المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: مرحبًا، أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا. في حلقة ماضية كنا قد تناولنا جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بآداب أو فقه الطعام والشراب وما يتبع ذلك من الوليمة، ولعلنا في هذه الحلقة نذكر جملة من المسائل المتعلقة بهذا الباب أيضًا، فمما يُذكر في هذا الباب: حكم أكل البصل والثوم لمن تلزمه صلاة الجماعة في المسجد هل هو سائغٌ له شرعًا أم لا؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيُكره لمن تلزمه الجماعة وأراد أن يأتي المسجد أو أراد الاعتكاف أن يأكل البصل أو الثوم أو الشيء المُستكره رائحته من البقوليات أيضًا، كالكُرَّاث وما كان في معناه؛ وذلك لما فيها من الرائحة الكريهة التي تُؤذي المصلين وتؤذي أيضًا الملائكة، وقد جاء في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي قال: من أكل ثُومًا أو بَصَلًا فَلْيعتزلنا أو قال: فَلْيعتزل مسجدنا ولْيقعد في بيته. أخرجه البخاري ومسلم[1]، وجاء في رواية: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. رواه مسلم[2]. وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها. رواه البخاري ومسلم[3].
فنهى النبي عن أكل البصل والثوم والكُرَّاث أن يأتي المسجد، وعلَّل النبي ذلك بأذية الملائكة وأذية بني آدم من ذلك، قال: فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم[4]، والذي عليه جماهير أهل العلم أن هذا الحكم محمول على الكراهة، ولم يقل أحدٌ بالتحريم إلا الظاهرية فقط، وإلا فالمذاهب الأربعة وعامة أهل العلم على أن النهي في هذا الحديث محمول على الكراهة؛ ولهذا لما قال النبي : من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربَنَّا في المسجد. قال الناس: حُرِّمت حُرِّمت. فبلغ ذلك النبي فقال: أيها الناس، إنه ليس بي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرة أكره ريحها. رواه مسلم[5]. وفي هذا إشارةٌ إلى أن النهي هنا ليس للتحريم ولكنه مكروهٌ كراهةً شديدة.
وعلى هذا نقول: من أكل البصل أو الثوم أو الكُرَّاث أو ما فيه رائحة كريهة يُكره له أن يأتي المسجد؛ لأنه بهذه الروائح الكريهة يُؤذي المصلين ويُؤذي أيضًا الملائكة.
وفي الوقت الحاضر يوجد في بعض الصيدليات وغيرها مطهراتٌ تُزيل الروائح الكريهة، بحيث إذا أكل بصلًا أو ثومًا واستخدم هذه المزيلات تزول معها الرائحة، فعند العلماء قاعدة: وهي أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والعلة هنا ظاهرة، وهي الرائحة الكريهة التي تُؤذي مَن في المسجد؛ وعلى هذا فإذا استُخدمت هذه المزيلات وزالت معها الرائحة فلا بأس بأكل البصل والثُّوم أو الكُرَّاث حينئذٍ.
لكن، إذا كان لا يستخدم هذه المزيلات، وسيأتي للمسجد بعد أكل البصل والثُّوم والكُرَّاث ونحوه، فنقول: إن هذا في حقه مكروهٌ، لو احتاج لأكل البصل أو الثوم ونحوه مثلًا لأجل التداوي وُصف له مثلًا، بعض الذين عندهم أمراض يقال له: إن أكل البصل والثوم نِيئًا مفيدٌ له؛ فيكون هذا عذرًا له في ترك الصلاة مع الجماعة فيُصلِّي في بيته. أما إذا أكلها ليس لأجل التداوي، يعني ليس لعذر وإنما شهوةً وتلذُّذًا وطلبًا لمنافعها، فإن كان تحيُّلًا على إسقاط صلاة الجماعة حرُم ذلك. أما إذا لم يكن تحيُّلًا وكان ذلك بصفة عارضة؛ فالذي يظهر -والله أعلم- أنه يسقط عنه وجوب صلاة الجماعة في هذه الحال.
واستدل بهذه الأحاديثِ بعضُ العلماء على عدم وجوب صلاة الجماعة، لكن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن هذه الأحاديث لا تدل على عدم الوجوب، وإنما تدل على أن من أكل البصل والثوم ونحوهما لا يصلي مع الجماعة ما لم يتخذ ذلك حيلةً للتخلُّف عن صلاة الجماعة.
