عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
ذكرنا أن الراجح أن الجماعة إنـما تدرك بإدراك ركعة.
مسألة: ما تدرك به الركعة
وقد دلت السنة على أن الركعة تدرك بإدراك الركوع، ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح البخاري) عن أبي بكرة الثقفي : “أنه انتهى إلى النبي وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي ، فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد [1]، ولـم يأمره النبي بقضاء تلك الركعة، فمن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة.
القدر المـجزئ في الركوع
قيل: هو الانحناء، بحيث يـمكنه مسُّ ركبتيه بيديه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقال المـجد ابن تيمية رحمه الله: “ضابط الإجزاء الذي لا يختلف: أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل، أقرب منه إلى القيام المعتدل، والمعنى: أنه ينحني، بحيث من يراه يعرف أن هذا الرجل راكعٌ، وليس واقفًا”.
وهذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وإنـما تحصل له الركعة إذا اجتمع مع الإمام في الركوع، بحيث ينتهي إلى قدر الإجزاء من الركوع، قبل أن يزول الإمام عن قدر الإجزاء منه، والأفضل لمن أتى والإمام راكعٌ أن يُكبِّـر تكبيرتين: تكبيرة الإحرام قائمًا منتصبًا قبل أن يهوي، ثم يُكبَّـر تكبيرة الركوع حال الهوي للركوع.
حكم من أتى والإمام راكع فكبَّر تكبيرة واحدة
أما إن كبر تكبيرةً واحدةً، فلا يخل الأمر حينئذٍ من حالات:
- الأولى: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الإحرام، فتجزئه عن تكبيرة الركوع.
- الثانية: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الركوع، فإن الصلاة لا تجزئه في هذه الحال؛ لأن تكبيرة الإحرام ركنٌ من أركان الصلاة، ولـم يأت بـها فلم تنعقد صلاته.
قال أبو داود: “قلت لأحمد: يُكبِّـر مرتين أحب إليك؟ قال: إن كبَّـر تكبيرتين ليس فيه اختلاف، وإن نوى تكبيرة الركوع خاصةً لَـم يجزئه؛ لأن تكبيرة الإحرام ركنٌ ولَـم يأت بـها. - الثالثة: أن يُكبِّـر تكبيرةً واحدةً، وينوي بـها تكبيرة الإحرام والركوع جميعًا، فهل يجزئه؟
اختلف العلماء في ذلك:
- فمنهم من قال لا يجزئه، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة.
قال المرداوي في (الإنصاف): “لو نوى بالتكبيرة الواحدة تكبيرة الإحرام والركوع لَـم تنعقد الصلاة على الصحيح من المذهب”. - وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة تصح، ويجزئه ذلك، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد.
ولعل هذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- وقد اختاره الموفق ابن قدامة رحمه الله.
قال رحمه الله: “من أدرك الإمام في الركوع أجزأته تكبيرة واحدة، وهي تكبيرة الإحرام، وهي ركنٌ لا تسقط بحال، وتسقط تكبيرة الركوع ها هنا، نص عليه أحمد في رواية أبي داود وصالح، وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهما، ولا يُعرَف لهما مخالفٌ من الصحابة، فيكون إجماعًا؛ ولأنه اجتمع واجبان من جنسٍ واحدٍ في محلٍ واحد، أحدهما ركنٌ فيسقط به الآخر، كما لو طاف الحاج طواف الزيارة عند خروجه من مكة، فإنه يجزئه عن طواف الوداع”.
والحاصل: أن من أتى والإمام راكعٌ، فالأفضل أن يكبِّـر تكبيرة الإحرام وهو قائمٌ، ثم يكبر تكبيرة الركوع حال الهوي بالركوع، ولكن إن كبَّـر تكبيرةً واحدةً، ونوى بـها تكبيرة الإحرام، صحَّ ذلك وأجزأته عن تكبيرة الركوع، أما إن نوى تكبيرة الإحرام والركوع جميعًا، أجزأ ذلك في أظهر قولي العلماء، أما إن نوى تكبيرة الركوع ولـم ينو تكبيرة الإحرام لَـم تنعقد صلاته؛ لأن الصلاة لا تنعقد ولا تصح إلا بتكبيرة الإحرام.
ولكن: قد يأتي بعض الناس، ويدرك الإمام في الركوع، ويكبر تكبيرةً واحدة، ولا تتضح نيته: هل نوى تكبيرة الإحرام، أو نوى تكبيرة الركوع، أو نواهما جميعًا؟
فظاهر كلام أهل العلم: أن صلاته تنعقد وتصح، وتُحمل هذه التكبيرة على تكبيرة الإحرام، فقد جاء عن الإمام أحمد في رواية ابنه صالح: فيمن جاء والإمام راكعٌ، وقد كبر تكبيرةً واحدة، قيل له: ينوي بـها الافتتاح؟ قال: “نوى أو لَـم ينو، أليس قد جاء وهو يريد الصلاة؟!”.
