جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يَحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ.
يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا أرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا وسهلًا، حياكم الله وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
الأحكام والمسائل المتعلقة بخصال الفطرة
شيخنا، لعلنا في هذه الحلقة نأخذ شيئًا من الأحكام والمسائل المتعلقة بخصال الفطرة.
المراد بالفطرة
ابتداءً أودُّ لو بينتم لنا ما المراد بالفطرة؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيتكلم الفقهاء عن خصال الفطرة أخذًا مما جاء في بعض الأحاديث؛ ومن أشهرها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : عشرٌ من الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء [1]، يعني: الاستنجاء، فقوله عليه الصلاة والسلام: عشرٌ من الفطرة، هذه يُسميها الفقهاء بـ"خصال الفطرة"، ما معنى "الفطرة" هنا في هذا الحديث؟
اختلف العلماء في المراد بـ"الفطرة" هنا:
فقيل: إنها السنة، وقيل: الخِلقة المبتدأة، وقيل: الدِّين، وهذه المعاني ذكرها النووي في "شرح صحيح مسلمٍ"، وقيل: إن الفطرة معناها في هذا الحديث: السُّنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع، وهذا هو القول الأقرب في هذه المسألة، فيكون معنى قول النبي : عشرٌ من الفطرة، أي: السُّنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع.
عندما نتأمل الحديث السابق؛ نجد أن هذه الخصال العشر المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها بعضها واجبٌ، وبعضها مستحبٌّ، وبعضها محل خلافٍ؛ هل هو واجبٌ أو مستحبٌّ؟ ولا يَمتنع أن يُقرَن الواجب بغير الواجب؛ هذا ليس بممتَنِـعٍ؛ كما في قول الله : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فالإيتاءُ واجبٌ، والأكل من ثمر البستان ليس بواجبٍ؛ وعلى هذا: فلا يلزم من ذِكر مثلًا إعفاء اللحية مع ذِكر قص الشارب؛ أن يكون إعفاء اللحية غير واجبٍ، وأن يكون قص الشارب واجبًا، هذا غير لازمٍ، بل إعفاء اللحية واجبٌ، وقص الشارب مستحبٌّ كما سيأتي.
المقدم: أحسن الله إليكم.
شيخنا، أيضًا جاء في حديث أبي هريرة : خمسٌ من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقصُّ الشارب [2]، هنا أضاف الختان.
الشيخ: نعم، وجاء في عدة أحاديث خصال الفطرة؛ منها: حديث أبي هريرة ، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها، وأيضًا أحاديث أخرى، وتزيد وتنقص، ليست كلها متفقةً في الخصال.
شرح موجز لخصال الفطرة
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم.
لو أردنا أن نأخذ شرحًا موجزًا لهذه الخصال التي وردت في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
المضمضة والاستنشاق
الشيخ: أولًا: المضمضة والاستنشاق عُدَّا من خصال الفطرة، وهما مشروعان في الوضوء بالاتفاق، على خلافٍ؛ هل هما واجبان أو مستحبان؟ والأقرب هو القول بالوجوب، كما هو المذهب عند الحنابلة؛ لأمر النبي بهما.
أما بالنسبة للمضمضة: ففي حديث لَقِيط بن صَبِرة النبي قال: إذا توضأت فمَضْمِض [3].
وأما الاستنشاق: ففي حديث أبي هريرة أن النبي قال: من توضَّأ فَلْيَستَنْثِر [4]، فأمر عليه الصلاة والسلام بالمضمضة والاستنشاق، والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، هذا في الوضوء.
أما في الغسل فمحل خلافٍ بين الفقهاء، والأظهر -والله أعلم- أنهما غير واجبين في الغسل؛ لعدم الدليل الدال على الوجوب، وما سبق من الأدلة فإنما هو خاصٌّ بالوضوء، وقياس الغسل على الوضوء قياسٌ مع الفارق، ولأن الله قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، قوله: فَاطَّهَّرُوا، يقتضي أنه يحصل التطهير بتعميم الماء جميع البدن؛ ولأن النبي قال للرجل الذي أصابته جنابةٌ: اذهب فخذ هذا -يعني دلوًا من ماءٍ- فأفرغه عليك [5]، ولم يأمره بالمضمضة ولا الاستنشاق، وإن كان الأحوط للمغتسِل أن يتمضمض ويستنشق؛ خروجًا من الخلاف في هذه المسألة.
استعمال السواك
كذلك أيضًا من خصال الفطرة: السواك، وقد حث النبي عليه وقال: السواك مَطْهَرةٌ للفم، مرضاةٌ للرب [6]، وقال : أكثرت عليكم في السواك [7]، كما في "صحيح البخاري".
والسواك: اسمٌ للعود الذي يُستاك به، وأفضل ما يُستَاك به: عود الأراك، لكن ذلك لا يمنع من الاستياك بغيره؛ وعلى هذا: ففرشاة الأسنان داخلةٌ في معنى السواك، ينبغي لمن أراد تنظيف فمه بفرشاة الأسنان أن ينوي الاستياك؛ حتى يُصيب السنة ويُؤجَر ويُثاب على ذلك، بل إن التنظيف بالفرشاة مع المعجون قد يكون أحيانًا أبلغ في التنظيف من عود الأراك، وهذا ظاهرٌ، بعض الناس لا يفهم من السواك عند الإطلاق إلا الاستياك بعود الأراك، وهذا غير صحيحٍ، لا ينحصر السواك في عود الأراك، بل معنى السواك يشمل كل ما يُستاك به، لكن أفضل ما يُستاك به: عود الأراك، ولكن لا ينحصر فيه، حتى إن بعض الفقهاء قال: إذا لم يجد ما يستاك به فيُجزئه أن يَستاك بالإصبع ونحوه، وقال الموفق بن قدامة رحمه الله في "المغني": "وإن استاك بأصبعه أو خرقةٍ، فقد قيل: لا يصِيب السنة؛ لأن الشرع لم يرد به"، قال ابن قدامة: "والصحيح: أنه يُصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يُترَكُ القليل من السنة؛ للعجز عن كثيرها".
ويتأكد السواك عند الصلاة؛ لقول النبي : لولا أن أشَقُّ على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاةٍ [8].
ما يتعلق بشعر الشارب واللحية
أيضًا من خصال الفطرة: قص الشارب، أي: قص أطراف شعر الشارب بالمقص ونحوه، وجاء في بعض الأحاديث قص الشارب، وفي أحاديث أخرى إحفاء الشارب؛ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: خالفوا المشركين؛ وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب [9].
المقدم: والمعنى واحدٌ أحسن الله إليك؟
الشيخ: لعلِّي أولًا أُكمل: وأحفوا الشوارب، وجاء في لفظٍ: انْهَكُوا الشوارب [10]، وفي لفظٍ: جُزُّوا الشوارب [11]، وفي لفظٍ: قُصُّوا الشوارب [12]، أو قصوا الشارب [13]، قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: "فكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب: المبالغة في الإزالة؛ لأن الجَزَّ قَصُّ الشعر إلى أن يبلغ الجلد، والإحفاء: الاستقصاء"، والإحفاء أبلغُ من القَصِّ؛ لأن الإحفاء فيه مزيدٌ من الاستئصال للشعر، وكلاهما مسنونٌ.
يبقى النظر: هل الأفضل حلق الشارب، أم قصه وحفَّه؟
- من العلماء من ذهب إلى أن الأفضل حلق الشارب، قالوا: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام: انْهَكُوا الشوارب، وأحفوا الشوارب، يدل على أن الأفضل: استئصال جميع شعر الشارب.
- والقول الثاني: أن الأفضل: القص والحف من غير حلقٍ، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه لم يرد في جميع الأحاديث لفظ: "حلق الشارب"، ولو في روايةٍ ضعيفةٍ، ولو كان النبي يريد حلق الشارب؛ لعبَّر بالحلق كما عبَّر به في العانة بحلق العانة، إنما الذي ورد في الشارب: القص، والحف، والجز، والإنهاك، وهذا يدل على أن الحلق مختلفٌ، وأنه غير القص والحف، والإمام مالكٌ له كلمةٌ مشهورةٌ، قال: "إحفاء الشارب عندي مُثْلَةٌ، وأرى أن يؤدب من يَحلق شاربه"، وإن كان هذا الكلام قد يكون فيه مبالغةٌ، فعند جمهور أهل العلم أنه يجوز الحلق، ويجوز القص، على خلافٍ بينهم أيهما أفضل؟ لكن الأقرب -والله أعلم- أنه لا يُحلَق الشارب، وإنما يُقَصُّ فقط، يُقَصُّ أو يُحَفُّ من غير حلقٍ.
أيضًا من خصال الفطرة: إعفاء اللحية، ومعنى الإعفاء: الترك، يعني يترك اللحية، ومنه قول الله : حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]، عَفَوا أي: كثرت أموالهم وأولادهم، وعفا الشيء إذا كَثُر، واللحية هي الشعر النابت على الخدين والذقن، وإعفاء اللحية معناه: ترك حلقها وتقصرها، وهو من سنن الفطرة الواجبة، فيجب إعفاء اللحية ويحرم حلقها، وقد نُقل الإجماع على ذلك، وقد أمر النبي بإعفاء اللحية، قال: أعفوا اللحى [14]، وفي روايةٍ: وفِّروا اللحى [15]، وفي روايةٍ: أوفُوا اللحى [16]، وفي روايةٍ: أَرْخُوا اللحى [17]، كل هذه الروايات وردت في "الصحيحين" أو في أحدهما.
والأخذ من اللحية: إذا كان دون القبضة؛ فظاهر الأدلة أنه محرمٌ؛ لأنه خلاف ما أمر به النبي من إعفاء اللحية وإرخائها، أما ما زاد على القبضة فهو محل خلافٍ، وقد رُوي عن كثيرٍ من السلف التسامح في ذلك، ففي "صحيح البخاري" عن نافعٍ قال: "كان ابن عمر إذا حجَّ أو اعتمر؛ قبض على لحيته فما فضل أخذه"، قال الحافظ ابن حجرٍ: "الذي يظهر أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يخُصُّ هذا بالنُّسُك"، وأيضًا رُوي عن عليٍّ بن أبي طالبٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما، ومعلومٌ حرص الصحابة على السنة؛ وعلى هذا: فما زاد على القبضة لا يُشدَّد فيه.
ما يتعلق بإزالة شعر العانة
كذلك أيضًا من خصال الفطرة: حلق العانة، والعانة هي الشعر النابت حول الفرج، فالسنة حلق هذا الشعر، وهذا ما يُسمى بـ"الاستحداد"، وجاء منصوصًا عليه في بعض الأحاديث، كما في حديث أبي هريرة : الفطرة خمس..، وذكر منها الاستحداد [18]، والاستحداد: هو حلق العانة، سُمِّي "استحدادًا"؛ لاستعمال الحديدة وهي (الموس) وهو سنةٌ، والحكمة من ذلك: أن في إزالة هذا الشعر نظافةٌ، وإزالة الوسخ والقذر الذي قد يتراكم في هذا الموضع من البدن، ثم إنه أيضًا يدخل في حسن العشرة بين الزوجين.
وهل يدخل شعر الدبر في ذلك؟
من أهل العلم من قال: إنه لا يدخل.
والقول الثاني: أنه يدخل، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- لأنه أبلغ في كمال النظافة، وإذا استحب الشارع إزالة الشعر حول القُبل؛ فالشعر حول الدبر من باب أولى؛ لكونه قريبًا من موضع الخارج، واختار هذا القول النووي وجماعةٌ من أهل العلم.
ما يتعلق بإزالة شعر الإبط
أيضًا من خصال الفطرة: نتف الإبط، والنتف معناه: إزالة الشعر بالقلع، وهو سنةٌ إن قدر الإنسان عليه، لكن كما قال الإمام الشافعي، قال: "علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع"؛ لأن النتف مؤلمٌ، فإذا كان يشق النتف على الإنسان؛ يَكتفي بالحلق أو بإزالة هذا الشعر بأي مزيلٍ، ومن ذلك أيضًا: إزالة شعر الإبط بالليزر مثلًا.
المقدم: هذا يدخل في الإزالة بالنتف ونحوه؟
الشيخ: نعم، بل هو ربما يكون أبلغ من النتف، الإزالة بالليزر تستأصل جميع الشعر، ولذلك إزالة شعر الإبط بالليزر لا بأس بها بشرط ألا يكون فيه ضررٌ على الصحة، والحكمة من إزالة شعر الإبط: أن في هذا كمال النظافة وإزالة الوسخ الذي قد يجتمع في هذا الموضع من البدن.
تقليم الأظفار
أيضًا من خصال الفطرة: تقليم الأظفار؛ أي: قصها، وقد جاء هذا في حديث عائشة رضي الله عنها السابق في خصال الفطرة، وذكر منها قص الأظفار؛ لأنه يجتمع فيها الوسخ، والسنة تعاهد هذه الأظفار بالقص والتقليم، وينبغي ألا يترك قصها أكثر من أربعين يومًا كما جاء في حديث أنسٍ ، قال: "وُقِّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ ألا نترك أكثر من أربعين ليلةً [19].
الاستنجاء والاستجمار
أيضًا من خصال الفطرة: الاستنجاء، والاستنجاء هو إزالة القَذَر الذي يكون في السبيلين بالماء، أما الإزالة بغير الماء فيقال لها: "الاستجمار"، إزالة أثر البول أو الغائط بالماء هذا هو الاستنجاء، وإزالته بغير الماء، كالمناديل مثلًا، هذا هو الاستجمار.
لكن أيهما أفضل: الاستنجاء، أم الاستجمار؟
أكمل الحالات: الجمع بينهما، إذا قضى حاجته؛ يستجمر بالمناديل ونحوها، ثم يستنجي بالماء.
المقدم: يعني يبدأ بالاستجمار، ثم الاستنجاء؟
الشيخ: نعم، لماذا؟ لأنه إذا فعل ذلك؛ لم يُباشِر النجاسة بيده، وأيضًا استخدم الماء، فيكون هذا أبلغ في استئصال النجاسة؛ فالأفضل إذنْ أن يجمع بينهما، ثم يلي ذلك في المرتبة: الاستنجاء بالماء؛ لأن الاستنجاء بالماء أبلغ في الإنقاء، ثم في المرتبة الثالثة: الاستجمار بالمناديل ونحوها.
لكن قد يقول قائلٌ: إنه عند الاستجمار بالمناديل أو بالحجارة مثلًا لا تُستأصَل جميع النجاسة، بل تبقى أجزاءٌ يسيرةٌ جدًّا منها، فنقول: إن هذا القدر معفوٌّ عنه كما ذكر ذلك الفقهاء.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم هذه اللمحة الموجزة عن هذه الخصال المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها.
ما يتعلق بالختان
أيضًا شيخنا مما جاء في حديث أبي هريرة مما يتعلق بخصال الفطرة: "الختان"، فما معنى الختان، وما حكمه؟
الشيخ: الختان مصدرٌ من الخَتْن وهو القطع، والمراد بالختان للذَّكَر: قطع القُلْفَة التي تكون على رأس الذكر؛ وذلك لأنها إذا بقيت؛ يجتمع فيها قطراتٌ من البول، فلا يحصل كمال الطهارة، وهو من خِصال الفطرة، وهو واجبٌ في حق الذكر عند البلوغ، ومحل الوجوب عند البلوغ؛ لأنه قبل البلوغ مرفوعٌ عنه القلم؛ فلا تجب عليه الطهارة ولا الصلاة، لكنه يُستحب، والأولى: أن يكون الختان في السنوات الأولى للطفل، وأن يكون بعد الولادة، إذا كان بعد الولادة يكون أفضل وأيسر أيضًا للطفل، لكن من حيث الحكم: إنما يجب الختان عند البلوغ، هذا بالنسبة للذكر.
وأما بالنسبة لختان الأنثى فمعناه: قطع رأس جلدةٍ بفرج المرأة فوق محل الإيلاج تُشبه عُرف الديك، ورُوي فيه أحاديث لا يثبت منها شيءٌ من جهة الصناعة الحديثية؛ لذلك فالأقرب: أن الختان بالنسبة للأنثى مباحٌ؛ لأنه لم يثبت فيه شيءٌ عن النبي ؛ ولذلك لم يشتهر ختان المرأة عند الصحابة كما اشتهر ختان الذكر.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
حكم نتف الشيب
شيخنا، مما يتصل بهذا الباب أمرٌ يُسأل عنه كثيرًا شيخنا: وهو ما يتعلق بنتف الشيب، ما حكم نتف الشيب، سواءٌ كان في شعر الرأس أو في شعر اللحية؟
الشيخ: أولًا: الشيب يكون في شعر الرأس، ويكون أيضًا في شعر اللحية، ويأتي مع تقدُّم الإنسان في العمر عادةً، وقد يتقدَّم عند بعض الناس لأسبابٍ، وقد ورد أنه نور المسلم، كما جاء في حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : لا تنتفوا الشيب، ما من مسلمٍ يشيب شيبةً في الإسلام؛ إلا كانت له نورًا يوم القيامة [20]، أخرجه أبو داود وأحمد، وجاء في روايةٍ عند أحمد: لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم، ما من مسلمٍ يَشيب شيبةً في الإسلام؛ إلا كُتب له بها حسنةٌ، ورفع بها درجةً، أو حُطَّ عنه بها خطيئةٌ [21]، وهذا الحديث له طرقٌ متعدِّدةٌ يصل بمجموعها إلى درجة الحسن أو الصحيح.
والنهي عن نتف الشيب محمولٌ عند جمهور أهل العلم على الكراهة، إلا أن يكون النتف من شعر اللحية، ويكثر ذلك، ويكون فيما دون القبضة؛ فإن هذا يكون في معنى الأخذ من اللحية فيكون محرمًا؛ وعلى ذلك: فعلى المسلم أن يجتنب نتف الشيب؛ ينبغي له ألا ينتف الشيب وأن يُبقيه لهذا الحديث وما جاء في معناه.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
أحكام خضاب الشيب وتغييره
أيضًا مما يتصل بمعالجة هذا الشيب: ما يتعلق بالخضاب، فما حكم خضاب الشيب وتغييره؟
الشيخ: خضاب الشيب بغير السواد سنةٌ، قد أمر به النبي فقال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم [22]، أخرجه البخاري ومسلمٌ في "صحيحيهما"، هذا أمرٌ من النبي ، وأقلُّ ما يُفيده الأمر: الاستحباب.
ولما أُتِي بأبي قحافة والد أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما إلى النبي ورأسه كالثَّغَامَة [23] -يعني رأسه كان أبيض، وكانت لحيته بيضاء- فقال عليه الصلاة والسلام: غَيِّروا شعر هذا [24]، أي بالخضاب؛ رواه مسلمٌ؛ وعلى هذا: فتغيير الشيب بغير الأسود سنةٌ.
أما الخضاب بالسواد، خضاب اللحية أو خضاب الشعر بالسواد، فما حكمه؟ هل هو محرمٌ، أو مباحٌ، أو مكروهٌ؟
هذا محل خلافٍ بين أهل العلم:
- فمنهم من قال بالكراهة، وهذا هو قول الجمهور.
- ومنهم من قال بالإباحة.
- ومنهم من قال بالتحريم.
وسبب الخلاف: هو الخلاف في ثبوت النهي عن الخضاب بالسواد في الحديث المروي من حديث جابرٍ ، لمَّا أُتِيَ بأبي قحافة والد أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما؛ قال النبي : غيِّروا شعر هذا [25]، وجاء في روايةٍ أخرى عند مسلمٍ: وجنِّبوه السواد [26]، وزيادة: وجنِّبوه السواد، مع أنها في "صحيح مسلمٍ"، إلا أنه قد اختُلف في ثبوتها، وقد سُئل أبو الزبير، وهو الراوي لهذا الحديث: أسمعت جابرًا يقول: وجَنِّبوه السواد؟ قال: لا، والأقرب: أن زيادة: وجنِّبوه السواد، غير محفوظةٍ؛ ولذلك أخرج الإمام مسلمٌ رواية: وجنِّبوه السواد، بعد الرواية التي اقتصر فيها على: غَيِّروا شعر هذا، وجرى على طريقته في إيراد الرواية غير المحفوظة بعد الرواية المحفوظة؛ تنبيهًا على ضعفها.
المقدم: هذه طريقةٌ معتادةٌ عند الإمام مسلمٍ؟
الشيخ: نعم، بالاستقراء: هذه طريقةٌ معروفةٌ عند الإمام مسلمٍ، أنه يُورِد أولًا الرواية المحفوظة، ثم يذكر بعد ذلك الرواية غير المحفوظة؛ من باب التنبيه على ضعفها.
المقدم: هذه فائدةٌ نفيسةٌ الحقيقة.
الشيخ: وعلى هذا: فهذه الزيادة: وجنِّبوه السواد، الأقرب -والله أعلم- أنها غير محفوظةٍ، وجاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النبي قال: ليكونن من أمتي قومٌ يَختضبون بهذا السواد كحواصل الطير، لا يَريحون رائحة الجنة [27]، هذا الحديث رواه أحمد، لكنه ضعيفٌ، وابن الجوزي عدَّه في "الموضوعات"، وإن كان قد لا يصل لهذه الدرجة، لكنه لا يثبت من جهة الصناعة الحديثية؛ وعلى ذلك: فتكون الروايات في النهي عن الخضاب بالسواد غير ثابتةٍ، وغير محفوظةٍ عن النبي .
والإمام ابن القيم رحمه الله ذكر عن تسعةٍ من الصحابة أنهم يخضبون بالسواد، ومنهم الحسين ، وهذا في "صحيح البخاري"، لمَّا جَرَى ما جَرَى، فكان قد خَضَب رأسه بالسواد؛ فكون تسعةٍ من الصحابة يخضبون بالسواد؛ فمعلومٌ أن الخضاب بالسواد من الأمور المشتهِرة الظاهرة، والصحابة من أعظم الناس قيامًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة، فلو كان الخضاب بالسواد مكروهًا، فضلًا عن أن يكون محرَّمًا؛ لما فعل ذلك هذا العدد الكثير من الصحابة .
وعلى هذا: فالقول الراجح والله أعلم: أن الخضاب بالسواد مباحٌ؛ لأنه لم يثبت في النهي عن الخضاب بالسواد حديثٌ، وما رُوي في ذلك غير محفوظٍ، وغير ثابتٍ من جهة الصناعة الحديثية، ويؤيد ذلك أيضًا: ما ورد عن عددٍ من الصحابة ، ذكر ابن القيم عن تسعةٍ من الصحابة أنهم يخضبون بالسواد، ولم يَرِد عن غيرهم نهيٌ أو كراهةٌ عن الخضاب بالسواد؛ فلو كان محفوظًا؛ لَوَرَد عن بعض الصحابة، أو على الأقل اختلف فيه الصحابة واشتهر ذلك بينهم، بل إن بعض العلماء حكى الإجماع على عدم تحريم الخضاب بالسواد، وإن كانت هذه الحكاية لا تصح.
فالقول بالتحريم قولٌ قائمٌ وموجودٌ، وإن كان قول قلةٍ من أهل العلم، والجمهور على الكراهة، وربما بعضهم قال بالكراهة للخلاف الواقع في ذلك، لكن من حيث التحقيق: نجد أنه لم يثبت في ذلك شيءٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعندما أيضًا نرى واقع الصحابة ؛ نجد أنه ورد عن عددٍ كثيرٍ من الصحابة الخضاب بالسواد، وهذا ما يُرجِّح القول بأنه لا بأس به إن شاء الله.
المقدم: أحسن الله إليكم، وكلام الفقهاء في هذه المسألة (في الخضاب) سواءٌ كان في خضاب اللحية والرأس، أو هو خاصٌّ فقط باللحية؟
الشيخ: لا، يشمل الأمرين؛ لأن قوله: وجنِّبوه السواد، لو ثبت كما يشمل اللحية؛ يشمل أيضًا غير اللحية، لكن كما ذكرنا من جهة التحقيق أن هذا لا يثبت فيه نهيٌ، وأيضًا عمل الصحابة ، يعني عندما نريد بحث مسألةٍ خلافيةٍ؛ لا بد أن ننظر واقع الصحابة ، يعني فَهْم الصحابة لهذه المسألة، كيف فهموها، وكيف تعاملوا معها؛ لأن الصحابة هم أعلم الناس بشريعة الله تعالى، وهم أتقى الناس وأعرف الناس بمراد الله تعالى ومراد رسوله ؛ ولذلك نجد أن المحققين من أهل العلم عندما يُرجِّحون أقوالًا؛ تجد أن الترجيح يكون في الغالب مرتبطًا بعمل الصحابة وبفقه الصحابة .
المقدم: أحسن الله إليكم، أيضًا شيخنا هذا يشمل الذَّكَر والأنثى الكلام في هذه المسألة؟
الشيخ: نعم، يشمل الذكر والأنثى، لا فرق؛ وعلى ذلك نقول: إن الأمر فيه سعةٌ، والقول الراجح هو القول بالإباحة، وإن كان أيضًا القول بالكراهة له وجهته أيضًا.
وعلى ذلك نقول: إن الخضاب بغير السواد سنةٌ، أما بالسواد فيجري فيه الخلاف، والأظهر والله أعلم: أنه غير محرَّمٍ، لكن يدور إما على الكراهة -كما قال الجمهور- أو على الإباحة.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، شكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه مسلم: 261. |
---|---|
^2, ^18 | رواه البخاري: 5889، ومسلم: 257. |
^3 | رواه أبو داود: 144. |
^4 | رواه البخاري: 161، ومسلم: 237. |
^5 | رواه أحمد: 19898، والبزار: 3584، وابن حبان: 1302. |
^6 | رواه النسائي: 5، وأحمد: 24203، وذكره البخاري معلقا: 3/ 31. |
^7 | رواه البخاري: 888. |
^8 | رواه البخاري: 887، ومسلم: 252. |
^9 | رواه البخاري: 5892، ومسلم: 259. |
^10, ^14 | رواه البخاري: 5893. |
^11, ^17 | رواه مسلم: 260. |
^12 | رواه البخاري: 5893، ومسلم: 259. |
^13 | رواه الطبراني: 3195. |
^15 | رواه البخاري: 5892. |
^16 | رواه مسلم: 259. |
^19 | رواه مسلم: 258. |
^20 | رواه أبو داود: 4202، والترمذي: 2821، والنسائي: 5068، وأحمد: 6937. |
^21 | رواه أحمد: 6672. |
^22 | رواه البخاري: 5899، ومسلم: 2103. |
^23 | الثغامة: نبت أبيض الزهر والثمر يشَبَّه به الشيب، وقيل: هي شجرة تبيضُّ كأنها الثلج. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 1/ 214 (ث غ م). |
^24 | رواه مسلم: 2102. |
^25 | سبق تخريجه. |
^26 | رواه مسلم: 2102. |
^27 | رواه أبو داود: 4212، والنسائي: 5075، وأحمد: 2470. |