logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(152) أحكام صلاة الاستسقاء- صفة الخروج لصلاة الاستسقاء

(152) أحكام صلاة الاستسقاء- صفة الخروج لصلاة الاستسقاء

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام صلاة الاستسقاء، فأقول وبالله التوفيق:

صفة الخروج لصلاة الاستسقاء

السنة الخروج لصلاة الاستسقاء متواضعًا متخشّعًا متذلّلًا متضرعًا، وقال كثيرٌ من الفقهاء: ينبغي له أن يتنظّف ولا يتطيّب، أما كونه يتنظّف فلأنه مكان اجتماعٍ عام ووجود الروائح الكريهة تؤذي الحاضرين أو بعضهم، وأما كونه لا يتطيب فلأنه وقت استكانة وخضوع وتذلُّلٍ وخشوع، ووضع الطيب لا يتّفق مع ما هو مطلوب من الاستكانة والتذلّل.

ويدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “خرج رسول الله للاستسقاء متبذّلًا متواضعًا متضرعًا حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرُّع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد” [1]، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.

وقوله في هذا الحديث: “متبذِّلًا” دليلٌ على أنه لا يمس الطيب، ولا يلبس لباس زينة، وإن كان أخذ الزينة مطلوبًا في جميع الصلوات إلا أنه يُستثنى من ذلك صلاة الاستسقاء، فلا يُشرع أخذ الزينة لها.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “السنة الخروج لصلاة الاستسقاء متواضعًا متخشّعًا متذلّلًا متضرعًا، في ثياب بذْلته، ولا يلبس ثياب زينة لأنه يوم تواضع، ويكون متخشّعًا في مشيه وجلوسه، متضرّعًا إلى الله تعالى، متذلّلًا، راغبًا إليه”.

وقد كان النبي إذا استسقى ما إن ينزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأراملِ

قال البخاري: “وهو قول أبي طالب” [2].

ومراد البخاري رحمه الله: أن هذا البيت الذي كان يتمثَّل به ابن عمر رضي الله عنهما هو من قصيدةٍ طويلة لأبي طالب، ذكرها ابن إسحاق رحمه الله في السيرة، وهي أكثر من ثمانين بيتًا، قالها أبو طالب لما تمالأت قريشٌ على النبي ، وجاء في بعض الروايات: “أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: لو كان أبو طالب حيَّا لقرّت عيناه“.

وفي عهد عمر بن الخطاب في السنة الثامنة عشرة من الهجرة في عام الرمادة أصاب الناس قحطٌ شديد، فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما العباس بن عبدالمطلب وطلب منه أن يستسقي بالناس، وقال: “اللهم إنا كنا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا”؛ ومراده بالتوسُّل هنا طلب الدعاء، فقد كان النبي في حياته إذا أصابهم القحط طلبوا منه أن يدعو الله لهم بالسقيا فيدعو فيُسقون، وبعد وفاة النبي  طلب الصحابة من العباس أن يستسقي لهم.

وفي هذا دليلٌ على عدم جواز التوسُّل بالنبي أو بقبره أو بجاهه، ونحو ذلك، ولو كان هذا مشروعًا لفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولما طلبوا من العباس أن يستسقي بهم، وجاء في بعض الروايات: أن العباس لما استسقى بالناس قال: “اللهم إنه لم ينزل بلاءٌ إلا بذنب، ولم يُكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القومُ بي إليكَ لمكاني من نبيك ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث”، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض.

استحباب الاستسقاء بالأكثر صلاحًا

وفي عهد معاوية بن أبي سفيان قُحِط الناس، فخرج معاوية يستسقي بالناس فلما جلس على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود؟ فقام يزيد رحمه الله، وطلب منه معاوية أن يستسقي بالناس ففعل، فثارت سحابة مثل التُرْس وهبّ لها ريحٌ فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم.

ومن هنا فقد ذكر كثيرٌ من أهل العلم أنه يُستحب أن يستسقى بمن ظهر صلاحه؛ لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، وعلى هذا كان المسلمون وأئمتهم يستسقون بدعاء الصالحين في حياتهم، بل في تراجم بعض الرواة يوصفون بأنهم يستسقى بهم.

قال سفيان بن عيينة: “حدثنا رجلان صالحان يستسقى بهما ابن عجلان ويزيد ين بزيد بن جابر”.

وقد بوّب ابن حبان رحمه الله في صحيحه بقوله: “بابٌ ذكر ما يُستحب للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يستسقي بالصالحين رجاء الدعاء لذلك”.

