عناصر المادة
- تتمة باب التيمم
- باب إزالة النجاسة
- عدد الغسلات المطلوبة في إزالة النجاسة
- حكم بقاء لون النجاسة أو ريحها
- كيفية تطهير بول الغلام
- كيفية تطهير النجاسة التي تقع على الأرض
- هل يُشترط الماء لإزالة النجاسة؟
- حكم الخمر إذا انقلبت خَلًّا
- حكم النجاسة إذا خفي موضعها
- حكم نجاسة الخمر
- هل الحشيشة نجسة؟
- حكم نجاسة ما لا يؤكل من الطير والبهائم
- حكم نجاسة الميتة
- حكم الجلَّالة
- حكم بول وروث ما يؤكل لحمه
- حكم بول وروث ما لا يؤكل لحمه
- حكم مني الآدمي
- حكم القيح والدم والصديد
- حكم عرق وريق الحيوان
- حكم سؤر الهر ونحوه في الخِلقة
- حكم سؤر الحيوان
- الأسئلة
ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على كتاب “السلسبيل شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى (واجب التيمم) ص386.
تتمة باب التيمم
قال المؤلف رحمه الله:
واجب التيمم: التسمية.
تكلَّمنا عن التيمم وأبرز أحكامه في الدرس السابق، ووقفنا عند قول المؤلف في (فصل: واجب التيمم: التسمية).
حكم التسمية في التيمم
قوله: (واجب التيمم: التسمية)؛ يعني: الواجب في التيمم شيءٌ واحد، وهو التسمية مع الذِّكر، كما قالوا في الوضوء، قالوا: إن واجب الوضوء التسمية مع الذكر، فكذلك التيمم؛ لأن التيمم بدلٌ عن الماء.
وسبق أن ذكرنا هذه المسألة في (باب: الوضوء)، وذكرنا الخلاف فيها، في حكم التسمية في أول الوضوء، وأن القول الراجح هو قول أكثر أهل العلم، وهو أن التسمية مستحبة وليست واجبة؛ لأن الواصفين لوضوء النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكروا أنه سمَّى، ولو مرةً واحدة، وأن حديث: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه حديثٌ ضعيف، ضعَّفه الإمام أحمد وغيره[1]، ولو صح فالمراد: لا وضوء كامل.
فإذا قلنا: إن التسمية في أول الوضوء مستحبة، فمِن بابٍ أولى أن تكون التسمية أيضًا عند التيمم مستحبة.
فعلى هذا؛ القولُ الراجح خلافُ ما ذكره المؤلف؛ أن التسمية عند التيمم مستحبةٌ، وليست واجبة.
فروض التيمم:
وفروضه خمسة.
يعني: فروض التيمم خمسة.
الأول: مسح الوجه
مسح الوجه.
لقول الله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، هذه في سورة (المائدة)، وفي سورة (النساء): فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43].
و(مسح الوجه)، “الوجه”: حَدُّه من منابت الشعر المعتاد طُولًا إلى الذقن، ومن الأذن إلى الأذن عَرْضًا. وعلى هذا؛ فالوجه يشمل اللحية.
ويكفي مَسْح ظاهر الشعر، خفيفًا كان أو كثيفًا، في الحدث الأصغر أو الأكبر، أما ما تحت شعر اللحية فإنه لا يمسحه بالتيمم، حتى لو كان الشعر خفيفًا، وأيضًا لا يُمسح ما كان داخل الفم أو الأنف بالتراب؛ قال المَرْدَاوِيُّ في “الإنصاف”: “قطعًا، بل يُكره”؛ لكونه لم يرد، ولما في ذلك من التقذير.
إذن؛ الفرض الأول: هو مسح الوجه، يعني عندما تضرب بيدك الأرض هكذا: “بسم الله”، ثم تقول هكذا وتمسح بوجهك. هذا هو الفرض الأول.
الفرض الثاني: مسح اليدين إلى الكوعين
الفرض الثاني، قال:
(مسح اليدين إلى الكوعين)؛ لقول الله : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6]. وهنا المراد باليدِ الكفُّ؛ ولذلك قال المؤلف: (إلى الكوعين).
“الكُوعَيْن”: تثنيةُ كُوعٍ، و”الكوع”: هو العَظْمُ الذي يَلِي الإبهامَ. هذا هو الكُوع، ويُقابله العَظْمُ الذي يلي الخِنْصرَ، وهو الكُرْسوع. هذا هو الكوع، وهذا الكرسوع.
ولذلك؛ فالمَثَل يقول: فلان لا يعرف كُوعَه من كُرْسُوعِه.
الكوع: هو العظم الذي يلي الإبهام، والكرسوع: العظم الذي يلي الخنصر، هذا.
فهنا يقول: (مسح اليدين إلى الكوعين)؛ يعني: مسح الكفين إلى الكوع، ومراد المؤلف بقوله: (إلى الكوعين) يعني: أن المسح للكفين فقط دون الذراع ودون العضد.
فإن قال قائل: الله تعالى قال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6]، اليد تشمل الذراع وتشمل العضد؛ فلماذا خصصنا ذلك بالكف؟
نقول: إن الأصل في اليد إذا أُطلقت أن المراد بها الكف، إلا بقرينة تقتضي دخول غيرها معها، دخول غير الكف معه؛ ولذلك قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، والمرادُ بذلك أَكُفُّهما بالإجماع.
ومن طرائف هذا: أن أحد القضاة كتب في حكم يد السارق أنه تُقطع يده إلى الكوع، وبعض العامة يفهم أن الكوع هو المَرْفِق، فالذي نفَّذ: عند التنفيذ أشكل عليهم، قالوا: إن هذا هو الكوع، ونفذوا الحَدَّ من جهة المَرْفِق. وكان الخطأ في الحقيقة هو خطأ القاضي، القاضي يتكلم في اللغة العربية، وأن الكوعَ المقصودُ به العظم الذي يلي الإبهام، لكن هذا السَّيَّاف عامي، يفهم أن الكوع هو المرفق، وكان ينبغي أن يخاطبه باللغة التي يفهمها.
فإذن، أردت أن أُنبه إلى أنه عند العامة إذا قالوا: الكوع، فيقصدون المَرْفِق، وهذا غير صحيح، الكوع: هو العَظْم الذي يلي الإبهام.
الفرض الثالث: الترتيب في الطهارة الصغرى
الفرض:
ما عندنا إلا مسح الوجه واليدين، معنى ذلك أن الترتيب بين مسح الوجه واليدين، فيُقدم مسح الوجه على مسح اليدين؛ لأن الله تعالى قال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه [المائدة:6].
قال: (في الطهارة الصغرى)، أما الطهارة الكبرى فلا يجب فيها الترتيب؛ لأن الترتيب في الغسل ليس واجبًا أصلًا، فكذا في التيمم عنه.
فيلزم من جُرحه ببعض أعضائه إذا توضأ؛ أن يتيمم له عند غَسْله، لو كان صحيحًا.
يعني: لو كان عنده جَبِيرة في ذراعه، فإنه يتوضأ، فإذا وصل إلى موضع الجبيرة تيمم ثم أكمل غَسْلَ بقية أعضاء الوضوء. وهذا هو رأي المؤلف.
(يلزم من جرحه ببعض أعضائه)، يعني: لو عنده جُرْحٌ مثلًا في الذراع.
قال: (إذا توضأ أن يتيمم له عند غَسْله)، يعني: عندما يغسل وجهه ويصل إلى غسل اليد، ووصل إلى هذا الموضع من الجرح؛ يتيمم ثم يُكمل بقية الوضوء.
وسبق الكلام بالتفصيل عن ذلك في أحكام الجبيرة في الدرس السابق، وذكرنا أنه إذا كان يستطيع المسح فإنه يمسح ولا حاجة للتيمم، ولا يُطلب منه أن يمسح وأن يتيمم، فلا يجمع بين طهارتين.
فالقول الراجح في الجبيرة إذن بالمسح، إذن في الجبيرة نقول: إذا أمكن المسح يمسح عليها، وإذا تعذر المسح فهنا يتيمم، لكن إذا أمكن المسح فيمسح عليها.
وتكلمنا عن هذا بالتفصيل في الدرس السابق.
الرابع: الموالاة
من فروض الوضوء.
الموالاة.
وهي ألا يؤخر مسح اليدين بحيث يَجِفُّ الوجه لو كان مغسولًا، يعني: لا يكون الفاصل بين مسح الوجه ومسح اليدين طويلًا عُرفًا، بحيث لو قدِّر أنه كان يغسل الوجه ويغسل اليدين لَجَفَّ الوجه.
وهذه المسالة محل خلاف بين العلماء:
- المذهب عند الحنابلة: أنهم يُفرِّقون بين الطهارتين: الصغرى والكبرى، فتجب الموالاة عند التيمم من الحدث الأصغر دون الأكبر. وهذا محل نظر.
- والقول الثاني: أن الموالاة مُشترَطة مطلقًا. هذا هو الأقرب والله أعلم؛ لأننا لو لم نقل بذلك لَلَزِمَ من هذا أنَّ مَن تيمم ومسح وجهه ثم بعد ساعتين مسح يديه صح ذلك، وهذا بعيد لا يتفق مع الأصول والقواعد.
فيلزمه أن يعيد غَسْل الصحيح عند كل تيمم.
تكلمنا في الدرس السابق عن مسألة من المسائل الكبيرة في باب التيمم، وهي: هل التيمم مُبيح أو رافع؟
وقلنا: إن فروع هذه المسألة كثيرة، وقلنا: إن المذهب أنه مُبيح، وإن القول الراجح أنه رافعٌ للحدث كالماء تمامًا، لكن الطهارة طهارة مؤقتة إلى أن يجد الماء.
فالمؤلف هنا يُفرِّع على قوله: بأن التيمم مُبيح لا رافع، يقول: (يلزمه أن يُعيد غسل الصحيح عند كل تيمم)، يعني: يلزمه إذا كان جريحًا أن يغسل الصحيح مع التيمم لكل صلاة.
وعلى القول الراجح بأن التيمم رافع، لا يجب إعادة التيمم؛ لأن إعادة غسل بقية الأعضاء لتحقيق الموالاة، لا بدونها.
الخامس: تعيين النية لما تيمم له من حدث أو نجاسة
الخامس: تعيين النية لما يتيمم له، من حدثٍ أو نجاسةٍ، فلا تكفي نية أحدهما عن الآخر، وإن نواهما أجزأ.
وأيضًا هذه المسألة تفريعٌ على القول بأن التيمم مبيحٌ لا رافع، ومراد المؤلف أن النية لا بد منها لأمرين: نية لما يُتيمم له، من صلاةٍ أو طوافٍ أو مس المصحف، أو نحو ذلك.
والثانية: نيةٌ لما يتيمم عنه من الحدث الأصغر أو الأكبر أو النجاسة، على المذهب، فيقول: لا بد من تعيين النية في هذا وهذا، وإذا أحدث حدثًا أصغر أو أراد صلاة العشاء فعليه أن ينوي التيمم من الحدث الأصغر لصلاة العشاء.
وهذا كله على أن التيمم مبيحٌ لا رافع، أما على القول الذي رجحناه، وهو أن التيمم رافع، فإنه يكون كالماء، ويكفي ما تُشترط له الطهارة، يكفي أن ينوي مثلًا الصلاة، حتى لو لم يطرأ على باله الحدث، أو يكفي أن يتيمم مثلًا لِمَسِّ المصحف مثلًا.
المهم، أن القول الراجح: أن التيمم رافعٌ للحدث، وأنه كالماء تمامًا، وبناءً على القول بأن التيمم رافع فلا حاجة لهذا الشرط.
مبطلات التيمم:
ومبطلاته خمسة.
يعني: مبطلات التيمم.
الأول: ما أبطل الوضوء
نواقض الوضوء السابقة التي تكلمنا عنها بالتفصيل في درسٍ سابق.
الثاني: وجود الماء
الثاني:
ووجود الماء.
لقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، وأيضًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فَلْيُمِسُّهَ بَشَرَتَه، فإن ذلك خير. رواه أبو داود بسندٍ صحيح[2].
حتى لو كان وجود الماء قليلًا، فإنه يستعمله فيما يكفيه ويتيمم للباقي، إذا وُجد ماء ولو قليلًا، ما يكفي إلا لغسل الوجه واليدين، نقول: توضأ واغسل وجهك ويديك، وتيمَّمْ عن غَسْل الرجلين، كما مر هذا معنا في درسٍ سابق.
