logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(53) برنامج مجالس الفقه- المسائل المتعلقة بفقه الآداب والأخلاق

(53) برنامج مجالس الفقه- المسائل المتعلقة بفقه الآداب والأخلاق

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يَحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ.

يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المسائل المتعلقة بفقه الآداب والأخلاق

شيخنا، لعلنا في هذه الحلقة نطرق بابًا من الأبواب المهمة، والحقيقة هذا الباب له عنايةٌ بالغةٌ في الشريعة، ألا وهو "باب الأخلاق والآداب"، وكما لا يخفى على شريف علمكم أنه بابٌ عظيمٌ من أبواب التعبد لله سبحانه وتعالى، وجاء في الحديث: إن الرجل ليُدرِك بحسن خلقه درجة الصائم القائم [1]، وهذه الأبواب المتعلقة بالآداب والأخلاق تحتوي على مسائل فقهيةٍ، وعلى أحكامٍ يحتاج إلى معرفتها المسلم، فلعلنا ندخل -بإذن الله ​​​​​​​- في هذه الحلقة للحديث حول هذه المسائل المتعلقة بفقه الآداب والأخلاق.

إن أذنتم شيخنا أن تبينوا لنا شيئًا من عناية العلماء رحمة الله عليهم بفقه الآداب والأخلاق وأهمية ذلك، ولاسيما لطالب العلم.

عناية العلماء بفقه الآداب والأخلاق

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالأخلاق والآداب لها منزلةٌ عظيمةٌ في الشريعة الإسلامية، وقد عُنِي أهل العلم بالآداب والأخلاق، وصنفوا فيها المصنفات، فمنهم من صنف مصنفاتٍ مستقلةً، ومنهم من ألحقها بآخِر كتابه؛ فعلى سبيل المثال: ممن صنف مصنفاتٍ مستقلةً في الآداب: البخاري، صاحب "الصحيح"، فله كتابٌ اسمه "الأدب المفرد"، وكذلك الخرائطي له كتابان: "مكارم الأخلاق"، وكتابٌ آخر بعنوان "مساوئ الأخلاق"، وابن حبان له كتاب بعنوان "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" في الآداب والأخلاق، كذلك ابن الجوزي له كتاب "منهاج القاصدين ومفيد الصادقين"، وقد اختصره الموفق بن قدامة المقدسي في "مختصر منهاج القاصدين".

ومن أهل العلم من ألحق الكلام عن الآداب بكتابه؛ كابن أبي موسى الحنبلي، له كتاب "الإرشاد في الفقه"، وفي آخره جُمَلٌ من الآداب، وكذلك أيضًا الحافظ ابن حجرٍ في كتابه "بلوغ المرام" ضمَّن آخره أحاديث الآداب والأخلاق، وكذلك أبو داود السِّجِستاني ذكر في آخر "سننه" أحاديث الآداب، أيضًا أبو الوفاء بن عَقيلٍ الحنبلي له أيضًا كتابٌ في الآداب اسمه "الفصول في الآداب والأخلاق"، وإن كان هذا قد اختُلف هل هو كتابٌ مستقلٌّ لابن عقيلٍ، أو أنه داخلٌ في كتابه المشهور "الفصول في الفقه"، والذي لا يزال مخطوطًا؟ والذي يظهر -والله أعلم- أن "الفصول في الآداب والأخلاق" ليس كتابًا مستقلًّا، وإنما هو داخلٌ ضمن كتاب "الفصول في الفقه"؛ بدليل أنه لم يجعل له مقدمةً ولا خطبةً، ولم يُبيِّن غرضه من تأليفه، وإنما ابتدأ مباشرةً بالبسملةِ ثم بالحمد لله، ويظهر أنها من كلام النُّساخ، ولأن المترجمين لأبي الوفاء بن عقيلٍ لم يذكروا له هذا الكتاب، وإنما ذكروا له "الفصول في الفقه"، وقد حوى اثنين وعشرين فصلًا في الآداب والأخلاق، وأكثر من مئةٍ وثلاثين نوعًا في الآداب والأخلاق، وذكر فيه دقائق وتفاصيل في الآداب والأخلاق قَلَّ أن يتعرض لها غيره، وإن شاء الله سيخرج لي كتابٌ في شرح هذا الكتاب، في كتاب "الفصول والآداب"، قريبًا بإذن الله ، وهو كتابٌ نفيسٌ.