فإن قال قائل: إنَّ أَمْرَ النبيِّ مَن أكَلَ البصلَ والثُّومَ باعتزال المسجد يدل على أن هذا من الأعذار التي تُبيح التخلُّف عن الجماعة. أجاب الخطابي رحمه الله عن هذا قال: "قد توهم بعض الناس أن أكل الثوم عذرٌ في التخلف عن الجماعة، فوضعَ هذا الحديث في جملة الأعذار المبيحة ترك حضور الجماعات، وإنما هذا توبيخٌ له وعقوبة على فعله؛ ليُحرَم بذلك فضيلة الجماعة".
ويقاس على البصل والثوم والكُرَّاث كل ما كان له رائحة كريهة، ومن ذلك: شرب الدخان، التبغ، وكل ما يُؤذي المُصلِّين، فليس للإنسان أن يأتي للمسجد وفيه روائح كريهة تُؤذي المصلين وتُؤذي الملائكة.
ومن ذلك أيضًا أن بعض الناس قد يعمل أعمالًا مهنية ويخرج معه العرق وتظهر معه روائح كريهة، فليس له أن يأتي للمسجد مع هذه الروائح الكريهة ويُؤذي من في المسجد، ويمكن أن يُخصِّص للمسجد ملابس، يعني ينبغي أن يهتم بشأن الصلاة، الذي عنده أعمال مهنية ويصدر منه روائح فيمكن أن يُخصِّص لباسًا للصلاة في المسجد؛ الصلاة ينبغي أن يهتم بها المسلم ويُعظِّم شأنها، فعندما يريد الذهاب للمسجد يلبس هذه الملابس الخاصة، ثم عندما يريد العمل يلبس ملابس العمل، لكن أن يأتي بملابس مهنته وتنبعث منه الروائح الكريهة، ويأتي للمسجد ويُؤذي مَن في المسجد؛ فإن هذا مكروهٌ كراهة شديدة.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. من المسائل التي تُذكر في هذا الباب: ما يتعلق بإجابة الدعوة إلى الوليمة، فما حكم إجابة الدعوة لو أن رجلًا دعا آخر إلى وليمة، سواءٌ قلنا وليمة على سبيل العموم، أو كانت وليمةً خاصةً بالزواج أو العرس؟
الشيخ: إجابة الدعوة من حق المسلم على المسلم؛ فإن من حق المسلم على المسلم إجابة الدعوة، فللمسلم على المسلم حقوق منها: رد السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض ومنها إجابة الدعوة، فإجابة الدعوة هي في الأصل مستحبة، ومن حق المسلم على المسلم، لكن إذا كانت الدعوة إلى وليمة عرس، فهل تكون الإجابة واجبة أو تبقى على الاستحباب؟
في هذه المسألة قولان للفقهاء، فمنهم من ذهب إلى أن إجابة وليمة العرس واجبة، وبعضهم حكاه اتفاقًا، والمسألة فيها خلاف وليست محل اتفاق، فحكاية الاتفاق محلُّ نظر في وليمة العرس خاصة، يعني ممن حكى الاتفاق الحافظُ ابن عبدالبر، لكن تعقبه الحافظ ابن حجر في حكاية هذا الاتفاق، وكذلك القاضي عياض والنووي حكوا أيضًا الاتفاق، بل الحافظ ابن حجر تعقبهم قال: وفي هذا نظر؛ ربما بعضهم يُقلِّد بعضًا في حكاية الاتفاق. لكن حكاية الاتفاق هذه تدل على أن هذا هو قول الجمهور: هو القول بوجوب إجابة وليمة العرس.
القول الثاني: إن إجابة وليمة العرس مستحبة استحبابًا مؤكَّدًا وليست واجبة. وهذا هو المذهب عند الحنفية، وهو اختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وعند التحقيق في هذه المسألة: القائلون بوجوب إجابة وليمة العرس استدلوا بقول النبي : إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فَلْيأتها. أخرجه البخاري ومسلم[6]. وفي حديث أبي هريرة أن النبي قال: شَرُّ الطعام طعام الوليمة، يُمْنَعُها من يأتيها، ويُدعى إليها من يأباها، ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله[7]. قالوا: فقوله: ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله نصٌّ في وجوب إجابة وليمة العرس.
والقائلون بالاستحباب يقولون: إنه لم يَرِد ما يدل على وجوب إجابة وليمة العرس، وإنما الأحاديث عامة، فتكون إجابة الوليمة من حق المسلم على المسلم. أما حديث: من دُعي إلى وليمةٍ فليأتها، فالأمر هنا محمول على الاستحباب؛ لأنه في باب الآداب، ثم لم يخص ذلك أيضًا بوليمة العرس.
