عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
حكم صلاة الجماعة في المسجد
ذكرنا سابقًا الأدلة على وجوب صلاة الجماعة، ومع كونـها واجبةً؛ فإنه يلزم فعلها في المسجد، وليس للرجل فعلها في بيته في أظهر أقوال أهل العلم.
ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيُحتَطَب، ثم آمر بالصلاة فتُقَام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجالٍ معهم حُزمٌ من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة؛ فأُحرِّق عليهم بيوتـهم بالنار [1].
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله عليه الصلاة والسلام: إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة [2]، يدل على وجوب صلاة الجماعة في المسجد؛ لأنه لو كانت صلاة الجماعة في المسجد غير واجبة؛ لاستثنى من يصلي في بيته.
ويدل لذلك أيضًا: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي قال: من سمع النداء فلم يُجِب، فلا صلاة له إلا من عذر [3]، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، وقال: “صحيحٌ على شرط الشيخين”، وصححه الحافظ ابن حجر في (التلخيص).
وهذا هو المستقر عند الصحابة ، كما قال ابن مسعودٍ : “من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليُحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بـهنَّ، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنـهنَّ من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، قال: ولقد رأيتُنَا -يعني: الصحابة- وما يتخلَّف عنها -أي: عن صلاة الجماعة في المسجد- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهَادى بين الرجلين، حتى يُقَام في الصف” [4].
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من تأمَّل السنة حق التأمُّل تبيَّـن له أن فعلها في المساجد فرضٌ على الأعيان، إلا لعارضٍ يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذرٍ، كترك حضور أصل الجماعة لغير عذر، وبـهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار”.
قال رحمه الله: “فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحدٍ التخلُّف عن الجماعة في المسجد إلا من عذرٍ”.
حالات المتخلف عن صلاة الجماعة
إن المتخلِّف عن صلاة الجماعة إذا صلى وحده له حالتان:
- الحال الأولى: أن يكون معذورًا في تَـخلُّفه، كأن يتَخلَّف لمرضٍ ونحوه، وليس من عادته التخلف عن الجماعة لولا العذر، فهذا يكتب له أجر من صلى في الجماعة كاملًا.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح البخاري) عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله قال: إذا مرض العبد أو سافر، كُتِب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [5]، وفي روايةٍ لأحمد: أن النبي قال: ما من أحدٍ من المسلمين يُبتلى ببلاءٍ في جسده، إلا أمر الله الحفَظَة الذين يحفظونه: اكتبوا لعبدي في كل يومٍ وليلةٍ مثلما كان يعمل وهو صحيحٌ [6].
- الحال الثانية: أن يكون تخلُّفه عن صلاة الجماعة لغير عذر، فهذا يأثم بترك الجماعة، وقد سبق ذكر الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجماعة.
ووجوب صلاة الجماعة يقتضي تأثيم من تركها لغير عذر، ثم إن الذي يتخلف عن صلاة الجماعة بغير عذرٍ، يخسر أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلًا.
من وصل المسجد ووجد الإمام قد سلم
ينبغي للمسلم أن يحرص على تحصيل الجماعة، حتى لو قُدِّر أنه دخل المسجد، فوجد جماعة المسجد قد صلوا، فينبغي له أن يبحث عن جماعةٍ أخرى، مـمَّن فاتتهم الجماعة فيصلوا معه، فإن لَـم يجد، فيطلب من أحدٍ من الناس ممن قد صلى أن يتصدَّق عليه بالصلاة معه، وهذا ما يسميه الفقهاء: بإعادة الجماعة.
فإذا كان ذلك عارضًا ولـم يكن أمرًا راتبًا فلا بأس به؛ لحديث أبي سعيدٍ : “أن رجلًا دخل المسجد، وقد صلى النبي بأصحابه، فقال عليه الصلاة والسلام: من يتصدق على ذا فيصلي معه؟، فقام رجلٌ فصلى معه” [7]، أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد بسندٍ صحيح.
ولكن ينبغي ألا يكون ذلك أمرًا راتبًا، فإن كونه أمرًا راتبًا، يفضي إلى التفرُّق والاختلاف، وينافي مقصود الشارع من الجماعة، ثم إنه مدعاةٌ للكسل؛ لأن من الناس من سيتوانى عن حضور الجماعة مع الإمام الراتب الأول، بحجة وجود جماعةٍ أخرى، ويستثنى من ذلك: ما إذا كان المسجد مسجد سوقٍ، أو على طريقٍ عامٍّ يتردَّد الناس للصلاة فيه، فيأتي الرجلان والثلاثة والعشرة يصلون ثم يخرجون، فلا تُكره إعادة الجماعة فيه في هذه الحال؛ لأن هذا المسجد قد أُعدَّ من أصله لجماعاتٍ متفرقة.
فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
وأختم هذه الحلقة بنقل فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، جاء فيها: “من جاء إلى المسجد فوجد الجماعة قد صلوا بإمامٍ راتبٍ أو غير راتب، فليصلها جماعةً مع مثله ممن فاتتهم الجماعة، أو يتصدق عليه بالصلاة معه بعض من قد صلى.
لِمَا روى أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن أبي سعيدٍ الخدري : “أن رسول الله أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال: ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجلٌ فصلى معه” [8].
ورواه الترمذي عن أبي سعيدٍ قال: “جاء رجلٌ وقد صلى رسول الله فقال: أيكم يأْتَـجِرُ على هذا؟ فقام رجلٌ فصلى معه” [9]، قال الترمذي: حديثٌ حسن، ورواه الحاكم وصححه.
قال أبو عيسى الترمذي: “وهو قول غير واحدٍ من الصحابة والتابعين، قالوا: لا بأس أن يصلي القوم جماعةً في مسجدٍ قد صُلِّي فيه جماعة، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال آخرون: يصلون فُرادى، وبه يقول سفيان، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، يختارون الصلاة فرادى”.
وإنـما كره هؤلاء ومن وافقهم ذلك؛ خشية الفرقة، وتوليد الأحقاد، وأن يتخذ أهل الأهواء من ذلك ذريعةً إلى التأخُّر عن الجماعة؛ ليصلوا جماعةً أخرى خلف إمامٍ يُوافقهم على نِحْلَتهم وبدعتهم، فسدًّا لباب الفرقة، وقضاءً على مقاصد أهل الأهواء السيئة؛ رأى أصحاب هذا القول ألا تُصلَّى فريضةٌ جماعةً في مسجدٍ بعد أن صُلِّيت فيه الجماعة.
والقول الأول هو الصحيح؛ لِمَا تقدم من الحديث؛ ولعموم قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقول النبي : إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم [10].
ولا شك أن الجماعة من تقوى الله تعالى، ومـمَّا أمرت بـها الشريعة، فينبغي الحرص عليها على قدر المستطاع، ولا يصح أن يُعارَض النقل الصحيح بعللٍ رآها بعض أهل العلم، وكرهوا تكرار الجماعة في المسجد من أجلها، بل يجب العمل بـما دلَّت عليه النُّقُول الصحيحة.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية