عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تتمة أحكام صلاة الاستسقاء
لا يزال الحديث موصولاً عن أحكام صلاة الاستسقاء، وسبق أن تكلمنا عما يُسن قبل الخروج لصلاة الاستسقاء، ونستكمل الحديث في هذه الحلقة عن بقية أحكام صلاة الاستسقاء.
وقت صلاة الاستسقاء
فأقول وبالله التوفيق: السنة: أن تؤدَّى صلاة الاستسقاء بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رمحٍ، أي: بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ تقريبًا؛ لأن هذا هو هدي النبي ، فقد أخرج أبو داود في “سننه” بسندٍ جيدٍ عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي خرج للاستسقاء حين بدا حاجب الشمس [1].
قال الموفق بن قدامة رحمه الله: ليس لصلاة الاستسقاء وقتٌ معينٌ، إلا أنها لا تُفعل في وقت النهي بغير خلافٍ؛ لأن وقتها متسِعٌ فلا يُخاف فواتها، والأولى فعلها في وقت صلاة العيد [2].
حكم الأذان والإقامة لها
ولا يُسنُّ لها أذانٌ ولا إقامةٌ باتفاق العلماء، إلا أن بعض الفقهاء استحب أن يُنادَى لها بــ”الصلاة جامعة”، كصلاة الكسوف، والصحيح: أن هذا غير مشروعٍ؛ لأنه خلاف هدي النبي ، والأصل في العبادات التوقيف، ولم يُنقل عن النبي أنه أمر بالنداء لصلاة الاستسقاء بــ”الصلاة جامعة”، ولا بغيره، وإلحاق صلاة الاستسقاء بصلاة الكسوف لا يصح؛ لأن صلاة الكسوف تأتي بغتةً وعلى غير تأهبٍ، بخلاف صلاة الاستسقاء، فإن الإمام يحدد للناس يومًا يتأهبون للخروج فيه.
والسنة: فعلها في المصلى في الصحراء قريباً من البنيان، وألا تؤدَّى في المساجد إلا عند الحاجة؛ لأن هذا هو هدي النبي [3].
صفة صلاة الاستسقاء
وصفتها كصفة صلاة العيد: يكبِّر في الأولى ستًّا بعد تكبيرة الإحرام، ويكبر في الثانية خمسًا بعد تكبيرة الانتقال، ويجهر بالقراءة في الركعتين.
وهل يقدِّم الصلاة على الخطبة، أو الخطبة على الصلاة؟
هذا موضع خلافٍ بين أهل العلم، فذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الخطبة تكون بعد الصلاة، قال الحافظ ابن عبدالبر: وعليه جماعة الفقهاء.
وذهب مالكٌ وأحمد -في روايةٍ ثانيةٍ عنهما- إلى أن الخطبة تكون قبل الصلاة، وقد وردت أحاديث صحيحةٌ عن النبي تدل على أنه خطب ثم صلى، وأحاديث أخرى ثابتةٌ تدل على أنه صلى ثم خطب، وإن كانت الأحاديث التي تدل على أنه خطب ثم صلى، هي أثبت وأصح؛ ولهذا فقد رواها الشيخان: البخاري ومسلمٌ في “صحيحيهما”، إلا أنه قد ثبت بأسانيد حسنةٍ أن النبي صلى ثم خطب؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الأمرين، وأن الإمام يُخيَّر بين أن يقدِّم الخطبة أو الصلاة، ولعل هذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، اختارها ابن أبي موسى والمجد ابن تيمية من الحنابلة، وقد اختار هذا القول كذلك سماحة شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ، رحمة الله تعالى على الجميع، وقال رحمه الله: يُجمَع بين الأحاديث الواردة بجواز الأمرين، أي: بجواز الخطبة قبل الصلاة، أو الصلاة قبل الخطبة.
والسنة: أن تكون الخطبة واحدةً، ويُكثِر فيها من الاستغفار.
قال الموفق بن قدامة رحمه الله: يُستحب أن يكثر في خطبته من الاستغفار، والصلاة على النبي ، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار؛ كقول الله تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [هود:52]، وكقوله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:10-11]، ولأن الاستغفار سببٌ لنزول الغيث -بدليل الآية السابقة- والمعاصي سببٌ لانقطاع الغيث، والاستغفار والتوبة يمحوان المعاصي.
فقد رَوى البيهقي عن عمر أنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار، وقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء.