الثالث: خروج الوقت
الثالث من مبطلات التيمم: قال:
وخروج الوقت.
وهذا بناءً على أن القول بأن التيمم مُبيح. وسبق القول الراجح: بأن التيمم رافع للحدث، وبناءً على ذلك فالقول الراجح: أن خروج الوقت ليس مبطلًا للتيمم.
الرابع: زوال المبيح له
الرابع:
وزوال المبيح له.
يعني: لو كان المبيح له مرضًا ثم برئ منه، بطل التيمم.
الخامس: خلع ما مُسح عليه
الخامس:
وخلع ما مُسح عليه.
لو أنه تيمم وعليه جورب ثم خلعه، فيبطل تيممه. هذا هو القول الذي أقره المؤلف، وهو المذهب.
وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يبطل؛ لأن التيمم طهارةٌ لم يمسح فيها على الخف، فلا يبطل بنزعه؛ كطهارة الماء. وهذا هو القول الراجح في المسألة.
بناءً على ذلك؛ المبطل الثالث والخامس: الراجح عدم اشتراطهما، فيكون الراجح أن مبطلات التيمم ثلاثة:
- ما أبطل الوضوء.
- ووجود الماء.
- وزوال المبيح.
هل يبطل تيمم من وجد الماء وهو في الصلاة؟
وإن وجد الماء وهو في الصلاة بطلت.
هذه المسألة تحصل كثيرًا، يجتهد الإنسان في البحث عن الماء فلا يجد، ثم بعد ذلك يحضر الماء وهو يصلي فيبطل تيمُّمُه:
- من أهل العلم من قال: إن صلاته لا تبطل إذا وجد الماء وهو في الصلاة، وهو مذهب المالكية والشافعية.
- والقول الثاني: أنها تبطل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ومذهب الحنفية، سواءٌ كان في الصلاة أو خارجًا منها.
وهذا هو القول الراجح: أنه إذا حضر الماء بطل التيمم؛ لقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]؛ وللحديث السابق: إن الصعيد الطيب طَهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فَلْيُمِسُّه بشرته.
قالوا: فدل هذا الحديث بمفهومه على أنه لا يكون طَهُورًا عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب إمساسِه جِلْدَه عند وجوده.
والإمام أحمد رحمه الله يقول: “كنتُ أقول: إنه يَمْضي”؛ يعني: في صلاته إذا حضر الماء “ثم تدَبَّرْتُ فإذا أكثر الأحاديث على أنه يَخْرج”.
قال ابن قدامة: “وهذا يدل على رجوعه”؛ يعني: عن قوله السابق.
فالقول الراجح إذن: أنه إذا حضر الماء وهو في أثناء الصلاة، أن صلاته تبطل، وأنه يخرج منها، ويتوضأ بالماء ثم يصلي. هذا هو القول الراجح في المسألة.
لكن، إذا غلب على ظنه أنه لا يجد الماء، فتيمم وصلى ثم وجد الماء بعدما انقضى أو فرغ من الصلاة، هنا يقول المؤلف:
حكم الإعادة لمن صلى بالتيمم ثم وجد الماء
وإذا انقضت لم تَجِبِ الإعادةُ.
أي: إذا انتهت الصلاة ثم وجد الماء لم يجب عليه القضاء، وقد وقع في ذلك قصة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام: أن رجلين خَرَجَا في سفرٍ، فحضرت الصلاة وليس معهما ماءٌ، فتيمَّم صعيدًا طيبًا، فصَلَّيَا، ثم إنهما وَجَدَا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة ولم يُعِدِ الآخر، وأتيا النبي يستفتيانه، فقال للذي لم يُعِد: أَصَبْتَ السنة، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي بسندٍ صحيح[3].
طيب، أيهما أفضل: الذي أعاد، أو الذي لم يُعِد؟
هنا نتأمل الحديث، النبي عليه الصلاة والسلام قال لأحدهما: أَصَبْتَ السُّنَّة، والآخر: لك الأجر مرتين، فأيهما أفضل؟ الذي أصاب السنة، أو الذي له الأجر مرتين؟
الجواب: الذي أصاب السنة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام احترَم اجتهادَ الآخر، الرجل اجتهد وأعاد الصلاة، قال: لك الأجر مرتين تطييبًا لخاطره.
وعلى ذلك نقول: إن الإنسان إذا غلب على ظنِّه عدم وجود الماء، ثم صلى ثم وجد الماء، فنقول له: لا يلزمه الإعادة، بل الأفضل له عدم الإعادة.
فإن قال قائل: أنا أعيد لأجل أن يكون لي الأجر مرتين؟ فنقول: هذا الرجل لم يعلم الحكم واجتهد، فكان له الأجر مرتين، أما أنت فقد علمت بأن السنةَ عدمُ الإعادة، فلا يكون لك الأجر مرتين.
وعلى هذا نقول: مَن غلب على ظنه عدم وجود الماء فصلى، فالسنة له عدم الإعادة ولو حضر الماء بعد ذلك.
صفة التيمم
ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى الكلام عن صفة التيمم، فقال:
وصفته: أن ينوي.
والنية شرط لصحة العبادات كلها.
ثم يُسمي.
وهي مستحبة على القول الراجح كما سبق.
ويضرب التراب بيديه.
يعني: بباطن يديه.
مُفرَّجَتَيِ الأصابع.
قالوا: لأجل أن يصل التراب إلى ما بينهما.
ولكن هذا الحكم لا دليل عليه، وظاهر الأحاديث أنه يضرب التراب بيديه من غير تفريجٍ للأصابع، فيكون على صفته المعتادة.
ضربةً واحدة، والأحوط ثنتان.
ظاهر الأحاديث أنها ضربة واحدة، لكن المؤلف يقول: (والأحوط ثنتان)، خروجًا من الخلاف.
والأحوط، نقول: إن الأحوط والاحتياط إنما يكون مع عدم تبيُّن السنة، أما مع تبيُّنِ السنة فلا يُقال بأن ذلك هو الأحوط، بل الأحوط هو اتباع السنة؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “إن الاحتياط مما يُشرع إذا لم تتبين سنة النبي ، فإذا تبينت السنة فاتباعها أولى”.
قال:
بعد نَزْعِ خاتَمٍ ونحوِه.
يعني: إذا كان عليه خاتم ينزع الخاتم؛ لأجل أن يصل التراب لجميع اليد.
فيمسح وجهه بباطن أصابعه، وكَفَّيْه براحَتَيْه.
بعدما يضرب بيديه الأرض ضربةً واحدة، يمسح وجهه بباطن أصابعه، وذلك بإمرار كفيه على وجهه، وظاهر لحيته بباطن الكف، ثم يمسح كفيه براحتيه، يعني: يمسح ظهر كفه اليمنى، بباطن كفه اليسرى، وظاهر كفيه اليسرى بباطن كفه اليمنى.
فتكون صفة التيمم هكذا: يقول: “بسم الله”، ثم يضرب مرةً واحدةً الأرضَ، ثم يمسح وجهه، هكذا، ويمسح ظاهر لحيته، ثم يمسح ظاهر كفيه: اليمنى هكذا بباطن كفه اليسرى، وظاهر كفه اليسرى بباطن كفه اليمنى هكذا. هذه صفة التيمم.
أعيدها مرةً أخرى:
يقول: “بسم الله”، ويضرب يديه بالأرض مرة واحدة، ثم يمسح وجهه، ويمسح ظاهر لحيته أيضًا، ويمسح ظاهر كفه اليمنى بباطن كفه اليسرى، وظاهر كفه اليسرى بباطن كفه اليمنى. هذه هي صفة التيمم.
حكم تأخير التيمم إلى آخر الوقت المختار
وسُنَّ لمن يرجو وجود الماء تأخيرُ التيمم إلى آخر الوقت المختار.
إذا كان يرجو وجود الماء؛ مثلًا اتصل على صديقٍ له، اتصل عليه بالجوال وقال: إن شاء الله سآتي إليك بالماء؟ هنا ينتظر ويؤخر الصلاة إلى آخر الوقت المختار، يؤخر مثلًا العصر إلى قُبيل اصفرار الشمس، أو العشاء إلى قُبيل منتصف الليل، أما إذا كان لا يرجو وجود الماء فيصلي في أول الوقت. وقد رُويَتْ في هذا آثارٌ عن بعض التابعين.
حكم صلاة عدة فروض بتيمم واحد
وله أن يصلي بتيممٍ واحدٍ ما شاء من الفَرْض والنَّفْل.
هنا رجع المؤلف للكلام عن بعض التفريعات على مسألة: هل التيمم رافع أو مُبيح؟
فعلى القول أنه مُبيح، قال: (له أن يُصلي بتيممٍ واحد ما شاء من فرضٍ أو نفل)، صلى بالتيمم لصلاة الظهر، يصلي صلاة الظهر ويصلي السنة الراتبة لها القَبْلية، والسنة الراتبة لها البعدية.
تيمَّم مثلًا لصلاة الضحى، فلا يصلي بهذا التيمم صلاة الظهر. هذا هو المذهب، بناءً على القول بأن التيمم مُبيحٌ لا رافع.
وعلى القول الذي رجَّحناه: وهو أن التيمم رافعٌ للحدث كالماء؛ فله أن يصلي بذلك التيمم ما شاء من فرائض ونوافل. حتى لو تيمم لصلاة الضحى، نقول: صلِّ بها صلاة الظهر، وصلِّ صلاة العصر، ما لم ينتقض الوضوء. حتى لو تيمَّم لأجل مَسِّ المصحف، نقول: لك أن تصلي به ما شئت من فرائض ومن نوافل.
حكم تجديد التيمم
خُتِم هذا الفصل بفائدة: ولا يُستحب تجديد التيمم في قول جمهور الفقهاء؛ لأنه لم يَرِد، والأصل في العباداتِ التوقيفُ. ولا يصح القياس على الوضوء؛ لأنه لا يُنظِّف الجسد، بخلاف الوضوء، فالوضوء: يُستحب تجديد الوضوء إذا صلى به صلاةَ فريضةٍ أو نافلة، فيُستحب تجديد الوضوء.
مثلًا؛ توضأت لصلاة الضحى ثم أذَّن الظهر، يُستحب أن تجدد الوضوء ولا يجب، يُستحب. توضأت وصليت بهذا الوضوء مثلًا صلاة الوتر، وأردت أن تذهب إلى المسجد لصلاة الفجر، يُستحب تجديد الوضوء.
فالوضوء يُستحب تجديده إذا صلَّيْتَ به صلاةَ فريضةٍ أو نافلة، أما التيمم فالغرض منه مَحْضُ التعبد؛ ولذلك لا يُستحب تجديده، ولا يصح قياسه على الوضوء، فهو محض تعبد، تمسح وجهك ويديك، هذا محض تعبد، الوضوء فيه نوع تنظيف، عِلَّته معقولة، فيه تنظيفٌ للفم والأنف والوجه، واليدين والذراعين، وأيضًا الرجلين، لكن التيمم هو محض تعبد، مسحٌ للوجه ولظاهر الكفين.
فإذن، الوضوء يُستحب تجديده، وأما التيمم فلا يُستحب تجديده.
باب إزالة النجاسة
ننتقل بعد ذلك إلى (باب: إزالة النجاسة)، قال المؤلف رحمه الله:
باب: إزالة النجاسة.
لما تكلم المؤلف عن طهارة الحَدَث، انتقل للكلام عن طهارة النَّجَس؛ لأن الطَّهَارة إنما تكون عن حَدَثٍ أو نَجَس، والنَّجَس -ويُقال: الخَبَث- يعني: النجاسة. وهي عينٌ مستقذرة شرعًا، يعني: عين حسية، ليست وصفًا معنويًّا، مستقذرة شرعًا؛ يعني: أن الاستقذار يرجع للشارع، وليس لِهَوَى الإنسان؛ لأن بعض الناس قد يستقذر الشيءَ الطاهِرَ.
فإذن؛ الخَبَث هو النَّجَاسة الحسية. والحدث: هو وصفٌ معنوي يقوم في البدن، يمنع من الصلاة ونحوها. فالحدث شيء معنوي، والنجاسة والخبث شيء حسي.