وأما قوله: ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله هذا لو ثبت مرفوعًا إلى النبي لا شك أنه حجةٌ ظاهرةٌ وصريحةٌ، لكن هذه الجملة: ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله هذه لا تصح مرفوعة إلى النبي ، وإنما هي من قول أبي هريرة؛ ولهذا أخرج البخاري في "صحيحه" هذا الحديث موقوفًا على أبي هريرة، وهذا هو المحفوظ من رواية الحديث، والمرجَّح عند كثير من المحققين من أهل العلم: أن هذا الحديث إنما هو من قول أبي هريرة وليس من كلام النبي .
وبناءً على ذلك؛ فالأحاديث التي يُستدل بها على الوجوب ليس فيها دلالة ظاهرة على الوجوب، أولًا حديث: إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها[8]، أولًا: هذا لم يُخصِّص وليمةَ العرس، والمُستدِلُّون به يُخصِّصونه لوجوب وليمة العرس، ثم إن الأمر فيه محمولٌ على الاستحباب؛ لأنه من باب الآداب.
وأما حديث ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله[9]؛ فهذا من قول أبي هريرة، وليس من كلام النبي كما جاء في "صحيح البخاري"، فيظهر أنه اجتهادٌ من أبي هريرة .
وهذا هو القول الراجح -والله أعلم- أن إجابة وليمة العرس مستحبة وليست واجبة؛ إذ إنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على الوجوب، وهذا -كما ذكرنا- اختيار ابن تيمية رحمه الله وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.
خاصةً أن القول بوجوب إجابة دعوة وليمة العرس يترتب عليه أمورٌ عظيمة، يترتب عليه أنَّ مَن لم يُجِب الدعوة فإنه يأثم، وهذا ربما يشق على كثير من الناس؛ بعض الناس يُدعى لمناسبات أعراسٍ كثيرة، فإذا قلنا: يجب عليك أن تُجيب هذه الدعوات؛ فربما يلحقه الحرج، خاصةً الآن بعض المدن يكون فيها زحام وربما يشق على الإنسان أن يحضر بعض المناسبات، فالقول بأن إجابة وليمة العرس واجبة يقتضي أنه آثمٌ إذا لم يجب الدعوة، لكن على القول الآخر -وهو القول بالاستحباب- لا يأثم؛ لأن إجابة وليمة العرس مستحبة وليست واجبة.
وعلى هذا نقول: إن القول الراجح هو القول باستحباب إجابة وليمة العرس، لكن مع ذلك إذا قلنا بأن إجابة وليمة العرس مستحبة وليست واجبة؛ فعلى المسلم أن يحرص على تلبية الدعوة ما أمكن؛ فإن هذا من حق المسلم على المسلم، خاصةً في مناسبة الزواج، فالمناسبات الكبيرة إذا تخلَّف الإنسان عنها في الغالب يكون لها وقعٌ على نفس الداعي، مناسبات الأعراس وكذلك أيضًا في العزاء إذا تخلف الإنسان ولم يعتذر ففي الغالب أن صاحب الحق يتأثر بذلك، لماذا فلانٌ لم يُجِب دعوتي وأنا دعوته لمناسبة عرس؟ لماذا لم يَقُم بتعزيتي في قريبي؟
فعلى ذلك؛ على المسلم أن يُراعي هذه الآداب، وإذا كان معذورًا، يعني مثلًا أراد أن يُجيب الدعوة، لكن حصل له ظرفٌ، مثلًا ظرف صحيٌّ أو غيره، حصل له ظرفٌ صحيٌّ أو غيره، فيعتذر من صاحب الدعوة، فيدعو للعريسين ويُبارك ويُهنِّئ ثم يُقدِّم اعتذاره عن عدم حضوره، يعني هذه من الحقوق التي أكَّدت عليها الشريعة، خاصةً فيما يتعلق بإجابة وليمة العرس، حتى لو قلنا: إن القول الراجح أن إجابة الدعوة ليست واجبة، إلا أنها متأكدة ومستحبة استحبابًا مؤكدًا، ومن حق المسلم على المسلم؛ فعلى المسلم ألا يتخلَّف عنها إلا بعذر، وإذا حصل العذر ينبغي أن يعتذر من صاحب الدعوة.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا. ونحن في هذا البرنامج وفي هذه الحلقة مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، ونتدارس شيئًا من فقه آداب الطعام والشراب والوليمة، شيخنا، إذا قلنا -على القول بوجوب الحضور لوليمة العرس- هل يكفي في تحقُّق هذا الوجوب أن يحضر المدعو إلى هذه المناسبة، أو لا بد مع الحضور أن يأكل فيها أيضًا؟
الشيخ: إذا حضر وليمة العرس أو حتى وليمة غير العرس لا يلزم أن يأكل، وإنما يكفي حضوره، وهذا هو القدر المستحب، هو حضور الدعوة، وأما الأكل فالأمر راجعٌ إليه؛ ولهذا جاء في حديث جابر قال: قال رسول الله : إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ فَلْيُجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك. رواه مسلم[10].
لاحِظ هنا قوله عليه الصلاة والسلام: إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ فَلْيُجب، ثم قال: فإن شاء طعم وإن شاء ترك؛ يعني: القدر المستحب هو إجابة الدعوة والحضور، وأما كونه يأكل أو لا يأكل هذا راجعٌ لمشيئته؛ فبعض الناس ربما أنه له ترتيب معين فيما يتعلق بالأكل، خاصة إذا كان عَشاءً، ربما بعض الناس له ترتيب وتنظيم متعلق به وبحالته، بعض الناس مثلًا لا يتعشى، بعض الناس ربما يريد فقط أن يحضر ويُسلِّم ويدعو ثم ينصرف.
فهذا الأمر راجعٌ إليه، فالقدر المستحب هو حضور الدعوة، وأما الأكل فهو قدرٌ زائدٌ، والأمر فيه راجعٌ إلى مشيئته: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، لكن إذا جاء وحضر ولم يأكل فينبغي أن يدعو له؛ فإن هذا من السنة؛ ولهذا جاء في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فَلْيُصَلِّ يعني: فَلْيَدْعُ وإن كان مُفْطرًا فَلْيَطْعَمْ[11].
لاحِظ قوله : فإن كان صائمًا فَلْيُصَلِّ يعني: يدعو، فهذا يستفاد منه أنه حتى لو لم يُرِد أن يأكل أو يتعشَّى أو يَتغدَّى معهم فينبغي أن يدعو لهم، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فإن كان صائمًا فلْيُصَلِّ، وإن كان مفطرًا فَلْيَطْعَمْ.
الأفضل أن يأكل معهم، هذا هو الأفضل؛ لأن في هذا جبرًا لخواطرهم؛ ولهذا جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فإن كان مفطرًا فلْيَطْعَمْ، وإن كان صائمًا فلْيَدَعْ[12].
والدعاء لمن أجاب الدعوة عمومًا -سواءٌ كان يريد أن يأكل أو حتى مجرد الحضور- هذا من السُّنة، الدعاء لمن دعاك من السنة. وقد كان النبي إذا أجاب دعوةً دعا للداعي كما جاء في حديث عبدالله بن بُسْر قال: نزل رسول الله على أبي، فقَرَّبْنا إليه طعامًا ووَطْبَةً. الوطبة يقال: هي الحَيْس الذي يُجمع بين التمر والأَقِطِ، قال: فقرَّبْنا إليه طعامًا ووَطْبَةً فأكل منها، ثم أُتي بتمر فأكل منه، ثم أُتي بشراب فشربه، ثم ناوله الذي عن يمينه، قال: فقال أبي وأخذ بلجام دابته: ادْعُ الله لنا. فقال النبي : اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم. رواه مسلم[13].
وعلى هذا؛ فالسُّنة للمسلم إذا حضر وليمةً أو دعوة أن يدعو لمن دعاه، ومِن أفضل ما يُدعى به لصاحب الوليمة هو الدعاء الوارد في هذا الحديث: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، وإن شاء دعا بغير ذلك، مثل أن يقول: أكرمكم الله، أو أغناكم الله، أو أكثر الله خيركم، أو أنعم الله عليكم ونحو ذلك.
