عناصر المادة
هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.
ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وهذا هو الدرس رقم (77) في هذا اليوم الثامن من شهر رجب من عام 1444 للهجرة.
كتاب الظِّهار
ما زلنا في كتاب “الظِّهار”، وقد تكلمنا في الدرس السابق عن معنى الظِّهار، وأن الأصل في ألفاظه أن الرجل يقول لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي. أو ما كان في معناها، وأن الله تعالى سمَّاه: مُنكرًا من القول وزورًا: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2]، وهذا يقتضي أنه من كبائر الذنوب؛ ولذلك كانت كفارته مُغلظةً.
هذا يُبين أثر الكلمة، فكلمةٌ واحدةٌ يُطلقها الإنسان يرتكب بها كبيرةً من كبائر الذنوب، ويترتب على ذلك الكفارة المُغلظة، وهي عتق رقبةٍ، فإن لم يجد فصيام شهرين مُتتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
كل ذلك بسبب كلمةٍ، وهذا يدل على عظيم شأن الكلمة في الإسلام، فليست مجرد كلامٍ يُطلقه الإنسان من غير مسؤوليةٍ، ومن غير مُحاسبةٍ، فكلمةٌ واحدةٌ تسبَّبتْ عليه في هذا كله؛ في أنه أولًا: ارتكب كبيرةً من الكبائر.
ثانيًا: أنه لا يجوز له أن يقرب امرأته حتى يأتي بالكفارة المُغلظة، وهي عتق رقبةٍ، فإن لم يجد فصيام شهرين مُتتابعين، يبقى شهرين مُتتابعين لا يقرب امرأته حتى يصوم هذين الشهرين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
فهذا يُبيِّن لنا عظيم شأن الكلمة ومكانتها في الإسلام، وعظيم المسؤولية المُترتبة عليها.
ممن يصح الظِّهار؟
وصلنا إلى قول المصنف رحمه الله:
ويصح الظِّهار من كل مَن يصح طلاقه مُنَجَّزًا.
مَن صحَّ طلاقه صحَّ ظِهَاره.
وقوله: “مُنَجَّزًا” يعني: غير مُعلَّقٍ.
وعلى ذلك فالظِّهار يصح من الزوج العاقل.
هل يُشترط البلوغ؟
يجري فيه الخلاف الذي ذكرناه في الطلاق، والصحيح أنه لا يُشترط، فكما أن الطلاق يصح من الصبي المُميِّز فكذلك الظِّهار.
أو مُعلَّقًا.
كأن يقول: إن فعلتِ كذا فأنت عليَّ كظهر أمي. فيكون هذا ظِهَارًا.
أو مَحْلُوفًا به.
كأن يقول: إن لم تفعلي كذا فأنت عليَّ كظهر أمي.
حكم الظِّهار من الأجنبية
قال:
فإن نَجَّزَه لأجنبيةٍ، أو علَّقه بتزويجها، أو قال لها: أنتِ عليَّ حرامٌ، ونوى أبدًا؛ صحَّ ظِهَاره.
هذا رجلٌ قال لامرأةٍ أجنبيةٍ كان يتخاطب معها ويُكلمها، ثم قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي.
يعني: معظم ما يكون هذا عندما تكون هناك خطبةٌ قبل العقد، فيقول الرجل: أنتِ عليَّ كظهر أمي، هل يكون ظِهَارًا؟
يقول المصنف: إنه يكون ظِهَارًا.
وهكذا لو قال: أنت عليَّ حرامٌ. فعلى المذهب أنه يكون ظِهَارًا.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يكون ظِهَارًا؛ وذلك لأنه لو طلَّقها لم يقع الطلاق، فكذلك إذا ظاهر منها؛ لحديث: إنما الطلاق لمَن أخذ بالسَّاق [2]، ولا فرق بين الظِّهار والطلاق، وهذا هو القول الراجح، ما دامت أجنبيةً عنه فلا يترتب على ذلك الكلام شيءٌ، ولا يكون ظِهَارًا؛ ولهذا قال المؤلف: “لا إن أطلق أو نوى”.
إذن لو قال الأجنبي: أنت عليَّ حرامٌ، وأطلق فلم يَنْوِ أنها مُؤبدةٌ، أو نوى أنها حرامٌ عليه الآن، فلا يكون ظِهَارًا.
هذا تفريعٌ على المسألة السابقة، وهذا الاستثناء يُضعف قولهم؛ ولهذا كان القول الراجح هو القول الثاني، وهو: أنه لا يكون ظِهَارًا مُطلقًا، فهي أجنبيةٌ عنه، فكيف يكون مُظاهرًا منها؟! والله تعالى يقول: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، قال: مِنْ نِسَائِهِمْ.
هل يقع الظِّهار من المرأة؟
أيضًا إذا ظاهرت المرأة من زوجها، المرأة قالت لزوجها: أنت عليَّ كأبي، أو أنت عليَّ كأخي، أو أنت مثل أَبَوَي بالنسبة لي. فهل هذا ظِهَارٌ؟
ليس ظِهَارًا؛ لأن الظِّهار إنما يكون من الأزواج لنسائهم؛ لقول الله : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ.
أما المرأة فلا يصح ولا يقع منها الظِّهار حتى لو صرَّحتْ بذلك: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:2]، حتى لو قالت: أنت عليَّ كأبي؛ وذلك لأن الظِّهار لا يكون من المرأة، وإنما يكون من الرجل، وهذا بالإجمال؛ لأن الله تعالى قال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ يعني: أيها الأزواج، لكن مع ذلك -مع قول أنه لا يقع الظِّهار من المرأة- تكون عليها كفارة يمينٍ؛ لأنها حرَّمتْ شيئًا مُباحًا، ومَن حرَّم شيئًا مُباحًا يجب عليه أن يُكفِّر كفَّارة يمينٍ، فأي شيءٍ مُباحٍ يُحرمه الإنسان يُوجب عليه كفارة يمينٍ.
مَن يذكر لنا الدليل على هذا؟
مرَّ معنا في دروسٍ سابقةٍ.
طالب: …..
الشيخ: أحسنت: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم قال في الآية التي بعدها: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، هذا يدل على أن أيَّ شيءٍ يُحرمه الإنسان ولم يكن ظِهَارًا ولا طلاقًا؛ فإنه تجب فيه كفارة يمينٍ.
فالمرأة إذا قلنا: إنها لا يصح أن تُظاهر من زوجها، فهي قد حرَّمتْ زوجها على نفسها، فتكون في ذلك كفارة يمينٍ.
لو قالت المرأة لزوجها: أنت عليَّ حرامٌ. ماذا يكون؟
أيضًا كفارة يمينٍ، لا يكون طلاقًا، ولا يكون ظِهَارًا؛ لأن هذا لا يكون من المرأة، فيكون كفارة يمينٍ.
لو كان الذي حرَّم الزوج، قال لزوجته: أنتِ عليَّ حرامٌ. فعند الحنابلة أنه ظِهَارٌ، والقول الراجح أنه يكون بحسب نيته، فإن نوى ظِهَارًا يكون ظِهَارًا، وإن نوى طلاقًا يكون طلاقًا، وإن نوى يمينًا يكون يمينًا.
والغالب على الناس أنهم يقصدون ماذا؟
اليمين، الغالب أنهم يقصدون اليمين.
بعض الناس -مثلًا- عندما يريد تأكيد شيءٍ يقول: هذا الشيء عليَّ حرامٌ، حرامٌ أني آخذ منك هذا المبلغ، حرامٌ أنك تُحاسِب قبلي، حرامٌ أني آخذ هذا الفنجان قبلك، حرامٌ أني أفعل كذا، أو حرامٌ أنك تفعل كذا. ثم بعد ذلك لا يتحقق ما حرَّمه، فالواجب في ذلك كفارة يمينٍ، هذه القاعدة: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2].
فالقاعدة في جميع ما يُحرِّمه الإنسان على نفسه ولم يكن ظِهَارًا ولا طلاقًا أنه يمينٌ، وتجب به كفارة اليمين.
فَخُذْ هذه الفائدة: كل ما يُحرمه الإنسان على نفسه إذا لم يكن ظِهَارًا ولا طلاقًا فهو يمينٌ، ويشمل جميع ما يُحرمه على نفسه.
حكم الظِّهار المُؤقت
قال:
ويصح الظِّهار مُؤقتًا: كأنتِ عليَّ كظهر أُمي شهر رمضان.
يعني: هذا رجلٌ يخشى على نفسه أن يقع على امرأته في نهار رمضان، فقال: أنتِ عليَّ كظهر أمي في رمضان؛ حتى يمنع نفسه، هذا يُعتبر ظِهَارًا.
وهذا قد حصل من أحد الصحابة، وهو سَلَمَة بن صخر البياضي، قال: كنتُ امرأً أُصيب من النساء ما لا يُصيب غيري -يعني: كان عنده شَبَقٌ- فلما دخل شهر رمضان خِفْتُ أن أُصيب من امرأتي فظاهرتُ منها -قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي رمضان- فَبَيْنَا هي تخدمني ذات ليلةٍ إذ تَكَشَّف لي منها شيءٌ. وفي روايةٍ: وإذا بساقها يلوح في ضوء القمر. فقال: فلم أَلْبَثْ أن نزوتُ عليها، فلما أصبحتُ خرجتُ إلى قومي فأخبرتُهم الخبر، وقلتُ: امشوا معي إلى رسول الله . قالوا: لا والله. فجاء إلى النبي وأخبره بذلك، فقال: أعتق رقبةً، فقال: والله ما أملك غيرها. قال: فَصُمْ شهرين مُتتابعين، قال: وهل أوقعني إلا الصيام؟ قال: فأطعم وَسْقًا من تمرٍ بين ستين مسكينًا، قال: والذي بعثك بالحقِّ، لقد بِتْنَا وما لنا طعامٌ. نحن فقراء، قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زُرَيقٍ، فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينًا وَسْقًا من تمرٍ، وكُلْ أنت وعيالك بقيتها، قال: فرجعتُ إلى قومي فقلتُ: وجدتُ عندكم الضيق وسُوء الرأي، ووجدتُ عند النبي السّعة وحُسن الرأي، وقد أمرني أو أمر لي بصدقتكم [3].
يعني: الناس خوَّفوه، قالوا له: هلكتَ! ماذا فعلتَ؟
فذهب للنبي عليه الصلاة والسلام وهو بصدقةٍ معه، وأمره أن يُطْعِم ستين مسكينًا، وأن يأخذ بقيتها، وهذا يدل على حُسن تعامل النبي ؛ وذلك لأن هذا الرجل أتى تائبًا، والتَّائب يُعامل معاملةً خاصةً، التائب لا يُوبَّخ، ولا يُعنَّف، وإنما يُشجَّع على التوبة، ولا يُقال له أي شيءٍ يُكدِّر عليه، إنما يُشجع على التوبة، ويُبيَّن له الحكم الشرعي، فالتائب يُعامل معاملةً خاصةً.
وبعض الناس لا يُوفَّق في تعامله مع التائب، عندما يأتي إنسانٌ ويقول: أنا فعلتُ كذا، وأنا تائبٌ إلى الله. يبدأ في توبيخه: أما تستحي؟! كيف تتجرأ على حُرمات الله؟! كيف تفعل كذا؟! فهذا يُعين الشيطان عليه، وربما لا يتوب.
