عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين:
تحدثنا في الحلقة السابقة عن السواك، ويُتْبِع كثيرٌ من الفقهاء الحديث عن السواك بالحديث عن خصال الفطرة، ويسميها بعضهم: سنن الوضوء، فنقول:
قد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أنّ رسول الله قال: الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب [1].
معنى الفطرة
قال الخطابي رحمه الله: “فسّر أكثر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة” [2] أي: أنّ هذه الخصال من سنن الأنبياء والمرسلين، وقد استشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابي، وقال: “معنى الفطرة بعيدٌ عن معنى السنة” [3] وقيل: الفطرة: الدين، ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في (الفتح) عن أبي شامة رحمه الله أنه قال: “أصل الفطرة الخِلْقَة المبتدأة، ومنه قول الله تعالى: فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14] أي: المبتدئ خلقهنَّ” [4].
والمراد بالفطرة في هذا الحديث: أنّ هذه الأشياء إذا فُعِلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها، وحثهم عليها، واستحبها لهم، ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها.
ولعل هذا القول الأخير هو القول الراجح في معنى الفطرة في هذا الحديث.
قال ابن القيم رحمه الله: “الفطرة فطرتان:
- فطرةٌ تتعلق بالقلب: وهي معرفة الله ومحبته، وإيثاره على ما سواه.
- وفطرةٌ عملية: وهي هذه الخصال.
فالأولى تزكي الروح، وتطهِّر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تُـمِد الأخرى وتقويها، وقد اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة، وأخذ الفضولات المستقذرة التي يألفها الشيطان ويجاورها من بني آدم” [5].
الختان
وأول هذه الخصال: الختان.
وأول من سنَّه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فقد اختتن وعمره ثـمانون سنة، قال ابن القيِّم: “والختان كان من الخصال التي ابتلى الله سبحانه بـها إبراهيم خليله، فأتـمهنَّ وأكملهنَّ، فجعله إمامًا للناس، وقد روي أنه أول من اختتن، واستمر الختان بعده في الرُّسل وأتباعهم، حتى في المسيح، فإنه اختتن، والنصارى تقر بذلك ولا تجحده” [6].
والمعروف أنّ المسلمين واليهود هم الذين يختتنون، أما النصارى فلا يختتنون.
حكم الاختتان
وقد اختلف العلماء في حكم الاختتان، وأرجح ما قيل فيه -والله أعلم- أنه واجبٌ في حق الرجال، مستحبٌ في حق النساء، ووجه التفريق بينهما:
- أنه في حق الرجال يعود إلى شرطٍ من شروط صحة الصلاة، وهو الطهارة، فإذا لَـم يختتن الرجل فإنه يبقى شيءٌ من البول في القُلْفَة، فلا يتحقق له كمال الطهارة.
- وأما الختان في حق المرأة فالغاية منه التقليل من غِلْمتِها -أي: شهوتـها- وهذا طلب كمال، فكان مستحبًا، وليس واجبًا في حقها، والله تعالى أعلم.
قال الإمام أحمد: “إن خاف على نفسه لا بأس ألا يختتن” [7] كما لو لَـم يوجد طبيبٌ حاذقٌ يعرف كيف يختن.
ومحل وجوب الختان بالنسبة للرجل عند البلوغ، ولا يجب الختان قبل البلوغ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة” [8].
وقال ابن القيم: “الختان مـن محاسن الشرائع التي شرعها الله سبحانه لعباده، وكمَّل بـها محاسنهم الظاهرة والباطنة، فهو مكمِّلٌ للفطرة التي فطرهم الله عليها؛ ولهذا كان من تـمام الحنيفية ملة إبراهيم، وأصل مشروعية الختان لتكميل الحنيفية، فإنّ الله لـمَّا عاهد إبراهيم، وعده أن يجعله للناس إمامًا، ووعده بأن يكون أبًا لشعوبٍ كثيرةٍ، وأن تكون الأنبياء من صلبه، وأنه جاعلٌ بينه وبين نسله علامة العهد أن يختتنوا، فالختان علمٌ للدخول في ملة إبراهيم، حتى إذا جُهِل حال إنسانٍ في دينه، عُرِف بسمة الختان.
وكانت العرب تدعى بأمة الختان؛ ولهذا جاء في حديث هرقل: “إني أجد ملك الختان قد ظهر، فقال له أصحابه: لا يهمنَّك هذا، فإن اليهود تختتن، فبينا هم على ذلك إذا برسول رسول الله قد جاء بكتابه، فأمر بأن يكشف وأن ينظر: هل هو مختونٌ أو لا؟ فوجد مختونًا، فلـمَّا أخبره أن العرب تختتن، قال هرقل: هذا ملك هذه الأمة” [9].
