logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(57) برنامج مجالس الفقه- من الأخلاق الذميمة: الغيبة والنميمة والسخرية

(57) برنامج مجالس الفقه- من الأخلاق الذميمة: الغيبة والنميمة والسخرية

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".

"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها المسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فبِاسْمي وبِاسْمكم جميعًا أرحِّب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: أهلًا وسهلًا، ومرحبًا بكم، وحياكم الله وحيا الله الإخوة المستمعين.

مسائل وأحكام في الغيبة

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، ذكرنا في حلقةٍ ماضية خُلقًا من الأخلاق التي تُنافي حُسن الخُلق؛ ألا وهو الكِبْر وما يتعلق به من مسائل وأحكام، ولعلنا في هذه الحلقة نتكلم عن خُلقٍ آخر هو من الأخلاق الذميمة، نأخذ شيئًا من مسائله وأحكامه؛ ألا وهو الغيبة، فما حقيقة الغيبة؟ وهل هي من كبائر الذنوب؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

تعريف الغيبة

فأحسن تعريف للغيبة هو تعريف النبي ، وقد عرَّفها النبي بقوله: ذِكرُك أخاك بما يكره، لمَّا قال للصحابة : أتدرون ما الغِيبة؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال عليه الصلاة والسلام: الغِيبة ذِكرُك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله، أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه[1] أخرجه مسلم في صحيحه. أي: إن كان في أخيك ما تقول حقًّا لكنه يكره ذلك فهذا من الغيبة، ما دام أنه يكره هذا الكلام في غيبته فهذه هي الغيبة حقيقةً، أما إذا كان الكلام الذي تتكلَّم به ليس فيه أصلًا فقد جمعتَ مع الغيبةِ البهتانَ والكذبَ؛ هذا هو تعريف الغيبة.

المقدم: أحسن الله إليكم. هذا يرُدُّ على الفهم الخاطئ عند كثير من الناس حينما يُنكَر عليه في باب الغيبة؛ فيقول: لكن الذي ذكرتُه حقيقة فيه.

الشيخ: نعم، صحيح، بعض الناس يفهم الغيبة فهمًا خاطئًا، عندما يقال له: لا تغتب فلانًا، يقول: أنا ما كذبتُ عليه، هذا كلامٌ فيه، هذا وصفٌ فيه، أنا أصفه أو أذكر حقيقة أمره. لكن هذا هو، الغيبة حقيقةً ذِكرك أخاك بما يكره، لو ذكرتَه بغير ذلك جمعتَ مع الغيبةِ الكذبَ والبهتانَ.

هل الغيبة من كبائر الذنوب؟

المقدم: أحسن الله إليكم. هل الغيبة تُعتبر من كبائر الذنوب؟

الشيخ: الغيبة حرامٌ بالإجماع، هي محرمة بالإجماع، والله تعالى يقول: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، ثم شبَّه الله تعالى المُغتَاب بتشبيهٍ فيه قُبحٌ، قال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، شبَّه الله الغيبة بهذا التشبيه الذي فيه تقبيحٌ لها، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [الحجرات:12] فالذي يغتاب أخاه المسلم كأنه يأكل لحمه وهو ++ميت، فكما أن الإنسان يكره أكل لحم أخيه الميت فكذلك أيضًا الغيبة، وإنما جُعِل الأخ ميتًا لأن الميت هو الذي لا يستطيع أن يُدافِع عن نفسه، وهكذا المغتاب لا يستطيع أن يدافع عن نفسه لكونه لا يعلم بالغيبة، فهذا هو وجه التشبيه، فمَن يغتاب أخاه في الحقيقة كأنما أكل لحمه.