ويُكثر من الدعاء رافعًا يديه، قال البخاري في “صحيحه”: باب رفع الإمام يده في الاستسقاء، ثم ساق بسنده عن أنس بن مالكٍ قال: “كان النبي لا يرفع يديه في شيءٍ من دعائه إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه” [4].
وفي “صحيح مسلمٍ” عن عباد بن تميمٍ المازني، أنه سمع عمه -وكان من أصحاب رسول الله – يقول: “خرج رسول الله يومًا يستسقي، فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله تعالى، واستقبل القبلة، وحوَّل رداءه، ثم صلى ركعتين” [5].
أيها الإخوة المستمعون، وصلاة الاستسقاء وإن كانت كصلاة العيد في أكثر الأحكام، إلا أنها تخالفها في أمورٍ:
- الأول: أنه يخطب في العيد خطبتين على قول الجمهور، وأما في صلاة الاستسقاء فيُخطب لها خطبةٌ واحدةٌ.
- الثاني: أنه في صلاة الاستسقاء تجوز الخطبة قبل الصلاة وبعدها، وأما في صلاة العيد فتكون الخطبة بعد الصلاة.
- الثالث: أنه في خطبة العيد تُبيَّن أحكام صلاة العيد، بينما في الاستسقاء يُكثِر من الاستغفار والدعاء بنزول الغيث.
وقت تحويل الرداء
والسنة إذا أراد أن يدعو في الخطبة أن يحوِّل رداءه، قال البخاري في “صحيحه”: باب تحويل الرداء في الاستسقاء، ثم ساق بسنده عن عبدالله بن زيدٍ ، أن النبي استسقى فقلب رداءه [6].
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “المعنى: قلب رداءه في أثناء الاستسقاء، قد بيَّنه مالكٌ في روايته ولفظه: “وحوَّل رداءه حين استقبل القبلة” [7]، ولمسلمٍ: أنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوَّل رداءه” [8].
قال الحافظ ابن حجرٍ: “فعُرِف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء”.
صفة تحويل الرداء
وصفة التحويل: أن يجعل ما على الأيمن على الأيسر، وعكسه.
قال النووي رحمه الله: “والتحويل شُرع تفاؤلًا بتغيُّر الحال من القحط إلى نزول الغيث والخِصْب، ومن ضيق الحال إلى سعته.
هل تحويل الرداء خاصٌّ بالإمام؟
يرى بعض العلماء أن التحويل خاصٌ بالإمام فقط، ولكن ذهب جمهور العلماء إلى استحباب تحويل الناس كذلك.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “قال الليث وأبو يوسف: يُحوِّل الإمام وحده، واستحب الجمهور أيضًا أن يحوِّل الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريقٍ أخرى عن عبَّادٍ بلفظ: وحوَّل الناس معه [9]”.
وهل تُحوِّل المرأة عباءتها في صلاة الاستسقاء؟
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله: “إذا كانت المرأة تتكشف عند تحويلها للرداء في صلاة الاستسقاء والرجال ينظرون إليها، فإنها لا تفعل؛ لأن قلب الرداء سنةٌ، والتكشُّف أمام الرجال فتنةٌ ومحرَّمٌ، وأما إذا كانت لا تتكشف، فالظاهر: أن حكمها حكم الرجل؛ لأن هذا هو الأصل، وهو تَساوي الرجال والنساء في الأحكام، إلا ما دل الدليل على الاختلاف بينهما فيه”.
حكم الصلاة إذا سُقوا قبل خروجهم
ومن أحكام صلاة الاستسقاء: أنهم إذا سُقوا قبل خروجهم من صلاة الاستسقاء لم تُشرع في حقهم صلاة الاستسقاء، ولا حاجة للخروج حينئذٍ.
قال الموفق بن قدامة رحمه الله: فإن تأهبوا فسُقوا قبل خروجهم لم يخرجوا، وشكروا الله تعالى وحمدوه على نعمته، وسألوه المزيد من فضله، وإذا زادت المياه فخيف منها استُحِب أن يقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظِّرَاب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر.
والسنة عند نزول المطر: أن يَحسِر ثوبه حتى يصيبه المطر، ففي “صحيح مسلمٍ” عن أنسٍ قال: “أصابنا ونحن مع رسول الله مطرٌ قال: فحسر رسول الله ثوبه حتى أصابه المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهدٍ بربه [10].
وفي “صحيح البخاري” عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي كان إذا رأى مطرًا قال: اللهم صيِّبًا نافعًا [11].
اللهم أغث بلاد المسلمين بالغيث النافع المبارك، وأغث قلوبنا بالتقوى والإيمان.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية