عناصر المادة
إن الحمدلله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
تحدثنا في حلقات سابقة عن أحكام صلاة الجماعة، وذكرنا أنها واجبة في حق الرجال، وذكرنا في الحلقة السابقة جملة من الأعذار التي تبيح التخلُّف عن صلاة الجمعة والجماعة، ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن بقية الأعذار، فأقول وبالله التوفيق:
أعذار ترك الجمعة والجماعة
من الأعذار التي تبيح التخلُّف عن الجمعة والجماعة:
الخوف على نفسه أو ماله أو أهله
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: الخوف يتنوع إلى ثلاثة أنواع:
- أحدها: الخوف على نفسه، بأن يخاف لصًا أو سبعًا أو سيلًا أو نحو ذلك مما يؤذيه في نفسه، أو يخاف غريمًا يحبسه ولا شيء معه يعطيه فإن حبس المعسر ظلم، وإن كان الدين حالًا وهو قادرٌ على أدائه فلا عذر له في التخلُّف؛ لأن مطل الغني ظلم، وإن توجّه عليه حدٌ لله تعالى أو حد قذف فخاف أن يؤخذ به لم يكن ذلك عذرًا؛ لأنه يجب عليه وفاؤه وكذا إن توجه عليه القصاص.
- الثاني: الخوف على ماله من لصٍ أو نحوه، أو يخاف على بهيمته من سبُعٍ إن ذهب وتركها، أو على منزله أو متاعه أو زرعه، أو يكون له خبزٌ في التنّورِ أو طبيخٌ على النار يخاف تلفهما بذهابه، أو يكون مستأجرًا لا يمكنه ترك ما استؤجر على حفظه، فهذا وأشباهه عذرٌ في التخلُّف عن الجمعة والجماعة؛ لعموم قول النبي : من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر رواه ابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وعند أبي داود أنه قيل: “فما العذر؟ قال: خوفٌ أو مرض“؛ ولأن في أمره عليه الصلاة والسلام بالصلاة في الرحال لأجل الطين والمرض، مع أن ضررهما أيسر من ذلك تنبيهًا على جوازه.
- النوع الثالث: الخوف على ولده وأهله أن يضيعوا أو يخاف موت قريبه ولا يشهده، فهذا كله عذرٌ في ترك الجمعة والجماعة، وبهذا قال عطاء والحسن والشافعي: ولا نعلم فيه مخالفًا”.
وأقول أيها الإخوة: يمكن أن نضيف للأمثلة التي ذكرها الموفق أمثلة من واقعنا في الوقت الحاضر، فأقول: ممن يُعذر في ترك الجماعة حارس الأمن الموكل إليه حراسة منشأة أو سوق ونحوه، فإنه في معنى ما ذكره الفقهاء من المستأجر الذي لا يمكنه ترك ما استؤجر على حفظه، بل هو أولى بالعذر في التخلُّف عن الجماعة من بعض من نص الفقهاء على أنه معذورٌ بترك الجماعة، كمن يكون له خبزٌ في التنور أو طبيخٌ على النار يخاف تلفه.
ومن ذلك أيضًا رجال الدفاع المدني عند وقوع حوادث من حريق أو غيره، وكذا رجال الإسعاف والشرطة ونحوهم ممن يستدعي الأمر تواجدهم لإنقاذ أنفس أو أموال معصومة، فهؤلاء يُعذرون بترك الجمعة والجماعة عند مباشرة تلك الحوادث.
خوف فوات الرفقة
ومن الأعذار في ترك الجمعة والجماعة: خوف فوات الرفقة، وقد نص على ذلك الفقهاء، وعللوا لذلك بأنه لو أُلزم بأداء الجمعة والجماعة فقد يلحقه الضرر بفوات مقصوده من الرفقة، ثم إنه سينشغل قلبه كثيرًا، وإذا كان الشارع قد رخَّص في ترك الجماعة لمن كان بحضرة طعام أو وهو يدافعه الأخبثان، لئلا يتشوش فكره فيفوت معه الخشوع في الصلاة، فهذا الذي يخشى فوات الرفقة ربما يكون أولى بالرخصة ممن كان بحضرة طعام أو وهو يدافعه الأخبثان.
