عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الهبة والعطية، فنقول:
العدل بين الأولاد في العطية
من مسائل العطية: أنه يجب التعديل في عطية الأولاد، فلا يجوز للوالد أن يفضِّل بعض أولاده على بعض.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: “أعطاني أبي عطية فقالت أمه -عمرة بنت رواحة-: لا أرضى حتى تُشهِد رسول الله ، فأتى رسول الله وأخبره ليشهده على ذلك، فقال رسول الله : أكلُّ ولدك أعطيته مثل هذا؟ قال: لا، فقال رسول الله : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم” [1]، وفي رواية لمسلم أن النبي قال: فلا تُشهدني إذًا؛ فإني لا أشهد على جور، ثم قال: أيسرُّك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا” [2].
فدل هذا الحديث على وجوب العدل بين الأولاد في العطية، وأنها تحرم الشهادة على تخصيص بعضهم أو تفضيله تحمّلًا وأداءً إن علم ذلك.
ولكن إذا كان أولاده ذكورًا وإناثًا، فكيف يكون التعديل بينهم؟ هل يسوّي بينهم في العطية أو أنه يُعطي الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث؟
اختلف العلماء في ذلك، والراجح -والله تعالى أعلم- أنه يعطي الذكر ضِعف الأُنثى، وبه قال عطاء بن أبي رباح وشريح القاضي وإسحاق بن راهويه، وهذا هو المنصوص عليه من مذهب الحنابلة.
وذلك لأن الله تعالى لما قسم بينهم في الميراث جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا شك أنه لا أعدل من قسمة الله ؛ ولأن العطية في الحقيقة استعجالٌ لما يكون بعد الموت، فينبغي أن تكون على حسب الميراث؛ ولأن الذكر أحوج إلى المال من الأنثى، بدليل أنهما إذا تزوجا جميعًا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد تكون على الذكر، بينما الأنثى يكون لها ذلك، فكان الذكر أولى بالتفضيل لزيادة حاجته.
قال شريحٌ رحمه الله لرجلٍ قسم ماله بين ولده: “ارددهم إلى سهام الله وفرائضه”.
وقال عطاء: “ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله”.
وهل هذا الحكم يشمل الأم أو أنه خاصٌ بالأب؟
نقول: بل يشمل الأم والأب.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “والأم في المنع من المفاضلة بين أولادها كالأب؛ لقول النبي : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم [3]، ولأنها أحد الوالدين أشبهت الأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والتباغض يوجد مثله في تخصيص الأم، فيثبت لها مثل حكمه في ذلك”.
وبناءً على ما سبق فإنه لا يجوز للأب ولا للأم أن يفضّل أحدًا من أولاده في العطية، فإن فعل ذلك فقد أثم ويلزمه التعديل بينهم؛ وذلك إما بالرجوع في الهبة التي فضّل بها ذلك الولد، وإما بإعطاء بقية أولاده مثلما أعطى أخاهم على ما سبق بيانه.
تخصيص الوالد من يعمل معه من أولاده بعطية
ولكن إذا كان أحد أولاده يعمل معه في مؤسسته أو في بستانه ونحو ذلك دون بقية إخوته، فهل يجوز له أن يخصّه بعطية؟
نقول: يعطي هذا الابن الذي يعمل معه بقدر أجرة عمله من غير محاباة، أي: أنه يعامله معاملة الأجنبي في هذا.
تخصيص بعض الأولاد بالعطية لحاجته أو مرضه
والكلام فيما سبق كان في تخصيص الوالد لبعض ولده بالعطية المجرّدة التي يُراد بها المحاباة، أما إن خصّ بعض أولاده لمعنى يقتضي تخصيصه من نفقة أو حاجة أو مرضٍ ونحو ذلك، فهذا لا بأس به، فالنفقة على الأنثى تختلف عن النفقة على الذكر.
والتعديل في هذه الحال هو أن يعطي كلًا منهم بقدر حاجته، وهكذا لو كان أحد أولاده مريضًا ويحتاج لأن يصرف عليه مالًا لعلاجه، فهذا القسم من العطية يكون التعديل فيه بين الأولاد بقدر حاجتهم.
حكم الوصية بعطية لمن لم يُزوج من أولاده
وهاهنا مسألةٌ يحسن التنبيه عليها: وهي أن بعض الناس يزوّج أولاده الذين قد بلغوا سن الزواج، ويكون له أولادٌ صغارٌ لم يبلغوا سن الزواج، فيوصي لهم بعد الموت بمقدار ما أعطى إخوتهم، فهذه الوصية لا تجوز لأن التزويج من باب دفع الحاجات، وهؤلاء لم يبلغوا سن الزواج فلا تجوز هذه الوصية ولا تنفَّذ بعد وفاة الموصي، إلا إذا رضي الورثة بإنفاذها.
وإذا خص الوالد بعض ولده بعطية ثم مات قبل استردادها فهل تثبت تلك العطية للموهوب له؟
اختلف العلماء في ذلك:
- فمنهم من قال: تثبت تلك العطية للموهوب له، وليس لبقية الورثة الرجوع عليه فيها، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
- وذهب بعض أهل العلم إلى أن العطية لا تثبت للموهوب له، ولباقي الورثة أن يرتجعوا ما وهبه له، وهذا هو قول عروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه رحمهما الله تعالى، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وهذا القول الأخير هو الراجح في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-؛ لأن النبي سمّى ذلك جورًا فقال: لا تُشهدني على جور [4]، والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطى تناوله، والموت لا يغيّره عن كونه جورًا حرامًا فيجب رده.
حكم تخصيص بعض الأقارب بالعطية
وهل هذا الحكم -أعني وجوب العدل في العطية- خاصٌ بالأولاد، أو أنه يشمل سائر أقاربه، فمثلًا لو كان لرجلٍ أخوان شقيقان، فهل له أن يخص أحد أخويه بعطية دون الآخر؟
نقول: هذا الحكم وهو وجوب العدل في العطية خاصٌ بالأولاد في قول أكثر أهل العلم، وبناءً على ذلك له أن يخص بعض إخوته بعطية دون بعض؛ لأن النبي قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فخص الأولاد بالذكر، والنبي قد أُعطي جوامع الكلِم، فلو كان التعديل بين سائر الأقارب واجبًا لبيّنه النبي أو أتى بلفظ يشمل الأولاد وغيرهم.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وليس عليه التسوية بين سائر أقاربه، ولا إعطاؤهم على قدر ميراثهم، سواء كانوا من جهة واحدة كإخوة وأخوات وبني عم، أو من جهات كبنات وأخوات وغيرهم؛ لأنها عطية لغير الأولاد في صحّته فلم تجب عليه التسوية؛ ولأن الأصل إباحة الإنسان التصرُّف في ماله كيف شاء.
وإنما وجبت التسوية بين الأولاد للخبر -يريد حديث النعمان بن بشير السابق ذكره- وليس غيرهم في معناهم؛ لأنهم استووا في وجوب بر والدهم فاستووا في عطيته؛ وبهذا علّل النبي حين قال لبشير: أيسرك أن يستووا في برّك؟ قال: نعم، قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، ولم يوجد هذا في غيرهم.
ولأن الأولاد لشدة محبة الوالد لهم وصرفه ماله إليهم عادة؛ يتنافسون في ذلك، ويشتد عليهم تفضيل بعضهم على بعض، ولا يساويهم في ذلك غيرهم فلا يصح قياسه عليهم”.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.