المقصود: أن العلماء لهم عنايةٌ كبيرةٌ بالتصنيف في الآداب والأخلاق؛ لأن الآداب والأخلاق لها المنزلة الكبيرة والعلية في الشريعة الإسلامية، وهذا يُؤكِّد على المسلم العناية بها، خاصةً طالب العلم ينبغي أن يُعنى بفقه الآداب والأخلاق، وأن يُعنى أيضًا بتطبيقها في واقعه العملي؛ لأن الإخلال بها قد يمنع من إفادة طالب العلم ونفعه للناس؛ ولهذا نجد أن من طلاب العلم من عنده قوةٌ علميةٌ، وقوةٌ في البحث، وقدراتٌ عقليةٌ ومواهب، لكن لا يُستفاد منه؛ بسبب سوء خُلُقه وحِدَّة تعامله، والشدةِ الموجودة لديه، وسوء الخُلق ينفر الناس من الإنسان مهما كان، بل ربما هذا تجده عالمًا كبيرًا غزير العلم، لكن لا يُستفاد منه على الوجه الكبير؛ بسبب الحدة أو سوء الخلق؛ وذلك لأن الله جَبَلَ النفوس على أن تنفر من غليظ الطبع؛ كما قال سبحانه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وَلَوْ كُنْتَ -يعني يا محمد- فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا، لَانْفَضُّوا من هم؟ الصحابة ، الذين يعلمون أن ما يقوله رسول الله حقٌّ بل وحيٌ، ومع ذلك يُخبر ربنا بأنه لو كان نبينا فظًّا غليظ القلب؛ لانفضوا من حوله، فكيف بمن هو دونه ؟! فكيف بمن هم من غير الصحابة ؟! وهذا يدل على أن هذا من سنن الله ، هذا أمرٌ قد فُطِرت عليه النفوس؛ أنها تنفر من الفظاظة ومن الغلظة ومن سيِّء الأخلاق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق [2]، وفي روايةٍ: لأتمم مكارم الأخلاق [3].

الجمع بين حسن الخلق والمهابة

المقدم: أحسن الله إليكم، وهنا شيخنا خلطٌ أحيانًا ربما يقع عند بعض الناس، أو حتى بعض طلبة العلم، ألا وهو أن هيبة العلم وهيبة التعليم وهيبة المشيخة -كما يقال- تقتضي الشدة أحيانًا، وتقتضي الحزم في هذه الأمور، فهل هناك تعارضٌ بينها وبين حسن الخلق؟

الشيخ: ليس هناك تعارضٌ، أكمل الهدي هدي نبينا محمدٍ ، الذي قال الله عنه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وكان له مهابةٌ، فجمع بين حسن الخلق وبين المهابة، فقد يحصل الخلط من بعض الناس، يظن أن سوء الخلق والفظاظة والغلظة تجعل له هيبةً وقوة شخصيةٍ، وهذا غير صحيحٍ، فأكمل الهدي هدي الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا على جانبٍ عظيمٍ من كريم الخلق، بل إن الإنسان بحسن خلقه يدعو للإسلام؛ ولهذا نجد أن بعض الدول التي دخلها الإسلام وأصبحت من الدول الإسلامية؛ مثل دول جنوب شرق آسيا، لا يُعلم أن المسلمين فتحوها بالسيف، كيف دخلها الإسلام؟ دخلها عن طريق التجار المسلمين، فرأى الناس في تلك الدولِ التجارَ المسلمين وهم يحملون أخلاقًا عظيمةً، فأحبوهم وأحبوا التعامل معهم وأحبوا دينهم؛ فدخل الإسلام في تلك البلدان لهذا السبب.

المقدم: أحسن الله إليكم، وهذا أيضًا قد يُعطي نتيجةً عكسيةً لأهل البدع، ربما حين يكون بعضهم قد تحلَّى بأخلاقٍ حسنةٍ فترُوج بدعته بسبب أخلاقه.

الشيخ: نعم هذا صحيحٌ؛ لأن الناس بطبيعتهم يحبون حسن الخلق، يحبون الهيِّن الليِّن، كريم الأخلاق، حسن المعشر، فإذا كان هذا داعيةً فيتقبَّلون دعوته، ويُؤثِّر عليهم تأثيرًا كبيرًا؛ فلهذا ينبغي للدعاة إلى الله على المنهج الحق، ولطلاب العلم، أن يحرصوا على العناية بفقه الآداب والأخلاق، وتطبيق ذلك في تعاملاتهم.

المقدم: أحسن الله إليكم.

منزلة الآداب والأخلاق في الشريعة الإسلامية

شيخنا، أشرتم -قبل قليلٍ- إلى إلماحةٍ حول منزلة الآداب، وأود شيخنا لو بيَّنتم لنا عِظَم هذه الأخلاق والآداب، ومنزلتها من الشريعة الإسلامية.

الشيخ: الأخلاق والآداب لها منزلةٌ عاليةٌ من الشريعة الإسلامية، وأذكر حديثًا يتضح به الأمر، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة أن النبي قيل له: إن فلانة تُكثر من صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال النبي : هي في النار، قيل: وإن فلانة ليست بكثيرة صلاةٍ ولا صيامٍ ولا صدقةٍ، غير أن لها أحيانًا أثوارًا من أَقِطٍ [4] تتصدق بها على جيرانها، وتُحسن لجيرانها، فقال النبي : هي في الجنة [5].

لاحِظ هنا: الأولى عندها عنايةٌ بالشعائر التعبدية الخاصة فيما بينها وبين الله؛ كثيرة الصلاة والصيام والصدقة، لكن عندها مشكلةٌ في الآداب والأخلاق، عندها مشكلةٌ في التعامل مع الجيران، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هي في النار، الثانية ليست مثل الأولى في الشعائر التعبدية، فيما بينها وبين الله قد تكون محافظةً على الفرائض، لكن ليست مكثرةً من النوافل، ولكن عندها عنايةٌ بجانب الآداب والأخلاق في التعامل مع الآخرين؛ تحسن لجيرانها، فقال النبي : هي في الجنة، هذا يُبيِّن لنا عظيم شأن العناية بالأخلاق والآداب، بل وجاء أيضًا عند أحمد بسندٍ صحيحٍ أن النبي سأله رجلٌ قال: يا رسول الله، كيف أعرف أني أحسنت أم أسأت؟ فقال له النبي : إذا قال جيرانك: أحسنت، فقد أحسنت، وإذا قالوا: أسأت، فقد أسأت [6]، وهذا معنًى دقيقٌ؛ لأن الجيران لا يمكن أن يُثنوا على أحدٍ وأنه أحَسَنَ إلا إذا كان أحسن بالفعل؛ من المحافظين على الصلاة مع الجماعة في المسجد، حسن الخلق، كريم التعامل، فيُثني عليه جيرانه، يرونه خمس مراتٍ في اليوم والليلة، يعرفون مدخله ومخرجه، فإذا شهدوا له وقالوا له: أحسنت؛ فهذا دليلٌ على إحسانه، إذا شهدوا بالعكس، قالوا: فلانٌ مثلًا لا يصلي، فلانٌ سيء الأخلاق، فلانٌ كذا، فهذا أيضًا شهادةٌ منهم على أنه أساء؛ وهذا يدل على اعتبار شهادة الناس، أنتم شهداء الله في الأرض [7]، الشهادات الكثيرة المتوالية، أما شهادات الآحاد هذه فقد لا تُفيد؛ لأن بعض الناس قد يتحامل على آخر فيطعن فيه بكلامٍ غير صحيحٍ، وهذا لم يَسلم منه أحدٌ حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، لكن كلامنا في الشهادات الكثيرة المستفيضة، فهذه معتبرةٌ في الشرع؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: أنتم شهداء الله في الأرض.

فهذا يُبيِّن لنا عناية الشريعة بمنزلة الآداب والأخلاق؛ ولهذا من أبرز سمات الشخصية المسلمة: مراعاة الآداب الشرعية ومكارم الأخلاق الفاضلة، فالدين كله أدبٌ كريمٌ، وخلقٌ عظيمٌ، والنبي بُعِث ليُتمِّم مكارم الأخلاق، وكان أحسن الناس خُلُقًا، وأشرفهم نفسًا، وأكرمهم سجيةً، فجملة محاسن الأخلاق والمعاملات كلها من دين الإسلام؛ ولهذا نجد أن العلماء عُنُوا بالكلام عن هذه الأخلاق والآداب وجمعِ النصوص الواردة فيها عنايةً كبيرةً، وهذا ما سنتعرض له -إن شاء الله- في هذه الحلقة والحلقات القادمة بإذن الله .