ونظير ذلك في وقتنا الحاضر: إذا كان وقت إقلاع الطائرة هو وقت صلاة الجمعة أو قريبًا منه، بحيث لا يمكنه أن يصلي صلاة الجمعة ثم يلحق بالرحلة على الطائرة، فيكون هذا عذرًا له في التخلُّف عن صلاة الجمعة ويصليها ظهرًا، وهو في معنى العذر الذي ذكره الفقهاء من خوف فوات الرفقة.
المطر أو الوحل أو الريح
ومن الأعذار أيضًا: خوف الأذى بالمطر الغزير أو الوحل أو الريح الشديدة الباردة، فلو أن رجلًا أراد أن يخرج لأداء صلاة الفجر مثلًا وكان هناك أمطارٌ غزيرة أو رياحٌ باردة، ويلحقه الحرج والمشقة لو ذهب لأداء الصلاة مع الجماعة في المسجد فله أن يصليها في بيته، ويكون هذا عذرًا يبيح له التخلُّف عن صلاة الجماعة.
وقد عقد البخاري في صحيحه: “بابٌ الرخصة في المطر والْعِلَّة أن يصلي في رحله”، ثم قال: “حدثنا عبدالله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أذّن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرحال“.
وأخرج البخاري في صحيحه عن عبدالله بن الحارث قال: “خطبنا ابن عباس رضي الله عنهما في يوم ردغ -أيْ طينٍ ووحل-“، وفي رواية: “في يوم مطير، فأمر المؤذن لما بلغ: حي على الصلاة، قال: قل: الصلاة في الرحال، فنظر بعضهم إلى بعض فكأنهم أنكروا عليه، فقال: كأنكم أنكرتم هذا! إن هذا فعله من هو خيرٌ مني -يعني النبي -، إنها عزمة وإني كرهت أن أحرجكم”.
حكم الجمع بين الصلاتين عند نزول المطر
ويجوز الجمع بين المغرب والعشاء وبين الظهر والعصر كذلك في أظهر قولي الفقهاء عند نزول المطر الذي يحصل بتركه الجمع معه مشقة ظاهرة، ولكن هذا الحكم -أعني جواز التخلُّف عن الجماعة والجمع بين الصلاتين عند نزول المطر- إنما هو مشروطٌ بوجود المشقة الظاهرة، وأما مع عدم وجود المشقة فلا يجوز له الجمع؛ وذلك لأن الأصل هو وجوب أداء الصلاة في وقتها مع الجماعة، وشرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، والجمع بين الصلاتين من غير عذرٍ معدودٌ عند كثير من العلماء من الكبائر.
وننبِّه هنا إلى أن الناس في السابق كانت بيوتهم ومساجدهم مبنية بالطين ومسقوفة بالخشب ولم تكن الطرق مسفلتة، ولم يكن الكهرباء موجودًا فيلحق الناس مع نزول الأمطار مشقة ظاهرة، أما في الوقت الحاضر ومع وجود البناء المسلّح والطرق المسفلتة والمنارة بالكهرباء، لا يلحق الناس مع نزول المطر الحرج والمشقة إذا أدوا الصلاة مع الجماعة في المسجد في كثير من الأحيان.
بل إنه في بعض الأحيان وخاصة عند نزول الأمطار في الصيف يتلطّف الجو، ويخرج الناس معه إلى الطرقات وإلى المتنزهات، ولا يكون معه أدنى حرج أو مشقة، ومع هذه الحال التي ينتفي معها الحرج والمشقة لا يجوز التخلُّف عن صلاة الجماعة، ولا يجوز الجمع بين الصلاتين عند نزول الأمطار.
وقد سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن أن بعض أئمة المساجد يجمعون بين المغرب والعشاء عند نزول مطرٍ خفيف لم يحصل بنزوله مشقة، فقال رحمه الله: “لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا بعذر شرعي كالسفر والمرض والمطر الذي يبلُّ الثياب ويحصل به المشقة.
أما من جمع بين العشاءين أو الظهر والعصر بغير عذر شرعي؛ فإن ذلك لا يجوز، وعليه أن يعيد الصلاة التي قدّمها على وقتها لقول النبي : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، والضابط في الجمع بين الصلاتين أثناء المطر هو وجود المشقة”.
أيها الإخوة المستمعون! هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.