مَن أتاك تائبًا ينبغي أن تترفق به، وأن تُشجعه على التوبة، ولا يُعنَّف بأيِّ صورةٍ من صور التَّعنيف، إنما يُشجَّع على التوبة، ويُبيَّن له الحكم الشرعي، كما فعل النبي مع هذا الرجل.
إذن هذا الرجل ظَاهَرَ من امرأته في رمضان، وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، فدلَّ ذلك على صحة الظِّهار المُؤقت.
قال:
فإن وطأ فيه -يعني: في رمضان- فَمُظَاهِرٌ، وإلا فلا.
إن وطأ في رمضان فإنه يكون مُظاهرًا، سواء كان في النهار، أو في الليل، أما إذا مضى عليه رمضان ولم يَطَأ زوجته فليس عليه كفارةٌ، لكن عليه الإثم؛ لأن الظِّهار منكرٌ من القول وزورٌ، عليه التوبة إلى الله ، وإن لم تكن عليه كفارةٌ.
أما إذا كان الوطء في نهار رمضان فعليه كفارةٌ واحدةٌ؛ لأن كفارة الظِّهار هي نفسها كفارة الجِمَاع في نهار رمضان.
شرط وجوب الكفارة في الظِّهار
يُشترط لوجوب الكفَّارة في الظِّهار ما ذكره الله في قوله: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3]، يُشترط العَود.
ما معنى العود؟
العود للعلماء فيه ثلاثة أقوالٍ:
- القول الأول -مذهب الشافعية-: أن معنى العود: أن يُمسكها بعد الظِّهار زمنًا يمكن أن يُطلقها فيه، فمعنى ذلك: أن عندهم إذا لم يصل الطلاق بالظِّهار فإنه يكون قد عاد، وهذا هو المذهب عند الشافعية.
- والقول الثاني: أن المراد بالعود: العزم على الوطء، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
- والقول الثالث: أن المراد بالعود: الوطء، وهذا مذهب الحنابلة، وهو القول الراجح؛ وذلك لأن العود معناه: يعود لما قال، هو قال: إنه لن يطأ امرأته، وظَاهَرَ، ثم وطأها، فيكون قد عاد في قوله.
وقد اختار هذا ابن القيم وجماعةٌ من المُحققين من أهل العلم.
وعلى هذا يكون المعنى في قول الله : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3]، يعني: مَن أراد أن يعود ويطأ فيجب عليه قبل أن يطأ تحرير رقبةٍ، فيكون المعنى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا يعني: ثم يريدون العودَ لما قالوا، يكون هذا هو معنى الآية: ثم يريدون العود لما قالوا.
ونظير ذلك قول الله : فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، يعني: إذا أردتَ أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله.
وقول الله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6]، يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا، فهذا له نظائر.
وعلى هذا نقول: إذا أراد أن يطأ لا بد قبل ذلك أن يُكفِّر.
إذن: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا، قلنا: فيها ثلاثة أقوالٍ، والراجح: أن المراد بالعود الوطء.
حكم الوطء قبل الكفارة
قال:
وإذا صحَّ الظِّهار حَرُمَ على المُظاهِر الوطء ودواعيه قبل التَّكفير.
وهذا باتِّفاق العلماء: أنه إذا صحَّ الظِّهار فإنه يحرم الوطء، وتحرم دواعيه أيضًا، لكن هذا محل اتفاقٍ فيما إذا كانت الكفارة عتق رقبةٍ، أو صيام شهرين مُتتابعين؛ لأن الله تعالى قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].
لو تأملنا آيات سورة المجادلة نجد أن الله قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، ثم في الآية التي بعدها: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:4]، ثم في الآية التي بعدها: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4]، هل قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا؟
لا، ما قاله، ومن هنا اختلف العلماء في الإطعام، مع اتِّفاقهم على أنه لا يجوز له الوطء قبل الكفارة إذا كانت الكفارة عتق رقبةٍ أو صيام شهرين متتابعين؛ لقول الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، لكن في الإطعام ما قال الله : مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فهل يجوز أن يطأ قبل الإطعام؟
فهذه محل خلافٍ بين العلماء، لكن ترى في الطبعة الأخيرة عُدِّلتْ، يعني: إذا تأملنا آية الظِّهار نجد أن الله قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وفي الآية التي بعدها: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أما الآية التي بعدها: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لكن في الطبعة السابقة: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وهذا خطأٌ من الصفِّ وعُدِّل في الطبعة الأخيرة، فالذي ليست عنده يُعَدِّلها.
أما في الآية التي بعدها فقال: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، ولم يقل: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا؛ لأن هذه التي لم يقل فيها: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فقط.
فالطبعة الأخيرة مُعدَّلٌ فيها، أما الطبعات السابقة ففيها الخطأ هذا في كتابة الآية.
ولذلك نقول: اختلف العلماء في حكم الوطء قبل أن يُكفِّر إذا كانت الكفارة هي الإطعام، أما إذا كانت الكفارة العتق أو الصيام فهذا محل إجماعٍ: أنه ليس له أن يطأ حتى يأتي بالكفارة، لكن إذا كانت الكفارة الإطعام للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: أنه يحرم أن يطأ قبل أن يُكفر بالإطعام، وهذا قول الجماهير.
واستدلوا من السنة بقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به [4]، قالوا: من غير تفريقٍ بين العتق والصيام والإطعام.
وقالوا: إن الله لم يذكر: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا في الإطعام؛ لأنه إذا كان ممنوعًا من أن يقرب زوجته إذا كانت الكفارة الصيام وهي شهران متتابعان مع تطاول زمنه، فمنعُه من أن يقرب زوجته إذا كان التَّكفير بالإطعام من باب أولى.
والشريعة لا تُفرق بين المُتماثلات، كيف أن الله يمنعه من أن يقرب زوجته إذا كانت الكفارة صيام شهرين متتابعين، ما يقرب زوجته، وأما إذا كانت الإطعام الذي يمكن أن يتم في خمس دقائق يستطيع أن يُطعم ستين مسكينًا، ونقول: يجوز أن يقرب زوجته قبل أن يُكفِّر؟!
الشريعة لا تُفرق بين المُتماثلات.
هذه وجهة الجمهور.
القول الثاني: قالوا: يجوز الوطء قبل أن يُكفِّر بالإطعام.
وهو روايةٌ عند الحنابلة، وقال به أبو ثور، وتمسَّكوا بظاهر الآية، قالوا: إن الله قال في الكفارة إذا كانت عتق رقبةٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، وفي الصيام قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، أما في الإطعام فلم يقل: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، والله تعالى لم يُقيِّد هذا عَبَثًا، ويُطلق ذاك عَبَثًا، بل لفائدةٍ مقصودةٍ: وهي تقييد ما قيَّده الله، وإطلاق ما أطلقه الله، يعني: تمسَّكوا بظاهر النص.
فالجمهور أخذوا بالمعنى، وأصحاب القول الثاني أخذوا بظاهر اللفظ.
وكما ترون الخلاف قويٌّ، فمَن أخذ بظاهر اللفظ وجهته قويةٌ، يقول: لو كان لا يجوز للمُظاهر أن يقرب زوجته قبل أن يُكفِّر بالإطعام لقال الله : مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، كما قال في الكفارة لما كانت عتق رقبةٍ أو في صيام شهرين متتابعين.
لكن الجمهور قالوا: كيف يُمنع المُظاهر من أن يقرب زوجته والكفارة صيام شهرين متتابعين، والإطعام الذي لا يتطاول زمنه نقول: إنه يجوز أن تطأ قبل أن تُكفِّر؟! فالشريعة لا تُفرق بين المُتماثلات.
والأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور، الأقرب هو قول الجمهور: وهو أنه لا يجوز أن يقرب زوجته قبل أن يُكفِّر مطلقًا، حتى لو كانت الكفارة إطعامًا.
وذكر بعض المفسرين أن من لطائف هذا قالوا: إن الله تعالى لو قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا في عتق الرقبة وسكت؛ لأوهم ذلك اختصاصه به، ولو قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا في صيام شهرين متتابعين فقط؛ لأوهم ذلك اختصاصه به، ولو قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا في الإطعام فقط؛ لأوهم اختصاصه به، ولو قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا في العتق وفي الصيام وفي الإطعام لكان هذا تطويلًا، فلما ذكر أنه في عتق الرقبة وفي الصيام فُهِمَ منه أنه كذلك في الإطعام، فقالوا: كأن هذا أمرٌ معروفٌ، كيف يُمْنَع المُظاهر من أن يطأ زوجته قبل أن يُكفِّر في الصيام وهو شهران متتابعان؟ من باب أولى أن يكون ذلك في الإطعام، فالأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور.
ونظير ذلك من بعض الوجوه قول النبي : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صِحَافِها [5].
بعض العلماء تمسك بظاهر اللفظ، قال: لا يجوز الأكل والشرب فقط في آنية الذهب والفضة، لكن استخدامها في غير ذلك يجوز.
والجمهور قالوا: لا، لا يجوز الانتفاع بآنية الذهب والفضة في أي شيءٍ. وهذا هو القول الراجح، بل حُكِيَ إجماعًا.
فأحيانًا بعض النصوص قد تخصُّ بعض وجوه الانتفاع من باب: أن هذا هو الانتفاع الأشهر أو الأظهر، لكن بقية وجوه الانتفاع داخلةٌ ضمنًا.
هكذا أيضًا هنا، فالله تعالى قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا في عتق الرقبة وفي الصيام، فمعنى ذلك: أنه أيضًا في الإطعام من باب أولى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
ومع ذلك تبقى وجهة مَن تمسَّك بظاهر اللفظ، وجهتهم قويةٌ؛ لأن مَن تمسك بظاهر اللفظ لا يُلام؛ ولذلك لما قال النبي : لا يُصَلِّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قُريظة [6]، فلما حضرتْ صلاة العصر انقسم الصحابة قسمين:
قسمٌ أخذوا بظاهر اللفظ، قالوا: لن نُصلِّي العصر إلا في بني قُريظة ولو غربت الشمس.
وقسمٌ أخذوا بالمعنى، قالوا: ما قصد النبي عليه الصلاة والسلام أن نُؤخِّر صلاة العصر، المقصود حثُّنا على السَّير وأننا ما نتأخَّر، فتوقَّفوا وصلّوا صلاة العصر في الطريق.
قال ابن عمر: ولم يُعنِّف النبي أيًّا من الطائفتين.
لكن أيُّ الطائفتين أفقه: الذين أخذوا بظاهر اللفظ أم الذين أخذوا بالمعنى؟
الجواب: الذين أخذوا بالمعنى -كما قال ابن القيم وغيره- لكن مع ذلك لم يُعنِّف النبي عليه الصلاة والسلام مَن أخذ بظاهر اللفظ.
طالب: …….
الشيخ: نعم مُجتهدون، اجتهد هذا وأخذ بظاهر اللفظ، وهذا اجتهد وأخذ بالمعنى.
وقوله: “حَرُمَ على المُظاهر الوطء ودواعيه”، أما الوطء فالكلام عنه كما سبق، وأما دواعيه فالمذهب عند الحنابلة والحنفية أنها تحرم، لكن من الفقهاء مَن قال: إنها لا تحرم. والراجح أنها تحرم؛ لأن قوله: “أنتِ عليَّ كظهر أمي” يقتضي أنه حرَّم عليه أيَّ استمتاعٍ بزوجته.
قال:
فإن وطأ ثبتت الكفارة في ذمَّته ولو مجنونًا.
يعني: وطأ المُظاهِر المُظاهَرَ منها؛ ثبتت الكفارة في ذمَّته مع الإثم؛ لكونه وطأ قبل أن يُكفِّر، حتى لو كان الواطئ ظَاهَرَ ثم جُنَّ، فتبقى في ذِمَّته؛ لأنها مُتعلقةٌ بالمال.
قال:
ثم لا يطأ حتى يُكفِّر.
يعني: لا يحل له أن يطأ بعد ثبوت الكفارة في ذمته حتى يُخرج الكفارة؛ لقول الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا مع وقوع الخلاف في الإطعام.
وإن مات أحدهما قبل الوطء فلا كفارة.
لأنه لم يوجد الحِنْث.
كفارة الظِّهار
ثم تكلم المؤلف عن كفارة الظِّهار، وهي نفسها كفارة الجِمَاع في نهار رمضان، ويُسميها العلماء: الكفارة المُغلظة، لكن هل هي نفسها كفارة القتل الخطأ؟
لا؛ لأن كفارة القتل الخطأ عتق رقبةٍ، فمَن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، لكن لم يُذكر فيها الإطعام، لكن كفارة الظِّهار هي نفسها كفارة الجِمَاع في نهار رمضان، وتُسمى: الكفارة المُغلظة.
قال:
إذن الواجب أولًا هو: عتق رقبةٍ خاليةٍ من العيوب المُؤثرة في العمل؛ لأن المقصود عتق هذا العبد وتمليك العبد منافعه؛ لكي يتصرف لنفسه، وهذا لا يحصل مع ما يضر بالعمل.
والآن الرِّقُّ قد انقرض في العالم، وأصبح مُجرَّمًا دوليًّا في جميع دول العالم، بل مَن يُمارسه يُلاحَق بجميع دول العالم ويُجرَّم؛ ولذلك انقرض الرِّقُّ، فلا يوجد رِقٌّ شرعيٌّ على وجه الأرض اليوم.
ونجد الإعجاز القرآني في هذا، فإن الله لما ذكر عتق رقبةٍ قال بعد ذلك: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، ولم يقل: فمَن لم يجد ثمن الرقبة، وإنما أطلق؛ لأن الله يعلم أنه سيأتي على الناس زمانٌ لا يجدون الرقاب أصلًا مع قُدرتهم عليها، لكن لا يجدون الرقاب أصلًا كما في زماننا في الوقت الحاضر.
قال:
ولا يُجزئ عتق الأخرس الأصم ولا الجنين.
يعني: لا يُجزئ في عتق العبد أن يكون أخرس أصمًّا حتى لو كانت إشارته مُفهمةً، أو مجنونًا؛ لأننا اشترطنا في الرقبة أن تكون خاليةً من العيوب، وهذا من العيوب، ولا الجنين؛ لأنه لم تثبت له بعد أحكام الدنيا، فيقول: لا يُجزئ عتقه هنا في الكفارة.
فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
كما في وقتنا الحاضر، فالرقاب الآن غير موجودةٍ، والرِّقُّ انقرض، فمباشرةً يُؤْمَر المُظاهِر ومَن جامع في نهار رمضان، يُؤْمَر مباشرةً بصيام شهرين متتابعين، ولا بد من التتابع، فلو أنه صام تسعةً وخمسين يومًا ثم أفطر لزمه أن يُعيد من جديدٍ، فلا بد من التتابع، فالتتابع شرطٌ للصحة إلا إذا تخلَّل ذلك يوما العيدين وأيام التَّشريق، أو -مثلًا- مرض، أو -مثلًا- الحيض والنفاس في المرأة، فهذا كله لا يقطع التتابع.
قال:
ويلزمه تبييت النية من الليل.
يعني: في صيام الشهرين المتتابعين، بل في كل صومٍ واجبٍ؛ وذلك لأنه لا بد أن تكون النية شاملةً لجميع النهار، ولا تكون كذلك إلا إذا بَيَّتَ النية من الليل.
فإن لم يستطع الصوم لِكِبَرٍ أو مرضٍ لا يُرجى بُرْؤُه أطعم ستين مسكينًا مسلمًا.
إن عجز عن الصيام انتقل للإطعام، لكن هنا نُنبه: أن بعض الناس يقول: إنه لا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين عندما يُؤْمَر بذلك، وهو في واقع الأمر يصوم شهر رمضان كاملًا، ومعنى ذلك: أن دعواه بأنه لا يستطيع غير صحيحةٍ، كيف لا تستطيع وأنت تصوم رمضان كاملًا؟!
ولكن مُراد بعض العامة بقوله: “لا أستطيع” أنه تلحقني مشقةٌ، والمشقة لا بد منها، فأيُّ إنسانٍ لو أراد أن يصوم شهرين متتابعين وهو شابٌّ صحيحٌ سيجد مشقةً، أليس كذلك؟
صيام شهرين متتابعين ليس بالأمر الهَيِّن، فالمشقة لا بد منها؛ ولذلك ينبغي لمَن قال: “لا أستطيع أن أصوم شهرين متتابعين” أن يُسأل: هل صمتَ رمضان؟ فإن قال: نعم. نقول: إذن أنت تستطيع.
لماذا لا تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟
فإذا كان ذلك لمرضٍ قَبِلْنَا منه، قلنا: إذن أطعم ستين مسكينًا.
إذا كان لِكِبَر سِنٍّ قَبِلْنَا منه، قلنا: أطعم ستين مسكينًا، لكن إذا كان صحيحًا مُعافًى، وقال: إني لا أستطيع. نقول: دعواك غير صحيحةٍ، بدليل أنك صمتَ رمضان كاملًا، فأنت تستطيع، لكن عليك مشقةٌ، والمشقة لا بد منها؛ لِعِظَم الذنب.
ولذلك ينبغي أن يتنبه المُفتون خاصةً؛ لأن بعض العامة مباشرةً يأتي للمُفتي، وإذا قال: صُمْ شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع. قال: إذن أطعم ستين مسكينًا.
فبعض العامة يقصد بكلمة “لا أستطيع” يعني: عليه مشقةٌ، والمشقة لا بد منها، فأيُّ إنسانٍ سيصوم شهرين متتابعين سيجد مشقةً؛ ولذلك المُعوَّل عليه هو النظر؛ لكونه صام رمضان أم لا؟ إن كان صام رمضان كاملًا، ولا يُعاني من أمراضٍ، وليس كبيرًا في السنِّ؛ نقول: صُمْ شهرين متتابعين، يلزمك الصيام، والمشقة لا بد منها، ويمكن أن يختار -مثلًا- أيام الشتاء، مثل هذه الأيام التي يكون الجو فيها باردًا، والنهار قصيرًا، لكن لا بد، لا تبرأ ذمَّته إلا بصيام شهرين متتابعين.
حسنًا، لو افترضنا أنه لا يستطيع: إما لمرضٍ، أو لِكِبَر سِنٍّ، ونحو ذلك ينتقل للإطعام؛ إطعام ستين مسكينًا.
مقدار الإطعام في كفارة الظِّهار
كيف يُطْعِم؟
قال المصنف:
لكل مسكينٍ مُدُّ بُرٍّ، أو نصف صاعٍ من غيره.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، يُفَرِّقون بين البُرِّ وغيره، البُرُّ لنفاسته، البُرُّ كان عندهم نفيسًا، فكانوا يعدلون مُدَّ البُرِّ بنصف الصاع من غيره، نصف الصاع يعني: مُدَّين؛ لأن الصَّاع أربعة أمدادٍ، ولكن هذا القول ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ.
ومن العلماء مَن قال: إنه يُعطي كل مسكينٍ نصف صاعٍ مطلقًا من البُرِّ أو من غيره.
والقول الأظهر -والله أعلم- هو: أن المرجع في ذلك للعُرْف، فما عَدَّهُ الناس إطعامًا فهو إطعامٌ.
قد اختار هذا القول الإمام ابن تيمية وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم، وهذا هو المنقول عن الصحابة والتابعين؛ وذلك لأن القاعدة: أن ما جاء الأمر به مطلقًا في الشرع، ولا ضابط له في اللغة، فالمرجع فيه للعُرْف.
القاعدة: أن ما جاء مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع، ولا في اللغة؛ فالمرجع فيه للعُرْف، والإطعام جاء مُطلقًا في الشرع، ولا ضابط له في الشرع، ولا في اللغة؛ فالمرجع فيه للعُرْف.
والآن يوجد عُرْفٌ عند المطاعم، فلو قلتَ -مثلًا-: أعطني أرزَ نَفَرٍ واحدٍ، هناك عُرْفٌ عندهم، نفرين، ثلاثة نَفَرٍ، أربعة نَفَرٍ، موجودٌ الآن عُرْفٌ مُستقرٌّ، فيوجد عُرْفٌ الآن مُستقرٌّ.
إذن الأرجح أن المرجع في ذلك -في مقدار الإطعام- إلى العُرْف، لكن هل يُشترط أن يكون معه إدامٌ أم لا؟
أولًا: ما معنى الإدام؟
الإدام محل خلافٍ، والراجح هو ما اختاره الحافظ ابن حجر من أن الإدام: ما يُؤكل به الخبز، فيشمل ذلك اللحم والمَرَق والزيت وغير ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: نِعْمَ الإدام الخَلّ [7].
هل يجب الإدام مع الطعام -يعني: مع الأرز مثلًا- أو لا يجب؟
هذا محل خلافٍ، والراجح أنه إذا كان أهله يَأْتَدِمُون فيجب عليه في الكفارة أن يدفع إدامًا مع الطعام.
أما إذا كان أهله لا يَأْتَدِمُون فلا يلزمه أن يُفَضِّل الفقراء والمساكين على أهله؛ لأن الله قال: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89].
والناس الآن -مثلًا- عندنا هنا في المملكة يَأْتَدِمُون، يعني: لا يأكلون -مثلًا- الأرز فقط دون لحمٍ، فتجد أن الأرز مع لحمٍ، أو مع دجاجٍ، فالناس يَأْتَدِمُون.
ولذلك فالواجب عند إخراج الكفارة أن يكون الطعام -مثلًا- أرزًا مع لحمٍ أو مع دجاجٍ، ولا يكون -مثلًا- أرزًا فقط، سواء كان في كفارة الظِّهار، أو في كفارة اليمين، أو في أيِّ كفارةٍ، ما دام الناس في المجتمع يَأْتَدِمون فالواجب أن يُخرج الإدام مع الطعام في الكفارة.
ولذلك ينبغي أن يتنبه الإخوة في الجمعيات الخيرية لهذه المسألة، فإذا كنتم تُعطون الفقراء -مثلًا- أرزًا في الكفارة، فينبغي أن يكون مع ذلك إدامٌ من لحمٍ أو دجاجٍ أو نحو ذلك، إلا إذا كان الناس في مجتمعٍ يكتفون فيه بالطعام من غير إدامٍ، وهذا يكون أحيانًا في المجتمعات التي يكثر فيها الفقر، فيكتفي الناس -مثلًا- بالأرز من غير لحمٍ، فهنا يكفي إخراج الأرز، لكن ما دام الناس يَأْتَدِمون فيجب أن يكون في الكفارة مع الطعام إدامٌ.