وهذا يدل على أن المسلم ينبغي ألا يكون سلبيًّا، بعض الناس يأتي ويحضر المناسبة وينصرف من غير دعاء؛ وهذا خلاف السنة، ينبغي على المسلم إذا حضر مناسبةً أن يدعو لمن دعاه، وعندما يُدعى لطعام بعدما يفرغ منه يدعو لصاحب الطعام؛ فإن الدعاء هنا من السُّنةِ وهَدْيِ النبي ، يدعو له بالدعاء المناسب، مثل ما جاء في الحديث: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، أو يقول: أكرمكم الله، أو أغناكم الله، أو مثلًا أنعم الله عليكم، أو أكثر الله خيركم، ونحو ذلك من الدعوات الطيبات المباركات.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. أيضًا مما يُذكر في هذا الباب حكم مَن حضر الوليمة من غير دعوة؟
الشيخ: حضور الوليمة من غير دعوة هذا الفقهاءُ يَدْعونه مِن خوارم المروءة، والعرب تُسمِّي الذي يحضر الوليمة بدون دعوة "الطُّفَيْلي"، ويقولون: "الطفيلي" هو الذي يحضر بغير دعوة، وقد نص الفقهاء في كتبهم على أن شهادة الطفيلي لا تُقبَل، قالوا: لأن فعله هذا مخالفٌ للمروءة وإن كان يأكل بإذنهم، لكن حضوره بلا دعوة نوعٌ من التطفُّل.
ثم أيضًا الحضور من غير دعوة فيه إحراجٌ لصاحب المناسبة أو صاحب الوليمة، قد يكون فيه إحراجٌ، فربما يكون الطعام بقدر الحضور، فإذا أتى أناسٌ بغير دعوةٍ شَقَّ ذلك عليه وأحرجه؛ ولذلك ينبغي ألا يحضر الإنسان وليمةً إلا وقد دُعي إليها؛ لأنه إذا حضر من غير دعوة هذا عند الفقهاء معدودٌ من خوارم المروءة.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. في الحديث عن إجابة الدعوة إلى الوليمة ونحوها: هل المقصود هنا الدعوة العامة، أو الحكم يتعلق بالدعوة الخاصة التي يسميها الفقهاء بـ"النَّقَرَى"؟
الشيخ: المقصود الدعوة الخاصة، أما الدعوة العامة التي تُسمى "الجَفَلَى" فهذه لا تنطبق عليها هذه الأحكام، لكن لو أجاب الإنسان الدعوة كان هذا حسنًا، ولا يدخل فيما ذكرنا من الطفيلي الذي يأتي بغير دعوة؛ لأنه إذا كان حاضرًا في المجلس ودُعي دعوةً جَفَلَى يكون من المشمولين بهذه الدعوة، لكن إذا دُعي دعوةً خاصةً بأن ناداه يا فلان مثلًا نرغب منك أن تُشاركنا في الوليمة في هذه المناسبة، هذه دعوةٌ خاصةٌ تُستحب إجابتها استحبابًا مؤكدًا.
في الوقت الحاضر أصبح بعض الناس يكتفي -خاصة في دعوات الأعراس- ببطاقة، أو برسالة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هذه تقوم مقام الدعوة المباشرة؛ لأن الكتاب كالجواب، والكتاب يأخذ حكم النطق، الإنسان كما هو مؤاخذٌ بما يتلفَّظ به مؤاخذٌ أيضًا بما يكتبه؛ ولذلك الفقهاء يقولون: لو كتب طلاقَ امرأته ونوى ذلك وقع طلاقه، لو كتب "أنتِ طالق" ناويًا وقوع الطلاق وقع الطلاق، وإن كان هناك خلافٌ: هل يُعتبر هذا من الصريح أو من الكناية، والأظهر أنه من الكناية، وكناية الطلاق يقع بها الطلاق مع النية.
فعلى هذا نقول: لو وجَّه دعوةً مكتوبةً فتُعتبر هذه دعوة، لكن ربما يأتي البحث عند القائلين بوجوب إجابة وليمة العرس: فهل توجيه الدعوة بالبطاقة يُعتبر دعوة، وعند القائلين بوجوب إجابة وليمة العرس: يجب عليه أن يُجيب الدعوة؟
نقول: نعم، عندهم أن "الكتاب كالخطاب"، وأنه تجب إجابة وليمة الدعوة، لكن نحن ذكرنا أن القول الراجح أن إجابة دعوة وليمة العرس مستحبة استحبابًا مؤكدًا وليست واجبة.
وعلى هذا نقول: إن الدعوات التي تكون عبر البطاقات، أو الدعوات التي تُرسل عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ هذه حكمها حكم الدعوات المباشرة، فيُستحب للمسلم أن يُجيب الدعوة في هذه الحال.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسال الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى أن نلتقيكم في حلقة قادمة بإذن الله . أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.