عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
كنا قد ابتدأنا الحديث في الحلقة السابقة عن أحكام الهبة، وكانت آخر مسألةٍ توقفنا عندها مسألة: هدايا العمال؛ وذكرنا أنها لا تجوز، وأشرنا إلى حديث أبي حميد الساعدي أن النبي قال: هدايا العمال غلول، ووعدنا باستكمال الحديث عن هذه المسألة في هذه الحلقة؛ فنقول:
حكم هدايا العمال
إن هدايا العمال قد بيّن النبي أنها محرّمة، وذلك في الحديث السابق هدايا العمال غلول [1]، وذكرنا أن هذا الحديث حديثٌ حسنٌ أو صحيحٌ بشواهده، وهو في مسند الإمام أحمد وغيره.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي : “أن رسول الله استعمل رجلًا على الصدقة، فلما قدِم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ، فقام النبي على المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي ويقول: هذا لكم، وهذا أُهدي إليَّ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه أم لا، والذي نفس محمدٍ بيده لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا إبطيه فقال: اللهم هل بلغت.. ثلاثًا [2].
فدل هذا الحديث على أن ما يأخذه العامل على الصدقة التي قد كُلِّف من قِبل الإمام بجبايتها، ما يأخذه من الناس محرّمٌ لا يجوز شرعًا.
حكم ما يأخذه الموظف من هدية مقابل وظيفته
وفي معناه ما يأخذه الموظَّف من الناس مقابل وظيفته، فإن ذلك محرّم ومن الغلول، سواء سُمّي هدية، أو مكافأة، أو إكرامية، أو غير ذلك؛ لأن الموظّف يجب عليه القيام بعمله في مقابل ما يتقاضاه من مرتّب، فما يأخذه من الناس فوق ذلك فهو غلول؛ لأن هذا الموظّف لو جلس في بيت أبيه وأمه لما أهدى إليه أحدٌ شيئًا.
وكذلك أيضًا المدير لمؤسسة أو لدائرة حكومية مثلًا، لا يجوز له أن يأخذ هدايا من الموظفين؛ لأن هذا المدير لو جلس في بيت أبيه وأمه لما أهدى إليه أحدٌ من الموظفين شيئًا.
كذلك أيضًا المدرِّس لا يجوز له أن يأخذ من الطلاب هدايا؛ لأن هذا المدرِّس لو جلس في بيت أبيه وأمه لما أهدى إليه ذلك الطالب شيئًا.
والحاصل: أن القاعدة في هذا الباب هي قول النبي : فهلّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه أم لا؟ [3].
فنقول: هذا المُهدى له لو جلس في بيت أبيه وأمه فهل سيُهدي له ذلك الشخص؟ إن كان الجواب بالنفي فإن تلك الهدية لا تجوز، بل هي من الغلول، وإن كان الجواب بالإثبات علمنا بأن المقصود منها المحبّة والمودّة، وحينئذ تكون جائزة.
الفرق بين الهدية والرشوة
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “الفرق بين الهدية والرشوة وإن اشتبها في صورة القصد؛ فإن الراشي قصده بالرشوة التوصُّل إلى إبطال حقٍّ أو تحقيق باطل، فهذا الراشي الملعون على لسان رسول الله ، فإن رشا لدفع الظلم عن نفسه اختُصَّ المرتشي وحده باللعنة، وأما المهدي فقصده استجلاب المودّة والمعرفة والإحسان، فإن قصد المكافأة فهو معاوِض، وإن قصد الربح فهو مستكثر”.
والقول الذي أشار إليه الإمام ابن القيم من أنه إذا بذل مالًا لدفع الظلم عن نفسه، أن الإثم يختصُّ بالآخذ الذي هو المرتشي دون الباذل، قد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: “هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر”.
بم تنعقد الهبة؟
ومن أحكام الهبة: أنها تنعقد بما يتعارفه الناس من الإيجاب والقبول، والمعاطاة المقترنة بما يدل عليها، فالإيجاب أن يقول: وهبتك أو أهديت إليك ونحو ذلك، والقبول أن يقول: قبِلت أو رضيت ونحو ذلك.
ولكن الهبة لا تلزم إلا بالقبض في قول جمهور الفقهاء، ويدل لذلك أن أبا بكرٍ الصديق نحل عائشة عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما أحدٌ أحبَّ إليَّ غنى بعدي منكِ، ولا أحدٌ أعزَّ عليَّ فقرًا منكِ، وكنت قد نحلتك عشرين وسقًا، فلو كنتِ حزتيه أو قبضتيه كان لكِ، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هو أخواكِ وأختاكِ فاقتسموه على كتاب الله .
وقد أخرج هذه القصة مالكٌ في الموطأ بسندٍ صحيح، وهي ظاهرة الدلالة في أن أبا بكرٍ يرى أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض.
قال المروذي: “اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعليٌ على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة” أيْ: أنها لا تلزم إلا بالقبض.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “هو إجماعٌ من الصحابة ؛ فإنه مرويٌ عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم نعرف لهما في الصحابة مخالفًا”.
ثم قال رحمه الله بعد ذلك مفرّعًا على القول بأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، قال: “والواهب بالخيار قبل القبض، إن شاء أقبضها وإن شاء رجع فيها”.
حكم الرجوع في الهبة
وقد ورد الذمُّ في حق من رجع في هبته، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي قال: ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه [4].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “قوله: ليس لنا مثل السوء أيْ: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتّصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله : لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدلُّ على التحريم مما لو قال مثلًا: لا تعود في الهبة”.
والحاصل: أنه لا يجوز الرجوع في الهبة بعد أن تُقبض، ويُستثنى من ذلك هبة الوالد للولد؛ فإنه قد ورد في السنة ما يدل على أن الوالد يجوز له الرجوع في هبته لولده، فقد أخرج أبو داود وابن ماجه بسندٍ صحيح عن ابن عباس أن النبي قال: لا يحل لرجلٍ أن يُعطي عطية أو يهب هبةً فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده [5].
حكم شراء الواهب هبته
ومن أحكام الهبة: أنه لا يجوز لمن وهب هبة أو تصدق بصدقة أن يشتريها من صاحبها، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال: حملت على فرسٍ عتيقٍ في سبيل الله -أيْ تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله-، فأضاعه صاحبه -أيْ أنه قصّر في القيام بعلفه ومؤونته-، فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي فقال: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهمٍ واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه [6].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “سمّى النبي الشراء عودًا في الصدقة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري، فأطلق على القدر الذي يُتسامح به رجوعًا، وأشار إلى الرخص بقوله: وإن أعطاكه بدرهم“.
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية الأحكام والمسائل في هذا الباب في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
فإلى ذلك الحين أستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.