هذا الشيخ محمد في إحدى الجمعيات يقول: هذا هو الذي عليه العمل؛ أنهم يُخرجون الدَّجاج مع الأرز.
قال:
ولا يُجزئ الخبز.
يعني: لا يُجزئ إخراج الخبز في الإطعام، فجوابنا على سؤال الأخ الكريم: المؤلف يرى أنه لا يجوز، ولكن القول الثاني في المسألة: أنه يُجزئ، واختاره المُوفق ابن قُدامة رحمه الله، واستدلَّ بالآية: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89]، والخُبز من أوسط ما يُطْعِم الناسُ أهلهم، والكفارة ليس الادخار فيها مقصودًا، وعلى ذلك فلا بأس بإخراج الخبز في الإطعام.
وعلى هذا لو أراد في الكفارة أن يُخْرِج -مثلًا- (شاورما) يُجزئ أم لا يُجزئ؟
على القول الراجح: يُجزئ، لكن على المذهب: لا يُجزئ، أما على القول الراجح فيُجزئ، والناس يعتبرونها الآن طعامًا شهيًّا، تُعتبر وجبةً، فيُعطيه -مثلًا- من (الشاورما) ما يكفيه، مثلًا: يُعطي هذا الفقير وجبة عشاء، أو -مثلًا- يُعطي عشرةً من الفقراء والمساكين، إذا كانت كفارة يمينٍ، أو إذا كانت ستين مسكينًا يبحث عن ستين مسكينًا ويُوزِّع عليهم وجبات، يعني: (شاورما) يُعشِّيهم بها، أو يُغدِّيهم بها.
فهذه على القول الراجح أنها تُجزئ، وإن كان على المذهب أنها لا تُجزئ.
طالب: …….
الشيخ: لا، العُرف، في عُرْف الناس كم مثلًا؟
يعني: في عُرْف الناس أنها إذا كانت كبيرةً تكفي واحدةٌ، وإذا كانت صغيرةً ربما اثنتان، يعني: يأخذ بالعُرْف، فنحن ضبطنا ذلك بالعُرْف.
أيضًا لو أنه جمع الفقراء أو المساكين فغدَّاهم أو عشَّاهم فَيُجْزئ ذلك على القول الراجح، وكان أنس بن مالك يفعله، فلو أنه وجد عشرة مساكين جمعهم وأتى لهم بعشاءٍ أو بغداءٍ يُجزئ ذلك.
وأنسٌ دعا له النبي بطول العمر، لما قَدِمَ عليه الصلاة والسلام المدينة مُهاجرًا كانت أم أنسٍ أم سُليم، وكان يتيمًا، لكن رزقه الله بأمٍّ عظيمةٍ مُتدينةٍ عاقلةٍ، فقالت: هذا الصبي الذي عمره عشر سنوات أجعله خادمًا للنبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى يستفيد منه، ويتتلمذ عليه، فقالت: يا رسول الله، هذا أنسٌ غلامٌ يخدمك، ادعُ الله له. أنا وهبتُه لخدمتك، لكن ادعُ الله له.
قال: فدعا لي بثلاث دعواتٍ، رأيتُ منها اثنتين في الدنيا، وأرجو الثالثة في الآخرة [8]، قال: اللهم أكثر ماله وولده، وأَطِلْ حياته، واغفر له، قال: فأكثر الله مالي حتى إني أكثر الأنصار مالًا، وحتى إن بُستاني يُثْمِر في السنة مرتين، وأطال الله عمري حتى جاوزتُ مئة عامٍ، حتى استحييتُ من أهلي، واشتقتُ للقاء ربي. وأكثر الله ولده حتى جاوزوا المئة [9].
فسبحان الله!
انظر لبركة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فكان لما تقدم به السنّ -يعني: تجاوز المئة وكبير السن- يشق عليه الصوم، فكان يُفْطِر ويجمع الفقراء يُغدِّيهم أو يُعشِّيهم؛ فدلَّ ذلك على صحة أن يجمع مَن عليه الكفارة، يجمع الفقراء ويُغدِّيهم أو يُعشِّيهم، فهذه كلها مُجزئةٌ.
قال:
ولا غير ما يُجزئ في الفطرة.
يعني: لا يُجزئ في الكفارة ما لا يُجزئ في زكاة الفطر، وعندهم في زكاة الفطر أصنافٌ محصورةٌ كما مرَّ معنا.
والراجح أنه لا يُشترط ذلك، وأنه يصح بما يُسمى: طعامًا، سواء كان يُجزئ في زكاة الفطر أم لا.
ولا يُجزئ العتق والصوم والإطعام إلا بالنية.
يعني: إذا كانت الكفارة عتقًا أو صومًا أو إطعامًا لا بد فيها من النية، فلو أطعم إنسانٌ عن آخر بغير علمه لم يُجزئ.
وكذلك الزكاة، فبعض الناس يكون -مثلًا- أبوه أو أمه لا يُخرج الزكاة، فيقول: أنا أريد أن أُخرج الزكاة بدلًا عنه. يصح هذا أو لا يصح؟
لا يصح إلا إذا أَذِنَ؛ لأنه لا بد أن تكون النية منه، أما أن يُخرج الزكاة عنه بغير علمه وبغير إذنه فهذا لا يصح ولا يُجزئ؛ لأن العبادات لا بد فيها من النية، وهكذا أيضًا بالنسبة للكفارات.
طالب: …….
الشيخ: يعني: إذا كان عقله ليس معه ما يحتاج، يُخْرَج عنه.
هل يُشترط العدد في الإطعام؟
هذه مسألةٌ مهمةٌ يكثُر السؤال عنها: هل يُشترط العدد في الكفارة المُغلظة: أن يكون عدد المساكين ستين مسكينًا؟ هل يُشترط في كفارة اليمين أن يكون عشرة مساكين؟
هذه المسألة فيها خلافٌ على ثلاثة أقوالٍ:
القول الأول: أنه يُشترط العدد، فلا بد في الكفارة المُغلظة أن يكون عدد المساكين ستين مسكينًا، ولا بد في كفارة اليمين أن يكون عددهم عشرة مساكين.
وهذا قول الجماهير من المالكية والشافعية والحنابلة، وقالوا: لأن الله قال في كفارة الظِّهار: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4]، ومَن يُطعم مسكينًا واحدًا ستين يومًا لا يَصْدُق عليه أنه أطعم ستين مسكينًا؛ لأن الله أمر بعدد المساكين، وليس بعدد الأيام، وكذلك قال في كفارة اليمين؛ قال: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، فلا بد من استيعاب العدد؛ ولأنه لو أوصى بشيءٍ لستين مسكينًا لم يُجزئ إعطاؤه مسكينًا واحدًا بالاتفاق، فهكذا هنا.
والقول الثاني -وهو مذهب الحنفية-: أنه يُجزئ أن يُطعم مسكينًا واحدًا ستين يومًا، أو مسكينين، كل مسكينٍ ثلاثين يومًا -مثلًا- وقالوا: إن المسكين إنما يستوفي كل يومٍ قُوته من هذه الكفَّارة، فجاز أن يُردِّد عليه الإطعام.
والقول الثالث هو التَّفصيل، قالوا: إن وجد ستين مسكينًا لم يُجزئه الاقتصار على مسكينٍ واحدٍ، أما إن لم يجد جاز له الاقتصار على مسكينٍ واحدٍ.
وهذا القول روايةٌ عند الحنابلة اختارها ابن القيم، وقال: إنها ظاهر مذهب أحمد. وهذا هو القول الراجح في المسألة؛ لأنه إن وجد ستين مسكينًا فقد امتثل الأمر بصورته ومعناه، فليس له أن يقصره على مسكينٍ واحدٍ، لكن إن لم يجد فَيُجزئه ترديد الطعام عليه ستين يومًا.
فمثلًا: في بلدان العالم الإسلامي المساكين كُثُرٌ، فلا بد من استيعاب العدد، لكن يوجد في بعض البلدان الذين يُوفرون مُرتباتٍ -مثلًا- للعاطلين عن العمل، فلا يوجد عندهم مساكين إلا قِلَّة، فيصعب على الإنسان أن يجد ستين مسكينًا، فهنا يمكن أن يُردِّد الإطعام على هذا المسكين الذي وجده، أو على هؤلاء المساكين بقدر الأيام، فلو لم يجد إلا مسكينًا واحدًا يُردِّد عليه الإطعام ستين يومًا، فيقول: كل يومٍ -مثلًا- سأُغدِّيك لمدة شهرين، أو كل يومٍ سأُعشِّيك لمدة شهرين. هذا إذا لم يجد إلا مسكينًا واحدًا.
وهذا -كما ذكرتُ- يكون في البلدان التي يقلُّ فيها عدد المساكين، أما في بلدان العالم الإسلامي فالمساكين كُثُرٌ؛ ولذلك لا بد فيها من استيعاب العدد.
طالب: …….
الشيخ: نعم، الكفارة على التَّراخي، لكن ليس له أن يطأ حتى يُكفِّر؛ لأن الله قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].
أما بالنسبة للإطعام في رمضان -انتبهوا لهذه المسألة، جزاك الله خيرًا- نحن قلنا: إنه لا بد من استيعاب العدد في الكفارات ما عدا الإطعام في رمضان لمَن لم يَصُم رمضان إما لِكِبَر سِنٍّ أو لمرضٍ لا يُرْجَى بُرؤه؛ فيجوز أن يجعل الإطعام كله لمسكينٍ واحدٍ، لكن يكون بعدد أيام الشهر، فيجوز أن يجعل إطعام ثلاثين مسكينًا يُعطيه مسكينًا واحدًا.
وهذا عند عامة أهل العلم، فالإطعام عن الإفطار في نهار رمضان يجوز أن يُعطى مسكينًا واحدًا أو مسكينين، ولا يُشترط ثلاثون مسكينًا، لا يُشترط فيه ثلاثون مسكينًا.
فانتبه لهذه المسألة، جميع الكفَّارات قلنا: يُشترط فيها استيعاب العدد إلا الإطعام لمَن لم يَصُم رمضان إما لِكِبَر سِنٍّ أو لمرضٍ أو غير ذلك، فهنا يجوز أن يجعل الإطعام كله لمسكينٍ واحدٍ، لكن بعدد أيام الشهر، فيأتي -مثلًا- يأخذ إطعام ثلاثين مسكينًا ويُعطيه مسكينًا واحدًا أو مسكينين أو ثلاثةً، هذا يجوز بالنسبة لمَن أفطر في نهار رمضان لعذرٍ ولم يتمكن من القضاء إما لِكِبَر سِنٍّ أو لمرضٍ أو لغير ذلك.
وهذه مسألةٌ سبق أن مرَّتْ معنا في كتاب “الصيام”.
أحسنتَ، نعم؛ لأنه ليس هناك دليلٌ يدل على استيعاب العدد، بل إن الله قال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وهذا هو وجه قول العلماء: إنه لا يُشترط العدد في الإطعام لمَن لم يَصُم رمضان، بينما -مثلًا- في كفارة اليمين قَيَّد الله العدد: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، وفي الظِّهار قال: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4].
إذن مسألة الإطعام هذه مختلفةٌ عن العدد في الكفارات.
كتاب اللِّعان
ثم قال المصنف رحمه الله:
كتاب اللِّعان.
