جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا وسهلًا، حياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
كتاب الطهارة
المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا. لعلنا نبتدئ الحديث في هذه الحلقة وما يتبعها من حلقات -إن شاء الله تعالى- في سلسلة فقهية تتعلق بالمسائل التي يحتاج إليها الناس في واقعهم العملي، مبتدئين في ذلك بما درج عليه الفقهاء في البدء في مصنفاتهم بـ"كتاب الطهارة"، فإن رأيتم أن نبدأ فيما يتعلق بهذا الكتاب بالحديث أولًا عن تعريف الطهارة، ما المقصود بها؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أولًا: نجد أن كثيرًا من الفقهاء عندما يُصنِّفون في الفقه يبدؤون بـ"كتاب الطهارة"؛ وذلك لأن الطهارة هي مفتاح الصلاة، وهي شرطٌ من شروط صحتها، والصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولأن الطهارة تخليةٌ من الأذى، والأَوْلى البدء بالتخلية قبل التحلية.
تعريف الطهارة
والطهارة معناها اللغوي: النظافة والنزاهة عن الأقذار، ومنه قول الله : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].
وأما تعريف الطهارة في اصطلاح الفقهاء فهي: "ارتفاع الحدث -وما في معناه- وزوال الخَبث".
"ارتفاع الحدث" ما هو الحدث؟
الحدث: وصفٌ معنويٌّ يقوم بالبدن، فهو وصفٌ معنويٌّ، ليس شيئًا حسيًّا، ليس كالنجاسة حسية، وإنما هو شيءٌ معنويٌّ، فهو وصفٌ معنويٌّ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما يُشترط له الطهارة. فهذا هو الحدث.
وبعضهم يُضيف بعد "ارتفاع الحدث" للتعريف، يقول: "وما في معناه"، "ارتفاع الحدث وما في معناه"؛ لإدخال الأشياء المستحبة في وصف الطهارة: كغسل الجمعة وتجديد الوضوء ونحوهما؛ فإن هذه لا يقال إن فيها رفعًا للحدث مع أنها داخلة في معنى التطهير والطهارة؛ فعلى هذا يكون التعريف: "ارتفاع الحدث وما في معناه"؛ لإدخال الأمور المستحبة.
"وزوال الخَبث"، قلنا: "زوال" ولم نقل: "إزالة"؛ حتى يشمل ما زال بنفسه وما زال بمزيل؛ فإن ذلك كله داخلٌ في معنى الطهارة.
وعندما نقول: "زوال الخَبث"، ما هو الخبث؟
الخبث هو النجاسة، والنجاسة تعريفها عند الفقهاء هي: "كل عين يحرم تناولها لا لضررها، ولا لاستقذارها، ولا لحرمتها"، هذا من أحسن ما قيل في تعريفها، فهي: "كل عين يحرم تناولها لا لضررها" احترازًا مما يحرم تناوله لضرره مثلًا كالسم، "ولا لاستقذارها" احترازًا مما لا يُتناول لاستقذاره كالمخاط ونحوه، "ولا لحرمتها" احترازًا مما يحرم تناوله لحرمته كالصيد مثلًا في الحرم أو للمحرم.
قبل أن نتجاوز -أيضًا- التعريف أُحب أن أُشير إلى أن الحرص على الطهارة والتطهر من الأمور المحمودة، بل إن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، فتأمَّلْ قول الله تعالى: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، فهذا الذي يحرص على التطهر والطهارة؛ هذا إذا كثر منه ذلك بحيث أصبح يصدق عليه وصف المتطهر فإنه يكون من الذين يحبهم الله . وهذه الآية ينبغي أن يضعها المسلم نُصْبَ عينيه: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
فعلى المسلم أن يحرص على الطهارة وعلى التطهر، وأن يكون متطهِّرًا عند الصلاة، وكذلك أيضًا حتى في غير الصلاة يحرص على أن يكون الغالب على وقته الطهارة، ويتأكد ذلك مثلًا قبل النوم، فقد كان النبي قبل أن ينام يتوضأ. وكذلك أيضًا عند الإتيان بنافلة من النوافل مثلًا كتلاوة القرآن ونحو ذلك.
