عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أفضل المساجد
أولا: المسجد الحرام
لا شك أن أفضل المساجد هو المسجد الحرام، الذي قال الله تعالى فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:96-97].
وعن جابرٍ رضي الله عنهما: أن النبي قال: صلاةٌ في مسجدي هذا، أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام، فصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه [1]، أخرجه أحمد، وابن ماجه بسندٍ صحيح.
وتضعيف ثواب الصلاة في المسجد الحرام بـمائة ألف صلاةٍ فيما سواه، فضلٌ عظيمٌ، وأجرٌ جزيلٌ من الله سبحانه على عباده، وقد استنبط بعض أهل العلم من هذا: أن من صلى خمس صلواتٍ في المسجد الحرام، كان كمن صلى فيما سواه، وفيما سوى المسجد النبوي، ومسجد بيت المقدس، بستٍ وخمسين سنة وخمسة أشهر تقريبًا.
هل تضعيف الصلاة يشمل جميع الحرم؟
ولكن: هل التضعيف لأجل الصلاة في المسجد الحرام خاصٌ بالمسجد الذي فيه الكعبة، أو أنه يشمل جميع الحَرَم؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
- القول الأول: أن التضعيف يشمل جميع الحرم، وعلى ذلك: فهو يشمل جميع مساجد مكة، بل جميع المساجد الداخلة في حدود الحرم.
واستدلوا بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، قالوا: والمشركون مـمنوعون من الحرم كله، وليس فقط من المسجد في قول عامّة أهل العلم.
واستدلوا كذلك بقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، قالوا: وقد أسري بالنبي من بيت أم هانئ، وليس من المسجد.
- القول الثاني: أن تضعيف الأجر في الصلاة في المسجد الحرام خاصٌ بالمسجد الذي فيه الكعبة فقط، ولا يشمل ذلك جميع الحرم، وهذا القول هو ظاهر مذهب الحنابلة، كما ذكر ذلك صاحب (الفروع) وغيرها.
واستدلوا بـما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن ميمونة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: صلاةٌ فيه -أي: في المسجد النبوي- أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه، إلا مسجد الكعبة [2]، فخصَّ ذلك بـمسجد الكعبة، فدل هذا الحديث على أن تضعيف الصلاة في الحرام إنـما يختص بـمسجد الكعبة، ولا يشمل جميع الحرم.
وهذا القول الأخير لعله هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- لأن هذا الحديث كالصريح في هذه المسألة.
ومـمَّا يدل لذلك أيضًا: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى [3].
ولو شدَّ أحدٌ الرحل إلى مسجدٍ من مساجد مكة الواقعة داخل حدود الحرم، غير مسجد الكعبة؛ لعدَّ فعله هذا منكرًا، فإذا كان شَدُّ الرَّحْل خاصًا بالمسجد الذي فيه الكعبة؛ كان التضعيف خاصًّا به أيضًا؛ لأنه إنـما جاز شدُّ الرحل من أجل هذا التضعيف؛ ليدركه من شدَّ الرحل.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول من قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، فلا دلالة فيه على أن التضعيف يشمل الحرم كله؛ لأن الله تعالى قال فيها: فَلا يَقْرَبُوا ولـم يقل: فلا يدخلوا، وعليه: فالمراد بالمسجد الحرام فيها مسجد الكعبة، نُـهُوا عن قُربَانه؛ وذلك بألا يدخلوا حدود الحرم، ولو كان المراد بالمسجد الحرام في الآية جميع الحرم؛ لكان المشركون منهيين عن قربان الحرم، لا عن الدخول فيه، ولكان بين حدود الحرم المكان المباح لهم مسافةٌ تفصل بينهم وبين الحرم، بحيث لا يكونون قريبين منه.
وأما استدلالهم بقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، وأنه عليه الصلاة والسلام إنـما أسري من بيت أم هانئ، فإن هذه الرواية غير ثابتة، والرواية الصحيحة المـحفوظة الواردة في الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام أُسري به من حِجْر الكعبة [4].
والحاصل: أن الأظهر في هذه المسألة أن تضعيف أجر الصلاة بـمائة ألف صلاة، أنـه خاصٌ بالمسجد الحرام الذي فيه الكعبة، ولا يشمل ذلك جميع الحرم، ولكن مع ذلك: فإن الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في الحل.
ويدل لذلك: أن النبي لـمَّا كان بالحديبية إذا أراد أن يصلي؛ دخل في حدود الحرم.
وهذا التضعيف للأجر لمن صلى بالمسجد الحرام بـمائة ألف صلاة فيما سواه يشمل الفريضة والنافلة؛ لعموم الحديث، فإنه قال: صلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه ولـم يُقيِّد ذلك بصلاة الفريضة، والله تعالى أعلم.
ثانيًا: مسجد النبي
ويلي المسجد الحرام في الفضل: مسجد النبي ؛ فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فيما سواه بألف صلاة، سوى المسجد الحرام.
ففي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة : أن النبي قال: صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام [5].
ثالثًا: بيت المقْدِس
ويليه في الفضل: الصلاة في بيت المقْدِس.
ففي حديث أبي الدرداء : أن النبي قال: صلاةٌ في بيت المقدس أفضل مـمَّا سواه من المساجد بخمسمائة صلاة [6]، أخرجه الطبراني، وابن خزيـمة، والبزار، وقال البزار: إسناده حسن.
رابعًا: مسجد الحي
ثم يلي هذه المساجد الثلاثة في الفضل: مسجد الحي الذي يقيم فيه الإنسان.
وذلك لأن الصلاة في مسجد الحي تتحقق معها المصالح التي قصدها الشارع من إيجاب صلاة الجماعة في المسجد، من حصول التَّواد والمـحبَّة والائتلاف وتواصلهم فيما بينهم، وتعاونـهم على البـرِّ والتقوى، إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة، والتي سبق الحديث عنها في سابقًا، وبـهذا يعلم أن الصلاة في مسجد الحي الذي يقيم فيه الإنسان، أفضل حتى في صلاة التراويح؛ لكون الصلاة في مسجد الحي تحقِّق المصالح التي قُصدت من شرعية الصلاة في المسجد.
المسجد الأكثر جماعة
ويلي مسجد الحي في الفضل: المسجد الأكثر جماعة.
ويدل لذلك: حديث أُبَـيُّ بنِ كعب : أن النبي قال: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كانوا أكثرَ فهو أحب إلى الله تعالى [7]، أخرجه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وصححه ابن المديني، وابن السكن.
وعليه: فإذا وجد مسجدان أحدهما أكثر جماعةً من الآخر، فالأفضل الصلاة في المسجد أكثر جماعة.
خامسًا: المسجد العتيق
ويليه في الفضل: الصلاة في المسجد العتيق، أي: القديم.
فالصلاة فيه أفضل من الصلاة في المسجد الجديد؛ لأن الطاعة فيه أقدم، وعليه: فإذا كان هناك مسجدان يتساويان في الجماعة، لكن أحدهما عتيقٌ والآخر جديد؛ فالصلاة في المسجد العتيق أفضل.
وقد استنبط بعض العلماء ذلك من قول الله سبحانه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “وقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، فيه دليلٌ على استحباب الصلاة في المساجد المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين، والعبَّاد العالمين، المـحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزُّه عن مُلابَسة القاذورات”.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية