جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرءان الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفته كل مسلمٍ.
يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا أرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
فقه الأخلاق
شيخنا، كنا قد تكلمنا في حلقةٍ ماضيةٍ فيما يتعلق بباب فقه الأخلاق، ولعلنا في هذه الحلقة نأخذ شيئًا من هذا مبتدئين بالحديث عن فضل حسن الخلق.
فضل حسن الخلق
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحُسن الخُلق له منزلةٌ رفيعةٌ في دين الإسلام، بل إنه من أثقل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة كما أخبر بذلك النبي [1]، وقد أخرج الترمذي وأحمد بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق [2].
حسن الخلق يُؤجَر عليه الإنسان، وكما ذكرنا: أنه من أثقل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة؛ وذلك لأن حسن الخلق يَجر معه فضائل؛ فحسن الخلق يجر معه مثلًا فضيلة إفشاء السلام الذي يؤجر عليه المسلم، يجر معه انبساط الوجه: ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ [3]، يجر معه الابتسامة في وجه أخيك المسلم: تبسمك في وجه أخيك صدقةٌ [4]، يجر معه الإحسان لأخيك المسلم بجميع أنواع الإحسان، وإدخال السرور عليه؛ ولذلك كان من أثقل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة، وهذا يُبيِّن لنا أن المسلم كما أنه مطلوبٌ منه أن يحسن الشعائر التعبدية فيما بينه وبين ربه من الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك من العبادات؛ فمطلوبٌ منه كذلك أن يُحسِّن علاقته بالآخرين، وأن يتعامل معهم بمكارم الأخلاق؛ ولهذا جاء في "مسند الإمام أحمد" بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة أن النبي ذُكر له امرأةٌ تُكثر من صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال النبي : هي في النار، قيل: وإن فلانة ليست بكثيرة صلاةٍ ولا صيامٍ ولا صدقةٍ، غير أن عندها أثوارًا من أَقِطٍ تتصدق بها أحيانًا على جيرانها، وتحسن لجيرانها، قال النبي : هي في الجنة [5].
لاحظ الفرق بين المرأتين: الأولى عندها عنايةٌ بالشعائر التعبدية؛ من الصلاة والصيام والصدقات، ولكن عندها مشكلةٌ في جانب التعامل مع الجيران، هذه المشكلة التي يصدر منها الأذية للجيران جعلتها تصير إلى النتيجة التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام، قال : هي في النار، بينما المرأة الأخرى عندها نوعٌ من التوازن، وإن كانت ليست بكثيرة الصلاة ولا الصيام ولا الصدقة، لكن عندها نوعٌ من الإحسان لجيرانها، فقال النبي : هي في الجنة؛ وهذا يدل على أن المسلم ينبغي أن يكون عنده توازنٌ؛ مطلوبٌ منه أن يُكثر من العبادات، وأيضًا يُحسن تعامله مع الآخرين وأخلاقه مع الناس، فليس بصحيحٍ أن الإنسان يكون عابدًا يُكثر من الصلاة والصيام والصدقة وسائر العبادات، وهذا أمرٌ مطلوبٌ وحسنٌ، لكن لا يكون أيضًا في المقابل يكتفي بهذا ويُهمل جانب العلاقات مع الآخرين، خاصةً مع من يلزمه الإحسان إليهم؛ من الجيران، من الأرحام، من الوالدين، ونحو ذلك، هذا يُبيِّن لنا أهمية العناية بحسن الخلق؛ ولذلك فمن أحسن ما قيل في حسن الخلق: أن تُعامِل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به.
المقدم: هذا ضابطٌ جميلٌ الحقيقة.
الشيخ: نعم، هذا من أحسن ما قيل في ضابط حسن الخلق، فأنت تريد من الناس أن يعاملوك باللطف، يعاملوك بالاحترام، يعاملوك ببذل الكلام الطيب الحسن، لا يجرحوك بكلامٍ أو بمواقف غير جيدةٍ؛ فينبغي أن تعاملهم كذلك؛ فتعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، وحسن الخلق في الحقيقة يُحبِّب الإنسان للناس، والناس يُحبون كريم الخلق وحسن الأخلاق، وإذا أحب الناس الإنسان؛ قبلوا دعوته؛ ولذلك نجد أن دولًا لم يدخلها المسلمون بالسيف ومع ذلك انتشر فيها الإسلام، وبعضها أصبحت من دول العالم الإسلامي؛ كبعض دول جنوب شرق آسيا، وإنما كيف دخلها الإسلام؟ دخلها الإسلام عن طريق التجار المسلمين.
المقدم: أخلاقهم وتعاملهم.
الشيخ: نعم، تعاملوا مع الناس في تلك البلدان بأخلاقٍ كريمةٍ وبأخلاقٍ حسنةٍ، فرأوا هذه الأخلاق العظيمة التي تحلَّوا بها؛ فأحبوهم وأحبوا دينهم واعتنقوا دين الإسلام، وانتشر الإسلام في تلك البلدان بسبب ذلك، ولذلك فحسن الخلق أمرٌ مطلوبٌ للمسلم، وسوء الخلق يُعتبر نقصًا في الإيمان، وكما ذكرنا في قصة المرأة التي كانت كثيرة الصلاة والصيام والصدقة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؛ فقال النبي : هي في النار [6]؛ هذا يدل على أن سوء الخلق يُعتبر نقصًا في الإيمان.
فعلى الإنسان أن يتفقد نفسه، وأن يُهذِّب ما فيه من أخلاقٍ سيئةٍ، وأن يحرص على حسن الخلق، وأن يكون كريم الأخلاق، ويتحلى بمكارم الأخلاق، سواءٌ في مستوى أسرته، أو على مستوى جيرانه، أو مع أقاربه وأرحامه، أو مع زملائه وأصدقائه، مع الجميع يكون كريم الأخلاق؛ ولذلك النبي وصفه ربنا سبحانه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فانظر إلى هذا الوصف العظيم للنبي عليه الصلاة والسلام! الذي أُكِّد بعدة مؤكداتٍ: أولًا: وَإِنَّكَ، بحرف التأكيد (إن)، ثانيًا: اللام التي تدل على...، ثالثًا: (على)، حرفٌ من حروف الاستعلاء، رابعًا: وصفُ الخلق بأنه عظيمٌ.
انظر إلى هذا الوصف من ربنا سبحانه لخُلق نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام! فهو عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خُلقًا؛ فينبغي أن نقتدي برسول الله في ذلك، وأن يحرص المسلم على أن يتصف بحسن الخلق ومكارم الأخلاق.
المقدم: أحسن الله إليكم، ولعلَّ مما يُذكر في هذا الصدد: أن الله جل وعلا ذَكَر في كتابه أن هذا الخلق الحسن يكون حتى مع غير المسلمين: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
الشيخ: نعم، صحيحٌ، بل إنه يُعتبر نوعًا من الدعوة للإسلام، أن يتعامل الإنسان مع الأخرين بحسن الخُلق، فهذا يُعتبر نوعًا من دعوة غير المسلمين إلى دين الإسلام.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.
كيف يُحقِّق الإنسان حسن الخلق؟
شيخنا، بعد ما سمعنا هذه المقدمة الرائعة، والمحفزة للتخلق بالأخلاق الطيبة؛ يتبادر إلى الذهن سؤالٌ، وهو: كيف لي أن أحقق حسن الخلق الذي أمرني الله جل وعلا به وحثَّ عليه في نصوصٍ كثيرةٍ؟
المقدم: يُحقِّق الإنسان حسن الخلق باتصافه بمكارم الأخلاق، وهذا يحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس ودُرْبةٍ؛ فمثلًا: إذا أراد أن يحقق خلق الحِلم، الذي هو سيد الأخلاق، الحلم سيد الأخلاق، فيحتاج أن يُروِّض نفسه على الحلم، وهذا لا يكون مرةً واحدةً، إنما يكون بالتدريج؛ فمثلًا يقول: هذا اليوم لن أغضب مدة ساعةٍ مهما كان السبب، اليوم الثاني يجعلها ساعتين، اليوم الثالث أربع ساعاتٍ، اليوم الرابع ست ساعاتٍ.. وهكذا.