وأما كونها من الكبائر أو من الصغائر فهذا محل خلافٍ بين أهل العلم، والقول الراجح أنها قد تكون من الكبائر وقد تكون من الصغائر بحسب الأثر المترتب عليها:

  • فإن كان الأثر المترتب عليها كبيرًا؛ كأن يتضرر هذا الذي اغتيب، يتضرر بسبب هذه الغيبة وتتشوَّه سمعته فتكون من الكبائر، أو يكون الذي قد اغتيب عالمًا كبيرًا مثلًا، أو وليَّ أمرٍ ويترتب على غيبته مفاسد وأضرار؛ كتزهيد الناس في العالِم وصد الناس عن الأخذ من علمه، وأيضًا تحريض الناس على وليِّ الأمر؛ فهذه قد تكون من الكبائر.
  • أما إذا كانت مجرد تشبيه خفيف، لكن هذا المُغتاب قد يكره هذا الشيء، وليست في أمرٍ كبير؛ هذه قد تكون من الصغائر.

فهذا هو القول الراجح؛ أنها قد تكون من الصغائر وقد تكون من الكبائر بحسب الآثار المترتبة عليها.

حُكم الإنكار عند سماع الغيبة

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. هل ما يتعلق بالغيبة، لو أن رجلًا صادف إنسانًا يغتاب؛ فهل يجب الإنكار على المُغتاب في مثل هذه الحال؟

الشيخ: الغيبة -كما ذكرنا- محرمة بالإجماع، وشبَّه الله تعالى المغتاب بمَن يأكل لحم أخيه ميتًا، ومع الأسف أصبحت الغيبة في وقتنا الحاضر فاكهةً لكثيرٍ من المجالس، حتى أصبحت الكثير من المجالس لا تحلو ولا تطيب إلا بالغيبة، ومَن جلسَ في مجلسٍ فيه غيبة فعليه أن يُنكِر بالأسلوب المناسب، إما أن يكون الإنكار مباشرًا أو غير مباشر.

ومن طرق الإنكار غير المباشر أن يُغيِّر مجرى الحديث؛ يقول: دعونا من فلان؛ ما رأيكم في كذا؟ ويأتي بأمر من الأمور المباحة ويُشغِل بها الحاضرين ولا يتكلمون في فلان؛ فيُنبِّه بلطفٍ على أن هذا الأمر غير مقبول؛ أنك تتحدث في فلان في غيبته، أو تتكلم في فلان في غيبته، ويُغيِّر مجرى الحديث.

وإن عجز عن إنكار الغيبة واستمر الحاضرون في المجلس في الغيبة فإنه يُغادِر ذلك المجلس، وإلا فإنه يكون شريكًا معهم في الإثم؛ يقول الله : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، فقوله: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ دليلٌ على أن مَن جلس في مجلسٍ فيه معصية ولم يُنكِر فإنه يكون مثل الواقعين في المعصية في الإثم.

المواضع التي يجوز فيها الغيبة

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، يذكر الفقهاء أحيانًا مواضع يقولون هي مما تجوز فيها الغيبة؛ فما هي هذه المواضع التي يُرخَّص فيها في الغِيبة؟

الشيخ: ذكر أهل العلم ستة مواضع تجوز فيها الغيبة، دلَّت الأدلة على أن هذه المواضع الستة مستثناة، وأنَّ مَن وقع في الغيبة في هذه المواضع الستة لا يلحقه الإثم، وجمعها الناظم في بيتين؛ قال:

والذم ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلِّمٍ ومعرِّفٍ ومحذِّرِ
ولمُظهِرٍ فسقًا ومستفتٍ ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ

فالحالة الأولى (متظلِّم): تجوز غيبة المتظلِّم لظالمه فيما ظلمه، كأن يقول: فلانٌ فعل بي كذا وكذا، فالمتظلِّم له الحق في أن يتكلم في ظالمه، بل له الحق في أن يدعوَ عليه؛ كما قال الله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: "أي: لا يحب الله أن يدعوَ بعضُكم على بعض إلا المظلوم، فله أن يدعوَ على ظالمه".

الحالة الثانية (ومعرِّفٍ): أي أن يذكر عيبًا على سبيل التعريف؛ كأن يقول: فلانٌ الأعمى، أو فلانٌ الأعرج، ونحو ذلك مما فيه تعريفٌ ولا يُقصَد به الذم، فهذا لا بأس به ما دام أن هذا الشخص لا يكره ذلك، العادة أنه لا يكره، الأعمى لا يكره أن يُقال: فلان أعمى. فهذا على سبيل التعريف؛ كما قال الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1، 2]، عن عبدة بن سليمان قال: سمعت ابن المبارك وسُئل عن فلانٍ القصير، وفلانٍ الأعرج، وفلانٍ الأصفر، وحُميدٍ الطويل، قال: "إذا أراد صِفَتَه ولم يُرِد عَيْبَه؛ فلا بأس".

ويدخل في ذلك أيضًا إذا تقدم الإنسان لخطبة امرأةٍ، فأهل المرأة يسألون عنه، المسؤول لا بأس أن يذكر لهم عيوبه؛ فيقول: إن فيه كذا وكذا من العيوب -وإن كان يَكره أن تُذكر تلك العيوب-. ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين أن فاطمة بنت قيسٍ رضي الله عنها خطبها معاوية وأبو الجهم رضي الله عنهما، فذهبت للنبي تستشيره، فذكر النبي في كُلٍّ منهما عيبًا، فقال: أما أبو الجهم، فرجلٌ لا يضع العصا عن عاتقه، ما معنى "لا يضع العصا عن عاتقه"؟ قيل: إنه كثير الضرب للنساء، وقيل: إنه كثير الأسفار؛ وكلاهما عيبٌ في الخاطب، وأما معاوية، فصعلوكٌ لا مال له[2]، أي: فقيرٌ لا مال له.

وهذا يدل على أن الخاطب أيضًا يُطلَب فيه المال، وأن وصفه بذلك لا يعتبر غيبةً، فهذا المقام مقامٌ يقتضي ذكر العيوب لأنه على سبيل النصح؛ وعلى ذلك نقول: إن مَن سُئل عن رجلٍ تقدم لخطبة امرأةٍ، لا بأس أن يذكر عيوبه، ولا يدخل ذلك في الغيبة.

أيضًا لو سُئل إنسانٌ عن رجل يريد السائل أن يكون شريكًا له، أو يتعامل معه، أو يريد أن يُرشِّحه لشيءٍ معين كمنصبٍ أو ولايةٍ أو لمكانٍ معين؛ فأراد أن يسأل عن شخصية هذا الإنسان؛ فأتى لأحد الناس من زميلٍ أو قريبٍ أو صديقٍ أو غيره يسأل عنه؛ فهنا لا بأس أن تُذكر معايب ذلك الرجل، لكن يذكره بما فيه من غير أن يُبالِغ في ذلك؛ فذِكْرُ معايبه هنا لا يدخل في الغيبة؛ لأنه يترتب على ذلك مصلحة. فإذَن؛ على سبيل التعريف نقول: لا بأس بذكر المعايب، ولا يدخل ذلك في الغيبة الممنوعة.

الحالة الثالثة (ومحذِّرِ): إذا كان على سبيل التحذير، كأن ترى إنسانًا يُصاحب مبتدعًا، أو عنده مشاكل، أو نحو ذلك، فتأتي إليه وتنصحه وتقول: فلانٌ عنده كذا وكذا، فاحذر منه، لا تُجالس فلانًا فإن فيه كذا وكذا، على سبيل التحذير؛ قال أهل العلم إنه لا بأس به، ولا يدخل في الغيبة المحرمة.

الحالة الرابعة (ولمُظهِرٍ فسقًا): فهذا ليس لعِرْضِه حُرمةٌ فيما أظهر فيه، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا استأذن على النبي  فقال عليه الصلاة والسلام: ائذَنُوا له، بِئسَ أخو العشيرة، أو قال: بِئسَ ابن العشيرة، فلما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام تبسَّط النبي معه وألان له الكلام، فلما ذهب ذلك الرجل قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، حين استأذن قلتَ: بئس أخو العشيرة، ولما دخل عليك تطلَّقت في وجهه وانبسطتَّ إليه؟! فقال : يا عائشة، متى عهدتِّني فحَّاشًا؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة مَن تركه الناس اتِّقاءَ شرِّه، أو قال: اتِّقاءَ فُحشِه[3]. فمَن كان سليط اللسان فاحشًا في كلامه، أو أظهر فسقًا بأية صورة من الصور، فهنا يكون هذا من المواضع التي تجوز فيها الغيبة فيما أظهر فيه فقط، ولا يتجاوز إلى غير ذلك.

الحالة الخامسة (ومستَفتٍ): أي: على سبيل الاستفتاء، فالمستفتي يجوز أن يذكر عيوب مَن يُستفتى عنه؛ كما جاء في الصحيحين: أن امرأة أبي سفيان جاءت إلى النبي فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ [قولها: "رجلٌ شحيحٌ" هذا غيبة]، إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يُعطيني ما يكفيني وولدي، فقال النبيُّ : خُذي من ماله ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف[4]، والحديث في الصحيحين. فقولها: "رجلٌ شحيحٌ" هذا لا شك أنه غيبة، وأقرَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام هذه المرأة؛ لأنها في مقام الاستفتاء، فإذا أتى إنسانٌ لمُفتٍ وقال: إن والدي أو ولدي أو زوجتي أو فلانًا، إن فيه كذا وكذا وكذا، كيف أتعامل معه؟ أو يستفتي في أمرٍ من الأمور المتعلقة بذلك؛ فلا بأس بهذا، ويكون هذا من المواضع التي تجوز فيها الغِيبة؛ لأن الحاجة تدعو لذلك.

الحالة السادسة من الحالات التي تجوز فيها الغيبة (ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ): إذا كان المقامُ مقامَ إعانةٍ ومقامَ نصيحةٍ، وطَلَبَ الإعانة على إزالة ذلك؛ فهذا أيضًا من المواضع التي رخَّص العلماء فيها في الغيبة.

وعلى ذلك؛ فإن الغيبة تجوز في هذه المواضع الستة، وما عدا ذلك فالأصل أنها باقية على حُرمتها وعلى التشنيع الوارد في قول الله : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [الحجرات:12].

كفارة من وقع في الغيبة

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، إذا قُدِّر أن الإنسان وقع في هذه المعصية وفي هذا الذنب وأراد أن يتوب منه؛ فما كفارة الغيبة؟

الشيخ: كفارة الغيبة اختلف العلماء فيها؛ فقال بعضهم: إن كفارتها أن يذهب لمَن اغتابه ويتحلَّل منه، يأتي إليه ويقول: إنني قد اغتبتُك فحلِّلْني. والحقيقة أن هذا من الناحية النظرية جيد، لكن من الناحية العملية؛ الواقع أن هذا التصرف قد يترتب عليه مفاسِد أعظم من الغيبة نفسها، ففي الغالب أنك إذا ذهبت لإنسان وقلت: إنني قد اغتبتُك فحلِّلْني، أنه يقع في نفسه شيء، ويحصل بينك وبينه وحشة، والشيطان حريص على النَّزْغِ بين المسلمين. وأذكر أن رجلًا ذهب لآخر وقال: يا فلان، قد اغتبتُك البارحة فحلِّلْني؛ فلم يُحلِّلْه، وحصل بينه وبينه قطيعة مدة طويلة. لذلك؛ فالقول الراجح في هذه المسألة -والذي اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم أبو العباس بن تيمية وابن القيم وابن مفلح وغيرهم-: أن كفارة الغيبة أنه لا يذهب إليه ولا يتحلَّل منه، وإنما يذكره بمحاسن ما يَعرِفُ عنه في المواضع التي اغتابه فيها، ويدعو له بظهر الغيب، ويستغفر له.

وقد جاء هذا في حديثٍ مرويٍّ عن النبي : كفارة مَن اغتبتَ أن تستغفر له[5] لكنه حديث ضعيف، جميع طرقه واهية، أخرجه ابن أبي الدنيا والخرائطي في مساوئ الأخلاق، لكنه حديثٌ لا يصح عن النبي ، لكن معناه صحيح. وعلى ذلك؛ فمَن وقع في غيبة إنسانٍ فيدعو له ويستغفر له، وأيضًا يذكره بمحاسن ما يَعرِفُه من كريم الأخلاق؛ هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

