عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
تكلمنا سابقًا عن المواضع المنهي عن الصلاة فيها، وتكلمنا عن حكم الصلاة في المقبرة، والحمَّام، والمرحاض، ومعاطن الإبل، ونستكمل هنا الحديث عن بقية المواضع المنهي عن الصلاة فيها، وعن المواضع التي تكره الصلاة فيها:
من المواضع المنهي عن الصلاة فيها
قد رُوي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: “أن النبي نـهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المزبَلَة، والمـجْزَرَة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمَّام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله” [1]، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه والبيهقي؛ من طريق زيد بن جُبيْـرَة، عن داود بن الحصين، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما به، وقال البيهقي: “تفرَّد به زيد”، وقال ابن عبد البر: “أجمعوا على تضعيفه”، وقال الحافظ ابن حجر في (التقريب): “هو متروكٌ”، فيكون هذا الحديث ضعيفًا من جهة السند، ولا تقوم به حجة.
أما الصلاة في المقبرة والحمَّام ومعاطن الإبل، فقد دلَّ على النهي عن الصلاة فيها أحاديث أخرى غير هذا الحديث، وقد سبق ذكرها.
حكم الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق
وأما الصلاة في المـجْزَرَة: وهي موضع نـحر الإبل، وذبح البقر والغنم، وفي المزبَلَة: وهي موضع الزَّبَل والقمامة، وفي قارعة الطريق التي تقرعها الأقدام، كالشوارع والأسواق؛ فمن الفقهاء من قال: لا تصح الصلاة فيها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، استدلالًا بـهذا الحديث، وقد سبق القول بأن هذا الحديث ضعيفٌ، لا تقوم به حجة، وحينئذٍ نقول: الصواب أنه تصح الصلاة في هذه الأماكن.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: “الصحيح جواز الصلاة فيها، وهو قول أكثر أهل العلم؛ لعموم قول النبي : وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا [2]، متفقٌ عليه، واستثنـي منه المقبرة، والحمام، ومعاطن الإبل، بأحاديث صحيحة، ففيما عدا ذلك يبقى على العموم، وحديث ابن عمر ضعيفٌ، فلا يُترَك بـها الحديث الصحيح”.
حكم الصلاة فوق ظهر الكعبة
وبقي من الأمور السبعة المذكورة في حديث ابن عمر: “وفوق ظهر بيت الله” والمراد فوق الكعبة.
فمن الفقهاء من قال: لا تصح الصلاة فوق الكعبة، كما لا تصح فيها.
ومنهم من قصر ذلك على الفريضة، فقالوا: لا تصح الفريضة دون النافلة في الكعبة ولا فوقها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال المالكية.
واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق ذكره، وبقول الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، قالوا: فالله تعالى قد فرض تولية الوجه نحو الكعبة، والمصلي فيها ليس مصليًا إليها.
والصحيح في هذه المسألة -والله أعلم- أنه تصح الصلاة في الكعبة مطلقًا، سواءٌ كانت فريضةً أو نافلة، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أنّ النبي صلى في جوف الكعبة ركعتين نافلةً” والأصل أن كل ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، ولا دليل يدل على التفريق بينهما في هذه المسألة.
وأما استدلال المانعين بحديث ابن عمر في النهي عن الصلاة في سبعة مواطن، ومنها: “وعلى ظهر بيت الله”، فسبق القول بأنه ضعيفٌ لا تقوم به حجة.
وأما الاستدلال بالآية الكريـمة: فليس فيها دلالة على عدم صحة الصلاة في الكعبة، لأن الله تعالى يقول: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وشطره بـمعنى: جهته، وهذا يشمل استقبال جميع الكعبة، أو جزء منها، كما فسَّرت ذلك السنة، بصلاة النبي في جوف الكعبة.
حكم الصلاة في حِجْر الكعبة
وبناءً على ترجيح هذا القول، نقول: تصح الصلاة في حِجْر الكعبة، فإنه جزءٌ من الكعبة، لكن لـمَّا قَصُرَت بقريشٍ النفقة؛ أخرجوا هذا الحجر منها، وقد تَـمنَّـى النبي إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، وإدخال الحجر فيها، ولكنه ترك ذلك خشية الفتنة.