فالمؤلف يريد أن يتكلم عن إزالة النجاسة، والفقهاء يُقسمونها إلى:
نجاسة عينية، ونجاسة حكمية.
- فالنجاسة العينية، كالبول، والغائط، والكلب، هذه لا يمكن تطهيرها بحال، لا يمكن أن تطهر إلا إذا استحالت في قول بعض أهل العلم.
- والنجاسة الحُكمية: هي النجاسة الطارئة على شيءٍ طاهر، فغيَّرت لونه أو طعمه أو ريحه، فأصبح نَجِسًا. فهذا هو الذي يمكن تطهيره.
يعني مثلًا الغائط كيف يُطهر؟ لا يمكن، إلا أن يستحيل على قول بعض أهل العلم، لكن لو وقع البول مثلًا على لباس فيمكن تطهيره، تُزال هذه النجاسة ويُصبح طاهرًا.
عدد الغسلات المطلوبة في إزالة النجاسة
يُشترط لكل مُتنجِّسٍ سبعُ غَسَلاتٍ.
يعني: (يُشترط) في إزالة النجاسة على غير الأرض (سبع غسلات)؛ لأن النجاسة على الأرض سيأتي الكلام عنها.
فيُشترط في إزالة النجاسة على غير الأرض سبع غسلات، كل غسلة منفصلة عن الأخرى. وهذا هو المذهب عند الحنابلة، حتى لو زالت النجاسة بأول غسلة.
واستدلوا بما رُوي من حديث ابن عمر: أُمرنا بغسل الأنجاس سبعًا. وهذا الحديث أورده الموفق ابن قدامة في “المغني” ولم يذكر له أصلًا[4]، ولم نجد له أصلًا، والشيخ الألباني رحمه الله في “الإرواء” قال أيضًا: لم أجده بهذا اللفظ، لكن جاء عند أحمد وأبي داود بلفظٍ آخر قريبٍ منه: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرارٍ.. إلى آخره[5]. لكن بكل حال، حتى هذا الذي عند أحمد وأبي داود ضعيفٌ لا يصح.
القول الثاني: أنه تكفي غسلةٌ واحدة تزول بها النجاسة ويطهر بها المحل، فإن لم تزل بغسلة فيُزاد إلى غسلتين أو أكثر، ولا يُشترط سبع غسلات إلا في الكلب خاصة.
وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، واستدلوا بحديث أسماء، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سُئل عن كيفية غسل الحيض إذا وقع على الثوب، قال: تَحُتُّه، ثم تَقْرُصه بالماء وتَنْضَحُه، وتُصلي فيه[6].
“تَحُتُّه”، يعني: تفركه وتُزيله.
و”تقرصه بالماء”، يعني: تدلكه بأصابع يدها.
و”تنضحه”، يعني: تصب عليه الماء قليلًا حتى يزول الأثر.
هذا يدل على أن المقصود إزالة النجاسة، ولم يشترط النبي عليه الصلاة والسلام عددًا معينًا، لم يقل سبع مرات.
وجاء في حديث أم قيس بنت مِحْصَن: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها لما سألته عن دم الحيض: حُكِّيه بضِلَعٍ واغسليه بماءٍ وسِدْر[7].
ودم الحيض نجَسٌ، ولم يذكر النبي عددًا، لم يقل: اغسليه سبع مرات؛ لأن المقصود زوال النجاسة، متى ما زالت زال حكمها، أي: العين الخبيثة متى ما زالت زال حكمها.
فالقول الراجح هو القول الثاني، وهو أنه لا يُشترط في غسل النجاسات سبع مرات أو سبع غسلات، وإنما يُشترط ما تزول به النجاسة، فإن زالت النجاسة بغسلة واحدة أجزأ، وإن لم تَزُل النجاسة يزيد غسلتين أو ثلاثًا أو أكثر حتى تزول النجاسة.
غسل نجاسة الكلب
وأن يكون أحدها بترابٍ طاهر طَهُورٍ، أو صابونٍ ونحوه، في مُتنجِّسٍ بكلبٍ أو خنزير.
يعني: إذا كانت النجاسةُ نجاسةَ كلب فلا بد من سبع غسلات إحداهن بالتراب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب[8]، وفي لفظٍ: أولاهن بالتراب[9]، وفي لفظٍ: عَفِّروه الثامنةَ بالتراب[10].
وأرجح الروايات رواية مسلم: أولاهن بالتراب، هي الأرجح من جهة الإسناد، ومن جهة المعنى؛ لأنه لو كانت بالتراب الأخيرة لاحتاج إلى غسلةٍ زائدة، لكن جُعِل في الغسلة الأولى، فلا يحتاج إلى ذلك.
يعني لو جُعل التراب في الغسلة الأخيرة، لاحتاج إلى غسلةٍ أخرى لتنظيفها، لكن إذا قيل: أولاهن بالتراب لا يُحتاج إلى زيادة، فتكفي الأولى، الأولى بالتراب ثم الثانية بالماء، ثم الثالثة بالماء، إلى سبغ غسلات.
وقد ذَكَر مَن كتب في الإعجاز العلمي في السنة: أن لُعاب الكلب فيه مكروبات لا يقتلها إلا التراب، وأن هذا الكلب ربما نظَّف دبره بلسانه، فيصيب اللعاب الدبر؛ ولهذا نجاسة تعتبر نجاسة مغلظة.
حكم اقتناء الكلاب
لا يجوز اقتناء الكلاب إلا لما ورد فيه النص، في قول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن اتَّخذ كلبًا إلا كلب زرعٍ أو غنمٍ أو صيدٍ، نَقَص مِن عمله كلَّ يومٍ قيراطان. رواه البخاري ومسلم[11].
يعني: مَن اتخذ كلبًا كما يفعله -مع الأسف- بعض الناس، يتخذون كلابًا تقليدًا للنصارى، فإنه كلَّ يوم ينقص من أجره وعمله قيراطان. وجاء تفسير القيراط في حديث الجنازة بأنه مثل جبل أحد.
فلا بارك الله في هذا الحيوان الذي يتسبَّب كلَّ يوم في أن ينقص أجرك وعملك.
ولهذا؛ فالذين يُربون الكلاب في البيوت على خطرٍ عظيم:
أولًا: أن أعمالهم وأجورهم تنقص كل يوم هذا القدر الكبير.
ثانيًا: أن وجود الكلب في البيت يمنع دخول الملائكة، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ولا كلب[12].
وإذا لم تدخل البيتَ الملائكةُ دخلته الشياطين، وآذت من في البيت، تساعد على السحر، وتساعد على الأذية، وعلى أيضًا الكوابيس المزعجة للنائم ونحو ذلك.
وعلى هذا؛ فعلى المسلم أن يمتثل هذا التوجيه النبوي، وألا يجعل في بيته كلبًا، ما الفائدة من هذا الكلب؟! نجاسته مغلظة، ضرره كبير، يفعله بعض الناس تقليدًا للنصارى فحسب.
إلا إذا اقتضت المصلحة الراجحة، والتي بيَّنها النبي عليه الصلاة والسلام، ذكر لها أمثلةً، قال: إلا كلب زرعٍ كلبًا مثلًا في المزرعة لحراستها أو غنمٍ لحراسة الغنم أو صيدٍ يعني: كلبًا يُعلَّم فيصيد، فهذه لا بأس بها؛ ومثل ذلك الكلاب البوليسية التي تكون في المطارات، أيضًا هذه لا بأس بها.
لكن، الذي يفعله بعض الناس الآن، ليس كلب صيد ولا حرث ولا ماشية، وإنما مجرد تسلية وتقليد للنصارى، فهذا لا يجوز، وهذا ينقص من عمله وأجره كلَّ يوم قيراطان، ويمنع وجوده في البيت دخول الملائكة.
هل تقوم المنظفات الحديثة مقام التراب في غسل نجاسة الكلب؟
وهنا المؤلف وصف هذا التراب بـ(طاهر طَهور)، يعني: طاهر مقابل النَّجِس، وطَهُور، أي: مُطهِّر، قال: (أو صابون)، هل المقصود بالصابونِ الصابونُ المعروف الآن؟
الجواب: لا، لم يكن معروفًا الصابون الآن لدى الفقهاء السابقين، وإنما هو نوعٌ من المنظفات شبيهٌ بالأُشْنان، كان الناس يستخدمونه قديمًا.
أما الصابون المعروف الآن ما وُجد إلا حديثًا، ويكون مصنوعًا من مواد كيماوية.
طيب، استخدام الصابون القديم، وأيضًا الصابون المعروف الآن، والمنظفات الحديثة كالشامبو ونحوها، هل تقوم مقام التراب في غسل نجاسة الكلب؟
- المؤلف يرى أنها تقوم مقامه؛ ولهذا قال: (أو يكون أحدها بترابٍ طاهرٍ طَهورٍ، أو صابون).
- والقول الثاني: أن يتعين التراب ولا يُجزئ عنه غيره من المنظفات. وهذا هو المذهب عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة؛ وذلك لأن النبي إنما نص على التراب، مع أن الأُشْنان والسِّدْر كانا موجودين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث الذي وَقَصَتْه دابَّتُه، قال: اغسلوه بماء وسدر[13]؛ ولأن هذه الطهارة متعلقة بالتراب، فلا يقوم غيره مقامه كالتيمم.
وأيضًا أثبت الطب الحديث أن في التراب خاصية لا توجد في غيره، ففيه مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لعاب الكلب، وهذا من الإعجاز النبوي، وقد تكلم عن ذلك بالتفصيل بعضُ مَن كتب في الإعجاز النبوي في السنة.
فالقول الراجح: أنه يتعين التراب، وأن غيره من المنظفات لا يقوم مقامه.
غسل نجاسة الخنزير
وقال المؤلف: (أو خنزير)؛ يعني: أن نجاسة الخنزير كنجاسة الكلب، تُغسل سبع مرات، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة.
لكن هذا القياس قياسٌ مع الفارق؛ ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الخنزير لا يُقاس على الكلب في النجاسة المغلظة، وأن نجاسة الخنزير كغيره من النجاسات، وأن التغليظ الوارد بغسل نجاسة الكلب سبع مرات لا يُقاس عليه غيره؛ ولأن الخنزير كان معروفًا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ومذكورًا في القرآن، فلو كانت نجاسته كنجاسة الكلب لَبيَّن ذلك النبي .
وهذا هو القول الراجح، وهو: أن نجاسة الخنزير كغيرها من النجاسات، لا يُغسل سبع مرات إحداهن بالتراب، وإنما كسائر النجاسات.
حكم بقاء لون النجاسة أو ريحها
ويضر بقاء طعم النجاسة لا لونِها أو ريحِها، أو هما عَجْزًا.
أحيانًا، الإنسان يغسل النجاسة فيبقى اللون، يعني دم مثلًا تغسله، ثم يبقى أثر اللون، الحمرة تبقى، أو الرائحة أحيانًا تبقى، فالمؤلف ماذا يقول؟
يقول: (يضر بقاء طعم النجاسة، لا لونها ولا ريحها)، طعم النجاسة يسهل إزالته، بخلاف ريحها ولونها، فقد يشق إزالته.
ولذلك؛ فالفقهاء يقولون: إن الذي يضر فقط بقاء الطعم، وأما اللون والريح فلا يضران بعد غسل النجاسة إذا عجز عن إزالة اللون والرائحة.
ولهذا؛ قال الموفق: “إذا غسل النجاسة فلم يذهب لونها أو ريحها لمشقةِ إزالتها؛ عُفي عنه”.
ومما يدل لذلك حديث خولة، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: يكفيك الماء، ولا يضرك أثره[14]؛ يعني: إذا غسلت الدم، يكفيك الماء ولا يضرك بقاء أثر الدم، يعني لا يضر بقاء لونه.
إذن؛ لإزالة النجاسة لا بد من زوال الطعم، هذا بالاتفاق، أما اللون والريح، فيجتهد الإنسان في إزالة لون النجاسة وريحها، لكن إذا عجز فيُعفى عن ذلك.
كيفية تطهير بول الغلام
ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى مسألةٍ أخرى، وهي بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فقال:
ويُجزئ في بولِ غلامٍ لم يأكل طعامًا لشهوةٍ نَضْحُه.