لكن هل هذا يُكفِّر الغيبة تمامًا؟ هذا قد يُخفِّف من إثم الغيبة لكنه في الواقع لا يُكفِّرها تمامًا؛ لأن حقوق العباد مبناها على المُشاحَّة؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: مَن كان لأخيه عنده مظلمةٌ فلْيَتَحَلَّلْه اليوم قبل ألَّا يكون دينارٌ ولا درهمٌ[6]، وإنما قال المحققون من أهل العلم: لا يتحلَّل منه في هذا الموضع؛ لأجل ما يترتب على ذلك من المفاسد التي هي أعظم من مفسدة الغيبة. وهذا يستدعي أن يكون الإنسان حذرًا من أن يقع في الغيبة؛ لأنه حتى وإن ذكرتَه بمحاسن ما تَعرِفُه، وحتى وإن استغفرتَ له، وإن دعوتَ؛ هل معنى هذا أن الغيبة تُكفَّر عنك تمامًا؟ الذي يظهر أن هذا يُخفِّف من الإثم، لكن الحقوق تبقى لأصحابها يوم القيامة.

المقدم: أحسن الله إليكم. ولعل مما أذكره في هذا الصدد كلمةً لطيفةً لبعض السلف لَمَّا سُئِل عن كفارة الغيبة؛ قال: أستغفره أم أستغفر له؟ فقال: بل استغفر له؛ لا تُؤذِهِ مرتين: أذية بالغيبة، ثم أذية بإخباره وإعلامه. أحسن الله إليكم.

المقصود بالنميمة

مما يُذكَر في هذا الباب أيضًا ما يتعلق بالنميمة وهي خُلُقٌ ذميمٌ -عافانا الله وإياكم والسامعين-؛ فما المقصود بالنميمة؟

الشيخ: النميمة هي نقل الكلام من شخصٍ إلى آخر بقصد الإفساد بينهما، وهي من كبائر الذنوب؛ يقول النبي : لا يدخل الجنة نَمَّام[7]. وهي من أسباب عذاب القبر، ولما مرَّ النبي على قبرين قال: يُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبيرٍ [يعني: في نظر كثير من الناس]، ثم قال: أما أحدهما فكان لا يَسْتَنزه من بوله، أي: إنه يتساهل في أمر النجاسة، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس[8]، فدلَّ هذا الحديث على أن النميمة من أسباب عذاب القبر، وهي من كبائر الذنوب، والآثار المترتبة عليها كبيرة جدًّا، فهي تتسبب في التفريق بين الناس، وتتسبب في قطيعة الرحم، وتتسبب في المشاحنة وهجران المسلمين، ولها آثار سيئة، فالنميمة هي من كبائر الذنوب عند عامة أهل العلم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: لا يدخل الجنة نَمَّام[9].

السخرية والاستهزاء

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. كذلك شيخنا مما يُذكر في هذا أيضًا من الأخلاق الذميمة ما يتعلق بالسخرية والاستهزاء؛ فما المقصود بذلك؟

الشيخ: السخرية والاستهزاء؛ أي: تَنَقُّصُ الآخرين؛ بأن يسخر من غيره، ويستهزئ به، ويَتَنَقَّصه بأسلوب مباشر أو بأسلوب غير مباشر؛ والمسلم لا يجوز له أن يتنقَّص الآخرين، وإنما يتعامل معهم بالاحترام والتقدير، ولا يسخر منهم.

ومما رآه الناس قديمًا وحديثًا أن مَن سَخِر بشخصٍ يُعاقَب -في الغالب- بمثل ما سَخِر به، في الغالب أنه يرى ذلك في الدنيا. فالسخرية من الآخرين وتَنَقُّصهم نوعٌ من الجهل؛ ولهذا موسى عليه الصلاة والسلام لما قال لبني إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]، دلَّ هذا على أن الاستهزاء بالآخرين جهل؛ ولهذا قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]. فعلى المسلم أن يحفظ لسانه فلا يسخر بالآخرين، ولا يستهزئ بهم، ولا يَتَنَقَّصهم، ولا يزدريهم، وإنما يتكلم بالطيِّب من القول.