اللِّعان مأخوذٌ من اللَّعن، واللَّعن هو: الطَّرد والإبعاد عن رحمة الله؛ وذلك لأن المُلَاعِن يلعن نفسه في الخامسة، يقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وإن كان الذي يلعن نفسه هو الزوج، أما المرأة فتقول: غضب الله عليها، لكن سُمِّي لعانًا من باب التَّغليب.
أما تعريفه عند الفقهاء فهو: شهادات مُؤكدة بالأَيمان من الجانبين مقرونة باللعنة أو الغضب تقوم مقام حدِّ القذف في حقِّ الزوج، ومقام حدِّ الزنا في حقِّ الزوجة.
سبب اللِّعان
أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، فإن الرجل إذا قذف زوجته بالزنا لا يخلو من ثلاثة أمورٍ:
- إما أن يأتي بالبينة، وهذا بعيدٌ أن يأتي بأربعة شهودٍ يشهدون على زنا زوجته.
- أو أن المرأة تُقِرُّ على نفسها بالزنا.
- أو أن يتلاعنا.
إذن إذا قذف زوجته بالزنا يُقال: هل عندك بينة أربعة شهودٍ؟
فإذا لم يجد، وأقرَّت الزوجة على نفسها فإنه يُقام عليها الحد، وإذا لم تُقِرّ يُلاعن، وإلا حُدَّ الزوج حَدَّ القذف.
فيُقال للزوج: أنت قذفتَ الآن زوجتك بالزنا، إما أن تأتي بالبينة، وإما أن تُلاعن، وإلا يُقام عليك حَدُّ القذف.
ولهذا قبل أن تنزل آيات اللِّعان لما أتى هلال بن أُمية إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقذف زوجته بالزنا، قال : البينة أو حَدٌّ في ظهرك، قال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: البينة أو حَدٌّ في ظهرك، فجعل كُلَّما تكلَّم قال النبي عليه الصلاة والسلام: البينة أو حَدٌّ في ظهرك، حتى أنزل الله تعالى آيات اللِّعان في سورة النور [10].
حكم اللِّعان
أما حكم اللِّعان فهو يجوز، فإذا وجد الرجل امرأته مع رجلٍ في خلوةٍ، أو وجد أماراتٍ تدل على فجور زوجته، وغلب على ظنِّه وقوع الزنا؛ يجوز له أن يُلاعنها.
وقد يكون اللِّعان واجبًا إذا حملتْ زوجته من الزنا؛ لأنه لو لم يُلاعِن لَنُسِبَ الولد إليه وهو ليس منه، فيقع في الإثم، فإذا تيقَّن بأن زوجته حملتْ من الزنا يجب عليه أن يُلاعِن، وإلا فإنه يَبُوء بالإثم العظيم؛ لأنه سَيُنْسَبُ ولدًا له وليس منه.
لكن في الوقت الحاضر مع وجود ما يُسمى بالحمض النووي، أو البصمة الوراثية، لو -مثلًا- وجد الرجل زوجته حصل منها فجورٌ وحملتْ، ولا يدري: هل هذا الحمل منه أو من الزاني؟ فيمكن أن يُستعان بالبصمة الوراثية والحمض النووي، فإن كان الحمل من الزاني وجب عليه أن يُلاعن، أما إذا كان الحمل ليس من الزاني لم يجب عليه اللِّعان، لكن لا يجوز له أن يُبقيها إلا إذا تابتْ؛ لأن الله تعالى يقول: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، وقال تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]، فلا يجوز أن يُمسكها إلا إذا تابتْ، لكن إذا لم تحمل لم يجب عليه اللِّعان، لكن هل يجب عليه أن يُطلِّقها؟
رجلٌ رأى امرأته وقد ظهرتْ عليها أمارات الفجور، ولم تحمل من الزنا، هل يجب عليه أن يُطلِّقها أو لا يجب؟
ما الجواب؟
نقول: إذا لم تَتُبْ يجب، لكن إذا تابتْ يجوز أن يُبقيها، فمَن تاب تاب الله عليه، مَن تاب لا يُعَيَّر بفعلته، ومَن تاب تاب الله عليه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في قصة الإفك لما شاع الإفك وبقيتْ عائشة رضي الله عنها شهرًا كاملًا لا تدري عن شيءٍ، فلما علمتْ وذهبتْ عند أبويها أتى النبي عليه الصلاة والسلام وحمد الله وتَشَهَّد وقال: يا عائشة .. إن كنتِ بريئةً فَسَيُبَرِّئكِ الله، وإن كنتِ أَلْمَمْتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتُوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبٍ ثم تاب تاب الله عليه.
قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قَلَصَ دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً.
كلامٌ شديدٌ بالنسبة لها، كيف يُقال لها: تُوبي وهي أصلًا غافلةٌ بريئةٌ؟
لكن النبي عليه الصلاة والسلام بشرٌ لا يعلم الغيب، والناس لها شهرٌ كاملٌ وهي تتحدث.
قالت: يا أَبَتِ -تعني: أبا بكر- أَجِبْ عني رسول الله .
قال: والله ما أدري ما أقول.
موقفٌ شديدٌ.
قالت: يا أمي، أجيبي عني رسول الله .
قالت: والله ما أدري ما أقول.
قالت: والله ما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].
يعني: ذهلتْ عن اسمه: يعقوب، لكن ذكرتْ يوسف؛ لأنه ارتبط اسمه بالصبر.
وقد بقيتْ ثلاثة أيامٍ لا تأكل ولا تشرب ولا تنام، قالت: حتى ظنُّوا أن البكاء فالق كبدي [11].
ظنُّوا أنها ستهلك؛ لأن أشدَّ ما يكون على النفس أن يُتَّهم الإنسان بأمرٍ هو بريءٌ منه، هذا ثقيلٌ جدًّا على النفس؛ ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام إخوته وضعوه في غيابات الجُبِّ وصبر، استرقُّوه، باعوه عبدًا رقيقًا، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، نبيٌّ، وأبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جده نبيٌّ، ومع ذلك يبيعونه عبدًا رقيقًا، وصبر، ثم وُضِعَ في السجن بضع سنين وصبر، لكن لما اتَّهمه إخوته بالسرقة وهو بريءٌ منها: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، يقصدون يوسف، هنا تكلَّم، أحسَّ بالمرارة: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77]، لكن من أدبه أنه ما قالها لهم مباشرةً، وإنما قالها سرًّا بينه وبين نفسه: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ؛ لأن اتِّهام النفس البريئة ثقيلٌ على النفس.
الشاهد من هذه القصة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله عنها: إن كنتِ بريئةً فَسَيُبَرِّئكِ الله، وإن كنتِ أَلْمَمْتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتُوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبٍ ثم تاب تاب الله عليه، فهذا دليلٌ على أن مَن وقعتْ زوجته في هذا أنها لو تابتْ ولم تحمل من الزنا جاز له أن يُبْقِيها، خاصةً إذا كان له منها أولاد، فقد يرى أن المصلحة أن يُبْقِيها في عصمته وقد تابتْ إلى الله ، لكن الغالب أن الرجل إذا وقعت امرأته في الفجور سقطتْ من عينيه، والغالب أنه لا يُبقيها، وإن أبقاها أبقاها لمصلحةٍ، ولم تَعُد العلاقة قويةً بينه وبينها.
ومن أسباب حصول الابتلاء بهذا الأمر: التَّساهل في مُراقبة الأهل، فإن بعض الناس يتساهلون في مُراقبة أهليهم، ولا يدرون عنهم، وبعض الناس على العكس عندهم وسوسةٌ وسُوء ظنٍّ، والمطلوب هو الاعتدال.
أيضًا هناك أمرٌ يقع فيه بعض الناس وهو السخرية والاستهزاء، والغالب أن مَن سخر بإنسانٍ يُبْتَلى بمثل ذلك؛ ولهذا في قصة عاصم بن عدي في المُلاعنة قال عاصم: ما ابتُليتُ بهذا إلا لقولي. وهذه الرواية في الصحيحين [12]؛ لأنه أتى وقال: يا رسول الله، إذا وجد أحدنا رجلًا مع زوجته أيقتله فتقتلونه أم ماذا تفعلون به؟
هذا كلامٌ لا داعي له، أمام الناس يقول هذا الكلام!
ثم قال النبي عليه الصلاة السلام: إن هذا الذي تقوله قد ابتُليتَ به.
ولهذا أخذ العلماء من ذلك فائدةً ذكرها الحافظ ابن حجر، قال الحافظ في “الفتح”: “ومن فوائد هذه القصة: أن البلاء مُوكَّلٌ بالمنطق”.
ولذلك ينبغي أن يبتعد الإنسان عن الحديث في مثل هذه الأمور، وأن يبتعد عن الاستهزاء والسخرية بالآخرين، ففي الغالب أن مَن سخر بإنسانٍ عُوقِبَ بمثل ما سخر به فيه.
اللِّعان أنزل الله تعالى فيه آياتٍ من سورة النور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ الآيات [النور:6]، ووقع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام مرتين: وقع في قصة هلال بن أُمية، وفي قصة عُوَيْمِر العجلاني، والأقرب أن قصة هلال هي الأسبق.
وهلال قذف امرأته بِشَريك ابن سَحْمَاء، وأتى النبي وقال له: البينة أو حَدٌّ في ظهرك، فجعل يقول: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة! فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: البينة أو حَدٌّ في ظهرك، حتى نزلتْ هذه الآيات، فَدُعِيت امرأة هلال، وطلب النبي عليه الصلاة والسلام من هلال أن يُلاعِن، وكان في المسجد، فلاعن أربع مراتٍ بالله إنه من الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم طلب من امرأة هلال أن تفعل ذلك، فكذلك حلفتْ بالله أربع مراتٍ إنها لمن الصادقين، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها وقالوا: إنها مُوجبةٌ. فَتَلَكَّأَتْ ونَكَصَتْ، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: حتى ظننا أنها ترجع. ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فَمَضَتْ وقالتْ: غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
فقال عليه الصلاة والسلام: أَبْصِرُوها، فإن جاءتْ به يعني: إن ولدتْ أَكْحَل العينين يعني: شديد السَّواد عند الجفون، سابغ الأَلْيَتين يعني: عظيم الأَلْيَتين، خَدَلَّج السَّاقين يعني: عظيم السَّاقين فهو لِشَرِيك ابن سَحْمَاء، فأتتْ به على هذا الوصف.
في بعض الروايات: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: اللهم بَيِّن [13].
فقال عليه الصلاة والسلام: لولا ما مضى من كتاب الله -وفي لفظٍ: لولا الأيمان [14]- لكان لي ولها شأنٌ، فَدُرِأَ عنها الحدُّ باللعان، لكن أصبح هذا الولد يُنْسَب لأمه، ولا يُنْسَب لهلال بن أُمية [15].
والقصة الثانية قصة عُوَيْمِر العجلاني: عُوَيْمِر العجلاني أيضًا لَاعَنَ امرأته، وهو الذي قال: يا رسول الله، أرأيتَ رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فاذهبْ فَأْتِ بها، فتلاعنا، فلما تلاعنا قال عُوَيْمِر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها. فَطَلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بذلك [16].
حسنًا، نحن قلنا في الدرس السابق: إنه لا يجوز أن يقع الطلاق ثلاث مراتٍ، فكيف أقرَّ النبي عُوَيْمِر العجلاني على تطليق امرأته ثلاث تطليقاتٍ بحضرته عليه الصلاة والسلام؟
مَن يُجيب عن هذا السؤال؟
نعم، تفضل.