فإذا كان المسلم حريصًا على الطهارة والتطهر فإنه يُصبح متطهرًا ويصدق عليه الوصف في الآية: الْمُتَطَهِّرِينَ، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
أقسام المياه
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. كذلك الفقهاء يتطرقون في هذا الباب في مسألة هي من كُبْرَيَات مسائل الطهارة: وهي ما يتعلق بأقسام المياه، فما أقسام المياه في هذا الباب؟
الشيخ: أقسام المياه اختلف الفقهاء فيها، فالجمهور على أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- طَهُور.
- وطاهر.
- ونَجِس.
وإلى هذا ذهبت المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الرواية المشهورة.
والقول الثاني: إن الماء ينقسم إلى قسمين فقط؛ إلى:
- طهور.
- ونجس.
وأنه لا وجود لقسم طاهر غير مُطهِّر. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال به بعض الفقهاء في المذاهب.
أما الجمهور -وهم القائلون بتقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام -طَهُور وطاهر ونَجِس- فقالوا: إن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهِّر لغيره. وأما الطاهر: فهو الطاهر في نفسه غير المُطهِّر لغيره. والنَّجِس ما عدا ذلك وهو ما تغيرت أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة.
واستدلوا لهذا التقسيم بحديث أبي هريرة أن النبي قال: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جُنُب. أخرجه مسلم في "صحيحه"[1]. وبحديث أبي هريرة أن النبي قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده متفق عليه[2].
ووجه الاستدلال: أن النبي في الحديث الأول نهى الجُنُب عن الاغتسال في الماء الراكد، ومعلومٌ أن هذا الماء ماءٌ طاهرٌ غير نجس، قالوا: فدل هذا على أن اغتسال الجُنُب فيه يجعله طاهرًا غير مُطهِّر. وأما الحديث الثاني فنهى المستيقظَ من النوم عن أن يغمس يده في الإناء قبل غَسْلها مع أن اليد طاهرة وليست نجسة، فلولا أن هذا الغمس يُفيد منعًا في الماء لم يَنْهَ عنه؛ فدل على أن هذا الماء يكون طاهرًا غير مُطهِّر.
وأما أصحاب القول الثاني وهم القائلون بأن الماء ينقسم إلى قسمين: إلى طَهُور ونَجِس، وإنه لا وجود لقسمِ طاهرٍ غير مُطهِّرٍ، هذا القول -كما ذكرت- هو رواية عند الحنابلة، وقال به بعض فقهاء المالكية والشافعية، واختاره الإمام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع، بل إن ابن تيمية رحمه الله يقول روايةً عن الإمام أحمد في هذا القول -وهو أن الماء ينقسم إلى طَهُور ونَجِس فقط- يقول: "إنها هي الرواية التي نص عليها الإمام أحمد في أكثر أجوبته"، والذي نص عليه فقهاء الحنابلة: هو أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
واستدل أصحاب هذا القول -أعني القول الثاني- على أن الماء ينقسم إلى طهور ونجس: بأن النصوص من الكتاب والسنة إنما وردت بذكر هذين القسمين: الطهور والنجس، وأنه لا وجود لقسم ثالث يكون فيه الماء طاهرًا غير مُطهِّر، لا وجود له في الكتاب والسنة، وهذا القسم -الطاهر غير المُطهِّر- إذا اختلط بشيءٍ طاهر ولم يَغْلِب على اسمِه ولا زال يُسمى "ماءً" فهو في الحقيقة طَهُور؛ لأنه يُسمى ماءً ولم يتغير بنجاسة. أما إذا تغيرت أجزاؤه بشيءٍ طاهرٍ بحيث غَلَب على اسمه فأصبح لا يُسمى "ماءً" وإنما أصبح يسمى مثلًا لبنًا أو أصبح يُسمى مرقًا أو نحو ذلك بحسب ما تغيَّر به؛ فيقولون: هذا ليس بماءٍ أصلًا، ولا يدخل في تقسيم الماء.
وعند الموازنة بين ما استدل به أصحاب القول الأول والثاني نجد أن القول الثاني هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: وهو أن الماء ينقسم إلى قسمين، إلى طهور ونجس. وكما ذكرت اختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وهو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية؛ لقوة دليله؛ ولأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجود قسم ثالث من الماء يكون فيه طاهرًا غير مُطهِّر.
وأما ما استدلوا به من حديث نهي الجُنُب عن الاغتسال في الماء الراكد؛ فهذا لا يقتضي أنه يُصبح طاهرًا غير نجس، يعني ما الدليل لهذا؟ وإنما هذا من الآداب التي أرشد إليها النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجنب لا يغتسل في الماء الراكد لأجل ألا يُقذِّره. وهكذا أيضًا نَهْيُ المستيقظ من النوم عن أن يغمس يده في الإناء، يعني ليس هناك دليلٌ يدل على أن هذا الماء يكون طاهرًا غير مطهر، لكن العلة هي قول النبي عليه الصلاة والسلام: فإنه لا يدري أين باتت يده[3]، فنجد أن الأدلة التي استدل بها الجمهور ليست صريحة في وجود قسم ثالث هو ماء طاهر غير مُطهِّر.
وعلى هذا؛ فالقول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- أن الماء ينقسم إلى قسمين فقط، إلى طهور ونجس، وأنه ليس هناك وجود لقسم طاهر غير مطهِّر.
المراد بالماء الطهور
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. في هذه المسألة تحديدًا عند من يرى أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وجعل منها القسم الطاهر، فلو أردنا أن نُحرِّر معنى الطاهر عند أصحاب هذا القول، ما المقصود به؟
الشيخ: يعني هم قالوا: طهور وطاهر ونجس، لو نبدأ بالطهور أولًا.
المقدم: لا بأس.
الشيخ: نبدأ بالطهور على أساس نمشي على الترتيب الذي ذكرناه بداية الحلقة.
أصحاب هذا القول -وهم الجمهور- قسَّموا الماء إلى طهور وطاهر ونجس.
فقِسم الطهور؛ الطهور معناه: الباقي على خِلْقته التي خلقه الله عليها، فيشمل ذلك مياه الأنهار والأمطار والعيون ونحو ذلك. فهذا هو قسم الطهور، وهذا هو الذي يرفع الحدث ويُزيل الخبث عند جميع العلماء، فلم يتغير بنجاسة، ولم يتغير أيضًا بشيءٍ طاهر، وإنما هو باقٍ على خلقته التي خلقه الله عليها. هذا القسم هو القسم الطهور، فهو طاهرٌ في نفسه مطهِّر لغيره.
المراد بالماء الطاهر
المقدم: هذا ما يتعلق بالطهور. ما يتعلق بالطاهر؟
الشيخ: القسم الطاهر، طبعًا هذا إنما يكون على القول الأول وهو قول الجمهور: وهو تقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس، وإلا على القول الثاني -وهو الذي رجحناه أن الماء إنما ينقسم إلى طهور ونجس- فليس هناك وجودٌ لقسمِ طاهرٍ غيرِ مُطهِّرٍ، لكن على قولِ مَن قسَّمه إلى طهور وطاهر ونجس فضابط الطاهر عندهم هو ما تغير لونه أو طعمه أو ريحه بشيءٍ طاهر، يعني ما تغيرت أحد أوصافه الثلاثة -اللون والطعم والرائحة- بشيءٍ طاهر: كأن يتغير مثلًا بالزعفران، أو يتغير بماء الورد، ونحو ذلك. فهذا القسم يسمونه "طاهرًا" وليس بـ"طَهُور".
وكذلك أيضًا الماء المستعمل في الطهارة يُدخلونه في هذا القسم، فهذا يقولون: إنه طاهر في نفسه غير مُطهِّر لغيره، يعني حالة وسط، ليس هو من قسم الطهور الذي هو طاهرٌ بنفسه مُطهِّر لغيره، وليس من النَّجِس، وإنما طاهرٌ في نفسه غير مُطهِّر لغيره.
وسبق القول الراجح في هذه المسألة: أن هذا الماء الذي تغير بشيءٍ أنه في الحقيقة ماءٌ طَهُورٌ يجوز التطهر به، ويرفع الحدث ويُزيل الخَبث، بشرط ألا يغلب عليه اسم هذا الطاهر الذي تغير به.