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

تعريف الآداب

إذنْ شيخنا، إن أذنتم أن ندخل في التفاصيل المتعلقة بهذا الباب، ولعلي أبتدئ بالحديث حول بيان تعريف الآداب، ما المقصود بالأدب؟

الشيخ: الآداب: جمع أدبٍ، ويقول الفيومي:"أدَّبتُه أدبًا، أي: علَّمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق"، فالأدب اسمٌ لذلك، فأدَّبه يعني: راضَه على محاسن الأخلاق والعادات ودعاه إلى المحامد، فالحافظ ابن حجرٍ قال: "إن الأدب: هو استعمال ما يُحمد قولًا وفعلًا"، وقال بعضهم: "الأدب: هو الأخذ بمكارم الأخلاق"، وقال بعضهم: "الأدب: يقع على كل رياضةٍ محمودةٍ يتخرَّج بها الإنسان على فضيلةٍ من الفضائل"، والإمام ابن القيم رحمه الله قال: "حقيقة الأدب: استعمال الخُلق الجميل؛ ولهذا كان الأدب استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل، فإن الله سبحانه هيَّأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد التي جعلها فيه كامنةً".

وقد قال الله تعالى عن نبيه : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فوصفه بأنه على خلقٍ عظيمٍ، فهو عليه الصلاة والسلام استعلى على معالي الآداب والأخلاق، وقد حث عليه الصلاة والسلام على محاسن الآداب ومكارم الأخلاق، فقال عليه الصلاة والسلام: أكمل المؤمنين إيمانًا: أحسنهم خلقًا [8]، هذا حديثٌ أخرجه أبو داود والترمذي بسندٍ صحيحٍ؛ وهذا يدل على ارتباط حسن الخلق بالإيمان.

وجاء في "الصحيحين" عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذرٍّ  مبعث النبي ؛ قال لأخيه: "اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيٌّ يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني"، فانطلق الأخ حتى قَدِمه وسمع من قوله ، ثم رجع إلى أبي ذرٍّ فقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق" [9].

فإذنْ هذا هو معنى الآداب، تدور حول هذا المعنى: أنه استعمال ما يُحمد قولًا وفعلًا، وعبَّر بعضهم عن هذا بتعبيرٍ مختصرٍ فقال: "إن الأدب: هو الأخذ بمكارم الأخلاق"، وابن القيم أيضًا عرَّفه بتعريفٍ آخر مختصرٍ، قال: "الأدب: استعمال الخلق الجميل"، وكلها تعريفاتٌ متقاربةٌ للأدب.

تعريف الأخلاق

المقدم: أحسن الله إليكم، هذا يقودنا إلى السؤال عن الأخلاق، ما المراد بالأخلاق؟ أو ما تعريف الأخلاق؟ وهل هناك فرقٌ بين الآداب والأخلاق، أو بينهما عمومٌ وخصوصٌ؟

الشيخ: نعم، الأخلاق جمع خُلقٍ، والخُلق يُعرِّفه العلماء بأنه: "هيئةٌ راسخةٌ في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولةٍ ويسرٍ".

ونوضح هذا بالمثال: الكرم، الكرم خلقٌ، متى يُوصف الإنسان بأنه كريمٌ؟ إذا أصبح هذا الكرم هيئةً راسخةً في النفس، والإنسان يتعاطى الكرم بسهولةٍ ويسرٍ من غير تكلُّفٍ، يُصبح كريمًا، وهكذا الحلم أيضًا خلقٌ، متى نقول: إن هذا الإنسان حليمٌ؟ إذا أصبح الحلم هيئةً راسخةً في نفسه، وتصدر عنه الأفعال بسهولةٍٍ ويسرٍ، وهكذا أيضًا بقية الأخلاق.

إذنْ الأخلاق هيئةٌ راسخةٌ في النفس، لا يقال: إن هذا خلقٌ، إلا إذا كان راسخًا في النفس وأصبحت الأفعال تصدر عنه بسهولةٍ ويسرٍ.

ومعنى الأخلاق مقاربٌ لمعنى الآداب، لكن الأخلاق تدل على شيءٍ من الرسوخ: "هيئةٌ راسخةٌ في النفس"، بينما الآداب: استعمال الخلق الجميل وإن لم يكن راسخًا في النفس؛ هذا هو الفرق بينهما.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

هل الأخلاق فطرية أم مكتسبة؟

شيخنا، نجد بعض الناس حينما يُنصح في باب الأخلاق؛ يقول: هذا أمرٌ فُطِرت عليه أو جُبِلت عليه، أو أنه أمرٌ لا أستطيع تغييره، أنا هكذا تعودت على هذه الأخلاق ولا أستطيع، وهذا يقود -الحقيقة- إلى سؤالٍ له علاقةٌ بهذا الأمر، وهو: هل الأخلاق فطريةٌ، أم مكتسبةٌ يمكن أن تتحصَّل ويتخلَّق بها الإنسان؟