الغلام الذي لم يأكل الطعام، يعني: الطفل الذي لم يأكل الطعام شهوةً، أصبح يأكل كغيره من الكبار؛ لأن الطفل أولَ ما يُولَد يعتمد اعتمادًا كاملًا على حليب الأم، يعتمد على الحليب، سواءٌ حليب الأم أو حتى يعني الحليب المجفف، يعتمد على الحليب، ثم بعد ذلك يبدأ يأكل، أكله اليسير لا لشهوة، وإنما يُطعَّم تطعيمًا، هذا غير مؤثر.
لكن، إذا أصبح يأكل لشهوة، فهذا بوله كبول الكبير، إذا كان ما زال يعتمد على الحليب ولم يأكل الطعام لشهوة، فإن كان هذا الطفل ذَكَرًا، فيُجزئ في بولِه النَّضْحُ، وهو غَمْرُه بالماء؛ لحديث أم قيس بنت مِحْصَن أنها أتت بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطعام إلى رسول الله ، فأجلسه في حَجْرِه فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فنضحه ولم يغسله. رواه البخاري ومسلم[15].
وأيضًا جاء في حديث عائشة: كان النبي يُؤتى بالصبيان فيدعو لهم، فأُوتِيَ بصبيٍّ فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فأتبعه إياه ولم يغسله[16].
المؤلف هنا بيَّن لنا كيفية النضح، انتبهوا أيها الإخوة، النضح: بعض الناس يفهم أن النضح الرش، هذا غير صحيح، انتبهوا لهذا، النضح ليس هو مجرد الرش، النضح يقول المؤلف:
وهو غَمْرُه بالماء.
النضح معناه: أنك تغمره بالماء من غير عصر ومن غير فرك، فهو المكاثرة بالماء من غير عصرٍ.
الفرق بين النضح والغسل والرش
الرش: أنك تأخذ الماء وترشه هكذا.
النضح: هو الغمر مِن غير عصر.
الغَسْل: يكون فيه عصر وفرك، ولكن أحيانًا الرش قد يُطلق بمعنى النضح؛ ولذلك بعض الروايات قالت: “فرَشَّه”[17].
فالفقهاء يقولون: إذن النضح المقصود به أن يُغمر بالماء من غير عصر.
إذن؛ إذا بال هذا الطفل الذي لم يأكل الطعام لشهوة، فيكفي فيه أن يغمر هذا المكان الذي بال فيه بالماء من غير أن تعصر الملابس، وليس المعنى أنك تأخذ الماء وترشه، هذا فهمٌ غير صحيح، فانتبهوا أيها الإخوة لهذه المسألة.
إذن؛ النضح: معناه الغمر بالماء، وليس المقصود به مجرد الرش.
الحكمة من التفريق بين بول الغلام والجارية
في ذلك أقوال، قيل: كثرة حَمْل الرجال والنساء للذَّكَر، فتعم البلوى ببوله فيشق غسله، وقيل: إن بوله لا ينزل من مكانٍ واحد، بل ينزل متفرقًا بخلاف الأنثى، وقيل: إن بول الأنثى أكثر نجاسةً من بول الذكر؛ لأن الذكر أكثر حرارة، والحرارة تخفف نجاسة البول. وهذا هو القول الأقرب والله أعلم، أن الذكر أكثر حرارة من الأنثى، وهذه الحرارة لها أثرٌ في تخفيف نجاسة بوله، فاكتُفي فيها بالنضح.
ولذلك؛ عندما تنظر إلى أطفالٍ يلعبون، فيهم ذكور وإناث، انظر إلى حركة الذكر وحركة الأنثى، تجد أن الذكر أكثر حركة من الأنثى في الغالب، الذكر حركته كثيرة، الأنثى أكثر هدوءًا وسكينةً؛ لأن الحرارة الغريزية في الذكر أكثر من الأنثى، هذه الحرارة لها أثر في تخفيف نجاسة البول؛ فلذلك اكتُفي فيه بالنضح. هذا هو الأقرب في الحكمة، والله أعلم.
كيفية تطهير النجاسة التي تقع على الأرض
ويُجزئ في تطهير صخرٍ وأحواضٍ تنجَّست بمائعٍ ولو من كلبٍ أو خنزير، مُكَاثَرَتُها بالماء حتى يذهب لون النجاسة وريحها.
انتقل المؤلف للكلام عن تطهير النجاسة التي تقع على الأرض، قال: يجزئ فيها التطهير بغسلة واحدة، بينما سائر النجاسات سبع غسلات.
هذا التفريق محل نظر، وقلنا: إن الصواب أن بابهما واحد، فيقول المؤلف: إنه يكفي غسلة واحدة تُذهب عين النجاسة، حتى يذهب لونها وريحها، وطعمها أيضًا؛ ولذلك لو أن المؤلف عبَّر بـ(حتى تذهب عين النجاسة) لكان أخصر، كتعبير صاحب “المستقنع” الذي قال: “غسلةٌ واحدةٌ تذهب بعين النجاسة”.
إذا طرأت النجاسة على الأرض يُشترط زوال عين النجاسة، فإن زالت عين النجاسة بغسلةٍ واحدة كفى، وإن لم تزل فبغسلتين، وإن لم تزل فبثلاثٍ، وهكذا.
ويدل لذلك قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فأمر النبي بأن يُصب على بوله دَلْوًا من ماء[18]، ولم يأمر النبي بعدد، فدل ذلك على أنه متى ما ذهبت النجاسة كفى ذلك وأجزأ.
وهنا المؤلف يقول: (مُكَاثرتها بالماء)؛ يعني: النجاسة إذا وقعت على الأرض تكون إزالتها بالمكاثرة؛ وذلك بأن يُصَب على هذه النجاسة ويُكاثَر عليها الماء حتى تذهب عينها، هذا إذا لم تكن النجاسة ذات جِرْم.
أما إذا كانت ذات جرمٍ كما لو كانت مثلًا من غائط أو كانت دمًا وقد جفَّ، فلا بد من إزالة الجِرْم، ثم بعد ذلك يُتبع بالماء، فلو أُزيلت النجاسة وما حولها كما لو كانت على تراب، فهذا يكفي.
ولذلك نقول: إن النجاسة على الأرض لها هذه الأحوال الثلاثة:
- الحالة الأولى: أن تكون غير ذات جِرْم، فتكفي فيها المكاثرة، حتى تزول عينها.
- الحالة الثانية: أن تكون ذات جِرْمٍ كالغائط مثلًا، فلا بد من إزالة ذلك الجرم أولًا، ثم يُتبع بالماء.
- الثالثة: أن تُزال مع ما حولها، كأن تكون على تراب فيستأصل التراب بما عليه من النجاسة، ويكفي ذلك، ولا حاجة لأن يُتبع بعد ذلك بالماء.
هل يُشترط الماء لإزالة النجاسة؟
ولا تطهر الأرض بالشمس، والريح، والجفافِ، ولا النجاسةُ بالنار.
هذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى، وهي: هل يُشترط الماء لإزالة النجاسة، أو أن النجاسة تزول بأي مزيل؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين:
- القول الأول: أنه يُشترط لإزالة النجاسة أن تكون بالماء، ولا تزول النجاسة بغير الماء، لا تزول بالشمس، ولا تزول بالريح، ولا تزول بالجفاف، ولا بالتعقيم، ولا بغير ذلك. وإلى هذا ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
- والقول الثاني: أن النجاسة تُزول بأي مزيل، سواءٌ كان بالماء أو بغيره، فتزول بالشمس، وتزول بالريح، وتزول في وقتنا الحاضر بالتعقيم، ونحو ذلك. وهذا هو المذهب عند الحنفية، ورواية عند الحنابلة.
أصحاب القول الأول، الذين قالوا: إنه يتعين الماء لإزالة النجاسة، استدلوا بقول الله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، قالوا: فقد ذكر الله تعالى هذا على سبيل الامتنان. وأيضًا بحديث: هو الطَّهُور ماؤه، الحِلُّ ميتته[19]، وحديث أيضًا الأعرابي: ثم دعا بدلوٍ من ماء، فصبه عليه[20]؛ قالوا: هذه إنما وردت بتقييد التطهير بالماء، فلا تزول النجاسة بغيره.
أصحاب القول الثاني القائلون بأن النجاسة تزول بأي مُزيل، استدلوا بحديث أم سلمة: يطهره ما بعده[21]؛ بالنسبة لذيل المرأة، قالوا: معلوم أنه ليس بعده إلا التراب، فدل ذلك على أنه يمكن التطهير بغير الماء وهو التراب.
وأيضًا استدلوا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذًى فليمسحه وليصلِّ فيهما[22]، مع أنه يمسحه بالتراب. فدل ذلك على أن النجاسة تزول بالتراب؛ ولأن النجاسة عينٌ خبيثة، ونجاستها بذاتها، فإذا زالت عين النجاسة عاد الشيء إلى طهارته.
والقول الراجح في المسألة -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أنه لا يتعين الماء لإزالة النجاسة، وأن النجاسة تزول بأي مزيل، سواءٌ كان بالشمس أو بالريح أو بالجفاف، أو بغير ذلك.
وقد اختار هذا القولَ جمعٌ من المحققين من أهل العلم، كأبي العباس ابن تيمية، وابن القيم، ومن مشايخنا ابن باز، وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
يتفرع على هذه المسألة: النوازل والمسائل المعاصرة، منها:
معالجة مياه المجاري
أولًا: معالجة مياه المجاري:
الآن، مياه المجاري، مياه الصرف الصحي، أصبح بالإمكان تنقيتها ومعالجتها بطرق معينة: عن طريق الترسيب، والتهوية، والتعقيم، وقتل الجراثيم، وتُضاف لها مواد كيماوية، ثم بعد ذلك تُنقى هذه المياه، فلا يُصبح للنجاسة فيها أثرٌ، لا في اللون، ولا في الطعم، ولا في الرائحة.
طيب، هل تطهر أو لا؟
هذه المسألة تُكيَّف على المسألة التي ذَكَرنا:
- فالقائلون بأنه يتعين الماء لإزالة النجاسة، يقولون: إن مياه المجاري لا تطهر بذلك، وإنه لا بد من التطهير بالماء. وهنا التطهير كان بغير الماء.
- وأما القائلون بأن النجاسة تزول بأي مزيل، فيقولون: إن مياه المجاري بعد تنقيتها ومعالجتها تطهر، تكون طهورًا.
ونحن رجَّحنا أن النجاسة تزول بأي مزيل.
وعلى ذلك؛ فإن مياه المجاري ومياه الصرف الصحي، إذا عولجت ولم يصبح للنجاسة فيها أثرٌ من لون أو طعم أو رائحة، فإنها تصبح من قِسم الطَّهُور. وهذا هو الذي أقرته هيئة كبار العلماء، وأيضًا المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، أقروا بأن مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتطهيرها تصبح مياهًا طاهرة، لكن يُستحسن ألا تُستخدم في الأكل والشرب، من باب الاحتياط للصحة.
تطهير النجاسة بالبخار
وأيضًا، من المسائل والنوازل المتفرعة على هذه المسألة، تطهير النجاسة بالبخار، والملابس الشتوية، والملابس الثقيلة، إذا وقعت عليها نجاسة.
هذه بطانية وقعت عليها نجاسة، وقع عليها مثلًا بولٌ للطفل، أو نحو ذلك، وأردنا أن نغسلها عند محل غسيل، محل غسيل سوف يغسل هذه البطانية أو هذه الملابس الثقيلة عن طريق البخار، فإذا غسلها عن طريق البخار لن يغسلها بالماء، وإنما سينظفها بماء الـ”برو كلين” مع بخار الماء، مع البخار، فلن يغسلها بالماء.
فعلى القول بأنه يتعين الماء لإزالة النجاسة فلا تزول هذه النجاسة بهذه الطريقة، وعلى القول بأن النجاسة تزول بأي مزيل، نقول: إن النجاسة تزول بغسلها بالبخار، وبالتنظيف الجاف.
ورجحنا أن النجاسة تزول بأي مزيل، وعلى ذلك فهذه الملابس الثقيلة عندما نضعها عند الغسَّال ويغسلها بالبخار وبالتنظيف الجاف، تزول النجاسة ولو لم يغسلها بالماء. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
حكم الخمر إذا انقلبت خَلًّا
وتطهر الخَمْرة بإنائها إن انقلبت خَلًّا بنفسها.