المقدم: بحيث يخرج عن مسمى الماء؟
الشيخ: نعم، بحيث يخرج عن مسمى الماء فأصبح لا يسمى "ماءً".
مثلًا: أصبح يسمى قهوة، أو أصبح يسمى مرقًا، أو يسمى شايًا، أو نحو ذلك من أسماء الطاهرات؛ فهذا في الحقيقة ليس بماء أصلًا ولا يُتطهر به؛ لأنه لا يُتطهر إلا بالماء؛ ولهذا قال ابن المنذر رحمه الله: "أجمعوا على أن الوضوء لا يجوز بماء الورد وماء الشجر وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء".
المقدم: وإذا كان يسمى ماءً، لكن بإضافةِ اسمٍ آخَرَ إليه: كماء الورد.
الشيخ: هذا سيأتي الكلام عنه بعد قليل.
ضابط الماء النجس
المقدم: القسم الثالث -سلَّمكم الله- فيما يتعلق بالماء النجس، ما ضابط الماء النجس؟
الشيخ: الماء النجس هو: "ما تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة"، هذا هو الماء النَّجِس، يعني تغيرت أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة فظهرت فيه رائحة نجاسة مثلًا، أو طعمه أيضًا فأصبح طعم نجاسة، أو لونه بدا عليه لون نجاسة، فإذا تغيرت أحد أوصافه الثلاثة: تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة؛ فهو من هذا القسم، من الماء النَّجِس، لا يجوز التطهر به وليس مُطهِّرًا لغيره.
أثر النجاسة الواقعة على الماء
المقدم: أحسن الله إليكم، في هذه المسألة تحديدًا يذكر الفقهاء -أحسن الله إليكم- مسألةً يُقسِّمون فيها الماء إلى قليل وكثير، ويرون لذلك أثرًا في النجاسة الواقعة على الماء من عدمها وفي مسائل أخرى. فما المقصود بالماء القليل والكثير عند الفقهاء في هذا الباب؟
الشيخ: من الفقهاء من يُقسِّم الماء إلى قليل وكثير، ومنهم من لا يُقسِّم الماء ويقول الماء قسم واحد.
فالذين قسَّموا الماء إلى قليل وكثير: هم الجمهور: الحنفية والشافعية وهو أيضًا الرواية المشهورة عند الحنابلة، فقالوا: إن الماء إما أن يكون قليلًا أو كثيرًا، فإذا كان أقل من قُلَّتين فهو ماءٌ قليل، أما إذا بلغ قُلَّتين فأكثر فهو ماء كثير، واستدلوا بقول النبي : إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. والحديث أخرجه أصحاب السنن وأحمد[4]، وفي صحته كلام لأهل العلم، في سنده مقال، ولكن على تقدير صحته ليس صريحًا في تقسيم الماء إلى قليل وكثير؛ لأن من استدلوا به استدلوا بمفهومه: وهو أن الماء إذا لم يبلغ قُلَّتين حمل الخبث، أما إذا بلغ قُلَّتين فأكثر فإنه لا ينجس بالتغير، وهذا الاستدلال محل نظر.
وأصحاب القول الثاني قالوا: إن الماء قسمٌ واحدٌ لا ينقسم إلى قليل وكثير، بل الماء قسمٌ واحدٌ: وهو أن الأصل في الماء أنه طهور إلا إذا تغيرت أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة، إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة فهو نجس. وهذا القول ذهب إليه المالكية، وهو رواية عند الحنابلة، واختارها ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وهو القول الراجح: وهو أن الماء قسمٌ واحدٌ طَهُورٌ، إلا إذا تغيرت أحد أوصافه الثلاثة فإنه يُصبح نجسًا. أما تقسيم الماء إلى قليل وكثير فليس عليه دليل ظاهر.
