عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
بعدما تحدثنا في حلقات سابقة عن الأعذار التي تبيح التخلف عن الجمعة والجماعة، ننتقل للحديث عن أهل الأعذار، وما يتعلق بهم من مسائل وأحكام، ونبتدئ الحديث عن أحكام صلاة المريض.
أحكام صلاة المريض
وقد أجمع العلماء على أن المريض إذا كان لا يطيق القيام صلى جالسًا؛ لما جاء في صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي عن الصلاة، فقال: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب [1]، والبواسير: جمع باسور، وهو مرضٌ يحدث فيه تمدد وريديٌ في الشرج.
وقد استُشكل بأن البواسير لا تمنع من القيام في الصلاة، قال الخطابي رحمه الله: “لعل هذا الكلام كان جواب فتيا استفتاها عمران، وإلا فليست علة البواسير بمانعة من القيام في الصلاة على ما فيه من الأذى، ولا مانع من أن يسأل عن حكم ما لم يعلمه لاحتمال أن يحتاج إليه فيما بعد.
وقيل: إن عمران أُصيب بمرضٍ في بطنه، قال ابن سيرين: سقى بطن عمران بن حصين ثلاثين سنة، كل ذلك يُعرض عليه الكي، فيأبى، حتى كان قبل موته بسنتين، فاكتوى، وقد صبر عمران على المرض، فكانت الملائكة تسلِّم عليه عند السحر”.
أخرج مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال: “كان يُسلَّم عليّ -يعني الملائكة-، فلما اكتويت أمسك ذلك، فلما تركته عاد إليّ” [2].
متى يصلي المريض قاعدًا؟
وإذا كان المريض يستطيع القيام؛ لكنه يخشى أن يلحقه بالقيام ضررٌ، أو زيادة مرض، أو تأخر برءٍ، ونحو ذلك، فله أن يصلي قاعدًا، وكذا لو كان يلحقه بالقيام مشقة شديدة، فله أن يصلي قاعدًا.
ولكن ننبه هنا إلى أنه لا بد أن تكون المشقة شديدة، أما إذا كانت المشقة ليست شديدة، فيلزمه الصلاة قائمًا؛ فإن من الناس من قد يكون في تعب وسهرٍ، فيشقُّ عليه القيام، وليس له في هذه الحال أن يصلي قاعدًا، كما أن بعض الناس قد يتساهل في القيام، فتجده يصلي قاعدًا، مع قدرته على القيام من غير مشقة شديدة، وتجده يفتي نفسه، بأنه عاجزٌ عن القيام، وأنه يلحقه الحرج، مع أن ذلك لا يعيقه عن القيام بأمور دنياه، وقد ذكر الشافعي رحمه الله أن رجلًا في زمانه كان قد جاوز التسعين عامًا، وأنه كان يعلِّم الجواري الغناء وهو قائم، فإذا أتى الصلاة صلى جالسًا.
ضابط المشقة للصلاة قاعدًا
ولكن ما الضابط في المشقة الشديدة التي يجوز بسببها أن يصلي قاعدًا؟
قال العلماء: الضابط في المشقة الشديدة هي التي يفوت الخشوع في الصلاة بسببها، فإذا كان إذا قام قلق، ولم يطمئن، وتجده يتشوّف للفراغ من القراءة والركوع، فهذا يشق عليه القيام مشقة شديدة، فله في هذه الحال أن يصلي قاعدًا.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس : “أنَّ النبي ركب فرسًا، فصُرِع عنه -أيْ سقط منه- فجُحِش شقّه الأيمن، فصلى قاعدًا” [3]، ومعنى “جحش”: الجحش هو الخدش، وقشر الجلد.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “والظاهر أن من جُحِش شقه لا يعجز عن القيام بالكلية، وهذا يدل على أنه لا يلزم لصلاة المريض قاعدًا كونه لا يستطيع القيام، بل حتى إذا كان يستطيع القيام مع المشقة الشديدة، فيجوز له أن يصلي قاعدًا، والله تعالى أعلم”.
كم أجر المريض إذا صلى قاعدًا؟
وإذا صلى المريض قاعدًا: إما لعدم قدرته على القيام، أو لكون القيام يشق عليه مشقة شديدة، ونحو ذلك؛ فإن أجره يكون كأجر القائم، ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال: إذا مرض العبد أو سافر، كُتِب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا [4].