طالب: …….
الشيخ: نعم، بانتْ منه باللعان، أصلًا باللعان بانتْ منه بينونةً مُؤبدةً، فالطلاق لا قيمة له؛ لأنه طلَّق بعدما لاعن، وبمجرد المُلاعنة أصبحتْ مُحرمةً عليه تحريمًا مُؤبدًا، فكأن هذا الطلاق لغوٌ، ليست له قيمةٌ.
حسنًا، قال: إذا رمى الرجل زوجته بالزنا فعليه حدُّ القذف أو التَّعزير إلا أن يُقيم البينة أو يُلاعن.
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا وجب أن يُقام عليه حدُّ القذف إن كانت الزوجة مُحْصَنَةً، أو التَّعزير إن كانت غير مُحْصَنَةٍ إلا إذا أقام البينة -وهم أربعة شهودٍ- أو لَاعَنَ؛ فهذا يُسقط حدَّ القذف.
صفة اللِّعان
قال:
وصفة اللِّعان أن يقول الزوج أربع مراتٍ: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا.
هذا مأخوذٌ من الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:6- 7]، فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا. ويُكرر ذلك أربع مراتٍ.
ويُشير إليها.
إن كانت حاضرةً في المجلس، ولا حاجة لأن تُسمَّى إلا إذا كانت غير موجودةٍ، ولكن قول المؤلف: “فيما رميتُها به من الزنا” هذا لم يُذكر في الآية، وإنما من كلام بعض الفقهاء؛ ولذلك الوزير ابن هُبَيرة وبعض أهل العلم يقولون: لا يُشترط ذلك، إنما يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين. ولا يلزم أن يقول: فيما رميتُها به من الزنا.
ثم يزيد في الخامسة: وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
يقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وبذلك ينتهي لعان الزوج، ثم يُنتقل للعان الزوجة.
قال:
ثم تقول الزوجة أربعًا: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا. ثم تزيد في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
يعني: تقول الزوجة: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا.
على الخلاف: هل يجب قول هذه الكلمة أم لا؟
وتُشير إليه إن كان حاضرًا بالمجلس، أما إن كان غائبًا سَمَّته، وتزيد في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
حسنًا، هنا في حقِّ الرجل: لعنة الله عليه، وفي المرأة: غضب الله عليها.
أيُّهما أشد: اللعنة أو الغضب؟
الغضب أشد.
حسنًا، لماذا كان الغضب في حقِّ المرأة؟
الغضب معناه: طردٌ مع غضبٍ.
أما اللعن فطردٌ من رحمة الله فقط، لكن لماذا كان الغضب في حقِّ المرأة؟
لأن الغالب أن الرجل أقرب للصدق في هذه القضية من المرأة؛ لأن الزوج هو أول المُتضررين، يعني: لا يوجد إنسانٌ عاقلٌ يُقْدِم على ذلك إلا وعنده أدلةٌ وعنده قرائن تدلُّ على صدقه في الغالب.
فالزوج أقرب للصدق من المرأة؛ فلذلك كان الغضب على المرأة إذا كذبتْ، واللعنة للزوج إذا كذب.
أيضًا لأن المرأة عالمةٌ بحقيقة الأمر، فإذا أنكرتْ ما تعلم استحقَّت الغضب؛ لأن إنكار الحقِّ مع العلم به مُوجبٌ للغضب؛ ولهذا نقول في الصلاة عند قراءة سورة الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، المغضوب عليهم هم الذين علموا الحقَّ ولم يعملوا به، وَلَا الضَّالِّينَ الذين عبدوا الله على جهلٍ وضلالٍ.
فمَن علم الحقَّ وأنكره ولم يعمل به استحقَّ الغضب، فالمرأة تعلم حقيقة الأمر، فإذا أنكرتْ ذلك كاذبةً استحقَّت الغضب.
أمورٌ تُسَنُّ عند المُلاعنة
ثم ذكر المؤلف أمورًا تُسَنُّ عند المُلاعنة، قال:
وسُنَّ تلاعنهما قيامًا.
لأن هذا هو الذي حصل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولأنه أبلغ في الردع.
بحضرة جماعةٍ، وألا يَنْقُصوا عن أربعةٍ.
يعني: لا بد أن يكون بحضرة جماعةٍ، لا يكون عند القاضي اثنان فقط، لا بد أن تكون هناك جماعةٌ لا يقلّون عن أربعةٍ؛ لأن هذا الذي حصل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في اللِّعان.
وأن يأمر الحاكم أن يضع يده على فم الزوج والزوجة عند الخامسة، ويقول: اتَّقِ الله، فإنها المُوجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
يعني: يُسَنُّ للقاضي أن يأمر أحد الحاضرين؛ إذا كان المُلاعن رجلًا أن يأمر رجلًا، فيضع يده على فم الرجل عند الخامسة، ويقول: اتَّقِ الله، فإنها مُوجبةٌ، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
ثم إذا كان الذي يُلاعن المرأة تأتي امرأةٌ وتضع يدها على فيها، وتقول لها: اتَّقي الله، فإنها لمُوجبةٌ، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أمر النبي رجلًا حين أمر المُتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده عند الخامسة على فيه، ويقول: إنها مُوجبةٌ [17]؛ لأن هذا يكون فيه تذكيرٌ بالله ، لعله يخاف الله ، أو هي تخاف الله ، فلا يُقْدِم على ذلك.
لكن الغالب هل يستجيب المُتلاعنان لذلك أو لا يستجيبان؟
الغالب عدم الاستجابة؛ لأن الأمور وصلتْ إلى هذه المرحلة، فَيَنْدُر مَن يرجع، لكن مع ذلك لا بد من إقامة الحُجَّة والتَّذكير.
استحبَّ بعض العلماء تغليظ اللِّعان بمكانٍ وزمانٍ مُعظَّمين، هذا عند الجمهور، قالوا: يُستحبّ أن يكون اللِّعان في المسجد، وأن يكون بعد العصر؛ لأن بعد العصر وقتًا فاضلًا؛ ولهذا قال : مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106]، وبعد الصلاة هي صلاة العصر، يعني: هذا قولٌ لبعض العلماء.
والقول الثاني: أنه لا يُستحب ذلك؛ لأن الله أطلق ولم يُقيِّد هذا بزمانٍ ولا مكانٍ، وهذا هو القول الراجح؛ ولذلك الآن الذي عليه العمل: أن اللِّعان يكون في المحاكم، وأنه لا يُنْقَل إلى المساجد.
وأما كون اللِّعان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وقع في المسجد، فما كان عند النبي عليه الصلاة والسلام بناءٌ خاصٌّ بالمحكمة، كان يقضي في المسجد، كان عليه الصلاة والسلام يقضي بين الناس في المسجد، بل كان يُدير الدولة الإسلامية في المسجد، فكان المسجد هو المكان الذي يجتمع فيه النبي عليه الصلاة والسلام بصحابته.
شروط اللِّعان
ثم قال المصنف رحمه الله:
وشروط اللِّعان ثلاثةٌ: كونه بين زوجين مُكلَّفين.
يعني: يُشترط لِلِّعان ثلاثة شروطٍ:
الأول: أن يكون بين زوجين مُكلَّفين، أما إذا كان أحدهما غير مُكلَّفٍ لم يصحّ.
الثاني: أن يتقدمه قذفه بالزنا.
لا بد أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، فيكون اللِّعان لِدَرْءِ الحدِّ عنه، أما إذا أراد اللِّعان فقط لنفي الولد دون أن يقذفها بالزنا فهذه مسألةٌ خلافيةٌ سيأتي الكلام عنها بعد قليلٍ.
الثالث: أن تُكذِّبه، ويستمر تكذيبها إلى انقضاء اللِّعان.
أما إن لم تُكذِّبه وأقرَّتْ يُقام عليها حدُّ الزنا.
وهناك شرطٌ مختلفٌ فيه لم يذكره المؤلف، وهو: أن يكون اللِّعان بحكم حاكمٍ، وهذا لا بد منه، فلا بد أن يكون ذلك بحكم حاكمٍ؛ لأن اللِّعان يحتاج إلى تثبُّتٍ، ويحتاج إلى أن يكون بصيغةٍ معينةٍ، وتترتب عليه فُرقةٌ أبديةٌ، فلا يخضع لاجتهاد الناس، إنما يكون بحكم حاكمٍ.
إذن يُضاف لهذه الشروط الثلاثة هذا الشرط الرابع، وهو: أن يكون بحكم حاكمٍ.
الأحكام المُترتبة على اللِّعان
ما الذي يترتب على اللِّعان؟
ذكر المؤلف أنه يترتب عليه الآتي، قال:
ويَثْبُت بتمام تلاعنهما أربعة أحكامٍ.
تترتب عليه أربعة آثارٍ:
الأول: سقوط الحدِّ أو التَّعزير.
يعني: سقوط حدِّ القذف عن الزوج إذا كانت الزوجة مُحْصَنَةً، أو التَّعزير إن كانت غير مُحْصَنَةٍ.
الثاني: الفُرقة ولو بلا فعل الحاكم.
الفُرقة تثبت بمجرد اللِّعان من غير حكم حاكمٍ.
هذا الذي يراه المؤلف، وهناك خلافٌ في هذه المسألة على قولين:
- قولٌ بأنه لا تحصل الفُرقة إلا بحكم حاكمٍ.
- وقولٌ أنها تحصل بمجرد المُلاعنة من غير حكم حاكمٍ.
وأصحاب القول الأول قالوا: إن هذا هو الذي وقع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ أنه هو الذي فرَّق بين المُتلاعنين.
وأما أصحاب القول الثاني فقالوا: إن اللِّعان أصلًا يقتضي التَّحريم المُؤبد، فلا يحتاج إلى حكم حاكمٍ، مثل: الرضاع؛ ولأننا لو قلنا: يحتاج إلى حكم حاكمٍ، يعني: لو لم يحكم بذلك حاكمٌ أو لم يَرْضَيَا به -مثلًا: ربما أن أحدهما يتراجع- فالفُرقة لو وقفتْ على تفريق الحاكم لساغ ترك التَّفريق إذا لم يتراضيا عليه، بينما تفريق النبي عليه الصلاة والسلام كان إعلامًا للمُتلاعنين بحصول الفُرقة.
والقول الثاني هو الراجح: أن الفُرقة تحصل بمجرد اللِّعان، بمجرد اللِّعان تحصل الفُرقة، ولو لم يقل القاضي: حكمتُ بالفُرقة.
يعني: بمجرد حصول اللِّعان تحصل الفُرقة، ولا يحتاج إلى حكمٍ قضائيٍّ، وأن القاضي يُصدر صَكًّا ويقول: حكمتُ بالتَّفريق بينهما. ما يحتاج لهذا، بمجرد المُلاعنة تحصل الفُرقة، هذا هو القول الراجح في المسألة.
الثالث.
من الآثار المُترتبة على اللِّعان.
التَّحريم المُؤبد.
حتى لو نكحتْ زوجًا غيره وطلَّقها لا تحلُّ له، يعني: في البينونة الكبرى إذا طلَّقها ثلاث تطليقاتٍ ونكحتْ زوجًا غيره وطلَّقها حَلَّتْ لزوجها الأول، لكن في اللِّعان لا تحلُّ له أبدًا، فُرقةٌ أبديةٌ، فُرقةٌ إلى أَبَدِ الدهر؛ ولذلك قال سهلٌ: “فمضت السُّنة بَعْدُ في المُتلاعنين أن يُفرَّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا” [18].