هل الكتابة تأخذ حُكم الكلام في الغيبة ونحوها؟

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم -شيخنا- هذا البيان. ونحن في هذا البرنامج مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، وحديثنا في هذه الحلقة عن فقه الأخلاق، والحديث على وجه التفصيل عن بعض الأخلاق المذمومة. شيخنا، الكتابة هل تأخذ حُكم الكلام ويُؤاخَذ عليها الإنسان، سواء في الغيبة أو في السَّبِّ أو في السخرية ونحوها؟

الشيخ: الكتابة تأخذ حُكم الكلام ويُؤاخَذ الإنسان على ما كتب؛ ولذلك ما يكتبه الإنسان في وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا مُؤاخَذٌ به، ولذلك لو كتب رجلٌ طلاق امرأته ناويًا طلاقها وقع الطلاق عند عامة الفقهاء، وعند الفقهاء قاعدة مشهورة: "الخطاب كالجواب"؛ أي: إن الكتابة تأخذ حُكم الخطاب والكلام. وعلى هذا؛ فما يكتبه الإنسان مُؤاخَذٌ به، فالذين يكتبون على وسائل التواصل الاجتماعي في تويتر أو فيسبوك أو الواتساب أو في الإنترنت عمومًا أو الشبكة العنكبوتية؛ مُؤاخَذون بما يكتبون.

وبعض الناس لا يُلقي بالًا لهذا، وربما يتأوَّل تأويلات غير مقبولة، فتجد بعض الناس -سبحان الله!- في وسائل التواصل الاجتماعي عندما تدخل حسابه تقول: هل هذه أخلاق مسلمين؟! تجد أن حسابه ممتلئٌ بالسخرية وبالاستهزاء وبالغيبة وبالنميمة وبالقذف وبالكلام الباطل؛ فهذا يُخشَى أن يكون مفلسًا كما قال عليه الصلاة والسلام: أتدرون مَن المُفلس؟، قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، قال عليه الصلاة والسلام: إن المفلس من أمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة وزكاة، ويأتي وقد ضرب هذا، وسفك دم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وذاك من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار[10].

والله عندما ترى بعض الحسابات لا تشك أن هذا يَصدُق عليه وصفُ المفلس الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، وبعض الناس عندما يُنصَح تجد أنه يتأوَّل: أنا أقصد كذا، أنا نويت كذا! التأوُّل في حقوق العباد لا ينفع صاحبه، لا يرفع المُؤاخَذة؛ ولهذا لمَّا بعث النبي أسامة بن زيد في سرية وَلَقُوا رجلًا كان من الكفار، لكن لمَّا رفع عليه أسامة السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فدعا النبيُّ أسامةَ وقال: أقتلتَه بعدما قال: لا إله إلا الله؟!، قال أسامة : يا رسول الله، إنما قالها مُتَعَوِّذًا [يعني: خائفًا من السيف]، قال : فهلَّا شَقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم أنه قالها كذلك أم لا؟!، وجعل يُكرِّر عليه: يا أسامة، كيف بلا إله إلا الله إذا أتت تحاجّك يوم القيامة؟!، قال أسامة : فما زال يُكرِّرها عليَّ حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم![11].

هذا يدل على أن التأوُّل في حقوق العباد لا ينفع صاحبه، وإلا لو كان ينفع صاحبه لنفع أسامة بن زيد . فالذين يقعون في أعراض المسلمين ويتأوَّلون لا ينفعهم تأوُّلهم؛ ولذلك فينبغي الحذر، ولا يكتب الإنسان إلا بالطيب من القول، ولا يقع في أعراض الناس لا بالسخرية ولا بالاستهزاء ولا بالغيبة ولا بالنميمة ولا بالقذف ولا بغير ذلك من الأوصاف الذميمة.