المقدم: يعني يتكلف الحِلم في هذه المرحلة.
الشيخ: يتكلف الحلم حتى يصبح الحلم خلقًا راسخًا له، هكذا أيضًا مثلًا: بذل السلام، يجد في نفسه أن عنده شيئًا من الجفاء، فيتكلف بذل السلام والبشاشة في وجوه الآخرين، وأن يبدأهم بالكلام الطيب والكلام الحسن، هكذا بالنسبة مثلًا لخلق الكرم، يتكلفه في البداية حتى يصبح خلقًا له، وهكذا بالنسبة لمكارم الأخلاق الأخرى فيجاهد نفسه عليها حتى تصبح خلقًا راسخًا له.
هل يُعد سوء الخلق نقصًا في الإيمان؟
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا يقودنا أيضًا إلى مسألةٍ أخرى: هل حسن الخلق شيخنا هو أمرٌ كماليٌّ؟ أم أنه بالعكس إساءة الخلق تعتبر نقصًا في الإيمان وفي الدين؟
الشيخ: إساءة الخلق نقصٌ في الدين؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال في شأن المرأة التي تُكثر من صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها: هي في النار [7]؛ وهذا يدل على أن سوء الخلق يعتبر نقصًا في الديانة، وقال : والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جارُه بوائقه [8]، فهذا يدل على نقص الإيمان في حق سيء الخلق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خُلقًا [9].
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
علاقة التغافل بحسن الخلق
شيخنا، هناك أمرٌ يُذكر دائمًا بجوار حسن الخلق، وأن له علاقةً بذلك: وهو جانب التغافل، هذا التغافل هل له علاقةٌ بحسن الخلق وارتباطٌ به؟
الشيخ: نعم، التغافل هو في الحقيقة من أساسيات حسن الخلق، التغافل وليس الغفلة.
المقدم: ما الفرق بينهما؟
الشيخ: الغفلة مذمومةٌ، والتغافل محمودٌ،
المقدم: جميلٌ!
الشيخ: الغفلة: أن يكون الإنسان غافلًا؛ يعني لا ينتبه، وليس عنده فطنةٌ، هذا عند الناس مذمومٌ ونقصٌ، لكن التغافل: أن الإنسان يعرف الشيء لكن يتغافل كأنه لم ينتبه له، هذا أمرٌ محمودٌ.
فمعنى التغافل: إظهار الغفلة، وعدم التدقيق في الأمور، ويُظهِر الإنسان غفلته عن هذا الشيء كأنه لم ينتبه له، وهذا الخلق يعتبر من مكارم الأخلاق، وعدَّه أهل العلم من المروءة، وهو مطلوبٌ في التعامل مع جميع الناس، أما من كان يتعامل مع الناس بالمحاسبة والتدقيق على كل شيءٍ، ويضع معايير صارمةً لتعامل الناس معه، فهذا بعيدٌ عن مكارم الأخلاق، وربما لا يجد له صاحبًا، قيل للإمام أحمد: إن فلانًا يقول: تسعة أعشار العافية في التغافل؛ فقال الإمام أحمد: بل العافية كلها بالتغافل، قال بعض الحكماء: وجدت أن أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل، والشاعر يقول:
ليس الغبي بسيدٍ في قومه | لكنَّ سيد قومه المتغابي |
يعني: أن الغبي لا يكون سيدًا في قومه؛ لأن السيادة تحتاج إلى ذكاءٍ وفطنةٍ، وهذا الذكي الفطن لا بد أن يكون ليس غافلًا، لكن يكون متغافلًا، أي أنه يتسامح ولا يدقِّق في الأمور كثيرًا عند التعامل، فيسمع مثلًا كلمةً نابيةً من شخصٍ فيتغافل ويُعرِض عنها كأنه لم يسمعها، لا يدقِّق فيها، وإلا فإن الإنسان إذا دقق في كل شيءٍ؛ ربما لا يجد له صاحبًا، كما قال الشاعر:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القَذَى | ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه |
قال الأعمش: التغافل يطفئ شرًّا كثيرًا، التغافل يكون مع جميع الناس: يكون بين الزوجين، يكون مع الوالدين، يكون مع الأولاد، يكون مع الأصحاب، يكون مع الجيران، يكون مع جميع الناس؛ ينبغي أن يجعل المسلم هذا مبدأً له في حياته.
أصل هذا الكلام في التغافل ورد في قول الله سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، هذه الآية أصلٌ في حسن الخلق، ما معنى خُذِ الْعَفْوَ؟ خُذِ الْعَفْوَ: أي خذ ما عفا وصفا لك من أخلاق الناس واقبلها، ولا تطالب بأكثر من ذلك، وفي هذا المعنى يقول النبي : لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةٌ، إن كره منها خُلقًا؛ رضي منها خلقًا آخر [10]، رواه مسلمٌ.
ومعنى لا يَفْرَك: لا يكره ولا يبغض؛ فالإنسان عندما يتعامل مع الآخر ينبغي أن يركز على الأمور الإيجابية والجوانب المشرقة فيه، ويتغافل عن الأمور السلبية، ويأخذ ما عفا وصفا له من أخلاق ذلك الإنسان، ويغضُّ الطرف عما لم يأتِ به، إذا فعل ذلك؛ سيرتاح كثيرًا، وسيكون حسن الخلق، محبوبًا عند الناس؛ لأن الخطأ واردٌ من الجميع، وربما أن بعض الناس يتصرف تصرفًا يظنه تصرفًا مناسبًا، أو يتكلم بكلامٍ لم يَزِنه؛ فإذا تغافلت عنه؛ دامت المحبة والمودة والألفة، أما من يضع معايير صارمةً في تعامل الآخرين معه، ومن أخل بهذه المعايير عاتبه، وربما هجره، فإن هذا عن حسن الخلق بمعزِلٍ، وسيجد أن أكثر الناس لن يطبقوا هذه المعايير؛ وبذلك يبقى في تسخُّطٍ ونكدٍ وقلقٍ، ويشتكي من جميع الناس، وأن الناس قد تغيروا وتغيرت أحوالهم؛ يشتكي من زوجته، يشتكي من أولاده، يشتكي من جيرانه، يشتكي من زملائه، يشتكي من الناس جميعًا، ويرى أن الناس كلهم مخطئون، وأنهم قد تغيَّروا عليه، والدنيا تغيرت، والحقيقة أن المشكلة عنده هو؛ بتدقيقه في وضع معايير صارمةٍ، ينبغي أن تؤخذ الأمور بالتسامح وبالتغافل؛ ولهذا نقول: إن التغافل أساس حسن الخلق، وينبغي أن يُدرِّب الإنسان نفسه عليه، ويحرص على أن يتغافل في تعامله مع الآخرين، فلا يدقق ولا يحقق في التعامل مع الآخرين، وإنما يتغافل ويتغاضى ويتسامح.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، ولعل مما يُعين على هذا الأمر شيخنا: ما تفضلتم به قبل قليلٍ، أن المرء يحب أن يُعامَل بما يعامِل هو الناس به، وهنا كذلك هو لا يحب أن يُدقَّق عليه، ولا أن يُحقَّق معه في أموره؛ فكذلك يتغافل كما يحب أن يُتغافل عنه أيضًا.
الكبر حقيقته والفرق بينه وبين العُجب
شيخنا، مما يُنافي حسن الخلق الحقيقة، وأود لو تكلمنا حوله في بعض المسائل: ما يتعلق بخلقٍ ذميمٍ، ألا وهو الكِبْر، عافانا الله وإياكم من هذا الخلق والسامعين، ما حقيقة الكبر، وما الفرق بينه وبين العُجب؟
الشيخ: الكبر من الأخلاق الذميمة، وحقيقته، أحسن ما عُرِّف به: هو تعريف النبي لما قال عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبرٍ، فقال له رجلٌ: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه ونعله حسنةً؛ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميلٌ يحب الجمال، ثم عرَّف الكِبر عليه الصلاة والسلام فقال: الكبر: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس [11]، هذا هو تعريف الكبر؛ تعريفٌ جامعٌ مانعٌ: بطر الحق وغمط الناس، ما معنى: بطر الحق؟ بطَر الحق: أي رَدُّ الحق وعدم قبوله، وغمط الناس: أي احتقار الناس وازدراؤهم.
فمثلًا: إذا وجد الإنسان علمًا من أحدٍ أو فائدةً وحكمةً لكنه لم يقبل ذلك، هو يعرف بأنه حقٌّ؛ فهذا يدخل في الكِبر، وهكذا أيضًا الذي يحتقر الناس ويزدريهم، ويرى أنهم أقل منه، هذا أيضًا يدخل في الكبر؛ فهذا هو تعريف الكبر، هو تعريف النبي ، فهو بطر الحق: أي رد الحق وعدم قبوله، وغمط الناس: أي ازدراؤهم واحتقارهم.
المقدم: أحسن الله إليكم، إذنْ هو يشتمل على أمرين أساسيين: رد الحق، واحتقار الناس.
الشيخ: نعم، هو يشتمل على هذين الأمرين:
- رد الحق وعدم قبوله مع معرفته بأنه حقٌّ.
- والأمر الثاني: احتقار الناس وتنقُّصهم وازدراؤهم.
المقدم: أحسن الله إليكم، يُذكر في هذا الصدد -أحسن الله إليكم- كذلك العُجب؛ فهل هو ذاته الكبر، أو بينهما فرق؟
الشيخ: بينهما فرق:
- العُجب معناه: أن يتعاظم الإنسان في نفسه من غير أن يحتقر غيره، هو فقط يتعاظم في نفسه، وعنده اعتدادٌ بنفسه، لكن لا يحتقر غيره.
- بينما الكبر فمع كونه عنده تعاظمٌ في نفسه؛ إلا أنه يحتقر غيره؛ ولذلك الكبر أسوأ من العُجب.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
شيخنا، يعني الكبر أو العُجب له آثارٌ قد تكون..، ليس قد تكون، بل هي آثارٌ وخيمةٌ، نسأل الله السلامة والعافية، فهلَّا ذكرتم شيئًا من آثار الكبر مما قد يصيب الإنسان في دنياه وأخراه؟
الشيخ: آثار الكبر آثارٌ سيئةٌ:
- أولًا في الدنيا: الناس تكره المتكبر وتنفر منه، ولا يحبونه ولا يقبلون كلامه، وأيضًا الكبر من أسباب صرف المتكبرين عن الحق، إذا تكبَّر الإنسان؛ يُصرَف عن الحق وعن الهداية جزاءً وِفاقًا؛ كما قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، أخبر سبحانه بأنه سوف يصرف المتكبرين عن آياته، قال ابن عيينة في هذه الآية: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]: "يقول: "أنزعُ عنهم فهمَ القرآن وأصرفهم عن آياته"، فهذا من الآثار الكبيرة للكبر، أن الإنسان لا يوفَّق، ويُصرَف عن الهدى، ويُصرَف عن الحق وعن الهداية.
- وأما في الآخرة: فالمتكبرون كما قال النبي : يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ في صور الرجال [12]، يغشاهم الذل من كل مكانٍ، فيساقون إلى سجنٍ في جهنم يسمى "بُوْلَس"، تعلوهم نار الأنيار [13]، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخَبَال [14]، أخرجه الترمذي، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
فهؤلاء المتكبرون يُحشرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ يغشاهم الذلُّ من كل مكانٍ، فيعاملون جزاءً وفاقًا بنقيض ما أرادوا، يتكبرون في الدنيا، ويوم القيامة يُحشرون أمثال الذَّرِّ.
ويقول النبي ، كما في حديث ابن مسعودٍ في الصحيح: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ [15]، هذا وعيدٌ شديدٌ، لكن قوله عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ، هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، ووعيدٌ شديدٌ.
نرى كثيرًا الكبر متفشيًّا وشائعًا عند بعض الناس، هل معنى ذلك أن هؤلاء لا يدخلون الجنة؟ عند أهل السنة والجماعة: أن مرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، وأما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله؛ إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يُخلَّد في النار، هذا معتقد أهل السنة والجماعة، خلافًا للخوارج والمعتزلة؛ فالخوارج قالوا: هو في الدنيا كافرٌ، والمعتزلة قالوا: في منزلةٍ بين المنزلتين، واتفقوا في الآخرة على أنه مُخلَّدٌ في النار، والصواب: ما عليه أهل السنة والجماعة.
فالكِبر من الكبائر؛ ولذلك عند أهل السنة أنه لا يُخلَّد في النار، إذنْ ما معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبرٍ؟ معنى ذلك -كما قال الإمام تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم- المراد بالنفي هنا: نفي الدخول المطلق، وليس مطلق الدخول.
ما معنى الدخول المطلق؟ أي أن هذا الذي يحمل الكبر في قلبه لا يدخل الجنة ابتداءً دخولًا غير مسبوقٍ بعذابٍ، لكن قد يُعذَّب ثم يدخل الجنة بعد ذلك؛ ولذلك يقولون: إن النفي هنا محمولٌ على الدخول المطلق غير المسبوق بعذابٍ، وليس محمولًا على مطلق الدخول؛ جمعًا بين الأدلة، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
معنى قوله : وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا
المقدم: أحسن الله إليكم، مما يُذكر في هذا الباب: آيةٌ قد تُفهَم على غير وجهها، يقول الله جل وعلا: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37]، ما المقصود بالمرح في الآية؟
الشيخ: المقصود بالمرح -كما قال المفسِّرون- أي: متبخترًا زاهيًا متكبرًا، وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37]؛ ولهذا قال سبحانه: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ -أي: لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها بهذه الطريقة- وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] بعظمتك، لن تبلغ الجبال طولًا بهذا الكبر، بل أنت عبدٌ ذليلٌ؛ عبدٌ لله ، فالآية فيها نهيٌ عن الكبر؛ أن يمشي الإنسان متكبِّرًا متبخترًا زاهيًا؛ ولهذا قال في الآية الأخرى في وصايا لقمان: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان:19]؛ لأن المشي -سبحان الله!- يظهر عليه التواضع أو الكبر، أيُّ إنسانٍ يمشي مِشيةً؛ يظهر عليه فيها التواضع أو الكبر من خلال مشيته، سبحان الله! ولهذا قال: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، فالزهو في المشي من آثار الكبر، والمطلوب: أن يمشي المسلم مشيًا معتدلًا من غير أن يزهو بمشيه، ويمشي مشيًا معتدلًا ليس بالمسرع ولا بالبطيء، والنبي كان إذا مشى تَكَفَّأَ تكفؤًا كأنما ينحطُّ من صَبَبٍ كما قال عليٌّ [16].
فينبغي أن يقتدي المسلم بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيمشي مشيًا معتدلًا يكون بعيدًا عن الزهو، بعيدًا عن الكبر في مشيته، ويكون أيضًا حتى في أمورٍ أخرى يكون معتدلًا، ليس بمسرعٍ إسراعًا شديدًا، وليس بالبطيء المتماوت؛ بل يكون بين ذلك.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه الترمذي: 2003، وأحمد: 27496. |
---|---|
^2 | رواه الترمذي: 2004، وأحمد: 9694، وقال الترمذي: حديث صحيح غريب. |
^3 | رواه مسلم: 2626. |
^4 | رواه الترمذي: 1956، وابن حبان: 529، وقال الترمذي: حسن غريب. |
^5 | رواه أحمد: 9675. |
^6, ^7 | سبق تخريجه. |
^8 | رواه البخاري: 6016. |
^9 | رواه أبو داود: 4682، والترمذي: 1162، وقال: حسن صحيح. |
^10 | رواه مسلم: 1469. |
^11 | رواه مسلم: 91. |
^12 | الذر: جمع ذرة، وهي النملة الصغيرة، يعني: صورتهم صورة الإنسان، وجثتهم كجثة الذر في الصغر. المفاتيح في شرح المصابيح للزيداني: 5/ 256. |
^13 | نار الأنيار: أي نار حرارتها أشد من جميع أنواع نار جهنم. المفاتيح في شرح المصابيح للزيداني: 5/ 256. |
^14 | رواه الترمذي: 2492، وأحمد: 6677، والنسائي في السنن الكبرى: 11827. |
^15 | رواه مسلم: 91. |
^16 | رواه الترمذي: 3637، وأحمد: 746، وقال الترمذي: حسن صحيح. |