عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
يتجدد بكم اللقاء في هذا البرنامج الذي نسأل الله أن يجعل فيه البركة، وقد وصل بحثنا لمسائل وأحكام فقه المعاملات إلى باب الهبة والعطية، فنبتدئ في هذه الحلقة بذكر جملة من المسائل التي يذكرها الفقهاء في هذا الباب، ونستكمل الحديث عن بقية المسائل في الحلقات القادمة إن شاء الله؛ ونبتدئ أولًا بتعريف الهِبَة في اللغة، فنقول:
تعريف الهبة
الهبة هي من هبوب الريح، أيْ: مروره.
وهي تمليكٌ في الحياة بغير عوض.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “الهبة والعطية والهدية والصدقة معانيها متقاربة، وهي تمليكٌ في الحياة بغير عوض، واسم الهبة والعطية شاملٌ لجميعها، فأما الصدقة والهدية فهما متغايران وإن دخلا في مسمى الهبة والعطية؛ فإن النبي كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وقال في اللحم الذي تُصدِّق به على بريرة: هو عليها صدقة ولنا هدية [1]؛ فالظاهر أن من أعطى شيئًا ينوي به التقرب إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة، ومن دفع إلى إنسانٍ شيئًا للتقرُّب إليه والمحبة له فهو هدية، وجميع ذلك مندوبٌ إليه”.
أيهما أفضل الصدقة أم الهدية؟
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الصدقة والهدية أيهما أفضل؟
فقال: “الصدقة: ما يُعطى لوجه الله تعالى عبادة محضة، من غير قصدٍ في شخصٍ معين ولا طلب غرض من جهته، لكن يوضع في مواضع الصدقة كأهل الحاجات.
وأما الهدية: فيُقصد بها إكرام شخصٍ معيَّنٍ، إما لمحبة، وإما لصداقة، وإما لطلب حاجة، ولهذا كان النبي يقبل الهدية ويثيب عليها، فلا يكون لأحدٍ عليه منّة ولا يأكل أوساخ الناس التي يتطهرون بها من ذنوبهم وهي الصدقات، ولم يأكل الصدقات لذلك وغيره..
قال رحمه الله: إذا تبيّن ذلك فالصدقة أفضل -أيْ من الهدية-، إلا أن يكون في الهدية معنى تكون به أفضل من الصدقة، مثل الإهداء لقريبٍ يصل به رحمه، فهذا قد يكون أفضل من الصدقة”.
حكم الإهداء وقبول الهدية
الهدية مندوبٌ إليها في الجملة، وهي من مكارم الأخلاق، ومن أسباب جلب المودّة والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم، فينبغي للمسلم أن يعوّد نفسه على أن يهدي لإخوانه المسلمين، من أقارب وزملاء وأصدقاء، ولو بالشيء اليسير.
فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاة [2].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري: “قوله: فِرسن بكسر الفاء هو عظمٌ قليل اللحم، وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله، لا إلى حقيقة الفرسن؛ لأنه لم تجر العادة بإهدائه، أيْ: لا تمنع جارةٌ من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلًا، فهو خيرٌ من العدم، وذِكْر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها، وأنها لا تحتقر ما يُهدى إليها ولو كان قليلًا، قال: وحمْله على الأعم من ذلك أولى، أيْ: على الإهداء بالقليل، وعلى قبول القليل.
وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: لو دُعيت إلى ذراعٍ أو كراعٍ لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراعٌ أو كراعٌ لقبلت [3].
قال ابن بطال رحمه الله: “أشار عليه الصلاة والسلام بالكراع والفرسن، إلى الحض على قبول الهدية ولو قلّت؛ لئلا يمتنع الباعث من الهدية لاحتقار الشيء، فحضَّ على ذلك لما فيه من التآلف”.
ما لا يُردُّ من الهدية
ويتأكد عدم رد الهدية إذا كانت من الطيب، فقد نهى النبي عن ردّه، وقد أخرج أبو داود والنسائي عن أبي هريرة أن النبي قال: من عُرِض عليه طيبٌ فلا يرده، فإنه خفيف الحمْل طيّب الرائحة [4]، وقد صحح هذا الحديث الحافظ ابن حجر رحمه الله، وقال: “أخرجه مسلم من هذا الوجه لكن قال: ريحانٌ بدل طيب [5].
قال: ورواية الجماعة أثبت؛ فإن أحمد وسبعة أنفسٍ معه رووه عن عبدالله بن يزيد المقبري عن سعيد بن أبي أيوب بلفظ الطيب، ووافقه ابن وهب عن سعيد عند ابن حبان، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد”.
وقال البخاري في صحيحه: “بابٌ ما لا يُردُّ من الهدية”، ثم ساق بسنده عن أنس : “أن النبي كان لا يرد الطيب” [6]، وأخرج الترمذي في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: ثلاثٌ لا تُردّ: الوسائد، والدهن، واللبن [7]، قال الترمذي: يعني بالدهن الطيب، قال الحافظ ابن حجر: “إسناده حسن”.
مواضع يحرم فيها الإهداء
ولئن كان الإهداء وقبول الهدية مندوبٌ إليه لما يترتب عليه من جلب المودة والمحبة بين المسلمين، فإنه في مواضع يكون محرّمًا لما يترتب عليه من المفسدة، ومن ذلك:
هدية المقترض إلى المقرض قبل الوفاء فإنها محرّمةٌ مطلقًا لكونها ذريعة إلى الربا، إلا أن ينوي المهدى إليه أن يكافئ المهدي بمثل هديته، أو احتساب مقدار تلك الهدية من دينه فلا بأس.
وبهذا يُعلم أن ما تهديه البنوك لعملائها أنه لا يجوز، لأنه في حقيقته هديةٌ من مقترضٍ وهو البنك إلى المقرض وهو العميل وذلك لا يجوز؛ لأن التكييف الفقهي لوضع المال في البنوك أنه قرضٌ، وأن العميل أو الواضع لذلك المال أنه مقرضٌ، وأن البنك مقترض، وحينئذ فلا يجوز للمقرض أن يقبل هديةً من المقترض قبل الوفاء مطلقًا، فلا يجوز أن يقبل العميل من البنك هدية قبل الوفاء مطلقًا، أيْ ما دام الحساب في ذلك البنك موجودًا فإنه لا يجوز للعميل أن يقبل من البنك هدية ولو كانت يسيرة.
ومن ذلك أيضًا: هدايا العمال، فقد صح عن رسول الله أنه قال: هدايا العمال غلول [8]، والمراد بالعمال هنا: العمال على الصدقة الذين قد كُلِّفوا من قِبل الإمام بجبايتها، فلا يجوز لهم أن يأخذوا من الناس هدايا على ذلك العمل الذي كُلِّفوا به من قِبل الإمام.
فهل يدخل في ذلك ما يأخذه الموظف من الناس مقابل وظيفته، وهل يدخل في ذلك هدايا الموظفين إلى مدير المؤسسة أو الدائرة الحكومية ونحوها، وهل يدخل في ذلك الهدايا من الطلاب إلى المدرّسين؟
هذا ما سنبحثه إن شاء الله تعالى، ونتناوله بالتفصيل في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
فإلى ذلك الحين أستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.