الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي سأبتدئ الحديث فيها عن أحكام صلاة الاستسقاء، فأقول وبالله التوفيق:
“الاستسقاء” استفعالٌ من “سقى”، وهو طلب السقيا، والمراد بها هنا: طلب السقيا من الله تعالى بنزول الغيث.
حكم صلاة الاستسقاء
صلاة الاستسقاء عند الحاجة إليها سنة مؤكدة؛ لأن النبي فعلها، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده.
قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله: “أجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء والبروز والاجتماع إلى الله خارج المصر، بالدعاء والضراعة إلى الله تبارك اسمه في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء والقحط، سنةٌ مسنونةٌ سنّها رسول الله ، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك”.
وسنيّة صلاة الاستسقاء إنما هو عند وجود القحط، وأما عند عدم وجود القحط وإنما المراد طلب الاستزادة من مياه الأمطار فإنها تكون غير مشروعة على الصفة الواردة؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، والنبي إنما استسقى عند وجود القحط، وبهذا يُعلم أنه ليس من السنة أن يستسقي خطيب الجمعة في كل خطبة، وإنما يستسقي عند وجود القحط وجدب الأرض.
حكم الاستسقاء للغير
وهل يصح الاستسقاء لغيره من المسلمين، وذلك بأن يكون البلد الذي هو فيه ليس فيه جدبٌ ولا قحطٌ لكن يستسقي لغيره من بلاد المسلمين؟
أجاز ذلك بعض الفقهاء، قال المرداوي رحمه الله في “الإنصاف”: “اعلم أنه إذا احتبس القطر عند قومٍ صلوا بلا نزاع، وإن احتبس عند آخرين فالصحيح من المذهب، يعني مذهب الحنابلة: أنه يصلي لهم غير من لم يُحبس عنهم”.
قال في “الرعايتين”: “إن استسقى مخصبٌ لمجدبٍ جاز”.
وقال المجد ابن تيمية رحمه الله في شرحه: “يُستحب ذلك”.
أوجه الاستسقاء الواردة عن النبي
وقد ورد الاستسقاء عن النبي على أوجهٍ متعددة.
قال ابن القيم رحمه الله: “ثبت عن النبي أنه استسقى على وجوه:
- أحدها: يوم الجمعة على المنبر، فقد جاء في الصحيحين عن أنس : “أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله قائمٌ يخطب، فاستقبل رسول الله قائمًا ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السُبُل، وقحط المطر، واحمرّ الشجر، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله يديه، ثم قال: اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا قال أنس رضي الله عنه: ولا والله ما نرى في السماء من سحابٍ ولا قزعة -والقزعة هي القطعة من السحاب-، وما بيننا وبين السلع -وهو جبلٌ بقرب المدينة- من بيتٍ ولا دار، فطلعت من ورائه سحابةٌ مثل التُرس، فلما توسّطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا -أيْ سبعة أيامٍ متوالية- قال: ثم دخل رجلٌ من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله قائمٌ يخطب، فاستقبله قائمًا فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبُل، فادع الله يمسكها عنّا، قال: فرفع رسول الله يديه، ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس” [1]، وجاء في رواية: “أَنَّ النَّبِيَّ ما يشير بيده إلى ناحيةٍ إلا تفرّجت وسال وادي قناة -وهو أحد أودية المدينة- شهرًا، ولم يجئ أحدٌ من ناحيةٍ إلا أخبر بالجود”، والجود هو المطر الكثير.
- الوجه الثاني: أن النبي وعد الناس يومًا يخرجون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمس متواضعًا متبذلًا متخشّعًا مترسّلًا متضرّعًا، فلما وافى المصلى صعد المنبر، فحمِد الله، وأثنى عليه وكبّره، وكان مما حُفِظ من خطبته ودعائه: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته علينا قوّة لنا، وبلاغًا إلى حين، ثم رفع يديه وأخذ في التضرع والابتهال والدعاء، وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة، وحول إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة والناس كذلك، ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة، ولا نداء البتة، جهر فيهما بالقراءة.
- الوجه الثالث: أنه استسقى على منبر المدينة استسقاءً مجردًا في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه في هذا الاستسقاء صلاة.
- الوجه الرابع: أنه استسقى وهو جالسٌ في المسجد فرفع يديه، ودعا الله ، فحُفِظ من دعائه حينئذ: اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، مريعًا طبقًا، عاجلًا غير رائث، نافعًا غير ضار [2].
- الوجه الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم: باب السلام.
- الوجه السادس: أنه استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش فشكوا إلى رسول الله ، وقال بعض المنافقين: “لو كان نبيًا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى عليه السلام لقومه، فبلغ ذلك النبي ، فقال: أوقد قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب، وأمطروا فأفعم السيل الوادي فشرب الناس فارتووا”، واستسقى مرة فقام إليه أبو لبابة رضي الله عنه، فقال: “يا رسول الله إن التمر في المرابد، فقال رسول الله : اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة فيسد ثعلب مربده بإزاره، فأمطرت فاجتمعوا إلى أبي لبابة رضي الله عنه، فقالوا: إنها لن تقلع حتى تقوم فتسد ثعلب مربدك بإزارك، كما قال رسول الله ، ففعل فاستهلت السماء”[3].
أكمل هذه الأوجه
وأكمل هذه الوجوه: هو الوجه الثاني؛ وهو أن يكون بصلاة ركعتين وخطبة، والسنة أن تكون صلاة الاستسقاء في مصلى العيد، أي في الصحراء قريبًا من البنيان، ويرى بعض العلماء أنه ينبغي أن يُجعل الاستسقاء يوم اثنين أو يوم خميس؛ لأن يومي الاثنين والخميس مما يُسنُّ صومهما، فيكون خروج الناس وهم صائمون والصائم أقرب إلى إجابة الدعاء من المفطر.
ولكن هذا محل نظر؛ إذ أن استحباب يومٍ معيّنٍ لعبادة يحتاج إلى دليل ولا دليل يدل لذلك، ولهذا فالصواب أن صلاة الاستسقاء لا تختص بيومٍ معيَّن؛ فيمكن أن تكون في أي يوم من أيام الأسبوع.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وإذا أراد الإمام الخروج إليها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، والصيام والصدقة، وترك التشاحُن لكون المعاصي سبب الجدب والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
وأخرج عبدالرزاق في المصنف عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى ميمون بن مهران: إني كتبت إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا ليستسقوا، ومن استطاع أن يصوم ويتصدّق فليفعل، فإن الله تعالى يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، وقولوا كما قال أبواكم: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47]، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]، وقولوا كما قال يونس عليه السلام: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام صلاة الاستسقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.