“الخمرة” المقصود: بها الخمر، تطهر إذا انقلبت خلًّا بنفسها، وهذا بناءً على القول بأن الخمر نجسة، وهي محل خلاف، سيأتي الكلام عنه.
لكن على اعتبار أنها نجسة يقولون: إنها إذا تخللت بنفسها، فإنها تكون طاهرة باتفاق العلماء، وقد جاء في “صحيح مسلم”: عن أنس ، أن النبي سُئل عن الخمر تُتَّخذ خَلًّا؟ قال: لا[23].
قوله: “تُتَّخَذ خَلًّا” يعني: تُخلَّل، وتخليل الخمر لا يجوز، لكن لو تخللت بنفسها فإنها تطهر وتحل باتفاق العلماء.
حكم النجاسة إذا خفي موضعها
وإذا خَفِي موضع النجاسة غُسِل حتى يُتَيَقَّنَ غَسْلُها.
إذا خفي على الإنسان موضع النجاسة، فلا يدري هل هي في كُمِّ الثوب الأيمن أو بالكُمِّ الأيسر؟ معنى ذلك أنه يغسل الكمين جميعًا، حتى يتيقن أنه غسل النجاسة. وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وكذلك أيضًا مذهب المالكية والشافعية، قالوا: لأنه متيقن للمانع من الصلاة، فلم تُبَح له الصلاة إلا بتيقن زواله، كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة.
وذهب الحنفية إلى أنه يتحرى ما أمكنه، ويغسل ما غلب على ظنه. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد.
وهذا هو القول الراجح: أنه إذا خفي موضع النجاسة فإنه يتحرى ما أمكنه ويغسل ما غلب على ظنه أنه أصابته النجاسة، ولا يلزمه أن يتيقن زوال النجاسة.
ويدل لذلك حديث سَهْل بن حُنَيف قال: كنت ألقى من المَذْي شدةً، وكنت أُكثر من الاغتسال، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: إنما يُجزيك من ذلك الوضوء. قلت: يا رسول الله، كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماء، فتنضح بها من ثوبك، حيث ترى أنه أصابه. أخرجه أحمد وأبو داود[24].
فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالتحري، قال: حتى ترى وهذا يدل على التحري، أن المطلوب في ذلك التحري.
وأيضًا جاء في حديث ابن مسعود في السهو: إذا شك أحدكم في صلاته فَلْيتحَرَّ الصواب وَلْيُتِمَّ ما عليه، ثم لِيُسَلِّم[25]؛ قالوا: فإذا كان التحري سائغًا في الصلاة، فكذلك أيضًا في النجاسة.
والقول الراجح هو القول الثاني، وهو: أنه يكفي في ذلك التحري، وأنه لا يلزم التيقن بإزالة النجاسة. وقد اختار هذا القول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأن قاعدة الشريعة في أمور العبادة: أنه يكفي فيها غلبة الظن، ولا يُشترط اليقين فيها.
وأما ما علَّل به أصحاب القول الأول من أنه قد تيقَّن المانعَ، فلم تُبَح له الصلاة إلا بتيقُّنِ زواله. هذا استدلالٌ بعين الدعوى، فلا يستقيم، لا نُسلم أصلًا بهذا، لا نُسلم أصلًا بهذه العبارة، المُتيَقَّن المنعُ، فلم تُبَح له الصلاة إلا بتيقن زواله، يكفي في الجواب عن هذا بعدم التسليم.
ولذلك؛ فطالب العلم ينبغي أن يحرص على الأحاديث، وعلى النصوص، إذا استدللت بالنص فهذا يقطع النزاع، وهذا يقوي حجتك، أما الاستدلال بالعلل والأقيسة والتعليلات العقلية، فهذه من السهل مناقشتها.
فعندما تستدل بتعليل، يقول لك المعارض: لا أُسلم لك بهذا الكلام، أعطني أصلًا دليلًا على هذا التعليل، لا أُسلم به أصلًا.
فيمكن أن يمنع أصلًا من صحة هذا التعليل.
ولذلك؛ ينبغي لطالب العلم أن يُعظِّم الدليل من الكتاب والسنة، وأن يحرص على الاستدلال بالدليل من الكتاب والسنة، فإن لم يجد فالآثار عن الصحابة ، فينتقل بعد ذلك إلى التعليلات والأقيسة.
فصل: المُسكِر المائع، وكذا الحشيش، وما لم يُؤكَل من الطير والبهائم مما فوق الهِرِّ خِلقةً؛ نجسٌ.
حكم نجاسة الخمر
المسكر المائع عمومًا، ومنه الخمر، نجسٌ عند الحنابلة.
وهذا يقودنا للمسألة التي وعدت أن أتحدث عنها، وهي حكم الخمر من حيث النجاسة والطهارة، اختلف فيها الفقهاء على قولين:
- القول الأول: أن الخمر نجسة، وهذا الذي عليه المذاهب الأربعة، الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
واستدلوا بقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ رجس: يعني نجس مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].
وأيضًا استدلوا بقول الله : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، قالوا: فالله وصف شراب الجنة بأنه طهور، وهذا يُفهَم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك.
- القول الثاني: أن الخمر طاهرة وليست نجسة. وهذا قد رُوي عن ربيعة شيخ مالك، وعن الليث بن سعد، والمزني صاحب الشافعي، وأيضًا عن الصنعاني والشوكاني، وأيضًا رجحه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمة الله تعالى على الجميع.
واستدلوا لذلك بعدة أدلة، منها: أنه لما نزل تحريم الخمر أراق الصحابة الخمر، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينة، قالوا: ومعلومٌ أن الخمر لو كانت نجسة لما فعل الصحابة ذلك، خاصةً أن الطرقات والسكك كان يمشي عليها بعض الناس، وكثيرٌ من الناس لم يكن لهم نِعال يلبسونها، وأيضًا كانت الأرض ترابية وطينية، يعني ليست كالطرق في وقتنا الحاضر، فمعنى ذلك أنها ستَعْلق بأرجل الذين يسلكون الطرقات، فلو كانت نجسة لما أراق الصحابة الخمر في سكك المدينة.
وأيضًا قالوا: نحن نتمسك بالأصل، الأصل هو الطهارة، فما الدليل على نجاسة الخمر أصلًا؟ ليس هناك دليل؛ أما الآية الكريمة فالمراد بذلك النجاسة المعنوية، بدليل أن الله تعالى قرن معها أمورًا غير نجسة نجاسةً حسية بالإجماع، فالله تعالى قال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، فهل الميسر والأنصاب والأزلام نجسة نجاسة حسية؟! لم يقل بهذا أحد، فهي نجسة نجاسة معنوية، فكذلك الخمر.
وأما الاستدلال بقول الله : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فهذا وصفٌ لشيءٍ من نعيم الجنة، وكلُّ نعيم الجنة طَهُور، ولا يصح أن يُقال بمفهومه شيءٌ من نعيم الدنيا وربطه بما في الدنيا؛ لأنه ليس في الجنة شيءٌ مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، فالجنة مختلفة تمامًا، نعيم الجنة مختلف تمامًا عن نعيم الدنيا، يعني نعيم الجنةِ العقلُ البشري لا يستطيع أن يتخيله مجرد تخيل فقط، لا يستطيع، وفوق هذا: ولا خطر على قلب بشر[26].
ثم أيضًا الله تعالى قال: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا [الإنسان:21]، لماذا نخص الشراب بالخمر؟ فالله تعالى حكم على أشربة الجنة بأنها طهور، يشمل ذلك الخمر ويشمل الماء ويشمل اللبن، فهل معنى هذا أن ماء الدنيا ولبن الدنيا نجسة؟! هذا لم يقل به أحد، فكذلك أيضًا الخمر.
وعلى هذا؛ فالقول الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أن الخمر ليست بنجسة؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ على نجاستها.
ومما يؤيد ذلك: أن الحنابلة أنفسهم قالوا: المُسكر غير المائع طاهر، كما سيأتي من كلام المؤلف، طيب لماذا؟ هذا يُسكر وهذا يُسكر، فلماذا يُفرِّق بين المُسكر المائع والمُسكر غير المائع؟ إما أن تقول: كلها نجسة، أو تقول: كلها طاهرة.
هذا يؤكد أن القول الراجح هو القول بعدم نجاسة الخمر.
حكم العطور المشتملة على الكحول
يتفرع عن هذه المسألة مسألة مهمة جدًّا يكثر عنها السؤال، وهي التطيب بالعطور المشتملة على الكحول؟
الآن، عامة العطور مشتملة على الكحول، عامة العطور التي يتعطر بها الناس مشتملة على الكحول، فالكحول مادة أساسية فيها، وعلى القول بأن الخمر نجسة، فمعنى ذلك أن من تعطر بها يلزمه أن يغسلها، فإن تعطر في يده فيلزمه أن يغسل يده، وإن تعطر ثوبه فيلزمه أن يغسل ثوبه. ولكن على القول الذي رجحناه -وهو أنها ليست نجسة- فلا يلزم ذلك، وقلنا: إن هذا القولُ الراجح.
على أن بعض العلماء المعاصرين يفرق بين الخمر وبين العطور المشتملة على كحول، وهذا سمعته في مناقشةِ موضوع قديم من هذا في المجمع الفقهي، فبعض العلماء المعاصرين يقول: أصل هذه كحول، العطور المعاصرة هذه مشتملة على كحول، وفَرْقٌ بين الكحول وبين الخمر، الخمر نجسة، أما هذه العطور المشتملة على كحول، فهذا كحول إيثيلي، ومادة كيميائية مركبة، فهي طاهرة في الأصل.
وهذا قولٌ قوي، وله وجاهته، وبعض العلماء مثل الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، رجَّح القول بعدم نجاسة الخمر، لكن قال: أتورع عنها؛ لعموم قول الله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، فمِن حيث التحقيق: القول الراجح أنها ليست نجسة، والتورع عنها حسن.
هل الحشيشة نجسة؟
وقول المؤلف: (وكذا الحشيش)، الحشيش معروف، هو نوع من المخدرات، ظهر في أواخر القرن السادس وبداية القرن السابع.
والمذهب عند الحنابلة: أن الحشيشة نجسة، وجمهور العلماء على أنها طاهرة، وإن حَرُم تعاطيها، لكن هناك أيضًا قولٌ عند الحنابلة صوَّبه المَرْداوي في “تصحيح الفروع” بأنها طاهرة، وقال: “هذا هو الصواب، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب، أنها طاهرة وليست نجسة”.
ونحن قد رجَّحنا أن الخمر ليست نجسة، وكذلك أيضًا الحشيشة ليست نجسة من بابٍ أولى، ليس كل مُحرَّمٍ يكون نجسًا، فكل نجسٍ محرمٌ وليس كلُّ مُحرَّمٍ نجسًا.
حكم نجاسة ما لا يؤكل من الطير والبهائم
وقول المؤلف: (وما لا يؤكل من الطير والبهائم) يعني: ما يحرم أكله من الطير والبهائم يكون نجسًا، كالحُمُر الأهلية، وكلِّ ذي نابٍ من السِّبَاع، وكل ذي مِخْلبٍ من الطير.
لكن المؤلف قيَّد ذلك بضابطٍ، فقال: (مما فوق الهِرِّ خِلْقةً نجسٌ)؛ يعني: ما كان في حدود جسم الهر فأقل فليس نجسًا؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الهر: إنها ليست بنجس، إنها من الطَّوَّافين عليكم والطوَّافات[27].
ولكن الاستدلال بهذا الحديث محل نظر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علل قوله: إنها ليست بنجس؛ علل بأنها من الطوَّافين عليكم والطوَّافات؛ فدل ذلك على أن العلة هي مشقة الاحتراز منها؛ لكثرة تطوافها، وليست العلة صِغَر الجسم.
وعلى ذلك؛ فما يشق التحرز منه يكون طاهرًا، سواءٌ صغر جسمه أو كبر، ومن ذلك سُؤْر وعَرَق الحمار الأهلي؛ لمشقة التحرز منه.
وما دونها في الخِلقة: كالحيةِ، والفأرِ، والمُسكِرِ غيرِ المائع؛ فطاهرٌ.
وما دونها في الخِلقة يكون طاهرًا، قياسًا على الهِرَّة؛ لمشقة التحرز منها.