الشيخ: الأخلاق هبةٌ ومنحةٌ من الله ، فبعض الناس يولد حليمًا كريمًا سخيًّا رحيمًا حسن الأخلاق، منذ نشأته والناس تعرفه هكذا، فكون الأخلاق منحةً وهبةً فهذا محلُّ إجماعٍ من أهل العلم، لكن يأتي السؤال: هل يمكن أن تُكتسب الأخلاق أو لا تكتسب؟

هناك من العلماء من قال: إنها لا تُكتسب، وأن الإنسان بحسب ما خُلق وما وُهب له من الأخلاق، لكن هذا قولٌ ضعيفٌ، والصواب الذي عليه عامة أهل العلم: أن الأخلاق تُكتسب؛ إذ لو كانت لا تُكتسب؛ لم يكن لإرشاد الأنبياء ونصائحهم ومواعظهم وتوجيهاتهم فائدةٌ، ولقال الناس: نحن خُلقنا وجبلنا على هذه الأخلاق، ولا نستطيع أن نغيرها.

ومما يدل على أن الأخلاق تُكتسب: ما جاء في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله أوصني، فقال له النبي : لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب، وردَّد مرارًا قال: لا تغضب [10]، فلو كان الحلم وترك الغضب لا يُكتسب؛ لقال هذا الرجل: يا رسول الله، أنا خُلقت وجُبلت على الغضب، كيف لا أغضب؟! ولم يكن لأمر النبي له بترك الغضب معنًى، فكون النبي يأمره بترك الغضب ويُردِّد ذلك عليه، هذا يدل على أن الاتصاف بالحلم وترك الغضب من الأخلاق الحسنة التي يمكن أن تُكتسب.

كيف تكتسب الأخلاق؟

وعلى هذا نقول: إن جميع الأخلاق يمكن أن تُكتسب، صحيحٌ أن ما كان موهوبًا هو الأفضل والأكمل والأحسن، لكن إذا لم يُوهب الإنسان هذه الأخلاق الكريمة؛ يمكن أن يكتسبها، كيف يكتسب الأخلاق الكريمة؟

يقول أرباب الأخلاق والسلوك: إذا أردت أن تكتسب خلقًا حسنًا؛ فينبغي أن يكون ذلك بالتدريج حتى يصبح هذا الخلق هيئةً راسخةً في النفس، ونوضح هذا بمثال: هذا رجلٌ يَعرف من نفسه شدة الغضب، ويريد أن يكتسب صفة الحلم، والحلم سيد الأخلاق، ولا يمكن للإنسان أن يكون حسن الأخلاق إلا وهو حليمٌ، لا يمكن، هل رأيت إنسانًا حسن الأخلاق وسريع الغضب وشديد الغضب؟ لا يمكن أبدًا، لا بد إذا أراد الإنسان أن يكون حسن الأخلاق؛ أن يكون حليمًا، فإذا اراد الإنسان أن يغير من نفسه، يعرف من نفسه شدة الغضب وسرعة الغضب، وكثيرًا ما يندم، وكثيرًا ما يتكلم بكلامٍ يندم عليه، ويتصرف تصرفاتٍ يندم عليها، كيف يُصبح حليمًا؟ يقول أرباب الأخلاق والسلوك: إنه ينبغي أن يكون ذلك بالتمرين، إنما الحلم بالتحلُّم [11]؛ فمثلًا يقول في اليوم الأول: لن أغضب لمدة ساعةٍ فقط في اليوم الأول، مثلًا من الساعة الثانية إلى الساعة الثالثة.

المقدم: يتكلَّف هذا الأمر ابتداءً.

