عناصر المادة
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدِّين.
نتحدث معكم في هذه الحلقة عن أحكام تصرفات المريض المالية.
أحكام تصرفات المريض المالية
حالة الصحة تختلف عن حالة المرض من حيث نفوذ تصرفات الإنسان في ماله، وذلك أن الإنسان في حال الصحة حُرٌّ في ماله له أن يتصرف فيه بما شاء في حدود الشرع والرشد من غير استدراك عليه، فله أن يتبرع من ماله بما شاء، وله أن يتصدق بما شاء، وله أن يوقف منه ما شاء، بل حتى لو أوقف جميع ماله صح ذلك ما دام صحيحًا رشيدًا.
الصدقة في حال الصحة
والصدقة في حال الصحة أفضل من الصدقة في حال المرض وأعظم أجرًا، قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح؛ تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلتَ: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان [1].
قال بعض أهل العلم: إنما كانت الصدقة في حال الصحة أفضل منها في حال المرض؛ لأن الشح يكون غالبًا في حال الصحة، فمجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام هذا المانع وهو الشح يدل على صحة القصد وعلى صدق النية وقوة الرغبة في التقرب إلى الله بذلك المال، بخلاف حال المرض فإن الإنسان يزهد معه في الدنيا، ويرى أن مصير المال الذي بيده سينتقل إلى غيره.
أقسام المرض وأحكام تصرفات المريض المالية فيها
وأما تصرفات الإنسان المالية في حال المرض، فإن المرض ينقسم إلى قسمين:
- الأول: مرض لا يخاف منه الموت في العادة، كالزكام والصداع اليسير ووجع العين والسن ونحو ذلك، فهذا القسم يكون تصرف المريض فيه لازمًا كتصرف الصحيح، وتصح عطيته من جميع ماله، حتى لو اشتد به المرض وتطور إلى مرض مخوف ومات منه اعتبارًا بحاله حال العطية؛ لأنه في حال العطية في حكم الصحيح.
- الثاني: مرض مخوف، أي: يتوقع منه الموت عادة، كمرض السرطان مثلًا، فإن تبرعات المريض في هذه الحال وعطاياه تنفذ من ثلث المال لا من رأس المال، فإن كانت في حدود الثلث فأقل نفذت، وإن كانت أكثر من ذلك فإنها لا تنفذ إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، ويدل لذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: إنَّ الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم [2]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام: “رواه الدارقطني، وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء، وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، وكلها ضعيفة ، لكن قد يقوي بعضها بعضًا”.
وهذا الحديث وما ورد في معناه يدل على الإذن بالتصرف في ثلث المال عند الوفاة؛ لأنه في حال المرض المخوف يغلب موته به، فكانت عطيته من رأس المال تجحف بالورثة، فرُدت إلى الثلث كالوصية.
وتصرفات المريض المرض المخوف لا تنفذ فيما زاد عن الثلث، يدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عمران بن حصين : “أن رجلًا أعتق ستة أعبد له في مرضه، لا مال له غيرهم، فدعاهم النبي فجزأهم أثلاثًا ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعًا، وقال له قولًا شديدًا”.
فإذا لم ينفذ العتق مع قوة سرايته فغيره من باب أولى.
ما له حكم المرض المخوف في التصرفات المالية
وفي معنى المرض المخوف حالة الخطر كمن وقع الوباء في بلده أو كان بين الصفين في المعركة أو كان في لجة البحر عند هيجانه أو قُدِّم؛ ليُقتل قصاصًا أو غيره فإنه لا ينفذ تبرعه في هذه الحال فيما زاد على الثلث إلا بإجازة الورثة بعد الموت، ولا يصح تبرعه في هذه الحال لأحد ورثته بشيء إلا بإجازة الورثة إن مات في هذه الحال.
فإن عُوفي من المرض المخوف وما كان في معناه نفذت عطاياه كلها لعدم المانع.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وكذلك الحامل عند المخاض، أي أنه لا تنفذ عطيتها إلا في الثلث فما دون، لأنه يحصل لها ألم شديد يخاف منه التلف، أشبهت سائر أصحاب الأمراض المخوفة، وما قبل المخاض لا يكون مخوفًا”.
حكم من طلق زوجته في مرض الموت
ومن طلَّق زوجته في مرض الموت المخوف طلاقًا بائنًا بقصد حرمانها من الميراث فإنها ترثه مطلقًا سواء توفي وهي في العدة أو بعدها، ما لم تتزوج بآخر أو ترتد معاملة له بنقيض قصده، وهذا هو المشهور عن الصحابة ، فقد أخرج البيهقي في السُّنن الكبرى، وابن سعد في الطبقات؛ بسند صحيح: “أن عثمان بن عفان ورَّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف وكان قد طلَّقها في مرضه فبتَّها”، وقد اشتهر ذلك في الصحابة فلم يُنكر، فكان إجماعًا.
ولأن المُطلِّق في هذه الحال قد قصد قصدًا فاسدًا في الميراث فعومل بنقيض قصده كالقاتل القاصد استعجال الميراث يُعاقب بحرمانه.
حكم العطية في مرض الموت
العطية في مرض الموت وإن كانت تأخذ حكم الوصية في كونها لا تكون في أكثر من الثلث ولا تصح للوارث إلا بإجازة الورثة إلا أنها تفارق الوصية في أمور، ومنها:
- أولًا: أن المُعطي لا يملك الرجوع في العطية بعد قبضها، بخلاف الوصية فإن الموصي يملك الرجوع فيها؛ لأنها لا تلزم إلا بالموت.
- ثانيًا: أن الوصية يسوى فيها بين المتقدم والمتأخر؛ لأنها تبرع بعد الموت يوجد دفعة واحدة، بخلاف العطية فإنه يُبدأ بالأول فالأول فيها؛ لأنها تقع لازمة في حق المعطي.
- ثالثًا: أن العطية يعتبر القبول لها عند وجودها ويثبت الملك فيها عند قبولها، بخلاف الوصية فإنها تمليك بعد الموت، فلا حكم لقبولها قبل الموت ولا يثبت فيها ملك قبل الموت.
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة؛ ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.