الوقت المستحب للاختتان
وأما الوقت المستحب للاختتان بعد اتفاق القائلين بوجوبه، على أنه إنـما يجب عند البلوغ، فلَـم يثبت في ذلك سنة، قال الإمام أحمد: “لَـم أسمع في ذلك شيئًا” [10].
وقال ابن المنذر: “ليس في ذلك خبرٌ يرجع إليه، ولا سنةٌ تتبَّع، والأشياء على الإباحة” [11].
الاستحداد
والأمر الثاني من خصال الفطرة: الاستحداد.
والاستحداد: هو حلق العَانَة، وسُمّي استحدادًا لاستعمال الحديدة، وهي: الموسى.
قال النووي: “المراد بالعَانَة: الشعر الذي فوق ذَكر الرجل وحواليه، وكذلك الشعر الذي حوالي فرج المرأة” [12]. وقال الموفق ابن قدامة: “بأي شيءٍ أزاله فلا بأس…؛ لأن المقصود إزالته، والحلق أفضل لموافقته الحديث الصحيح” [13].
نتف الإبط
والأمر الثالث من خصال الفطرة: نتف الإبط.
والأفضل فيه النتف لمن قوي عليه، أما إذا كان لا يقوى على النتف لشدة الألـم، فتحصل السنة بإزالة شعر الإبط بأي مزيل، من حلقٍ وغيره.
وقد أخرج ابن أبي حاتم في (مناقب الشافعي) عن يونس بن عبد الأعلى قال: “دخلتُ على الشافعي، ورجلٌ يحلق إبطه، فقال: إني علمتُ أنّ السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع” [14].
قال العلماء: والمستحب البداءة فيه بالإبط الأيـمن.
تقليم الأظفار
الأمر الرابع من خصال الفطرة: تقليم الأظفار.
وقد جاء في بعض الروايات بلفظ: تقليم الأظفار، وفي بعضها بلفظ: قص الأظفار، والتقليم أعم من لفظ القص، والمقصود: إزالة ما يزيد على رأس الإصبع من الظفر.
والحكمة من الأمر بتقليم الأظفار: أنّ الأوساخ تجتمع تحت الأظفار فتستقذر.
وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله: “الرجل يأخذ من شعره وأظفاره، أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، قال: وكان ابن عمر يدفنه، وقال: لا يتَلَعَّب به سحرة بني آدم”. [15].
وقد استحب بعض العلماء الدفن لكونـها أجزاءً من الآدمي.
قص الشارب
والأمر الخامس من خصال الفطرة: قص الشارب.
والمراد به قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، كما أنّ قص الظفر معناه: أخذ أعلاه من غير استئصال.
قال الإمام مالك: “ليس إحفاء الشارب حلقه، وأرى أن يُؤدَّب من يحلق شاربه” [16].
ونقل ابن القاسم عنه أنه قال: “السنة إحفاء الشارب، وحلقه عندي مُثْلَة” [17].
وأما ما بين الشارب واللحية، ويُسمّى: السبالين، فإن المشروع أيضًا قصه.
قال البخاري في صحيحه: “كان ابن عمر يُحفي شاربه حتى يُنظَر إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين، يعني: بين الشارب واللحية” [18].
فينبغي للمسلم أن يتعاهد ما ذُكر من الخصال، من الاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وقد جاء في “صحيح مسلم” عن أنس قال: “وُقِّت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ألا نترك أكثر من أربعين ليلة” [19].
قال النووي رحمه الله: “فمعناه: لا يترك تركًا يتجاوز به أربعين، لا أنَّـهم وُقِّت لهم الترك أربعين، قال: والمختار أن يضبط ذلك بالحاجة” [20].
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم في الحلقة القادمة على خيرٍ إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 5889، ومسلم: 257. |
---|---|
^2 | معالم السنن: 1/ 31. |
^3 | فتح الباري لابن حجر: 10/ 339. |
^4 | فتح الباري: 10/ 339. |
^5 | تحفة المودود بأحكام المولود: ص:161- 162. |
^6 | تحفة المودود بأحكام المولود: ص: 158. |
^7 | الإنصاف للمرداوي: 1/ 124. |
^8 | الفتاوى الكبرى: 5/ 302. |
^9 | تحفة المودود بأحكام المولود: ص: 185-187. |
^10, ^11 | الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 110. |
^12 | شرح النووي على مسلم: 3/ 148. |
^13 | الشرح الكبير على متن المقنع: 103/10- 104. |
^14 | آداب الشافعي ومناقبه: ص: 210. |
^15 | المغني لابن قدامة: 1/ 66. |
^16 | الاستذكار: 8/ 335. |
^17 | الاستذكار: 8/ 336. |
^18 | صحيح البخاري: باب قص الشارب: 7/ 160. |
^19 | رواه مسلم: 258. |
^20 | شرح النووي على مسلم: 3/ 149. |