وإذا قدر المسلم على القيام، لكن متكئًا على عصا، أو مستندًا إلى حائط، ونحو ذلك؛ لزمه أن يصلي قائمًا ما لم يشق ذلك عليه مشقة شديدة.
كيفية صلاة المريض قاعدًا
إذا صلى المريض قاعدًا فالسنة أن يكون متربعًا؛ وذلك بأن يجلس على أليتيه، ويجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن قدمه اليسرى تحت الفخذ اليمنى، ويدل لذلك ما أخرجه النسائي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: “رأيت النبي يصلي متربعًا” [5]، ولأن التربُّع أرفق بالإنسان في الغالب، وأكثر طمأنينة وارتياحًا من الجلوس.
الركوع في حالة القعود
وإذا ركع فهل يبقى متربعًا، أو يثني رجليه؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، فقال بعضهم: إذا ركع ثنى رجليه؛ لأنه يصلي مفترشًا، وقد روي ذلك عن أنس بن مالك ، وحكى ابن المنذر عن أحمد وإسحاق أنه يبقى متربعًا، ولا يثني رجليه في الركوع، وإنما يثني رجليه في السجود خاصة، فتكون هيئته في حال الركوع كهيئته في حال القيام. وهذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: “وهذا القول أقيس؛ لأن هيئة الراكع في رجليه هيئة القائم، فينبغي أن يكون على هيئته، وهذا أصح في النظر”.
والحاصل أيها الإخوة:
أن المريض إذا صلى قاعدًا، فالسنة أن يكون متربعًا، وإذا ركع يبقى متربعًا، وكذا بعد الرفع من الركوع، وإذا سجد ثنى رجليه، وصلى مفترشًا.
هل لا بد من القيام للركوع لمن صلى جالسًا؟
وإذا كان المريض عاجزًا عن القيام، لكنه يستطيع الركوع والسجود، فهل لا بد من القيام لأجل أن يركع، ثم يسجد، أو يصح الركوع والسجود قاعدًا؟
قال الفقهاء: هو مخيّرٌ بين الأمرين، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “هو مخيرٌ في الركوع والسجود إن شاء من قيام، وإن شاء من قعود؛ لأن النبي فعل الأمرين، قالت عائشة رضي الله عنها: “لم أر رسول الله يصلي صلاة الليل قاعدًا قط حتى أسنّ، فكان يقرأ قاعدًا، حتى إذا أراد أن يركع قام، فقرأ نحوًا من ثلاثين آية، أو أربعين آية، ثم ركع” [6]، متفقٌ عليه.
وعنها رضي الله عنها: “أن رسول الله كان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعدٌ ركع وسجد وهو قاعد” [7]، رواه مسلم.
قال الترمذي: “كلا الحديثين صحيح”، قال: “وقال أحمد وإسحاق: والعمل على كلا الحديثين”.
كيفية صلاة من عجز عن الركوع أو السجود
وإذا قدر المريض على القيام والقعود دون الركوع والسجود، أو بركوعٍ قائمًا، وبسجودٍ قاعدًا، كما لو كان هذا المريض يستطيع القيام؛ لكنه لا يستطيع الركوع، إما لمرضٍ في ظهره، أو وجعٍ في رأسه، أو لعملية في عينيه، أو لغير ذلك، فإنه يصلي قائمًا، ويومئ بالركوع قائمًا، وهكذا إذا كان يستطيع أن يجلس، لكنه لا يستطيع السجود، فإنه يومئ بالسجود قاعدًا؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
كيفية الصلاة في الطائرة
وهذا إذا كانت الصلاة مما لا يُجمع مع غيرها، وهي صلاة الفجر، أو كانت مما يُجمع مع غيرها، لكنه خشي خروج وقت الثانية؛ فإنه يصلي حسب استطاعته، ولا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها.
ويلاحظ أن بعض الناس يتساهل في هذه المسألة، فتجده يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها بحُجَّة أنه في الطائرة، وأنه لا يتهيأ له أن يؤدي الصلاة على الوجه الأكمل، وهذا خطأ كبير؛ إذ أن تأخير الصلاة عن وقتها معدودٌ عند العلماء من الكبائر؛ لقول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، وجاء في تفسيرها: أنهم يؤخرونها عن وقتها.
وكونه في الطائرة ليس عذرًا في تأخير الصلاة عن وقتها، بل المطلوب منه أن يؤدي الصلاة حسب استطاعته، ولو أن يومئ بالركوع والسجود.
هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.