لكن الجمهور وهم القائلون بأن الماء ينقسم إلى قليل وكثير فاستدلوا بحديث القُلَّتين، وقالوا: إذا كان الماء قليلًا -يعني دون القلتين- فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، حتى لو لم يتغير بنجاسة. هذا هو الفرق، إذا كان أقل من قُلَّتين عند الجمهور بمجرد ملاقاة النجاسة ينجس ولو لم يتغير، حتى لو وقع فيه نجاسة على قَدْر رأس الذباب يُعتبر نَجِسًا، أو أصابه شيءٌ من رشاش البول عندهم يُعتبر نجسًا، لكن إذا بلغ قُلَّتين لا ينجس إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه. هذا هو الفرق بينه وبين القول الثاني.
أصحاب القول الثاني قالوا: لا، الماء الأصل أنه طهور لا ينجس إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه، سواءٌ أكان قليلًا أو كثيرًا، سواءٌ بلغ قُلَّتين أو أقل من قُلَّتين أو أكثر من قُلَّتين، واستدلوا بحديث بئر بُضَاعة: أنه قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئرٌ يُطرَح فيها الحِيَضُ ولحم الكلاب والنَّتْنُ؟ فقال النبي : إن الماء طَهُور لا يُنجِّسُه شيء[5]، وقالوا: فهذا الحديث يدل على أن الماء طهور، ويُستثنى من ذلك ما إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة؛ فإنه ينجس بالإجماع.
وأيضًا من جهة النظر، قالوا: إن علة النجاسة هي الخَبث، فمتى وُجد الخَبث في الشيء فهو نجس، ومتى لم يوجد فليس بنجس، فالماء يُصبح نجسًا إذا تغير بنجاسة، وإلا فالأصل أنه طهور.
والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن الماء طهور، ولا ينجس إلا بتغير لونه أو طعمه أو ريحه، سواءٌ أكان قليلًا أو كثيرًا، وهذا هو الذي الآن يُفتي به عامة مشايخنا، شيخنا ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وأكثر المحققين من أهل العلم على هذا القول، رحمة الله تعالى على الجميع.
بقي كيف نجيب عن حديث القُلَّتين على تقدير صحته؛ لأن من أهل العلم أيضًا من صحح إسناده؟
فالجواب: على تقدير ثبوت هذا الحديث، فهذا الحديث له منطوق ومفهوم، منطوقه: أن الماء إذا بلغ قُلَّتين لم يحمل الخبث. ومفهومه: أن الماء إذا لم يبلغ قُلَّتين حمل الخَبث، لكن هذا المفهوم ليس على إطلاقه؛ لأن الماء إذا كان دون القُلَّتين ولم يقع فيه خَبَثٌ فإنه لا يحمل الخَبَث بالإجماع، وحديث القُلَّتين لم يذكره النبي ابتداءً، وإنما ذكره جوابًا لسؤالٍ كما جاء في "سنن أبي داود": أن النبي سُئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث[6].
ولابن تيمية رحمه الله تعليق لطيف على هذا، قال: إن النبي لم يذكر هذا التقدير ابتداءً، وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاةِ التي تَرِدُها السباع والدواب، والتخصيص إذا كان له سببٌ غير اختصاص الحكم لم يبقَ حجة.. ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام: لم يحمل الخبث فيه إشارة إلى مناط التنجيس: وهو حمل الخَبث، والخَبث هو النجاسة، حيث كان الخَبث موجودًا في الماء كان نجسًا، وحيث كان مستهلكًا غير محمول في الماء كان باقيًا على طهارته.
ثم أيضًا لو أخذنا أسوأ التقديرات على تقدير التعارض بين حديث القُلَّتين: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث[7]، وحديث بئر بُضَاعة: إن الماء طهور لا ينجسه شيء[8]، فحديث بئر بضاعة مقدم لماذا؟
أولًا: هو أصح من جهة الإسناد كما قال الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم، ثم أيضًا حديث بئر بضاعة يدل على طهارة الماء بمنطوقه، أما حديث القُلَّتين فإنما يُستدل به على تنجيس ما دون القُلَّتين إذا لاقى نجاسة بمفهومه، وعند تعارض المنطوق والمفهوم فإن المنطوق مُقدَّم على المفهوم كما هو مقرر عند الأصوليين.
