عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكامِ الإمامة، ونتحدث معكم في هذه الحلقة عما يُكره للإمام وللمأموم فعله، فمن ذلك:
ما يكره للإمام والمأموم فعله
أنه يُكره للإمام أن يتطوّع في الموضع الذي صلى فيه الفريضة، وقد نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وقد أخرج أبو داود وابن ماجه عن المغيرة بن شعبة أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه [1]، ولكن هذا الحديث ضعيفٌ؛ لأنه مرويٌ من طريق عطاء الخرساني عن المغيرة، وعطاء لم يدرك المغيرة، فيكون منقطعًا.
ولكن قد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن علي قال: “من السنة ألا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه”.
قال الإمام أحمد: “لا أعرف ذلك عن غير علي”.
ثم إن الإمام إذا تطوع في المكان الذي صلى فيه الفريضة ربما يظن من يشاهده أنه تذكّر نقصًا في صلاته فيوقع اللبس على المأمومين.
وأما بالنسبة للمأموم فإنه لا يُكره له أن يتطوع في المكان الذي صلى فيه الفريضة، وما روي من النهي عن ذلك فإنه لا يصح، فقد أخرج أبو داود في سننه عن أبي هريرة أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: أيعجز أحدكم أن يتقدّم أو يتأخّر، أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة [2]،
قال البخاري في صحيحه عن هذا الحديث: ويُذكر عن أبي هريرة رفعه ولا يصح، وقال في تاريخه: لم يثبت هذا الحديث، بل قد أخرج البخاري في صحيحه عن نافع قال: “كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة، وفعله القاسم” [3]، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن عبيدالله بن عمر رضي الله عنهم قال: “رأيت القاسم وسالمًا يصليان الفريضة ثم يتطوعان في مكانهما”.
والحاصل أيها الإخوة: أنه لا يُكره للمأموم أن يتطوع في المكان الذي صلى فيه الفريضة، ولكن لا يصل النافلة بالفريضة حتى يتكلم أو حتى ينفتل عن موضعه.
ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن السائب بن يزيد رضي الله عنه: “أنه صلى مع معاوية رضي الله عنه الجمعة فتنفَّل بعدها، وقال له معاوية رضي الله عنه: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن النبي أمرنا بذلك” [4].
من المسائل المكروهة في حق المأموم
حكم الصلاة بين السواري
ومن المسائل المكروهة في حق المأموم: الصلاة بين السواري من غير حاجة؛ فقد كان الصحابة يتوقّون الصلاة بين السواري، كما قال أنس : “كنا نتقي هذا أيْ الصلاة بين السواري على عهد رسول الله [5]، أخرجه الترمذي، وقال: “حديثٌ حسن صحيح”، وأخرج ابن ماجه عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنهما قال: “كنا نُنهى أن نصفَّ بين السواري على عهد رسول الله ، ونُطرد عنها طردًا” [6]، ولأن المطلوب في المصافّة التراص من أجل أن يكون الناس صفُا واحدُا، فإذا كان هناك سواري تقطع الصفوف فات هذا المقصود.
ومقدار القطع قيّده بعض أهل العلم بثلاثة أذرع، فقالوا: إذا كانت السارية ثلاثة أذرع فإنها تقطع الصف وما دونها لا يقطع الصف، وقال بعضهم: بمقدار قيام ثلاثة رجال.
وقال بعض أهل العلم: المعتبر في ذلك العرف. وهذا هو الأقرب والله أعلم؛ إذ لم يرد في تحديد ذلك شيء.
ولكن إذا احتيج للصلاة بين السواري لضيق المكان مثلًا فلا بأس بذلك من غير كراهة؛ لأن صلاتهم بين السواري داخل المسجد خيرٌ من صلاتهم خارج المسجد.
حضور المسجد لمن أكل ما له رائحة كريهة
ومما يذكره بعض الفقهاء في هذا الباب أنه يُكره حضور مسجدٍ وجماعة لمن أكل بصلًا أو ثومًا ونحوهما مما له رائحة كريهة، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم فلا يقربن مسجدنا [7].
وفي الصحيحين أيضًا عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا أو قال: فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته [8]، وفي رواية لمسلم: فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس [9]، وفي رواية أخرى لمسلم: فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم [10].
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب أنه خطب الناس يوم الجمعة، وكان مما قال في خطبته: ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، ولقد رأيت رسول الله إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به، فأُخرِج إلى البقيع فمن أكلهما فليُمِتْهما طبخًا” [11]، وهذه الأحاديث لا تدل على تحريم أكل البصل والثوم، وإنما النهي فيها عن حضور الجماعة لمن أكل البصل أو الثوم.
قال النووي رحمه الله: “هذا النهي إنما هو عن حضور المسجد لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلالٌ بإجماع من يُعتد به”.
ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: لم تعد أن فُتِحت خيبر فوقعنا -يعني أصحاب رسول الله في تلك البقلة، يعني الثوم، والناس جياعٌ، فأكلنا منها أكلًا شديدًا ثم رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله الريح، فقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربنا في المسجد، فقال الناس: حُرِّمت حُرِّمت، فبلغ ذاك النبي فقال: أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها [12].
صلاة الجماعة واجبة في حق الرجال، وأكل البصل والثوم ونحوهما عُذرٌ في ترك الجماعة لمن لم يتخذ ذلك حيلة لتركها.
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: إباحة أكل هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة لا ينافي كون الجماعة فرض عين، وإنما هو عذرٌ في ترك الجماعة، كما أن حضور الطعام يسوّغ في ترك الجماعة لمن قُدِّم بين يديه مع كون ذلك مباحًا، ولكن إذا أراد أحدٌ أن يتّخذها حيلة لترك الجماعة حرُم عليه ذلك.
قال: ويُكره للمسلم حضور الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة تؤذي من حوله، سواءٌ كان ذلك من أكل الثوم أو البصل أو الكراث أو غيرها من الأشياء المكروهات الرائحة حتى تذهب الرائحة.
قال: وأما التحديد بثلاثة أيام فلا أعلم له أصلاً في شيءٍ من الأحاديث الصحيحة، وإنما الحكم متعلقٌ بوجود الرائحة فمتى زالت؛ زالت كراهة الحضور في المساجد لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
وكراهة حضور المسجد لمن أكل البصل أو الثوم يدل على أن الإسلام دينٌ يراعي شعور الآخرين، وأنه ليس لأحدٍ أن يأتي للمسجد بروائح كريهة فيؤذي بها المصلين حوله، وربما يتسبب في تفويت الخشوع في الصلاة عليهم، وإن من الناس من لا يبالي بهذه المعاني، فتجده يأتي للمسجد بملابس رثّة أو بملابس النوم، وربما يصحبها روائح كريهة.
على أنه ينبغي للمصلي أن يحرص على أخذ زينته في الصلاة ولو كان يصلي في بيته وحده؛ فإن أخذ الزينة في الصلاة إنما هو لحق الله ؛ كما قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، والمراد عند كل صلاة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يوفقنا لاتباع سنة رسوله .
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه ابن ماجه: 1428. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1006، وابن ماجه: 1427، وأحمد: 9496 |
^3 | رواه البخاري: 848. |
^4 | رواه مسلم: 883. |
^5 | رواه أبو داود: 673، والترمذي: 229، وأحمد: 12339. |
^6 | رواه ابن ماجه: 1002. |
^7 | رواه البخاري: 853، ومسلم: 561. |
^8 | رواه البخاري: 855، ومسلم: 564. |
^9 | رواه مسلم: 563. |
^10 | رواه مسلم: 564. |
^11 | رواه مسلم: 567. |
^12 | رواه مسلم: 565. |