ولأن نية الركوع لا تنافي نية تكبيرة الإحرام؛ ولهذا يحكم بدخوله بالصلاة بتكبيرة الإحرام في هذه الحال.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وإن أدرك الإمام في ركنٍ غير الركوع لَـم يُكبِّـر إلا تكبيرة الافتتاح، وينحط بغير تكبير؛ لأنه لا يعتد له به وقد فاته محل التكبير”.
حكم الافتئات على الإمام الراتب
ومن المسائل المتعلقة بصلاة الجماعة: أنه ليس لأحدٍ أن يؤمَّ في مسجدٍ قبل إمامه الراتب، إلا بإذنه أو عذره.
لأن إمام المسجد في مسجده بـمثابة السلطان في سلطنته.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلم) عن أبي مسعودٍ الأنصاري قال: قال رسول الله : ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه [2]، وفي روايةٍ عند مسلم: ولا تؤمنَّ الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلس على تكرمته في بيته، إلا أن يأذن لك، أو بإذنه [3].
وكما أن هذا مقتضى الحديث فهو مقتضى القواعد الشرعية؛ لأنه لو ساغ لأحدٍ أن يَؤمَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ بدون بإذنه أو عذره؛ لأدى ذلك إلى الفوضى والنزاع.
قال بعض أهل العلم: وظاهر النهي في هذا الحديث أنه يقتضي التحريم، فلا يجوز للإنسان أن يؤمَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ إلا بإذن الإمام أو عذره، أما بإذنه فكما لو وكَّل توكيلًا خاصًا أو توكيلًا عامًا، فالتوكيل الخاص كأن يوكل فلانًا من الناس أن يؤم المصلين، والتوكيل العام أن يقول لجماعة المسجد: إذا تأخرت عن موعد الإقامة المعتاد فصلوا، ونحو ذلك.
وأما عذره: فكما لو كان مريضًا لا يستطيع الحضور للمسجد.
قال الفقهاء: وينبغي أن يُراسَل الإمام إذا غاب عن وقته المعتاد، وفي وقتنا الحاضر يُتَّصَل عليه عن طريق الهاتف، ونحوه.
هل تصح صلاة من صلوا بدون إذن إمامهم؟
ولكن لو أن أهل المسجد قدموا شخصًا يصلي بـهم بدون إذن الإمام ولا عذره، وصلى بـهم، فهل تصح الصلاة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
- فالمذهب عند الحنابلة أنه يحرم، ولا تصح صلاتـهم، ويلزمهم إعادتـها.
قال صاحب (التنقيح المشبع): “ظاهر كلامهم: لا تصح الصلاة في هذه الحال” وجزم به في (المنتهى). - وذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة تصح مع الإثم، وهذا القول هو الأقرب -والله أعلم-؛ لأن الأصل صحة الصلاة، حتى يقوم دليلٌ على فسادها، ولا دليل يدل على ذلك.
وأما تحريم الإمامة في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ بلا إذنه أو عذره، فإنه لا يستلزم عدم صحة الصلاة؛ لأن التحريم يعود إلى معنًى خارجٍ عن الصلاة، وهو الافتيات على الإمام، والتقدم على حقه؛ فلا تبطل به الصلاة.
وإنـما أوردنا الخلاف في هذه المسألة؛ لأن بعض الناس يستهينون بـمقام إمام المسجد، ولا يعرفون له قدره، فربَّـما أقاموا الصلاة قبل وقتها المعتاد، أو في وقتها من غير انتظارٍ له، وهم بـهذا آثـمون، ومن العلماء من قال: لا تصح صلاتـهم، وإن كان القول الراجح أن صلاتـهم صحيحةٌ مع الإثم.
وفي المقابل: ينبغي لإمام المسجد أن يأذن لجماعة المسجد إذنًا عامًا، في أن يقيموا الصلاة إذا تأخَّر عن الوقت المعتاد، حتى لا يحرجهم.
ولكن: إذا تأخر الإمام عن الوقت المعتاد، وجماعة المسجد يعلمون من إمامهم أنه لا يكره أن يتقدم أحدٌ فيصلي بـهم، فلا بأس حينئذٍ أن يقدموا من يصلي بـهم.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلمٍ): “أن أبا بكرٍ الصديق أمَّ الناس لـمَّا ذهب رسول الله يصلح بين بني عمرو بن عوف، وأمّ عبد الرحمن بن عوف الناس في إحدى الغزوات لـمَّا تأخَّر رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام: أحسنتم أو قد أصبتم [4]، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.