عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حكم صلاة الجماعة
سبق أن تحدثنا في الحلقات السابقة عن أحكام صلاة الجماعة والإمامة، وذكرنا أن صلاة الجماعة واجبةٌ في حق الرجال، ويترتب على ذلك أن الرجل إذا تخلَّف عن صلاة الجماعة فإنه يأثم، ولكن ذلك مشروطٌ عند العلماء بعدم وجود العذر، أما إذا كان معذورًا فإن الجماعة في حقه غير واجبة ولا يأثم بتركها، فما الأعذار التي تبيح التخلُّف عن صلاة الجمعة والجماعة؟
قبل الحديث عن هذه الأعذار نشير هنا إلى أن دين الإسلام مبنيٌ على رفع الحرج عن المكلّفين، وعلى التيسير على العباد، يقول الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ويقول جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، ويقول سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ويقول تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
ومن رحمة الله تعالى بعباده: أن المسلم إذا كان قد اعتاد أداء الصلاة مع الجماعة، لكنه تركها لعذر فيُكتب له أجر الجماعة كاملًا، أيْ أنه إذا صلى وحده كأنه قد صلى مع الجماعة، ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري وغيره عن أبي موسى الأشعري أن النبي قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثلما كان يعمل مقيمًا صحيحًا [1].
أعذار ترك الجمعة والجماعة
ونبدأ الحديث بأول الأعذار في ترك الجمعة والجماعة: وهو المرض.
أولًا: المرض
قال ابن المنذر رحمه الله: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض.
ويدل لذلك عموم الأدلة الدالة على رفع الحرج عن المكلفين والتي سبقت الإشارة إليها.
ويدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين: أَنَّ النَّبِيَّ لما مرض لم يصلِّ بالناس في المسجد، وقال: مروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس [2]، ويدل لذلك أيضًا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر رواه ابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم.
قال الحافظ ابن حجر في “بلوغ المرام”: “إسناده على شرط مسلم، لكن رجّح بعضهم وقفه”.
وجاء في رواية أبي داود أنه قيل: “فما العذر؟ قال: خوفٌ أو مرض“.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: “ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافقٌ قد عُلِم نفاقه أو مريض”.
ضابط المرض في ترك الجمعة والجماعة
وضابط المرض الذي يُعذر الإنسان بسببه في ترك الجمعة والجماعة هو: المرض الذي يلحق المريض معه مشقة وحرجٌ ظاهر لو صلى مع الجماعة.
وألحق العلماء بالمرض الخوف من حدوث المرض أو زيادته أو تأخر برئه؛ لأنه في معنى المرض، وننبِّه هنا إلى أن من الناس من يكون لديه مرضٌ يسير لا يلحقه معه الحرج والمشقة لو صلى مع الجماعة، ومع هذا تجده يفتي نفسه بنفسه بأنه مريض، وبأنه معذورٌ في ترك الجماعة، فمثل هذا ليس بمعذور، ولا تبرأ ذمته بترك الجماعة، وأين هذا من حال الصحابة الذين يصف حالهم عبدالله بن مسعود في قوله: “ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف”؟
وتتأكد الجمعة في هذا أكثر من الجماعة، ولهذا قال بعض الفقهاء: تلزم الجمعة دون الجماعة من لم يتضرر بإتيانها راكبًا أو محمولًا؛ لأن صلاة الجمعة صلاة واحدة في الأسبوع، ولا بدل لها إذا فاتت، بخلاف الجماعة فتعظم المشقّة بإتيانها، وربما تلحق المنّة بمساعدته فلم تلزم في هذه الحال.
ثانيًا: حضور الطعام
ومن الأعذار في ترك الجمعة والجماعة ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان، فذكر النبي في هذا الحديث عذرين: الأول: حضور الطعام، والثاني: مدافعة الأخبثين.
فحضور الطعام عذرٌ في ترك الجماعة، ومما يدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء، وفي الصحيحين عن أنس أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: إذا قُدِّم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم، وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: إذا وضِع عشاء أحدكم وأُقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام.
قال النووي رحمه الله: “في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله؛ لما فيه من اشتغال القلب به، وذهاب كمال الخشوع”.
ويُشترط لاعتبار حضور الطعام عذرًا في ترك الجماعة شروط:
- الأول: أن تتوق نفسه إلى الطعام؛ لأن المعنى الذي لأجله أُبيح له ترك الجماعة هو تشويش ذهنه، واشتغال قلبه بالطعام، مما يفوّت كمال الخشوع في الصلاة، وهذا المعنى منتفٍ إذا لم تتق نفسه إلى الطعام.
- الثاني: حضور الطعام بين يديه؛ لقول النبي : لا صلاة بحضرة طعام، فعلّق الحكم بحضور الطعام، وقوله في الحديث الآخر: إذا قُدِّم العشاء، وفي الحديث الآخر: إذا وضِع العشاء، وبناءً على ذلك إذا لم يحضر الطعام عنده فليس له ترك الجماعة ولو كان جائعًا؛ لأن النفس إنما تتعلّق بالطعام إذا قُدِّم وحضر بين يدي الإنسان.
- الثالث: ألا يجعل ذلك عادة له، بحيث لا يقدَّم الطعام إلا قبيل إقامة الصلاة؛ لأن جعْل ذلك عادة يُعتبر حيلة على ترك الجماعة فلا يجوز.
- وأضاف بعض العلماء شرطًا رابعًا وهو: ألا يأكل إلا بمقدار ما تنكسر نهمته، وتسكن نفسه، ومن ثم يلحق بالجماعة، ولكن الصحيح هو عدم اشتراط هذا الشرط، وأن له أن يأكل حتى يشبع، وقد نص على هذا الإمام أحمد رحمه الله، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه؛ فقوله: ولا يعجل حتى يفرغ منه هو كالنص في هذه المسألة والله تعالى أعلم.
ثالثًا: مدافعة الأخبثين
ومن الأعذار في ترك الجماعة ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها السابق مدافعة الأخبثين أو مدافعة أحدهما: لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان، والمراد بالأخبثين في هذا الحديث: البول والغائط، فإذا حسر الإنسان البول أو الغائط فله أن يقضي حاجته ولو أدى ذلك إلى تفويت الجماعة، بل يُستحب له ذلك؛ وذلك لأن صلاته مع مدافعة الأخبثين يحصل معها تشويش ذهنه، وإشغال قلبه مما يؤدي إلى فوات الخشوع في الصلاة الذي هو روح الصلاة ولبُّها.
ويقاس على البول والغائط: الريح؛ فإن من الناس من يكون عنده غازات ينتفخ معها بطنه، فهي في معنى الأخبثين، فيكون احتباس الريح عذرًا له في ترك الجماعة كذلك.
وانظر أخي المستمع الكريم إلى عناية الشريعة بالخشوع في الصلاة، حتى إنها أجازت ترك الجماعة الواجبة حتى يزول ما قد يكون سببًا لتفويت الخشوع في الصلاة؛ وذلك لأن الخشوع في الصلاة له شأنٌ عظيم، فهو روح الصلاة ولبُّها، والمقصود الأعظم منها، وكما قيل: صلاةٌ بلا خشوع كجسدٍ بلا روح، بل إنه ليس للإنسان من الأجر والثواب على صلاته إلا بمقدار ما عقل منها، وإن كانت تحصل بها براءة الذمة على كل حال.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين قال فيهم: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1-2].
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.