسِل الآلة قاصدًا الصيد، كما ذكرنا في الذَّكاة: أنه لا بد من قصد التَّذكية، فهنا لا بد من قصد الصيد، فَيَرْمِي السهم قاصدًا الصيد، أو يُطلق البندقية قاصدًا الصيد، أو يُطلق السلاح النَّاري قاصدًا الصيد، أو يُرسل الكلب أو الفهد أو الصقر قاصدًا الصيد، فلو أن ذلك حصل من دون قصد الصيد لم يَحِلَّ.
يعني مثلًا: أطلق البندقية في الهواء فأصابتْ طيرًا، لا يحلّ؛ لأنه لم يقصد الصيد.
لو أرسل الكلب أو الفهد أو الصقر، لا لقصد الصيد، فصاده؛ لم يَحِلَّ.
أو أرسله لقصد الصيد، لكنه لم يَرَ صيدًا؛ لم يَحِلَّ.
أو استرسل الجارحُ بنفسه فقتل صيدًا لم يحلّ.
فلا بد إذن من قصد الفعل، لا بد من قصد الصيد.
الشرط الرابع: البسملة
لعموم قول الله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]؛ ولحديث عَدِيٍّ: قلتُ: يا رسول الله، إني أُرسل الكلاب المُعلَّمة فَيُمْسِكْنَ عليَّ، وأذكر اسم الله عليه. فقال: إذا أرسلتَ كلبك المُعلَّم وذكرتَ اسم الله عليه فَكُلْ [25]، وهذا نصٌّ في الصحيحين، وصريحٌ في أنه لا بد من ذكر اسم الله تعالى عند إرسال الجارحة للصيد.
حكم السهو عن التَّسمية عند إرسال الصيد
يعني: لا تَسقُط التَّسمية سهوًا عند إرسال الصيد.
والحنابلة يُفرِّقون بين السهو في التَّسمية عند الصيد، والسهو في التَّسمية عند الذَّكاة، فيقولون: لو نَسِي التَّسميةَ عند الذَّكاة حَلَّت المُذَكَّاة، ولو نَسِي التَّسميةَ عند الصيد لم يَحِلَّ؛ لأن في الصيد نصوصًا خاصةً؛ ولأن الذبح يكثُر فيكثُر السهو فيه، بخلاف الصيد.
وسبق ذكر خلاف العلماء في هذه المسألة في الذَّكاة، وأن الراجح هو: أن التَّسمية تسقُط سهوًا في الذَّكاة، فكذا في الصيد، لا فرق.
والذهول عن التَّسمية في الصيد أغلب وأكثر منه في الذَّكاة؛ لأن الإنسان يبحث عن الصيد ويبحث، ثم إذا وجد الصيد ربما يذهل عن التَّسمية، فورود الذهول عن التَّسمية في الصيد هو -في الحقيقة- أكثر منه في الذَّكاة، فإذا سقطت التَّسمية عن المُذَكِّي النَّاسي، فمن باب أَوْلَى سقوطها عن الصائد النَّاسي.
حكم ما صِيدَ فوقع في ماءٍ ونحوه
قال:
يعني: رمى صيدًا فوقع في الماء فمات، لا يحلّ؛ لحديث عَدِيِّ بن حاتم : أن النبي قال في الصيد: إن رميتَ سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فَكُلْ إن شئتَ، وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري: الماء قتله أو سهمك [26] متفقٌ عليه.
أيضًا لو تردَّى من عُلُوٍّ، يعني: سقط من مكانٍ مرتفعٍ، أو وَطِئَ عليه شيءٌ يقتُل مثلُه فمات، لم يَحِلَّ؛ للحديث السابق.
يعني: هنا فرَّقنا بين هذا وبين ما ذكرنا في التَّذكية؛ لأن البهيمة إذا ذُبِحَتْ ثم سقطتْ من عُلُوٍّ أو غرقتْ في الماء حَلَّ أكلها؛ لأنه ليقين أن سبب موتها التَّذكية، لا السقوط.
أما الصيد فلا يُدْرَى: هل كان موته بسبب الرمي، أم بسبب الغرق في الماء، أم بسبب التَّردي من جبلٍ، أم بسبب أنه وطئ عليه شيءٌ ثقيلٌ؟ كل ذلك مُحتمَلٌ، والأصل -كما ذكرنا في الصيد وفي اللحوم والذبائح- الحظر والمنع.
قال:
يعني: "مثله" مثل ما ذُكِرَ في عدم الحِلِّ "لو رماه بمُحَدَّدٍ فيه سُمٌّ" فإنه يحتمل أن السم هو الذي قتله، فلا يدري: هل مات بسبب المُحدَّد أم مات بسبب السُّم؟ فَتَعَارَض مُبِيحٌ وحاظِرٌ، والصيد يُغلَّب فيه جانب الحظر، يُغلَّب فيه جانب السبب المُحرَّم على السبب المُبِيح؛ لحديث عَدِيٍّ السابق: وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري: الماء قتله أو سهمك.
يعني: رمى إنسانٌ صيدًا في الهواء، ثم سقط ميتًا يَحِلُّ، أو رماه على شجرةٍ أو حائطٍ يَحِلُّ.
هذا بالإجماع؛ لأن موته ليس بالسقوط، وإنما مات بسبب الرمي، وسقوطه كان بسبب الإصابة.
وهذا بخلاف المسألة السابقة؛ لأن الذي غرق في الماء أو تَرَدَّى من عُلُوٍّ لا يُدْرَى: هل موته كان بسبب الرمي أم بسبب السقوط أو الغرق؟
وبهذا نكون قد انتهينا من مسائل وأحكام الصيد، ونقف عند "كتاب الأيمان".
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
^1 | رواه البخاري: 3320. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2304. |
^3 | رواه البخاري: 5507. |
^4, ^6, ^8, ^20 | رواه البخاري: 2488، ومسلم: 1968. |
^5, ^14 | رواه مسلم: 1929. |
^7 | رواه ابن ماجه: 2043. |
^9 | رواه أبو داود: 2827، والترمذي: 1476 وقال: حسنٌ. |
^10, ^13 | رواه مسلم: 1955. |
^11 | رواه الدارقطني في "سننه": 4754. |
^12 | رواه مسلم: 2240. |
^15 | رواه البخاري: 2320، ومسلم: 1553. |
^16 | رواه البخاري: 2072. |
^17 | رواه مسلم: 1041. |
^18 | رواه البخاري: 1470، ومسلم: 1042. |
^19 | رواه البخاري: 1427، ومسلم: 1034. |
^21 | رواه مسلم: 1572. |
^22 | رواه مسلم: 510. |
^23 | رواه أبو داود: 2851، وأحمد: 18258. |
^24 | رواه البخاري: 2488، ومسلم: 1968. |
^25 | رواه البخاري: 175، ومسلم: 1929. |
^26 | رواه البخاري: 5484، ومسلم: 1929. |