أيهما أفضل: الكلام أم الصمت؟

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من أن ننال أحدًا بجَوْرٍ أو بغيٍ أو ظلمٍ. شيخنا، هذا يقود إلى مسألة يذكرها بعض أهل العلم: أيهما خيرٌ للمرء؛ الكلام أم الصمت؟

الشيخ: هذا السؤال مهم، عندما يسمع بعض الناس هذا الكلام يظنون أن الصمت أفضل من الكلام؛ ولذلك تجد بعض الناس يغلب عليه الصمت، وهذا غير صحيح، بل الكلام أفضل، لكن الكلام بالخير؛ ولهذا قال النبي : مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فَلْيَقُل خيرًا أو ليصمت[12]، قدَّم قول الخير على الصمت، فكون الإنسان يقول الخير هذا خيرٌ من الصمت، والصمت خيرٌ من قول الشر. الذي إذا أراد أن يتكلَّم لا يتكلَّم إلا بالشر نقول: اصمت، لكن خيرٌ من الصمت أن يقول الخير. ولذلك؛ فهذه نقطةٌ مهمةٌ لأن بعض الناس يغلب عليه الصمت في المجالس، يغلب عليه الصمت حتى في ذهابه مع زملائه، مع أصدقائه، يفهمون المسألة فهمًا غير صحيح، تقول خيرًا أحسن من أن تصمت، قُلْ خيرًا بالكلام الحسن، بالكلام الذي فيه لطف، بما تُفيد به إخوانك، بما تُفيد به أصحابك بذكر الله ، فالكلام بالخير أفضل من الصمت؛ ولهذا قدَّمه النبي بالذكر، قال: فَلْيَقُل خيرًا أو ليصمت.

المقدم: أحسن الله إليكم. إذا كان لا يعلم هل هذا الكلام هو من الخير أو من المباح المطلق؟

الشيخ: إذا كان لا يعلم إذَن يصمت؛ ولهذا فالنبي عليه الصلاة والسلام وضع خيارين: فَلْيَقُل خيرًا أو ليصمت[13] فإذا كان يخشى أنه لا يكون خيرًا؛ إذَن يصمت.

حفظ اللسان عن الكلام المحرَّم

المقدم: وهذا يقودنا -شيخنا- إلى أن نختم الحديث بتوجيهٍ منكم في حفظ اللسان عن الكلام المحرَّم -أحسن الله إليكم-.

الشيخ: معاذ سأل النبي سؤالًا: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثَكِلتكَ أمك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناس على وجوههم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم[14]. أخذ العلماء من هذا أن أكثر ما يُدخِل الناسَ النارَ الكلامُ المحرمُ كما قال ابن رجب وغيره، وعندما تتأمل المعاصي تجد أن معظمها من الكلام المحرم، معظم المعاصي من الكلام المحرم؛ من القذف، من السخرية، من الغيبة، من النميمة؛ فمَن حَفِظ لسانه فإنه سيتَّقي كثيرًا من المعاصي، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيقل خيرًا أو ليصمت[15]؛ المسلم يجعل هذا الحديث مبدأً له.

وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يُلقِي لها بالًا يَزِلُّ بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب[16]، رُبَّ كلمة واحدة يَزِلُّ بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب. ولمَّا قال رجلٌ: والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ؟ غفرت له وأحبطت عملك[17]، تكلمَ بكلمة -كما قال أبو هريرة- أوبقَت دنياه وآخرته[18]. فعلى المسلم أن يحفظ لسانه عن الكلام المحرم، وأن يجعل قول النبي : فَلْيقل خيرًا أو ليصمت مبدأً له في الحياة.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان والإيضاح.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، شكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله -، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه مسلم: 2589.
^2 رواه مسلم: 1480.
^3 رواه البخاري: 6054، ومسلم: 2591.
^4 رواه البخاري: 7180، ومسلم: 1714.
^5 رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة والنميمة: 155، والخرائطي في مساوئ الأخلاق: 205.
^6 رواه البخاري: 2449.
^7 رواه البخاري: 6056، ومسلم: 105.
^8 رواه البخاري: 216، ومسلم: 292.
^9, ^13, ^15 سبق تخريجه.
^10 رواه مسلم: 2581.
^11 رواه البخاري: 6872، ومسلم: 96.
^12 رواه البخاري: 6475، ومسلم: 47.
^14 رواه الترمذي: 2616، وابن ماجه: 3973، وأحمد: 22068.
^16 رواه البخاري: 6477، ومسلم: 2988.
^17 رواه مسلم: 2621.
^18 رواه أبو داود: 4901، وأحمد: 8292.
مواد ذات صلة
zh