الشيخ: يتكلَّف هذا الأمر، يقول: هذه الساعة لن أغضب فيها مهما كان السبب، لن أغضب، يُقرِّر هذا قرارًا، في اليوم الثاني يجعلها ساعتين، وفي اليوم الثالث يجعلها أربع ساعاتٍ، في اليوم الرابع ثماني ساعاتٍ.. وهكذا، بهذا التمرين يُصبح مع مرور الوقت حليمًا، يكتسب صفة الحلم، هكذا أيضًا إذا عرف من نفسه مثلًا أنه بخيلٌ شحيحٌ، ويريد أن يكون كريمًا، وأن يكون مع الكرماء، والكرم من الأخلاق العظيمة، وقد كانت العرب تَمتدح الكريم، ويقولون: لا يمكن أن يكون الإنسان سيدًا في قومه إلا إذا كان كريمًا شجاعًا، فإذا أراد الإنسان أن يتخلص من صفة البخل، وأن يكون كريمًا؛ فيتعاطى الكرم ويتكلَّفه، في البداية يتكلَّفه ويتكلَّفه إلى أن يصبح مع مرور الوقت كريمًا، وهكذا بالنسبة لبقية الأخلاق؛ ولهذا جاء في قصة الأشجِّ بن عبد القيس لما أتى النبي فقال له النبي : إن فيك خصلتين يحبهما الله، قال: قلت: يا رسول الله، ما هما؟ قال: الحلم والأناة -الحلم: سيد الأخلاق، والأناة تعني: التأني وترك العجلة- فقلت: يا رسول الله، أَجُبِلتُ عليهما، أم تخلقت بهما؟ قال: بل جُبِلتَ عليهما، فقلت: الحمد لله الذي جَبَلني على ما يحبه الله! [12]؛ فهذا يدل على أن الأخلاق يمكن أن يُجبل الإنسان عليها وأن تُوهب له، لكن أيضًا يمكن أن يَكتسبها؛ ولهذا قال: أَجُبِلتُ عليهما أم تخلَّقت بهما؟ هذا يدل على أن الأشجَّ يعرف هذا، وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الفهم، قال: بل جُبِلتَ عليهما، وكما ذكرنا: إنما الحلم بالتحلم، هذا لا يصح مرفوعًا عن النبي  [13]، لكنه ورد من قول أبي الدرداء ، قال: "إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرى الخير يُعطَه، ومن يتوَقَّ الشر يُوقَه" [14].

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم.

إذنْ شيخنا لا عيب أن يتكلَّف الإنسان في البداية تلك الأخلاق الحميدة حتى تُصبح له سجيَّةً، هذا أمرٌ طبيعيٌّ؟

الشيخ: بل هذا أمرٌ مطلوبٌ، والإنسان ينبغي أن يُحاسب نفسه ويتفقد نفسه، فإذا رأى لديه أخلاقًا سيئة مثلًا، ورأى لديه الغضب الشديد، رأى لديه مثلًا البخل، رأى لديه العجلة؛ يحاول أن يتخلص من هذه الأخلاق الذميمة، ويتخلَّق بالأخلاق المضادة لها، الأخلاق الكريمة؛ فمثلًا إذا كان عنده شدة الغضب؛ يتخلَّق بالحلم حتى يُصبح خُلُقًا راسخًا وهيئةً راسخةً له، إذا كان عنده بخلٌ؛ يتخلَّق بالكرم، إذا كان عنده عجلةٌ؛ يتخلَّق بالتأنِّي.. وهكذا، فمع مرور الوقت يُروِّض نفسه على مكارم الأخلاق.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

إلى هنا شيخنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين.

والشكر لكم أنتم -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- على إنصاتكم واستماعكم.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه أبو داود: 4798، وأحمد: 25013.
^2 رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى: 1/ 163، وأحمد: 8952، والبخاري في الأدب المفرد: 273، والخرائطي في مكارم الأخلاق: 1، والبزار: 8949، والحاكم: 4265
^3 رواه البزار: 8949، والبيهقي: 20819.
^4 الأثوار: جمع ثور، وهي قطعة من ‌الأقط، وهو لبن جامد مستحجِر. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 1/ 228 (ث و ر).
^5 رواه أحمد: 9675، وابن حبان: 4465، والحاكم: 7532، 7533.
^6 رواه ابن ماجه: 4223، وأحمد: 3808.
^7 رواه البخاري: 1367، ومسلم: 949.
^8 رواه أبو داود: 4682، والترمذي: 1162، وأحمد: 7402.
^9 رواه البخاري: 3861، ومسلم: 2474.
^10 رواه البخاري: 6116.
^11 رواه الطبراني في المعجم الأوسط: 2663، وقوام السنة الأصبهاني في الترغيب والترهيب: 1186، والدارقطني في العلل: 6/ 219، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: 6/ 442، وابن الجوزي في العلل المنتاهية: 1184.
^12 رواه أو داود: 5225.
^13 سبق تخريجه.
^14 رواه ابن حبان في روضة العقلاء: ص 210، والخطيب البغدادي في جامع بيان العلم وفضله: 903.
مواد ذات صلة
zh