logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(155) أحكام التداوي من الأمراض

(155) أحكام التداوي من الأمراض

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كنا قد بدأنا في الحلقة السابقة في الحديث عن أحكام الجنائز، وتكلمنا عن أبرز الأحكام المتعلقة بالمريض وعيادته، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن أحكام التداوي من الأمراض.

حكم التداوي من الأمراض

فأقول مستعينًا بالله تعالى: اتفق العلماء على أصل جواز التداوي، وجمهور أهل العلم على عدم وجوبه، وقد وردت عدة أحاديث تدل على مشروعيته، ومنها ما جاء في “صحيح البخاري” عن أبي هريرة أن النبي قال: ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً [1]، وفي سنن أبي داود عن أبي الدرداء أن النبي قال: إن الله جعل لكل داءٍ دواءً، فتَدَاوَوا، ولا تداوَوا بحرامٍ [2].

وعن أسامة بن شَرِيكٍ قال: كنت عند النبي ، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم -يا عباد الله- تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً، غير داءٍ واحدٍ قالوا: ما هو؟ قال: الهَرَم [3].

قال ابن القيم رحمه الله: “وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسبِّبات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله: لكل داءٍ دواءٌ، أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيبٍ أن يُبرئها، ويكون الله قد جعل لها أدويةً تُبرئها، لكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله؛ ولهذا علَّق النبي الشفاء على مصادفة الدواء للداء؛ فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضدٌّ، وكل داءٍ له ضدٌّ من الدواء يعالج بضده؛ فعلَّق النبي البُرءَ بموافقة الداء للدواء”.

قال رحمه الله: “ومَن تأمَّل خلْقَ الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعضٍ، ودفْعَ بعضها ببعضٍ، وتسليط بعضها على بعضٍ؛ تبيَّن له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته، وإتقانه ما صنعه، وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر، وأن كل ما سواه فله ما يضادُّه ويمانعه، كما أنه جل وعلا هو الغنى بذاته، وكل ما سواه محتاجٌ بذاته”.

هل التداوي ينافي التوكل

وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضَياتٍ لمسبِّباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويُضعِفه من حيث يظن مُعطِّلُها أن تركها أقوى في التوكل؛ فإنَّ تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، وفي دفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب؛ وإلا كان معطِّلًا للحكمة والشرع؛ فلا يَجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا.

وفيها ردٌّ على من أنكر التداوي، وقال: إن كان الشفاء قد قُدِّر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قُدِّر فكذلك، وأيضًا فإن المرض حصل بقدر الله، وقدَرُ الله لا يُدفع ولا يرد.

قال ابن القيم رحمه الله: وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله ، كما جاء في مسند الإمام أحمد وفي السنن، عن أبي خِزَامة قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت رقًى نسترقيها، ودواءً نتداوى به، وتُقَاةً نتقيها، هل تَردُّ من قدر الله شيئًا؟ فقال: هي من قدر الله [4].

قال ابن القيم رحمه الله: “وأما أفاضل الصحابة  فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يُورِدوا مثل هذا، وقد أجابهم النبيُّ بما شفى وكفى، فقال: هذه الأدوية والرُّقى هي من قدر الله، فما خرج شيءٌ عن قدره، بل يُرَدُّ قدره بقدره، وهذا الرد من قدره؛ فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجهٍ ما، وهذا كرد قَدَر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها”.

قال رحمه الله: “وفي قوله : لكل داءٍ دواءٌ [5]، تقويةٌ لنفس المريض والطبيب، وحثٌّ على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه؛ فإن المريض إذا استشعرت نفسُه أن لدائه دواءً يُزيله؛ تعلَّق قلبه بروح الرجاء، وبردت عنده حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسُه؛ انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويتْ هذه الأرواح؛ قويت القُوَى التي هي حاملةٌ لها، فقهرت المرض ودفعته، وكذلك الطبيبُ إذا علم أن لهذا الداء دواءً؛ أمكنه طلبُه والتفتيش عليه”.

قال: “وأمراضُ الأبدان على وِزَانِ أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاءً بضده، فإنْ علمه صاحبُ الداء واستعمله وصادف داءَ قلبه؛ أبرأه بإذن الله تعالى”.

خلاف العلماء في حُكم التداوي

أيها الإخوة المستمعون، قد اختلف العلماء في حكم التداوي؛ فالجمهور على أنه مباحٌ، إلا أن بعضهم قال: الأولى تركه، وقال بعضهم باستحبابه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “والتحقيق: أن منه ما هو محرمٌ، ومنه ما هو مكروهٌ، ومنه ما هو مباحٌ، ومنه ما هو مستحبٌّ، وقد يكون منه ما هو واجبٌ، وهو ما يُعلم أنه يَحصل به بقاء النفس لا بغيره؛ كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجبٌ عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروقٌ: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات؛ دخل النار.

فقد يحصل أحيانًا للإنسان إذا استحرَّ المرض ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة؛ كالتغذية للضعيف، وكاستخراج الدم أحيانًا، فهذه الحالة هي التي يجب فيها التداوي، وإلا فإن الأصل في التداوي أنه مباحٌ”.

أيها الإخوة المستمعون، وننبه هنا إلى أن كل ما قاله النبي -فيما يتعلق بالطب أو غيره- حقٌّ مقطوعٌ بصحته، ويجب على المسلم اعتقاد ذلك؛ لأن ما يقوله النبي وحْيٌ من الله تبارك وتعالى؛ كما قال الله : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

قال ابن القيم رحمه الله: “وليس طِبُّه كطب الأطباء؛ فإن طب النبي متيقَّنٌ قطعيٌّ إلهيٌّ، صادرٌ عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطبُّ غيره أكثره حَدْسٌ وظنونٌ وتجارب، ولا يُنكَر عدم انتفاع كثيرٍ من المرضى بطب النبوة؛ فإنه إنما ينتفع به من تلقَّاه بالقبول واعتقاد الشفاء به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان”.

ولابن القيم رحمه الله مصنَّفٌ لطيفٌ في الطب النبوي أجاد فيه وأفاد، رحمنا الله تعالى وإياه وجميع المسلمين.

وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 5678.
^2 رواه أبو داود: 3874.
^3 رواه أبو داود: 3855، والترمذي: 2038، وابن ماجه: 3436، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
^4 رواه الترمذي: 2065، وابن ماجه: 3437، وأحمد: 15472.
^5 رواه مسلم: 2204.
مواد ذات صلة
zh