ونختم بحث هذه المسألة أعني المواضع المنهي عن الصلاة فيها، بخلاصةٍ للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، حيث يقول: “الأصل أن الصلاة تصح في جميع بِقَاع الأرض، كما قال النبي : وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيـما رجُلٍ من أمتي أدركته الصلاة، فليصل [3]، وهذا عامٌّ لا يخرج منه شيءٌ، إلا ما صح به النقل عن النهي عنه، ومن ذلك الحمَّام، وأعطان الإبل، والصلاة في المقبرة وإليها، والحُشُّ، والأماكن النجسة عامَّةً.
وأما قارعة الطريق والمـجزَرَة والمزبلة إذا لـم يكونا نجستين، فلم يثبت به الحديث، فيبقى الحكم على الأصل، وكذلك الكعبة لـم يثبت الحديث في إبطال الصلاة فيها، وقد ثبت أن النبي صلى فيها النفل، وما ثبت في النفل ثبت في نظيره في الفرض، إلا ما خصه الدليل… قال: وأضعف ما يكون النهي عن الصلاة في أسطحة هذه المواضع”.
المواضع التي تُكرَه الصلاة فيها
وبعد أن انتهينا من الكلام عن المواضع المنهي عن الصلاة فيها، ننتقل للحديث عن المواضع التي تُكرَه الصلاة فيها، أي: أن الصلاة فيها تصح مع الكراهة.
فنقول: إن الصلاة تُكرَه أن تكون في موضعٍ يكون فيه ما يُلهي ويُشغِل المصلي، كأن يكون فيه تصاوير مثلًا.
قال ابن القيم رحمه الله: “وهو أحق بالكراهة من الصلاة في الحمَّام” يعني: الصلاة في مكانٍ فيه تصاوير؛ لأن كراهة الصلاة في الحمَّام، إما لكونه مَظِنَّة النجاسة، وإما لكونه بيت الشيطان -وهو الصحيح-، وأما محل الصور فمظنَّة الشرك، وغالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور”.
الصلاة في الأماكن التي فيها تصاوير
وكراهة الصلاة في المكان الذي فيه تصاوير، حتى وإن كانت هذه التصاوير لغير ذوات أرواح؛ لكونـها تُشغِل المصلي وتلهي المصلي، فقد جاء في الصحيح عن أنسٍ قال: “كان قِرَامٌ لعائشة -والقِرَام: سِتْرٌ فيه رقمٌ ونقش- قد سترت به عائشة جانب بيتها، فقال لها النبي : أميطي عنَّا قِرَامَك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تَعرِض لي في صلاتي [4].
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لهذا الحديث، بقوله: “بابٌ: إن صلى في ثوبٍ فيه تصاوير، هل تفسد صلاته؟ وما ينهى عن ذلك”.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: “أن ظاهر هذا الحديث لا يُوفِّي بجميع ما تضمَّنته الترجمة، إلا بعد التأمل؛ لأن الستر وإن كان ذا تصاوير، لكنه لـم يلبسه، ثم أجاب عن ذلك: بأن منع لبسه بطريق الأولى؛ لأن الصور إذا كانت تُلهي عن الصلاة وهي في مُقابَلَة المصلي، فكذلك تلهيه وهو لابسٌ لها، بل حالة اللبس أشد، ثم قال: وقد دلَّ الحديث على أن الصلاة لا تفسد بذلك؛ لأن النبي لـم يقطع صلاته، ولم يعدها”.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أيضًا: “أن النبي صلى في خَمِيصَة -وهي: كِسَاءٌ لها أعلام- فنظر إلى أعلامها نظرةً، فلـمَّا انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بإنبِجَانِيَّة أبي جهم -وهي: كِسَاءٌ من الصوف لا علم له- فإنـها -أي: الخميصة- ألهتني عن صلاتي آنفًا [5].
فدل هذا الحديث على أنه يكره للمصلي أن يلبس ما فيه أعلامٌ أو غيرها مـمَّا يشغل المصلي، وكذا يكره أن يصلي في مكانٍ فيه تصاوير، أو غيرها مـمَّا يُشغل ويلهي المصلي عن صلاته.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه المسائل، نلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.