والصواب: أن كلما يشق التحرز منه يكون طاهرًا.
وقوله: (المسكر غير المائع)، لَمَّا أقر المؤلف أن المسكر المائع نجس، أراد أن يُبين أن المسكر غير المائع ليس نجسًا، يعني مثل ذلك في وقتنا الحاضر المخدرات، التي تكون على شكل عقاقير جامدة كالحبوب، فهذه وإن كانت محرمة إلا أنها ليست نجسة.
حكم نجاسة الميتة
وكلُّ ميتةٍ نجسةٌ.
لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] و”الرجس”: هو النجس.
واستثنى المؤلف من ذلك أنواعًا من الميتة لا تكون نجسة، النوع الأول:
غيرَ ميتةِ الآدميِّ.
الآدمي ميتته طاهرة، حتى لو كان هذا الآدمي كافرًا؛ لقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، ومقتضى التكريم أن ميتته لا تكون نجسة.
وأيضًا الشريعة أمرت بتغسيل الميت، فلو كان نجسًا لما شُرِع تغسيله؛ لأن تغسيله لا يُفيد في تطهيره، حتى لو كان كافرًا، وأما قول الله : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] فالمقصود بذلك النجاسة المعنوية، بدليل أن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب ونساءهم، ولم يَرِد الأمر بالتطهر منه.
الثاني والثالث مما يُستثنى من الميتة:
والسَّمَكِ والجراد.
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: أُحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطِّحَال[28]، وهذا وإن كان موقوفًا على ابن عمر إلا أنه يأخذ حكم الرفع.
الرابع:
وما لا نفس له سائلة.
كلمة “نفس”، إذا قال الفقهاء: نفس، يقصدون بذلك الدم، معنى (ما لا نفس له) يعني: ما لا دم له سائل، وهنا قال: (سائلة) يعني: أي حشرة فيها دم، لكن الشرط هنا ألا يكون الدم سائلًا، إن كان الدم سائلًا.. إن كان الدم يسيل فإنه يكون نجسًا، مثل الوَزَغ، ويُسمَّى البُرْص، ويُسمى الضاطور، هذا نجس؛ لماذا؟ لأن له دمًا يسيل. لكن مثل الذباب، مثل -مثلًا- البعوض الصغير، هذا ليس له دم سائل.
والمؤلف مثَّل بأمثلةٍ أخرى، فقال:
كالعقرب، والخنفساء، والبَقِّ، والقَمْل، والبراغيث.
هذه كلها ليس لها دمٌ سائل.
طيب، ما الدليل على أن ما لا دم له يسيل، أنه ليس نجسًا؟
الدليل: حديث أبي هريرة : أن النبي قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء[29]، فأمر النبي بغمسه في الإناء، ولو كان نجسًا لما أمر بغمسه؛ لأن في هذا إفسادًا للشراب.
فدل ذلك على أن الذباب ليس نجسًا، وقِسْ عليه ما كان في معناه مما ليس له دمٌ يسيل، مثل النمل، ومثل النحل، ومثل الصراصير، ومثل البق، ومثل البراغيث، والبعوض، الأصل أنه ليس له دمٌ يسيل، لكن هناك أنواع من البعوض فيها دم كثير ويسيل، فهذه يظهر والله أعلم أنها تدخل في قسم النجس إذا كان لها دمٌ كثير ويسيل، أما أكثر أنواع البعوض فالدم الذي فيها دمٌ لا يسيل، فتكون طاهرة.
وما أُكِلَ لحمه.
أي: يُباح ما أُكِل لحمه فيكون طاهرًا، مثل: الإبل والبقر والغنم، لكن قيَّد المؤلف ذلك:
ولم يكن أكثر علفه النجاسة.
حكم الجلَّالة
وهذا ما يُسمى بالجَلَّالة، إذا كان أكثر علفه النجاسة يُسمى الجلَّالة، فالجلَّالة اختلف العلماء فيها:
- القول الأول: أنه لا يحل أكلها، إلا أن تُحبس أيامًا، وهذا قولٌ عند الحنابلة، واستدلوا بما ورد من أحاديث فيها النهي عن أكل الجلَّالة وألبانها.
- القول الثاني: أنه يُكره أكل الجلَّالة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد.
- القول الثالث: أنه يُباح من غير كراهة.
والمسألة سبب الخلاف فيها هو الخلاف في ثبوت الأحاديث الواردة في النهي عن أكل الجلَّالة وألبانها، وهذه الأحاديث من جهة الصناعة الحديثية كلها ضعيفة، لا يثبت منها شيء.
وعلى ذلك؛ فالقول الراجح هو القول الثالث، وهو أنه يُباح أكل لحوم الجلَّالة من غير كراهة؛ لأن جميع الأحاديث المروية فيها ضعيفة، إلا أن يظهر أثرٌ للنجاسة عليها، فهنا تُحبس حتى تطهر.
وفي هذا ربما نرجع لأهل الاختصاص: الحيوان عندما يأكل نجاسة هل تظهر النجاسة على اللحم وعلى اللبن أو أنها تستحيل؟ هناك طرح من بعض الناس يقول: أصلًا حتى هذا الحيوان إذا أكل شيئًا نجسًا هو يستحيل، يعني هذا الحيوان هو كالمصنع يستحيل ولا يظهر أثرٌ للنجاسة عليه.
ومثل ذلك أيضًا الأشجار عندما تُسقى بنجاسة، هل تظهر النجاسة على ثمارها، أو أن هذا الشجر أيضًا يُحيل هذه النجاسة؟ ولذلك؛ فإنها تُسمَّد بأرواث الحيوانات.
يعني هذه الحقيقة مسألةٌ تحتاج إلى مزيد بحث، ورجوع لأهل الاختصاص، الاختصاص في الحيوانات وفي النباتات: عن مدى تأثير النجاسة عليها.
فلذلك؛ نحن نحتاط مع ترجيحنا بأن الجلالة يُباح أكلها من غير كراهة، وشُرْب ألبانها، إلا أننا نقيد ذلك، نقول: إلا أن يظهر أثرٌ للنجاسة على الحيوان، من رائحة وطعم.
وعندي، لما قلت بهذا الاحتياط؛ حتى تُحقَّق هذه المسألة من أهل الاختصاص، فعلى أهل الاختصاص أن يُحققوا ويبحثوا لنا هذه المسألة، أهل الاختصاص في الحيوانات وفي النباتات: هل عندما تُسقى النباتات بالنجاسات يكون لها أثرٌ على الثمر، أو أن النبات يُحيلها ولا يكون للنجاسة أي أثر؟ هل هذا الحيوان عندما يأكل النجاسة، يظهر أثر النجاسة على هذا الحيوان، أو أن هذا الحيوان يُحيل هذه النجاسة أصلًا ولا يبقى لهذه النجاسة أي أثرٍ على لحمه ولا على لبنه؟
فهذه المسألة أطرحها على أهل الاختصاص كي يُحققوها ويبحثوها لنا، فإذا ظهر أثر فهنا تُحبس الجلَّالة، لكن إذا لم يظهر له أي أثر فالأصل هو حِل أكل لحمها، وكذلك أيضًا شُرب لبنها.
حكم بول وروث ما يؤكل لحمه
فبَوْلُه، ورَوْثه، وقَيْئُه، ومَذْيُه، ووَدْيُه، ومَنِيُّه؛ طاهر.
يعني كل هذه الأشياء من الحيوان المأكول اللحم طاهرة، فبول ما يُؤكل لحمه طاهر، بول الإبل طاهر، وبول الغنم طاهر، وبول البقر طاهر، وروث البقر طاهر، وروث الإبل طاهر، وروث الغنم طاهر، وكذلك أيضًا مَذْيه ووَدْيُه ومَنِيُّه، كل هذه طاهرة.
ومما يدل لذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر العُرَنيين لما اجْتَوَوْا، أمرهم أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، ففعلوا، فشفاهم الله ، لكن هم قوم كان عندهم لؤم، لما شفاهم الله تعالى استاقوا إبل الصدقة، وسَمَلوا عَيْنَيِ الراعي وقتلوه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام باللحاق بهم، فأُمسك بهم، فأَمر بأن تُسمَل أعينهم كما فعلوا بالراعي، وأن يُتركوا حتى يموتوا عطاشًا، يعني قُتِلوا صبرًا[30].
فدلت هذه القصة على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه؛ لأنها لو كانت نجسة لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام العُرَنيين بذلك.
وأيضًا في حجة الوداع، النبي لما حج معه قرابة مائة ألف، وغشاه الناس، كلٌّ يُريد أن يتأسى به، كلٌّ يريد أن ينظر ماذا يفعل؟ ما استطاع أن يُكمل أشواط الطواف، أمر بأن يُؤتى ببعيره فأكمل بقية أشواط الطواف على بعيره[31]؛ لأن الناس قد غشوه، فلو كان ما يخرج من البعير نجسًا لما طاف النبي عليه الصلاة والسلام على بعيره؛ لأن البعير قد يخرج منه بولٌ أو روث.
وكذلك أم سلمة لما اشتكت أمرها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها تطوف على بعيرها[32].
فالقول الراجح إذن: أن أبوال وأرواث ما يؤكل لحمه طاهرة.
وقد اكتشف بعض الأطباء في الوقت الحاضر أن أبوال الإبل فيها شفاء من بعض الأمراض، وكَتَب في ذلك مَن كتب ممن عُني بالإعجاز العلمي في السنة.
حكم بول وروث ما لا يؤكل لحمه
وما لا يؤكل نجسٌ.
(ما لا يؤكل)، ما كان لحمه لا يؤكل، فما ذُكِر من البول والروث والقيء، والمذي والودي والمني واللبن، هذه يقول: إنها نجسة، كلها نجسة، كالهر والفأر.
وعلى هذا؛ نستطيع أن نضع قاعدةً وضابطًا، وهو أن كل نجسٍ حرام، وليس كل حرامٍ نجسًا، إلا مني الآدمي ولبنه فطاهر.
حكم مني الآدمي
أما مني الآدمي.. اللبن طاهر بالاتفاق. أما المني، فقد اختلف الفقهاء في طهارته ونجاسته على قولين:
- القول الأول: نجاسة المني، وهو مذهب الحنفية والمالكية، واستدلوا بحديث عائشة: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي ، فيخرج إلى الصلاة، وإن بُقع الماء على ثوب[33] قالوا: فكون عائشة تغسل الثوب دليلٌ على نجاسته، وأُجيب بأن ذلك ليس دليلًا صريحًا، فقد يُغسل الشيء الطاهر من باب كمال الطهارة، كما يغسل الإنسان مثلًا المخاط والبصاق عن ثوبه.
وقالوا: إن المني يخرج من مسلك البول، والبول نجس، فيُقاس عليه المني، لكن هذا قياسٌ أيضًا مع الفارق.
- والقول الثاني: طهارة المني، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وهذا هو القول الراجح في المسألة؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كنت أفركه من ثوب النبي [34].
ومعلومٌ أن الفرك لا يستأصل جميع النجاسة، لا يُذهب جميع النجاسة، فلو كان نجسًا لَمَا اكتفت عائشة فيه بالفَرْك؛ ولأنه أيضًا هو أصل الإنسان، فيبعد جدًّا أن يكون نجسًا.
وأصل أفضل البشر، الأنبياء والرسل، ثم الصديقين والشهداء والصالحين، يبعد أن يكون أصل هؤلاء الطيبين نجسًا.
ومن اللطائف التي ذكرها ابن عقيل: أن رجلين كانا يتناظران في حكم طهارة المني ونجاسته، فارتفعت أصواتهما، ومر عليهما رجلٌ، قال: فيم تتناظران؟ فقال: لي مدة وأنا أسعى في إقناع هذا الرجل بأن أصله طاهر، ويأبى إلا أن يكون أصله نجسًا.
حكم القيح والدم والصديد
والقيح والدم والصديد نجسٌ، لكن يُعفى في الصلاة عن يسيرٍ منه لم يَنقُض.
سيأتي الكلام عن الدم، أما القيح والصديد فيقول المؤلف: إنهما نجسان، قياسًا على الدم، لكن هذا القياس قياسٌ مع الفارق؛ لأن بينهما فرقًا كبيرًا في الحقيقة والأحكام.
والقول الثاني: أن القيح والصديد طاهر، وهذا هو القول الراجح، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو القول الراجح؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهر يدل على نجاسة القيح والصديد، والأصل الطهارة.
أما الدم فيمكن تقسيمه إلى قسمين:
- دم طاهر، وهو دم السمك، وأيضًا ما لا دم له سائل من الحشرات، والدم الذي يبقى في الحيوان المُذكَّى بعد تذكيته، كالذي يكون في العروق، ودم الشهيد، فهذا كله طاهر.
- القسم الثاني: الدم النجس، وهو ما عدا ما ذُكِر، فهو نجسٌ إلا أنه يُعفى عن يسيره، لآثارٍ رويت عن الصحابة في ذلك، وأيضًا لحديث عائشة، قالت: ما كان لإحدانا إلا ثوبٌ واحدٌ تحيض فيه، فإذا أصابه شيءٌ من دمٍ، قالت بريقها، فقصعته بظفرها. وهذا أخرجه البخاري[35]. وهذا دليل على يسير الدم أنه معفوٌٌ عنه، ولو لم يكن معفوًّا عنه لما أزالته عائشة ببَلِّه بريقها ثم حَكِّه بظُفْرها.
وقد اتفق العلماء على نجاسة الدم الخارج من السبيلين، واختلفوا في نجاسة ما سواه على قولين:
- القول الأول: أن الدم نجسٌ، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة، بل حُكي إجماعًا.
- والقول الثاني: أنه طاهر، وهذا لا أعلم أن أحدًا من المتقدمين قال به، لكن قال به بعض المعاصرين، مثل الشوكاني، وأيضًا الصديق حسن خان، والقائلون بنجاسته استدلوا بالإجماع، وأيضًا بقول الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] والرجس: النجس.
والقائلون بعدم نجاسته استدلوا ببعض الآثار، ومن ذلك: أن سعد بن معاذ لما أُصيب، كان جرحه يثعب دمًا وهو في المسجد[36]، قالوا: لو كان نجسًا لما وضعه النبي في المسجد، ولأمر بصب الماء عليه حين سال دمه.
ولكن هذا ليس صريحًا في طهارة الدم؛ إذ إن هذه حالة خاصة، ويحتمل أن الدم الذي كان يسيل من سعد يتعاهد بالإزالة والنظافة، وأيضًا هذه حالة ضرورة.
ولهذا؛ فالإمام أحمد كان ممن يرى نجاسة الدم، بل يحكي الإجماع عليه؛ ولما ضُرِب في الحبس فإنه لما حُبِس كان يُضرب ضربًا شديدًا حتى يسيل الدم من ظهره، وحتى يُغمى عليه؛ لما ضُرِب خرجت منه دماءٌ كثيرة، فصلى والدم بثيابه، فقيل له: تصلي والدم في ثيابك؟ قال: هكذا صلى عمر، وجرحه يثعب دمًا[37]. فاستدل بقصة عمر؛ لأن هذا الموضع موضع ضرورة، وموضع الضرورة لا يُقاس عليه.
وأيضًا استدل القائلون بطهارة الدم، ببعض الآثار، كابن عمر عصر بثرةً، وصلى ولم يتوضأ، وأيضًا جابر أدخل إصبعه في أنفه، فخرج دمٌ فمسحه بالأرض وصلى، وأبي هريرة أيضًا روي عنه شيء نحو ذلك، لكن هذه خارجة عن محل النزاع، هذه في الدم اليسير، والخلاف في الدم الكثير.
والقول الراجح هو قول الجمهور، وهو نجاسة الدم.
الحقيقة، أقوى دليل على نجاسة الدم هو الإجماع، والإجماع حكاه خلقٌ كثير، ممن حكى الإجماع على نجاسة الدم: الإمام أحمد، وابن عبدالبر، وابن حزم، وابن العربي، والقرطبي، وابن رشد، والنووي، والقرافي، وابن حجر، والعيني، والزركشي، والشنقيطي صاحب “أضواء البيان”.
يعني هؤلاء أئمة محققون لا يخفى عليهم الخلاف، والخلاف المحكي في نجاسته إنما كان متأخرًا بعد انعقاد الإجماع، فلا يكون معتبرًا.
أعطوني عالمًا من العلماء المتقدمين قال بطهارة الدم، أعطني عالمًا واحدًا، ما فيه عالم، المذاهب الأربعة والمتقدمون كلهم على نجاسة الدم، لكن بعض المتأخرين كالشوكاني ومن بعده، هم الذين قالوا بطهارته.
فالصواب إذن: أن الدم نجسٌ، لكنه يُعفى عن يسيره.
إذا كان من حيوان طاهر في الحياة، ولو من دمِ حائض ونُفَساء.
يعني: ما قيل في نجاسة الدم يشمل دم الإنسان كذلك، وكذلك دم الحيوان الطاهر، الأصل في الدم أنه نجسٌ إلا أنه يُعفى عن يسيره.
وبعض العلماء يُفرّق بين يسير الدم الخارج من السبيلين، والخارج من غير السبيلين، فيقول: إذا كان خارجًا من السبيلين يكون نجسًا، ولو كان يسيرًا، وقال آخرون: إنه يُعفى عنه مطلقًا، سواءً كان من السبيلين أو من خارج السبيلين.
وأيضًا المؤلف أشار للخلاف بقوله: (ولو من دم حائض)، فيه إشارة إلى أن الخلاف قوي؛ لأنه عند بعض الفقهاء إذا كان الدم يخرج من السبيلين فهو نجس، وإن كان يسيرًا.
والقول الراجح: أن الدم اليسير يُعفى عنه ولو كان من السبيلين؛ لحديث عائشة السابق، قالت: ما كان لإحدانا إلا ثوبٌ واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيءٌ من دمٍ، قالت بريقها، فقصعته بظفرها[38].
وذلك لأنه دمٌ يسير، معلوم أن هذا لا يُزيل النجاسة، تقول: بريقها، ثم تقصعه بظفرها. هذا لا يُزيل النجاسة، لكن لكونه دمًا يسيرًا فيُعفى عنه.
ويضم يسيرٌ متفرقٌ بثوبٍ، لا أكثر.
يعني: إذا كان الدم متفرقًا بالثوب الواحد، فيمكن معرفة اليسير الذي يُعفى عنه، بضم هذا الدم بعضه إلى بعض.
يعني مثلًا بُقَع هنا، وبقع هنا، وبقع هنا، يُضم فيُنظر، هل هو يسير عرفًا أو كثير؟ إذا كان يسيرًا عرفًا فيُعفى عنه، وإذا كان كثيرًا فلا بد من غسله.
(لا أكثر)، لو كان مثلًا هذا الثوب فيه دم، والثوب الثاني فيه دم، والثوب الثالث فيه دم، لا تُضم بعضها مع بعض، إنما يُضم داخل الثوب الواحد.
وطين شارعٍ ظُنت نجاسته.
يعني: الشوارع الأصل فيها الطهارة، وحتى وإن ظن نجاستها، عملًا بالأصل؛ لأن الصحابة والتابعين كانوا يخوضون السيول والأوحال والطرقات، ولا يغسلون أرجلهم، ولم يأمر النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بذلك، وهذا هو المَرْوي أيضًا عن التابعين.
حكم عرق وريق الحيوان
وعرقٌ وريقٌ من طاهرٍ.
العرق والريق من الحيوان الطاهر يعتبر طاهرًا وليس نجسًا؛ لأن الأصل هو الطهارة، حتى أيضًا العرق من الحيوان النجس، الذي يشق الاحتراز منه، يُعتبر طاهرًا على القول الراجح، مثل: الحمار الأهلي، لما كان الناس يركبون الحُمُر الأهلية، فكان أحيانًا عَرَق الحمار يُصيب الإنسان عند ركوبه له، خاصةً مع شدة الحر، فعرقه طاهرٌ على القول الراجح.
حكم سؤر الهر ونحوه في الخِلقة
ولو أكل هرٌّ ونحوه من الحيوانات الطاهرات كالنِّمْس والفأر والقُنْفُذ، أو طفلٌ، نجاسةً، ثم شرب من مائعٍ؛ لم يضر.
(نجاسةً) مفعول لـ(أكل)، مراد المؤلف أن سؤر هذه المذكورات طاهر.
ما معنى السُّؤْر؟ المؤلف عرَّف السؤر في آخر الفصل، قال:
.. وهو فضلة طعامه وشرابه.
لو أن المؤلف قدَّم التعريف لكان أحسن.
السُّؤْر هو بقية الطعام والشراب، هذا يُسمى سؤرًا، فمراد المؤلف أن سؤر هذه الأشياء المذكورة كلها طاهرة، وليست نجسة، أما سؤر الهرة فقد ورد به النص في قول النبي عليه الصلاة والسلام: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوَّافات[39].
ونحوه في الخِلقة.
نحوه من الحيوانات، يعني في الخِلقة، هذا هو المذهب عند الحنابلة.
المؤلف مثَّل لذلك بأمثلة، وسبق الإشارة لذلك، وأن القول الراجح: أن الضابط ليس نحو الهر في الخِلقة، وإنما ما يشق الاحتراز عنه؛ لأن النبي علل بقوله: إنها من الطوافين عليكم والطوَّافات؛ أي: لكون كثرة تطوافها يشق الاحتراز عنها، فسؤرها طاهر، فيُقاس عليها ما يشق الاحتراز عنه، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام إن جسمها صغير.
فالصواب إذن أن العلة هي مشقة الاحتراز.
المؤلف يقول: ما كان في معنى الهر من الحيوانات في الخِلقة، فسؤره طاهر، ومثَّل لذلك بـ(النِّمس)، هكذا، دويبة نحو الهرة، تكون بمصر، يبدو أنها غير موجودة عندنا هنا في المملكة. (والفأر والقنفذ) معروفان، (وطفلٌ) أيضًا لو أكل طفلٌ (نجاسة ثم شرب من مائع)، يعني أكل نجاسةً ثم شرب مثلًا عصيرًا، أو شرب ماءً، فسؤره طاهر، لمشقة التحرز من ملامستها.
حكم سؤر الحيوان
ولا يُكره سؤر حيوانٍ طاهرٍ.
ثم عرَّف السؤر بقوله: (وهو فضلة طعامه وشرابه)؛ يعني بقية طعام وشراب الحيوان الطاهر، آسارها كلها لا تضر، كسؤر الإبل والبقر والغنم والهر، ونحو ذلك، هذه كلها طاهرة.
أما الحيوانات غير الطاهرة، فقد اختلف الفقهاء في طهارة سؤرها وعرقها، والراجح أن سؤر ما يشق التحرز منه وعرقه طاهران، كالحمار الأهلي، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يركبه، ولا بد أن عرقه كان يُلامسه، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يتحرز منه، ولم يأمر الصحابة بذلك.
فدل ذلك على أن عرق وسؤر ما يشق التحرز منه طاهر، وعمر بن الخطاب خرج في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى وَرَدُوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل تَرِدُ حوضَكَ السِّبَاعُ؟ قال عمر: يا صاحب الحوض، لا تُخبرنا، فإنا نَرِدُ على السباع وترد علينا.
يعني عمر بن الخطاب أعمل الأصل وهو الطهارة، هذا يدل على أن سؤر ما يشق التحرز منه من السباع، طاهر؛ ولذلك علَّل عمر بقوله: “فإنا نرد على السباع وترد علينا”، فيه إشارة لمشقة التحرز منها.
وبهذا نكون قد انتهينا مما أردنا التعليق عليه من “السلسبيل في شرح الدليل”، ونقف عند (باب: الحيض)، إن شاء الله يكون هو محل درسنا القادم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نُجيب على ما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: تنتشر هذه الأيام تداول الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر الأخبار غير الصحيحة، وفيها تخويفٌ وترويعٌ للناس، نرجو التوجيه.
الجواب: المطلوب أيها الإخوة هو نشر الفأل، وتهدئة الناس، خاصةً على طلاب العلم، وأهل العلم، المطلوب منهم ذلك، أن يُهدئوا الناس، وينشروا فيهم الفأل، والأخبار السارة، وأن يطمئنوهم، وينبغي عدم الإرجاف، ونشر الأخبار المُفزعة، بعض الناس لا تكاد تسمع منه إلا أخبارًا سيئة، وأخبارًا مزعجة.
ينبغي أن يكون الإنسان متفائلًا، وأن ينشر الفأل في النار، وأن يهدئ الناس، ويُهدئ مِن روع الناس، مع الأخذ بأسباب الوقاية، وأيضًا لا تهمل أسباب الوقاية أيضًا، فلا بد من الأخذ بأسباب الوقاية مع تهدئة الناس.
السؤال: هل مَن شك أنه مريض، يجوز ترك صلاة الجماعة والجمعة؛ لئلا يضر نفسه ويضر غيره؟
الجواب: نعم، إذا لم يكن كثير الشكوك والوساوس، ووجدت أمارات أو قرائن تدل على ذلك، فيسقط عنه وجوب الجمعة والجماعة، ويُصلي في البيت، يُريح نفسه أولًا، وأيضًا حتى لا يعدي غيره.
السؤال: كيف نجمع بين قول النبي : لا عدوى ولا طِيرة[40] وبين الأخذ بالأسباب الوقاية؟
الجواب: هذا تكلم عنه العلماء، وقالوا: إن مقصود النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: لا عدوى يعني: لا عدوى تعدي بذاتها، بل بتقدير الله تعالى لها؛ ولهذا قال: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صَفَرَ، وفِرَّ من المجذوم فِرَارَك من الأسد[41].
كلها وردت في حديثٍ واحد، كما في البخاري وغيره، ففي أول الحديث، قال: لا عدوى، وفي آخر الحديث قال: وفر من المجذوم، فقوله: لا عدوى يعني: لا عدوى تعدي بنفسها، وقوله: فر من المجذوم فيه إشارة إلى الأخذ بأسباب الوقاية، وهي أن الإنسان يبتعد عن المصاب بالعدوى أو بالأمراض المعدية عمومًا.
السؤال: أخذت دينًا من شخصٍ ثم سامحني، ثم عاد وطالب؟
الجواب: ما دام سامحك فقد سقط الدين، فليس له أن يعود ويُطالب مرةً أخرى.
السؤال: هل هناك أدعيةٌ وأذكار مخصوصة تُقال وقت الأوبئة؟
الجواب: نعم، من ذلك: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، من قال ذلك حين يُصبح وحين يُمسي، ثلاث مرات، لم يَضرُّه شيء[42].
فهذا من الأذكار التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم، يعني بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر، تأتي بأذكار الصباح والمساء، ومنها: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم.
ومن ذلك أيضًا قراءة المعوذتين، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، هذه ما تعوذ المتعوذون بمثلهما، السنة تقرأ دبر كل صلاة، وتكرر بعد الفجر والمغرب وقبل النوم ثلاث مرات، ويحرص المسلم على أذكار الصباح والمساء أيضًا، وأذكار ما قبل النوم، هذه كلها حصنٌ حصين للمسلم.
وأيضًا يستعيذ بالله من سيئ الأسقام، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، وسيئ الأسقام[43].
يعني: ممكن أن تضيف لها ما استجد من الأمراض في الوقت الحاضر: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون، والجذام، وكذا، تسمي بعض الأمراض الموجودة، وتُضيفها لذلك.
السؤال: هل الطواعين التي وقعت في زمن الصحابة، منعتهم من إقامة الجمعة والجماعة؟
الجواب: لا، لم تمنعهم من إقامة الجمعة والجماعة، بل بالعكس كانوا يفزعون إلى المساجد، ويضرعون إلى الله فيها.
السؤال: ما حكم المسح على الحذاء الذي يكون نزعه فيه مشقة، كالحذاء الرياضي؟
الجواب: هذا حكمه كسائر الخفاف والجوارب، إذا كان لبسه على طهارة، وكان تحته شُرَّاب، تحته جورب، يعني جورب ثم حذاء رياضي، ولم ينزعه، لم يخلعه، فيمسح عليه، ومثل: البُسطار للعسكريين، والحذاء الرياضي، نقول: تلبس تحته جوربًا، بحيث تغطي القدم والكعب بالكعب، ثم تلبس هذا الحذاء، أو هذا البسطار وتمسح فوقه، يعني تعتبر كأنه جورب واحد ولا تخلعه، ثم تمسح عليه وعلى الجورب، من أطراف الأصابع إلى مبتدأ الساق.
السؤال: إذا اشتريت لنفسي أو أهديت لأحدٍ ملابِسَ أو مُكيِّفًا بنية الوقف لي ولوالدي، هل هذا التصرف صحيح؟
الجواب: نعم، كيف أهديت واشتريت، بنية الوقف، يعني أنك تشتري هذا الشيء ثم توقفه، هذا لا بأس به، إذا وقفته لا بأس به، يعني لم يتضح موضع الإشكال عند الأخ السائل.
السؤال: هل يلزم من التزام المسلم بالأوراد وفعل الأسباب حمايةٌ من الله له، أو أنه قد يُبتلى بما يَحْذر؟ لأن بعض المشككين يقول: إن الصحابة وقعت عليهم الطواعين ومات كثيرٌ منهم، وهم حافظون لدين الله، وملتزمون لوصايا النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: الأسباب تبقى أسبابًا، لكنها لا تمنع من وقوع قدر الله تعالى إذا أراد الله ذلك، فقد يتحصن الإنسان بالأوراد ومع ذلك يُصاب، فهذا يعني بتقدير الله ، هذه الأمور تكون بتقدير الله تعالى وحكمته البالغة، لكن التحص بالأوراد هو سبب من الأسباب.
هناك أسباب، الأسباب الوقائية: التحصن بالأوراد والأذكار، هذه كلها أسباب، الحجر الصحي، هذه كلها أسباب تمنع من انتقال وانتشار العدوى، لكنها تبقى مجرد أسباب، والأمور كلها بيد الله وبتقديره، وليس للصلاح أو عدم الصلاح تأثيرٌ في هذا، قد يكون الإنسان صالحًا ويُصاب بهذه الأوبئة، ولا يدل ذلك على عدم صلاحه، قد يكون العكس.
هذه أمور تكون بتقدير الله ، لكن الأذكار سبب لتحصين الإنسان من الشرور، هي سبب، وقد يُصاب الإنسان وهو متحصن بالأذكار، وليس بالضرورة يعني، مثلما ذُكِر في السؤال، هناك بعض الصحابة متحصن بالأذكار، ومع ذلك أُصيب بالطاعون، لكنها تبقى سببًا، كسائر الأسباب.
السؤال: ذكرتم أنه لا يُستحب تجديد التيمم؛ لأنه ليس كالوضوء، لكن ألا يمكن أن يُقال: إنه يُستحب خروجًا مِن خلاف مَن أوجب التيمم لكل وقت؟
الجواب: إذا جدد التيمم بهذه النية، بنية الخروج من الخلاف، فهنا لا بأس، لكن على القول الذي رجحناه نقول: إنه لا يُستحب، باعتبار أن التيمم رافعٌ للحدث، والحنابلة يقولون بأنه مُبيح، ومع ذلك يقولون: لا يُستحب تجديده.
السؤال: تسأل إحداهن أن لها بيتًا، وأن إيجاره تصرُّف منه عليها وعلى أبنائها، هل تُخرج زكاته؟
الجواب: إذا كان الإيجار يبقى عندها سنةً كاملة وقد بلغ النصاب، ففيه الزكاة، وإلا فلا.
السؤال: مَن كان عنده ماءٌ يسير يتوضأ به، إذا انتهى الماء ولم يُكمل وضوءه، فيتيمم، السؤال: الماء لا يكفي لإكمال الوضوء، هل يلزمه أن يتوضأ به؟
الجواب: نعم، يتوضأ به، يعني يتوضأ بما يمكن، ولو أن يغسل وجهه وكفيه ويتيمم عن الباقي، ولو تيمم لوجود ماءٍ قليل، ورغب في إبقاء الماء، متى ما احتاج إليه للضرورة، فلا بأس، إذا كان يحتاج إليه في الأكل والشرب، فلا بأس.
السؤال: إذا صليت العصر قبل أذان المغرب بربع أو ثلث ساعة، هل يعتبر تأخيرًا للصلاة؟
الجواب: نعم، يعتبر تأخيرًا للصلاة، إلا إذا كنت مضطرًّا، العصر لها وقتان، اختياري وضروري، الاختياري إلى اصفرار الشمس، الضروري إلى غروب الشمس.
قبل غروب الشمس بربع ساعة، معنى ذلك دخلت في الوقت الضروري، فإذا لم يكن عندك عذر، فإنك تأثم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا[44].
فهنا، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن تأخير العصر إلى قُبيل غروب الشمس من صفات المنافقين، فينبغي على المسلم أن يبتعد عن صفة المنافقين.
السؤال: إذا تيمَّم شخص للصلاة وصلى، وأثناء صلاته توفر الماء؟
الجواب: هذه تكلمنا عنها، يمكن الأخ السائل لم يستمع لشرح هذه المسألة.
إذا تيمم، وفي أثناء الصلاة حضر الماء، ذكرنا الخلاف في المسألة، وقلنا: القول الراجح أن صلاته تبطل، ويلزمه أن يتوضأ بالماء، ويُعيد صلاته، هذا إذا حضر الماء أثناء الصلاة، أما إذا حضر بعد الفراغ من الصلاة، فتكفيه الصلاة، ولا يلزمه إعادتها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للذي لم يعد: أصبت السنة[45].
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 11370، وأبو داود: 102، والترمذي: 25، وابن ماجه: 397. |
---|---|
^2 | رواه أحمد: 21371، وأبو داود: 333، والترمذي: 124، والنسائي: 322. |
^3 | رواه أبو داود: 338، والنسائي: 433، وابن ماجه: 558. |
^4 | ذكره ابن قدامة في “المغني”: (1/ 75). |
^5 | رواه أحمد: 5884، وأبو داود: 247. |
^6 | رواه البخاري: 227، ومسلم: 291. |
^7 | رواه أحمد: 26998، وأبو داود: 363، والنسائي: 292. |
^8 | رواه النسائي: 337. |
^9 | رواه مسلم: 279. |
^10 | رواه مسلم: 280. |
^11 | رواه البخاري: 5481، ومسلم: 1574. |
^12 | رواه البخاري: 3225، ومسلم: 2106. |
^13 | رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206. |
^14 | رواه أحمد: 8767، وأبو داود: 365. |
^15 | رواه البخاري: 223، ومسلم: 287. |
^16 | رواه البخاري: 222. |
^17 | رواه البخاري: 5693، ومسلم: 287. |
^18 | رواه البخاري: 220، ومسلم: 284. |
^19 | رواه أحمد: 8735، وأبو داود: 83، والترمذي: 69، والنسائي: 59، وابن ماجه: 386. |
^20 | رواه البخاري: 219، ومسلم: 284. |
^21 | رواه أحمد: 26488، وأبو داود: 383، والترمذي: 143، وابن ماجه: 531. |
^22 | رواه أحمد: 11877، وأبو داود: 650. |
^23 | رواه مسلم: 1983. |
^24 | رواه أحمد: 15973، وأبو داود: 210، والترمذي: 115، وابن ماجه: 506. |
^25 | رواه البخاري: 401، ومسلم: 572. |
^26 | رواه البخاري: 3244، ومسلم: 2824. |
^27 | رواه مالك: 13، وأحمد: 22528، وأبو داود: 75، والترمذي: 92. |
^28 | رواه أحمد: 5723، وابن ماجه: 3314. |
^29 | رواه البخاري: 5782. |
^30 | رواه البخاري: 233، ومسلم: 1671. |
^31 | رواه البخاري: 1607، ومسلم: 1272. |
^32 | رواه البخاري: 464، ومسلم: 1276. |
^33 | رواه البخاري: 229، ومسلم: 289. |
^34 | رواه مسلم: 288. |
^35 | رواه البخاري: 312. |
^36 | رواه البخاري: 463، ومسلم: 1769. |
^37 | رواه مالك: 51. |
^38, ^39, ^45 | سبق تخريجه. |
^40 | رواه البخاري: 5753، ومسلم: 2225. |
^41 | رواه البخاري: 5707. |
^42 | رواه أحمد: 474، والترمذي: 3388، وابن ماجه: 3869. |
^43 | رواه أحمد: 13004، وأبو داود: 1554. |
^44 | رواه مسلم: 622. |