واستحب بعض العلماء خروج الشيوخ والعجائز؛ لأنهم أقرب للإجابة، وكذا الصبيان لأنهم لا ذنوب عليهم، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ويخرج معه أهل الدين والصلاح والشيوخ؛ لأنه أسرع للإجابة، ويُستحب الخروج لكافة الناس فأما النساء فلا بأس بخروج العجائز منهنّ ومن لا هيئة لها”.

وقال ابن حامد رحمه الله: “يُستحب، فأما الشواب وذوات الهيئة فلا يُستحب لهنّ؛ لأن الضرر في خروجهن أكثر من النفع”.

وقد روي أن الناس أصابهم القحط في زمن طارق بن زياد، فخرج بالناس ومعهم الشيوخ والعجائز والصبيان، وأخرج معهم البهائم، وجعلوا يدعون الله تعالى ويتضرّعون ويبكون حتى سُقوا.

وإخراج البهائم في صلاة الاستسقاء قال به بعض أهل العلم، وقد جاء في مصنف عبدالرزاق: “أن سليمان عليه الصلاة والسلام خرج يستسقي فرأى نملة مستلقية وهي تقول: اللهم إنا خلقٌ من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سُقيتم بدعوة غيركم”، وقال باستحبابه القاضي أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة.

ويرى بعض أهل العلم: أنه غير مستحب؛ لأن النبي لم يفعله، ولم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة أنه فعل ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم الصدقة والصيام عند الاستسقاء

ويرى بعض العلماء: أنه يُستحب للإمام إذا أراد الخروج لصلاة الاستسقاء أن يأمر الناس بالصدقة؛ لأن الصدقة فيها إحسانٌ إلى الغير، والإحسان سببٌ للرحمة؛ كما قال الله تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، والغيث رحمة؛ لقول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28].

وينبغي أن يحثهم على المبادرة بإخراج الصدقة الواجبة، فإن منعها سببٌ لمنع القطر من السماء؛ كما قال النبي : وما منع قومٌ زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا [3].

واستحب بعض أهل العلم أن يأمر الإمام الناس قبل الخروج للاستسقاء بالصيام، وأن يخرج الناس للاستسقاء وهم صائمون؛ لأن ذلك أقربُ إلى إجابة الدعاء.

خروج الكفار وأهل الذمة في صلاة الاستسقاء

ولو أراد غير المسلمين أن يستسقوا مع المسلمين فلا يُمنعون، لكن ينفردون عن المسلمين بمكان، لكن يمنعوا أن ينفردوا بزمان، فيمنعوا الانفراد بيومٍ في الاستسقاء؛ لأنه ربما نزل المطر في اليوم الذي استسقوا فيه فيكون في ذلك فتنةٌ لبعض الناس، ومثلهم أهل البدع لو طلبوا الانفراد بمكانٍ أُذِن لهم، فإن طلبوا الانفراد بزمانٍ فيُمنعوا لئلا ينزل المطر في ذلك اليوم فيكون في ذلك فتنة، فإن الدعاء قد يُستجاب من المبتدع وقد يُستجاب من الكافر؛ كما قال الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “أما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرًا قضاه الله تعالى لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسبابٌ أخرى وإن كان فتنةٌ في حق الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يُستجاب لهم فيسقون ويُنصرون ويعانون ويُرزقون، وقد قال الله تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20].

وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وإن خرجوا لم يُمنعوا؛ لأنهم يطلبون أرزاقهم من ربهم فلا يُمنعون من ذلك، ولا يبعد أن يجيبهم الله تعالى؛ لأنه قد ضمن أرزاقهم في الدنيا كما ضمن أرزاق المؤمنين”.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “أن قومًا من الكفار حاصروا مدينة للمسلمين، فنفد ماؤهم العذب، فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماءٍ عذبٍ ليرجعوا عنهم فتشاور ولاة أمر المسلمين ثم قالوا: بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم، فقام أولئك الكفار فاستسقوا ودعوا الله تعالى فسقوا، فاضطرب بعض العامة، فقال الملك لأحد العلماء: أدرك الناس، فأمر بنصب منبرٍ له، ودعا الله تعالى، فقال: اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفّلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وقد دعوك مضطرين وأنت تجيب المضطر إذا دعاك فأجبتهم، لا لأنك تحبهم ولا تحب دينهم، اللهم فأرنا فيهم آية تثبّت بها الإيمان في قلوب عبادك المؤمنين؛ فأرسل الله تعالى عليهم ريحًا فأهلكتهم”.

هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام صلاة الاستسقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 1165، والترمذي: 558.
^2 رواه البخاري: 1009.
^3 رواه ابن ماجه: 4019.
مواد ذات صلة
zh