وأيضًا من جهة النظر، يترتب على القول الأول -وتقسيم الماء إلى قليل وكثير- أن كل ماء دون القُلَّتين لو وقعت فيه نجاسةٌ ولو كرأس الذباب فإن هذا الماء كله يكون نجسًا، وهذا في الحقيقة مخالفٌ للحِسِّ؛ إذ إنه قد يَحمل الخَبث وقد لا يحمل الخَبث، وحملُ الخبث أمرٌ حسيٌّ يعرفه الناس، فكيف نقول: لو أصابه نجاسة كرأس الذباب كان هذا الماء كله نجسًا؛ فهذا بعيدٌ عن أصول وقواعد الشريعة.
وعلى هذا نقول: القول الراجح أن الماء قسمٌ واحد، هو طهورٌ إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة فهو نجِسٌ، سواءٌ كان قليلًا أو كثيرًا. أما تقسيم الماء لقليل دون قُلَّتين، وأنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ولو كانت النجاسة كرأس الذباب؛ هذا قولٌ ليس عليه دليل ظاهر، وما استدل به أصحاب هذا القول أجبنا عنه.
فعلى هذا الماء نقول: إنه طَهُورٌ إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة؛ طعمه أو لونه أو ريحه، وأيضًا ينقسم إلى طهور ونجس فقط، وإنه ليس هناك وجودٌ لقسم طاهر غير مطهِّر.
مقدار القلتين بالأوزان المعاصرة
المقدم: أحسن الله إليكم. في هذا الصدد: هنا مسألتان الحقيقة، المسألة الأولى فيما يتعلق بالقُلَّتين وما ذكرتم فيها، هل يمكن أن تُقدَّر بالأوزان المعاصرة؟
الشيخ: أولًا: الفقهاء السابقون قدَّروا القُلَّتين بخمسمائة رطل بالعراقي، وثمانين رطلًا وسُبْعَين ونصف سُبعِ رِطْلٍ بالقُدسي. وهذه الآن تقديرات لا تكاد تُعرف في الوقت الحاضر، هي تقديراتٌ قديمةٌ.
فالرِّطْل العراقي تسعون مثقالًا، والمثقال أربعةُ جراماتٍ وربعٌ، فنضرب تسعين في أربعة جراماتٍ وربعٍ فتكون النتيجة. فخمسمائة رِطل يساوي: تسعين مثقالًا في أربعةٍ وربعٍ؛ فيكون الناتج ثلاثَمائة واثنين وثمانين ونصفًا إذا ضربناها في خمسمائة فيكون الناتج. طيب، نعيدها مرة ثانية.
نعم، هناك تقديرات قديمة للفقهاء السابقين، يقولون: هو خمسمائة رطل بالعراقي، وثمانون رطلًا وسُبعان ونصف سُبعِ رطل بالقدسي، وهذه التقديرات الآن لا تكاد تُعرف، لكن يُعادل ذلك بالتقدير المعاصر (191) لترًا.
وبناءً على القول الراجح: وهو أن الماء قسم واحد، وأنه طَهُور إلا إذا تغيرت أحد أوصافه الثلاثة لونه أو طعمه أو ريحه، وأن الماء لا ينقسم إلى قليل وكثير، أقول بناءً على القول الراجح: لا نحتاج لهذا التقدير.
حكم الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. إذا كان الماء قليلًا ووقعت فيه النجاسة، هل ينبغي أن يقال بالاحتياط في هذا الماء؛ لأن تأثُّره بالنجاسة أمرٌ واردٌ بشكل كبير؟
الشيخ: إذا كان واردًا بشكل كبير فنعم يُحتاط؛ لأنه ربما يكون الماء متغيرًا بالنجاسة، وقد لا يكون نظر الإنسان دقيقًا، لكن هذا إذا كان الاحتمال بشكل كبير، أما إذا كان الاحتمال ليس كبيرًا وإنما هذا الماء لم يظهر تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه بنجاسة؛ فيُستصحب الأصل: وهو أن الأصل في الماء الطهارة، ويبقى على هذا الأصل.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر موصول لمن قام بتسجيل هذه الحلقة: أخي عثمان بن عبدالكريم الجويبر.
والشكر لكم -أنتم أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- على استماعكم وإنصاتكم، إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.