الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة؛ والتي سنبتدئ الحديث فيها عن أحكام الجنائز.
ويتحدث الفقهاء في أول هذا الباب عن الأحكام المتعلقة بالمريض وعيادته، ولهذا فسنخصص هذه الحلقة للحديث عن هذا الموضوع.
نعمة الصحة والعافية
فأقول وبالله التوفيق: إن نعمة الصحة والعافية من أعظم نعم الله تعالى على العبد، بل إنها أعظم من نعمة المال مهما بلغ، ويدل لذلك أن الإنسان إذا أصابه مرضٌ ينفق ويبذل الكثير من ماله طلبًا للعافية، بل لا يسأل مهما بلغت النفقة، ولهذا قال النبي : نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ [1]، أخرجه البخاري في صحيحه.
ولهذا كان النبي يسأل الله تعالى العافية، ويستعيذ بالله من سيئ الأسقام، ففي سنن أبي داود بسندٍ صحيح عن أنس أَنَّ النَّبِيَّ كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام، وسيئ الأسقام [2].
فضل الصبر على البلاء
ومن هنا يتبين خطأ بعض الناس الذين يسألون الله تعالى العذاب في الدنيا قبل الآخرة، فيقول أحدهم: يا الله عذاب الدنيا ولا عذاب الآخرة، فهذا قد ورد النهي عنه؛ كما جاء في صحيح مسلم عن أنس : “أن رسول الله عاد رجلًا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله : هل كنت تدعو الله بشيءٍ أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّل لي في الدنيا، فقال رسول الله : سبحان الله! لا تطيقه -أو لا تستطيعه- أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله فشفاه” [3].
ومن هنا فينبغي للمسلم تجنُّب هذه الألفاظ وهذه الأدعية لنهي النبي عن ذلك.
ثم إن الإنسان قد لا يحتمل عذاب الدنيا وقد يُفتن في دينه، ولهذا قال العلماء: يُكره للإنسان تمني البلاء من لقاء العدو أو المرض أو غيره، فإنه قد يُبتلى بشيءٍ من ذلك فيُفتن في دينه، يقول النبي : لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا [4].
وإذا ابتُلي الإنسان بشيء من الأمراض فعليه أن يصبر وأن يستحضر ما ورد في ذلك من تكفير السيئات ورفعة الدرجات، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه [5].
وهذا الحديث فيه بُشرى للمسلم، فإذا كانت الشوكة يشاكها بل الهم يهم المسلم أو الغم يكفّر الله تعالى به من خطاياه؛ فكيف بالأسقام والأمراض المؤلمة في أثرها البدني وفي أثرها النفسي؟!
وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن مسعود قال: “دخلت على رسول الله وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا؟ قال: أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها” [6].
ولهذا فإن من حكمة الله تعالى أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفّرٌ لسيئاته ورافعٌ لدرجاته؛ كما قال الله : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
وعن سعد بن أبي وقاص قال: “قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة” [7]، أخرجه الترمذي وصححه، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: من يرد الله به خيرًا يصب منه، وفي الصحيحين عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله : مَثَلُ المؤمن كمثَل الخامة من الزرع -أيْ الطاقة الطريّة الليّنة- تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله، ومَثَلُ المنافق مثَل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيءٌ حتى يكون انجعافها مرة واحدة [8]، والأرزة: شجرٌ شبيهٌ بالصنوبر.
ومعنى الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وأما الكافر أو المنافق فقليلها، وإن وقع به شيءٌ لم يكفِّر شيئًا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة.
فضل عيادة المريض
تُشرع عيادة المريض وهي مستحبة استحبابًا مؤكدًا، وهي من حق المسلم على المسلم، وقد نقل النووي رحمه الله الإجماع على عدم وجوبها، ولكن حكاية الإجماع هذه منتقضة بأن من أهل العلم من قال بوجوبها، وقد بوّب البخاري في صحيحه بقوله: “باب وجوب عيادة المريض”، ثم ساق بسنده عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني [9]، ثم ساق بسنده عن البراء بن عازب قال: “أمرنا رسول الله بسبع -وذكر منها- وأمرنا أن نتبع الجنائز، ونعود المريض، ونفشي السلام” [10].
وقال بعض أهل العلم: عيادة المريض في الأصل مستحبةٌ، ولكنها قد تجب على الإنسان إذا كان المريض له حقٌ متأكِّد كوالديه، ومن تجب صلته من ذوي الأرحام، ولعل هذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
وقد ورد في فضل عيادة المريض عدة أحاديث عن النبي ، ومنها ما جاء في صحيح مسلم عن ثوبان أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال: جناها [11]، وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إن الله يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، فيقول: يا ربِّ! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده [12].
آداب عيادة المريض
وينبغي لمن عاد مريضًا أن يتأدب بآداب عيادة المريض، ومن ذلك: اختيار الوقت المناسب، وألا يطيل الجلوس عنده، وأن يذكّره بما يحتاج إليه من أمور دينه.
وقد جاء في صحيح البخاري عن أنس قال: “كان غلامٌ يهودي يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم فخرج النبي وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار [13]، وقد دل هذا الحديث على أنه لا بأس بعيادة الكافر، وقد بوّب البخاري في صحيحه على هذا الحديث بقوله: “باب عيادة المشرك، ولكن ينبغي لمن عاد كافرًا أن يدعوه إلى الإسلام وأن يرغّبه فيه”.
وينبغي لمن عاد مريضًا أن يدعو له، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ كَان يعود بعض أهله يمسح بيده اليمنى، ويقول: اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقمًا [14]، وقد بوّب البخاري في صحيحه على هذا الحديث بقوله: “باب دعاء العائد للمريض”.
وينبغي للمريض أن يؤمِّن على دعاء من دعا له، وأن يتلقى موعظته بالقبول؛ فإنه ربما تكلَّم المريض بكلامٍ غير لائقٍ من التضجُّر والتسخُّطِ والبلاء موكّلٌ بالمنطق، فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: “أَنَّ النَّبِيَّ دخل على أعرابي يعوده، فقال له: لا بأس طهورٌ إن شاء الله، فقال الأعرابي: كلا، بل هي حُمى تفور على شيخٍ كبير تزيره القبور، فقال النبي : فنعم إذن” [15]، وجاء في رواية أخرى عند البخاري: “أن الأعرابي أصبح ميّتًا”.
أسأل الله تعالى أن يوفّقنا لحسن القول والعمل، وأن ييسرنا لليسرى، وأن يجنّبنا العسرى.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 6412. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1554. |
^3 | رواه مسلم: 2688. |
^4 | رواه البخاري: 7237، ومسلم: 1742. |
^5 | رواه البخاري: 5641، ومسلم: 2573. |
^6 | رواه البخاري: 5648. |
^7 | رواه الترمذي: 2398، وابن ماجه: 4023. |
^8 | رواه البخاري: 5644، ومسلم: 2809. |
^9 | رواه البخاري: 5373. |
^10 | رواه البخاري: 5650. |
^11 | رواه مسلم: 2568. |
^12 | رواه مسلم: 2569. |
^13 | رواه البخاري: 1356. |
^14 | رواه البخاري: 5743. |
^15 | رواه البخاري: 3616. |