إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الجنائز، وقد ذكرنا في حلقة سابقة أن الفقهاء يتكلمون عن أحكام التداوي في أول هذا الباب، وتكلمنا عن جملة من أحكام التداوي في حلقة سابقة، ونستكمل الحديث عنها في هذه الحلقة.
حكم التداوي بالمحرمات
فأقول وبالله التوفيق: لا يجوز التداوي بالمحرَّم كالخمر والخنزير، والدم المسفوح، ونحو ذلك، ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم [1]، وقد أورده البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم، وجاء مرفوعًا إلى النبي من حديث أم سلمة بلفظ: إن الله لم يجعل في حرامٍ شفاءً أخرجه أحمد.
وعن أبي الدرداء أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: إن الله خلق الداء والدواء؛ فتداووا ولا تتداووا بحرام [2]، قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد سئل عن التداوي بالخمر ولحم الخنزير غير ذلك من المحرّمات، هل يباح للضرورة أم لا؟
فأجاب: “لا يجوز التداوي بذلك، بل قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه سئل عن الخمر يتداوى بها، فقال: إنها داءٌ وليست بدواء [3]، وفي السنن عنه أنه نهى عن الدواء بالخبيث، وقال: إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها [4]، وليس ذلك بضرورة فإنه لا يتيقن الشفاء بها كما يتيقن الشبع باللحم المحرّم، ولأن الشفاء لا يتعين له طريق، بل يحصل بأنواع من الأدوية وبغير ذلك، بخلاف المخمصة فإنها لا تزول إلا بالأكل..
قال رحمه الله: وأما قول من قال من الأطباء: إنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعيَّن -يعني وهو أمرٌ محرَّم- فهذا قول جاهل لا يقوله من يعلم الطب أصلًا فضلًا عمّن يعرف الله ورسوله؛ فإن الشفاء ليس في سبب معين يوجبه في العادة، كما للشبع سببٌ معين يوجبه في العادة، إذ من الناس من يشفيه الله تعالى بلا دواء، ومنهم من يشفيه الله بالأدوية الجثمانية حلالها وحرامها، وقد يُستعمل الدواء فلا يحصل الشفاء لفوات شرطٍ أو لوجود مانع، وهذا بخلاف الأكل فإنه سببٌ للشبع، ولهذا أباح الله تعالى للمضطر الخبائث أن يأكلها عند الاضطرار إليها في المخمصة؛ فإن الجوع يزول بها ولا يزول بغيرها، بل يموت أو يمرض من الجوع، فلما تعيّنت طريقًا إلى المقصود أباحها الله تعالى بخلاف الأدوية الخبيثة.
بل قد قيل: من استشفى بالأدوية الخبيثة كان دليلًا على مرضٍ في قلبه، وذلك في إيمانه، فإنه لو كان من أمة محمد المؤمنين لما جعل الله شفاءه فيما حرّم الله عليه، ولهذا إذا اضطُرَّ إلى الميتة ونحوها وجب عليه الأكل في المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة، وأما التداوي فلا يجب عليه عند أكثر العلماء إلا التداوي بالحلال، وتنازعوا: هل الأفضل فعله أو تركه على طريق التوكل؟…” إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
أسباب كون المحرمات لا يعالج بها
قال ابن القيم رحمه الله: “المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلًا وشرعًا، أمَّا الشرعُ.. -فقد ذكر جملة من الأحاديث السابق ذكرها-، وأمَّا العقلُ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما حرَّمه لخُبثه، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيبًا عقوبةً لها، كما حرَّمه على بني إسرائيلَ بقوله: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم لخبثه، وتحريمُه له حِميةً لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ من الأسقام والعِلل، فإنه وإن أثَّر في إزالتها، لكنه يُعْقِبُ سَقَمًا أعظمَ منه في القلب بقوّة الخُبث الذي فيه، فيكون المُدَاوَى به قد سعى في إزالة سُقْم البدن بسُقْم القلب.
وأيضًا فإنَّ تحريمه يقتضي تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ طريق، وفي اتخاذه دواء حثٌ على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع، وأيضًا فإنه داء كما نصَّ عليه صاحبُ الشريعة، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً.
وأيضًا فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخُبْث؛ لأن الطبيعة تنفعِلُ عن كيفية الدواء انفعالًا بَيِّنًا، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثًا، فكيف إذا كان خبيثًا في ذاته، ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذيةَ والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث وصفته.
وأيضًا فإنَّ في إباحة التداوي به، ولا سِيَّما إذا كانت النفوسُ تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللَّذة، لا سِيَّما إذا عرفت النفوسُ أنه نافعٌ لها مزيلٌ لأسقامِها جالبٌ لِشفائها، فهذا أحبُّ شيءٍ إليها، والشارعُ سدَّ الذريعة إلى تناوله بكُلِّ ممكن، ولا ريبَ أنَّ بينَ سدِّ الذريعة إلى تناوله، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضًا وتعارضًا.
وأيضًا فإنَّ في هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ على ما يُظَنُّ فيه من الشِّفاء، قال: ولنفرضْ الكلام في أُمِّ الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاءً قَطُّ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ.
ثم نقل عن بعض الأطباء الكلام حول ضرر الخمر، وأنهم قالوا: إن ضرر الخمرة بالرأس شديد؛ لأنه يُسرع الارتفاع إليه، ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن، وهو كذلك يضر بالذهن.
وأما غيره من الأدوية المحرَّمة فنوعان:
- أحدهما: تعافه النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به، كالسموم ولحوم الأفاعي وغيرها من المستقذرات، فيبقى كلًّا على الطبيعة مُثْقلًا لها فيصير حينئذ داءً لا دواءً.
- والنوع الثاني: ما لا تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلًا، فهذا ضرره أكثر من نفعه، والعقل يقضي بتحريم ذلك، فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك”.
ويظهر أن ابن القيم كان يقصد شرابًا كان موجودًا في زمانه تستعمله الحوامل، ولكنه يشتمل على شيءٍ محرَّم، فهو يتحدث عن أمرٍ موجود في زمنه.
ثم قال رحمه الله: “وهاهنا سرٌ لطيف في كون المحرمات لا يُستشفى بها؛ فإن شرط الشفاء بالدواء تلقّيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء وأبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي يُنتفع به حيث حلّ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حسن ظنه بها وتلقي طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيمانًا؛ كان أكره لها وأسوأ اعتقادًا فيها، وطبعه أكره شيءٍ لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داءً له لا دواء، إلا أن يزول اعتقاده الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء”.
الخلاصة
وبهذا يتبين أيها الإخوة المستمعون أنه لا يجوز التداوي بالمحرّمات بأيِّ حالٍ من الأحوال، ولكن إذا كان القدر المحرَّم ضئيلًا أو مستهلكًا وخالط شيئًا مباحًا في أصله بحيث لم يبق لهذا القدر المحرّمِ أثرٌ من لون أو طعم أو رائحة، فهل يؤثِّر في الحرمة على ذلك الشيء المباح في أصله أو لا يؤثر، وذلك كبعض أنواع الأدوية المشتملة على نسبة ضئيلة من الكحول، وبعض أنواع العصائر والأطعمة المشتملة على نسبة ضئيلة من بعض المحرمات؟
الجواب عن هذا السؤال هو موضوع حديثنا في الحلقة القادمة.
فإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.