والحكمة من ذلك: أن لعنة الله وغضبه وقعتْ بأحدهما؛ فَيُفرَّق بينهما خشية أن يكون الملعون.
وأيضًا ما دام أن الأمور وصلتْ إلى هذه الدرجة: أنهما يتلاعنان أمام الناس، وتُفْضَح الأسرار، وتصل الأمور لهذه الدرجة، فمثل هذه العلاقة الزوجية إذا وصلتْ إلى هذه المرحلة لا يمكن أن تعود للوفاق أبدًا، فقد وصلتْ إلى شرخٍ كبيرٍ، ولا يمكن لهذا الشَّرخ أن يُرْأَبَ أبدًا، فما دام أن الأمور وصلتْ إلى هذه المرحلة: يتلاعنان عند القضاء أمام الناس على رؤوس الأشهاد، فمعنى ذلك: أن العلاقة بينهما وصلتْ إلى نُفرةٍ شديدةٍ، فلا يمكن لهذين الشخصين أن يجتمعا أبدًا؛ فلذلك الفُرقة مُؤبدةٌ بينهما.
الرابع.
من الآثار المُترتبة على اللِّعان.
انتفاء الولد.
وهذا من أهمها، بل هذا هو الغرض من اللِّعان، فالزوج -في الغالب- لا يريد من اللعان إلا نفي الولد، وأحيانًا قد يكون الزوج مُضطرًّا لذلك، يعني: يُبتلى بامرأةٍ تحمل من غيره، فليس عنده سبيلٌ لنفي الولد إلا باللِّعان.
قال:
ويُعتبر لنفيه ذكره صريحًا: كأشهد بالله لقد زَنَتْ وما هذا ولدي.
يعني: هذا المذهب عند الشافعية والحنابلة، يقولون: لا بد أن يقول هذا الكلام حتى ينفي الولد؛ لقول النبي : الولد للفراش [19]، وهذا الولد قد وُلِدَ على فراشه، فلا ينتفي إلا إذا صَرَّح بنفيه.
والقول الثاني: لا يُشترط ذلك، بل ينتفي بمجرد اللعان.
وهذا هو القول الراجح: أن هذا من آثار اللِّعان، فبمجرد أن يحصل اللعان ينتفي الولد.
إذن انتفاء الولد يكون تبعًا للعان.
انتبهوا لهذه المسألة: هل يصح أن يكون اللعان لنفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنا؟
هذه مسألةٌ مهمةٌ جدًّا.
هذا رجلٌ حملت امرأته وادَّعَتْ أنها حملت بسبب زنًا بإكراهٍ أو باغتصابٍ ونحو ذلك، وربما يغلب على ظنِّ الزوج أنها صادقةٌ في هذا، لكن ابتُليتْ بمَن اغتصبها، وحملتْ من ذلك المُغْتَصِب، وهو يريد نفي الولد، ولا يريد أن يقذف زوجته بالزنا، فهل له ذلك؟
أذكر أن أحد القُضاة ذكر لي مسألةً شبيهةً بهذا: أن رجلًا أُكرهتْ زوجته وأراد نفي الولد فقط من غير أن يقذفها بالزنا، فذكرتُ له الرأي الآخر في المسألة؛ ففرح به، ولم يكن يعلم به.
إذن المسألة فيها قولان:
القول الأول قول الجمهور: أنه ليس له أن يُلاعن لنفي الولد فقط حتى يقذفها بالزنا، فلا بد أن يقذفها بالزنا ويُلاعن، ولا بد أيضًا أن تُلاعن هي، فلا بد أن يكون اللِّعان من طرفين، وأن يقذفها بالزنا، وهذا هو قول الجمهور، واستدلوا بأن هذا هو ظاهر الآية، وأن هذا هو اللِّعان الذي ورد به الشرع.
والقول الثاني: أن له أن يُلاعن لأجل نفي الولد مع عدم قذفها بالزنا، وأنه يجوز أن يكون اللِّعان من طرفٍ واحدٍ؛ من الزوج فقط، فيُلاعن لأجل نفي الولد فقط.
وهذا روايةٌ عند الحنابلة ذكرها المرداوي في “الإنصاف”.
وبناءً على ذلك يُلاعن الزوج وحده ولا يقذفها بالزنا، إنما فقط يُلاعنها على نفي الولد: أن هذا الولد ليس منه، فيحلف بالله أربع مراتٍ، يشهد بالله أربع مراتٍ: أن هذا الولد ليس منه، والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وينتفي بذلك الولد من غير حاجةٍ لأن تقوم هي بالمُلاعنة.
وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم، وكذلك من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
وذلك لأن الزوج مُحتاجٌ لنفي الولد؛ لأنه تترتب عليه أحكامٌ كثيرةٌ من النَّسب والتَّوارث ونحو ذلك، ولا يريد أن يقذف امرأته بالزنا؛ لكونها ذكرتْ له -مثلًا- أنها أُكرهتْ على الزنا، أو مُغتصبةٌ، أو حصل وَطْءٌ بشبهةٍ، أو نحو ذلك، فهو فقط يقول: أنا أُريد أن أنفي هذا الولد، ولا أُريد أن أقذفها بالزنا.
فعلى هذا يكون اللعان من طرفٍ واحدٍ، يكون من الزوج فقط، من غير أن يقذفها بالزنا، وإنما ينفي الولد فقط، فيقول: أشهد بالله أن هذا الولد ليس مني. أربع مراتٍ، والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
وأما المرأة فإنها لا تُلاعن؛ لأنه لم يقذفها أصلًا بالزنا، وبذلك يحصل نفي الولد دون أن يقذف امرأته بالزنا.
فهذه المسألة ربما هي مسألةٌ غريبةٌ، لكن قد يُحتاج إليها أحيانًا، خاصةً عند المضائق، وخاصةً عند القضاة قد يحتاجون لمثل هذه المسائل، لكن أحببتُ أن ألفت النظر للقول الثاني، وهو روايةٌ عند الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم، وهذه المسألة قد يُحتاج إليها في باب اللِّعان.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
أُذكر فقط بأن الأسبوع القادم -إن شاء الله- سيكون هناك درسٌ، لكن عن بُعْدٍ -بإذن الله تعالى- في نفس التوقيت، ومن حيث وقفنا -بإذن الله – وأيضًا نُجيب عن الأسئلة مُحاكاةً للدرس الحضوري تمامًا، لكن فقط يكون عن بُعْدٍ، الاثنين فقط دون الثلاثاء.
طالب: …….
الشيخ: هنا يُنظر: كم يُساوي إطعام النَّفر بالوزن؟ فَتُحوَّل المسألة.
عادةً ما يكون عند أصحاب المطاعم عُرْفٌ: كم يكفي النَّفر الواحد من هذا الطعام بالوزن؟
طالب: …….
الشيخ: يترتب عليه نفي الولد، لكن هل تترتب عليه فُرْقَةٌ مُؤبدةٌ؟
الله أعلم، يعني: هذه الكلام عنها شحيحٌ، الكلام عن هذه المسألة شحيحٌ، وتحتاج مزيد تأملٍ ونظرٍ، خاصةً عند مَن أجاز ذلك.
طالب: …….
الشيخ: لا، بالنسبة للإسقاط إذا كان لم تُنْفَخ فيه الروح واقتضت المصلحة جاز، أما إذا نُفِخَتْ فيه الروح لا يجوز بأي حالٍ من الأحوال؛ لأنه قتل نفسٍ، ما يجوز حتى لو كان من زنا، ما يجوز.
يُنْسَب لأمه، لكن يجوز أيضًا أن يُختار له اسمٌ من الأسماء؛ لأنه قد يكون في المجتمع نِسْبَته لأمه في وقتنا الحاضر قد تكون غير مقبولةٍ اجتماعيًّا، فيُمكن أن يُسمَّى مثلًا: عبدالله بن عبدالرحمن، أو نحو ذلك، أو أيّ اسمٍ فيه تعبيدٌ لله ، لكن كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يُنْسَب لأمه، ولا يجد الناس حَرَجًا.
طالب: …….
الشيخ: صحيحٌ، وكذلك أيضًا جانبٌ آخر هو: أن الجهات الرسمية تحتاج إلى أن تُضيفه لرجلٍ؛ فيُختار أيّ اسمٍ مُعَبَّدٍ لله تعالى.
طالب: …….
الشيخ: نعم، أيُّ اسمٍ مُعَبَّدٍ لله تعالى.
طالب: …….
الشيخ: يعني: تسبب في وفاة اثنين معه؟
طالب: …….
الشيخ: تكون عليه كفارةٌ المُتَسبِّب، ولو 1% الكفارة تجب، ولو كانت نسبة الخطأ 1% تجب، أما الدية فتكون بنسبة الخطأ، ولكن الكفَّارة حتى لو كانت النسبة 1%.
نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: يقول: هل نجد في وقتنا الحاضر مَن لو أقسم على الله لَأَبَرَّه؟
الجواب: نعم، قد يوجد، ومَن قال: هلك الناس، فهو أهلكهم [20]، فلا ينبغي أن يكون عند الإنسان هذا النَّفَس، وهذا القنوط والإحباط، فالأمة فيها خيرٌ، وفيها صالحون، وفيها عُبَّادٌ، وفيها -إن شاء الله- أولياء لله ، وفيها علماء، فالأمة فيها خيرٌ؛ ولذلك قد يوجد من الناس مَن لو أقسم على الله لَأَبَرَّه، ولو دعا الله استجاب دعوته.
وأنا أذكر مرةً في أحد دروس الحرم أحد السائلين كتب ورقةً يقول: إني لا أدعو الله بشيءٍ إلا استجاب الله لي، فهل هذا دليلٌ على كذا؟
فكتب هذه الورقة، فقد يوجد من الناس مَن هو مُستجاب الدعوة، ويوجد من الناس مَن لو أقسم على الله لَأَبَرَّه، فالأمة فيها خيرٌ، وفيها عُبَّادٌ، وفيها صالحون، وفيها أتقياء، والحمد لله الخير موجودٌ في الأُمة.
السؤال: إذا انتفى الولد باللعان فَلِمَنْ يُنْسَب؟
الجواب: يُنْسَب لأمه، لكن لو نُسِبَ لمُعبَّدٍ فلا بأس، كأن يُقال: عبدالله بن عبدالعزيز أو ابن عبدالرحمن، لا بأس.
السؤال: هل قراءة القرآن على مَن لا يفهم العربية تُؤثر فيه؟
الجواب: نعم، مُحتملٌ أن يكون مُؤثرًا حتى لو كان لا يفهم العربية؛ لأن هذا القرآن جوانب عظمته وإعجازه لا تنقضي؛ ولذلك الجنّ لما سمعوه قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:1- 2]، فهذا مُحتملٌ حتى لو كان لا يُحْسِن العربية.
السؤال: أشكل عليَّ فهم قول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، مع ذلك نرى أن هناك أناسًا صالحين يتعرضون لبلاءٍ شديدٍ ومُتواصلٍ؟
الجواب: النبي يقول: أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتدَّ بلاؤه [21]، هذه سُنة الله ، لكن مع ذلك البلاء مُقارنةً بالعافية قليلٌ، والله يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155]، فهو قليلٌ بالنسبة للمُعافاة، والله تعالى له الحكمة البالغة في ذلك، والله لا يُسأل عما يفعل.
وأما قول الله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، الحياة الطيبة لا تنحصر فيما يعتقده الإنسان من الثَّراء أو من الجَاهِ ونحو ذلك.
الحياة الطيبة قد تكون في السعادة القلبية، وهذا يجده بعض الناس مع تعرضهم للبلاء، فتجد أنه مُبْتَلًى ومع ذلك يجد في نفسه سعادةً قلبيةً، ويجد رضًا، ويجد راحة نفسٍ، فهذا هو المقصود بالحياة الطيبة: أنه يكون سعيدًا حتى لو تعرض للبلاء، لكن المسلم يسأل الله العافية: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية [22]، فلا يتمنى البلاء، لكن إذا ابتُلي عليه أن يصبر.
وقد تكون للمؤمن درجةٌ في الجنة لا يبلغها بعملٍ، فيُبتلى ببلاءٍ حتى يُدْرِك تلك المنزلة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، مَن يُرد الله به خيرًا يُصِبْ منه [23].
السؤال: يقول: كيف يكون مصير الكافر الفقير الذي شقي في هذه الحياة؟ وكيف يكون مصير المسلم العاصي والفاسق الذي شقي في هذه الحياة وعاش في فقرٍ؟
الجواب: الله تعالى له الحكمة البالغة؛ ولهذا قال تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3]، فالدنيا ليست بدار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، ودار العدالة المُطلقة هي الدار الآخرة، فقد يكون كافرًا وبَئِيسًا وفقيرًا، ومع ذلك مأواه النار؛ لأنه لم يُؤمن بالله.
ومَن أراد السعادة في الدنيا والآخرة فعليه بطاعة الله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].
ما يُقدِّره الله على العباد في هذه الدنيا الله تعالى له الحكمة البالغة فيه، فلا تعترض على الله ، فالله تعالى أعلم وأحكم، والله أحكم الحاكمين، وهو أرحم منك بعباده، فهو أرحم الراحمين، وله الحكمة البالغة.
وهذا أيضًا فيه اختبارٌ للإنسان؛ لأن بعض الناس قد يُورد مثل هذه الاعتراضات وتُؤثِّر عليه.
حدثني أحد الناس: أن قريبًا له أُصيب بمرضٍ، فترك الصلاة وأمور الطاعة؛ اعتراضًا على القضاء والقدر!
نسأل الله العافية، فهذا يفشل في الاختبار؛ لأن دعوى الإيمان، كُلٌّ يدَّعي الإيمان، لكن عندما يأتي الابتلاء لا يَثْبُت إلا الصادق؛ ولهذا قال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2- 3].
وأيضًا يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، يعني: هؤلاء آمنوا، لكن عند أدنى ابتلاءٍ كفروا، ثم لما انقَشَعَت الغُمَّة رجعوا للإيمان، ثم عند أدنى ابتلاءٍ كفروا!
فهكذا تجد بعض الناس أنه يركب الموجة، فعند أدنى ابتلاءٍ يتزعزع في دينه، وهذا دليلٌ على عدم صدقه مع الله ؛ ولهذا من حكمة البلاء: اختبار صدق الإنسان: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، نعم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج:11].
السؤال: هل يصح الجمع بين الأدعية الواردة في الركوع والسجود أو يُكتفى بدعاءٍ واحدٍ؟
الجواب: أما الركوع فالأفضل ألا يكون فيه دعاء، وإنما يكون فيه التَّعظيم لله سبحانه؛ لقول النبي : أما الركوع فَعَظِّموا فيه الرب [24]، لكن لو دعا لا بأس؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في الركوع بعد التَّسبيح: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي [25]، فقوله: اللهم اغفر لي دعاء، لكن الأفضل أن يكون في الركوع التَّعظيم لله سبحانه، وأن يكون الدعاء في السجود، لكن هذا يكون في صلاة النافلة.
وأما في الفريضة فالإمام ينبغي ألا يُطيل على المأمومين، وعلى ذلك فيقتصر الإمام والمأمومون على التَّسبيحات فقط، ثم: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، إلا إذا كان الإنسان يُصلِّي مُنفردًا فلا بأس أن يدعو في الفريضة، لكن ينبغي أيضًا أن يكون الدعاء بأمور الآخرة؛ لأن الدعاء في الصلاة بأمور الدنيا مذهب الحنابلة أن الصلاة لا تصح معه، فمذهب الحنابلة أن مَن دعا بأمرٍ من أمور الدنيا في صلاته فالصلاة تبطل بذلك، وإن كان القول الراجح أنها لا تبطل، لكن ينبغي الاحتراز من ذلك في صلاة الفريضة، وأن الدعاء بأمور الدنيا يكون في صلاة النافلة فقط.
السؤال: هل الصحيح تقديم اليدين قبل الركبتين في السجود أو العكس؟
الجواب: لم يثبت في ذلك شيءٌ عن النبي ، وجميع ما رُوِيَ في ذلك لا يثبت من جهة الصناعة الحديثية، وعلى ذلك فهو بالخيار: إن شاء قدَّم ركبتيه قبل يديه، وإن شاء قدَّم يديه قبل ركبتيه، هذا هو القول المُرجَّح عند كثيرٍ من المُحققين من أهل العلم، وقد تكلمت عن ذلك بالتفصيل في “السلسبيل” في موضعه.
السؤال: إذا نزع الخُفَّ بعد المسح هل يمسح عليه؟
الجواب: إذا نزع الخُفَّ بعد ابتداء مدة المسح فلا يمسح عليه عند جماهير العلماء؛ وذلك لأن الرِّجْل المكشوفة لا هي مغسولة، ولا عليها شيءٌ ممسوحٌ؛ فَتَنْتَقض الطهارة في الرِّجْل، والطهارة لا تتبعَّض، فَيَسْرِي النَّقض إلى بقية أعضاء الوضوء، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء.
ومثل هذه المسائل التي مبناها على النَّظر، وليس فيها دليلٌ يحسمها أو آثارٌ عن الصحابة تحسمها، وإنما مبناها على النَّظر والتَّعليل، والأثر المُترتب عليها كبيرٌ؛ وهو صحة أو عدم صحة الصلاة، فينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه، وأن يختار قول الأكثر والأحوط.
فالأحوط في هذا هو ما عليه الجمهور: وهو أنه إذا نزع الخُفَّ بعد ابتداء مدة المسح فإن الطهارة تَنْتَقض.
السؤال: هل لطالب العلم المُبتدئ أن يقرأ كتب الفقه التي يُذكر فيها الخلاف مثل “السلسبيل”؟
الجواب: إذا كان يستطيع أن يفهم ذلك، وأن يستوعبه، وأن يضبطه فلا مانع، لا مانع.
أما إذا كان يُشْكِل عليه، وما زال في البداية؛ هنا يتدرج في القراءة.
السؤال: يقول: رجَّحتُم قول الحنابلة في العَود، مع أن معنى قولكم يُؤيِّد قول الحنفية والمالكية؟
الجواب: الحنفية والمالكية يقولون: أن يعزم على الوطء، لكن قول الحنابلة: العود هو نفسه الوطء. فرقٌ بين أمرين: هو نفسه الوطء.
وثمرة الخلاف تظهر فيما لو عزم على الوطء ولم يطأ، فعند الحنابلة أنه لا يكون قد عاد، بينما عند الحنفية والمالكية يكون قد عاد.
فرقٌ بين أن نقول: عزم على الوطء. وأن نقول: أن يطأ.
يعني: الفرق دقيقٌ، والأقرب هو مذهب الحنابلة: أن العود هو الوطء، وليس العزم على الوطء.
تظهر ثمرة الخلاف فيما إذا عزم على الوطء ولم يطأ، فعند الحنفية والمالكية يكون قد عاد، أما عند الحنابلة فلا يكون قد عاد، ما دام أنه لم يطأ لا يكون قد عاد.
السؤال: أدخلتُ مبلغ مئة ألفٍ في صندوقٍ استثماريٍّ وخسرتُ عشرين ألفًا، هل أُزَكِّي نهاية العام مبلغ المئة ألفٍ أو الثمانين ألفًا؟
الجواب: تُزَكِّي الثمانين ألفًا، تُزَكِّي الموجود في هذا الصندوق عند تمام الحول، سواء كان أقلَّ أو أكثر، والصناديق الاستثمارية لا تُخْرِج زكاتها؛ ولذلك على مَن اشترك في صندوقٍ استثماريٍّ أن يُخْرِج زكاته بنفسه.
السؤال: يقول: هل يُعتبر تحليل الحمض النووي دليلًا أم قرينةً؟
الجواب: يُعتبر قرينةً، لا يُعتبر دليلًا قاطعًا، وإنما قرينةٌ؛ ولذلك لو قال: أنا أريد أن أعتمد عليه ولا أُلاعن. نقول: إذا حملتْ من الزنا يجب عليك أن تُلاعن. لا يُنْظَر للحمض النووي، فإذا حملتْ من الزنا وجب عليك أن تُلاعن، أما إذا لم تحمل فيُمكن أن تستفيد من الحمض النووي في اتِّخاذ القرار، لكن إذا حملتْ من الزنا لا بد من المُلاعنة.
نختم بهذا السؤال: هل يوم الجمعة من خصائص هذه الأُمة؟
الجواب: نعم، يوم الجمعة من خصائص هذه الأمة، كما ورد في الحديث: أن اليهود أُعْطُوا يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، وأُعطيتْ هذه الأُمة يوم الجمعة، وإن الله هدى له هذه الأُمة، وضَلَّتْ عنه الأمم الأخرى [26]، فيوم الجمعة من خصائص هذه الأُمة.
وبقية الأسئلة -إن شاء الله- نُجيب عنها في درس غدٍ.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2699. |
---|---|
^2 | رواه ابن ماجه: 2081. |
^3 | رواه أبو داود: 2213، والترمذي: 3299 وقال: حسنٌ، والنسائي: 3458. |
^4 | رواه الترمذي: 1199 وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 3457. |
^5 | رواه البخاري: 5426، ومسلم: 2067. |
^6 | رواه البخاري: 946. |
^7 | رواه مسلم: 2051. |
^8 | رواه مسلم: 2481. |
^9 | رواه البخاري في “الأدب المفرد”: 653. |
^10, ^15 | رواه البخاري: 4747. |
^11 | رواه البخاري: 4141، ومسلم: 2770. |
^12 | رواه البخاري: 5310، ومسلم: 1497. |
^13 | رواه البخاري: 5310. |
^14 | رواه أبو داود: 2256. |
^16 | رواه البخاري: 5259، ومسلم: 1492. |
^17 | رواه أبو داود: 2255، والنسائي: 3472. |
^18 | رواه أبو داود: 2250. |
^19 | رواه البخاري: 2053، ومسلم: 1457. |
^20 | رواه مسلم: 2623. |
^21 | رواه الترمذي: 2398 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 4023. |
^22 | رواه البخاري: 2966، ومسلم: 1742. |
^23 | رواه البخاري: 5645. |
^24 | رواه مسلم: 479. |
^25 | رواه البخاري: 794، ومسلم: 484. |
^26 | رواه البخاري: 876، ومسلم: 855. |