logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(55) برنامج مجالس الفقه- تتمة الأحكام المتعلقة بفقه السلام

(55) برنامج مجالس الفقه- تتمة الأحكام المتعلقة بفقه السلام

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يَحتاج إلى معرفته كل مسلمٍ.

يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا أرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

تتمة الأحكام المتعلقة بفقه السلام

شيخنا، في الحلقة الماضية شَرَعْنا في الحديث عن فقه السلام، وذكرنا جملةً من المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب، ولعلَّنا في هذه الحلقة نكمل الحديث في الأحكام المتعلقة بفقه السلام.

من المسائل التي تُذكر تحت هذا الباب شيخنا: حكم إلقاء السلام على النساء.

حكم إلقاء السلام على النساء

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإذا كان إلقاء السلام على المرأة ليس مَظِنَّة فتنةٍ؛ فلا بأس به؛ كأن يُلقي السلام على امرأةٍ كبيرةٍ في السن، ولا يترتب على السلام عليها فتنةٌ؛ فهذا لا بأس به، وهذا مأثورٌ عن بعض الصحابة، فعن سهل بن سعدٍ قال: "إن كنا لنفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوزٌ، وكانت تجعل لنا شعيرًا في قدرٍ، فإذا صلينا الجمعة؛ زرناها فقرَّبته إلينا، فكنا نفرح بيوم الجمعة من أجل ذلك" [1]، الظاهر أنهم كانوا يسلِّمون عليها؛ ولهذا قال الفقهاء: إن المرأة العجوز والكبيرة في السن لا بأس بإلقاء السلام عليها؛ وذلك لأن إلقاء السلام عليها ليس مظنة فتنةٍ، أما غيرها فإن كان إلقاء السلام عليها مظنة فتنةٍ؛ فلا يبتدئ الرجل السلام عليها، أما إن لم يكن مظنة فتنةٍ؛ فالأصل في ذلك الجواز.

حكم السلام على الصبيان

المقدم: أحسن الله إليكم، وكذا حكم السلام على الصبيان أو الصغار؟

الشيخ: الصبيان يُستحب السلام عليهم على كل حالٍ، وقد كان هذا هو هدي النبي ، جاء في "الصحيحين" عن أنس بن مالكٍ : أنه مَرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النبي يفعله [2]، ثم إن السلام على الصبيان فيه حسن خُلُقٍ واهتمامٌ بهم، وأيضًا فيه تدريبٌ لهم على حسن المعاشرة ومكارم الأخلاق، وإشاعة هذا الخلق الكريم وهو إلقاء السلام والتحية بينهم، وغرس هذه الفضائل في نفوسهم؛ وعلى هذا قال أهل العلم: إنه يُستحب السلام على الصبيان، وهذا أيضًا من التواضع، أن الإنسان إذا مرَّ بصبيانٍ يُسلِّم عليهم؛ لأن بعض الناس يمر بهم ولا يُسلِّم عليهم؛ احتقارًا لهم، فالذي ينبغي أن يكون المسلم متواضعًا، فإذا مرَّ بهؤلاء -ولو كانوا صغارًا، ولو كانوا صبيانًا- يبتدئ بالسلام عليهم.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم السلام عند الخروج من المجلس

شيخنا، هناك من يُسلِّم إذا دخل المجلس، ولكن أيضًا عند انصرافه من المجلس؛ يقوم بإلقاء السلام مرةً أخرى، فهل مثل هذا الفعل مشروعٌ؟

الشيخ: نعم، هذا هو السنة؛ أن المسلم يبتدئ السلام عند الدخول، وكذلك أيضًا يُسلِّم عند الانصراف، ويدل لذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليُسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليُسلِّم؛ فليست الأُولى بأحق من الآخرة [3]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وأخرجه أيضًا البخاري في "الأدب المفرد"، وهذا يدل على مشروعية السلام عند القيام من المجلس، فإذا كنت في مجلسٍ وأردت أن تنصرف؛ فيُشرع أن تُسلِّم، وهكذا أيضًا لو كنت في المسجد وأردت أن تخرج من المسجد ولا يزال في المسجد بعض الجالسين؛ فيُشرَع أن تُسلِّم، لكن السلام عند الدخول أشد استحبابًا.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم المصافحة أثناء إلقاء السلام

شيخنا، هل المشروع أو الأقرب إلى السنة إلقاء السلام بدون مصافحةٍ، أم أن المصافحة أيضًا مشروعةٌ ومستحبة أثناء إلقاء السلام؟

الشيخ: المصافحة مشروعةٌ ومستحبةٌ عند اللقاء، وتدخل في التحية المأمور بها، وقد جاء في حديث أنسٍ قال: إنه لما أقبل أهل اليمن؛ قال رسول الله : قد جاءكم أهل اليمن، هم أرقُّ منكم قلوبًا، قال أنسٌ : وهم أول من جاء بالمصافحة [4]، أخرجه البخاري ومسلمٌ.

وجاء في حديث البراء أن النبي قال: ما من مُسْلِمَين يلتقيان فيتصافحان؛ إلا غُفر لهما قبل أن يتفرقا [5]، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، وهذا يدل على فضل المصافحة.

وقد كانت المصافحة موجودةً بين الصحابة ، وفي "الصحيحين" في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا عندما أنزل الله تعالى توبتهم -وهم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالكٍ- قال كعبٌ: "فقام طلحة بن عبيدالله يُهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام رجلٌ من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة" [6]، لاحِظ هنا أن طلحة صافح كعبًا رضي الله عنهما، وهذا يدل على شيوع المصافحة بين الصحابة .

وجاء عن قتادة قال: قلت لأنسٍ : أكانت المصافحة في أصحاب النبي ؟ قال: نعم [7]، أخرجه البخاري في "صحيحه"؛ ولهذا قال أهل العلم: إن المصافحة مستحبةٌ بين الرجلين عندما يلتقيان، قال النووي رحمه الله: "المصافحة سنةٌ مجمعٌ عليها عند التلاقي"، لكن ينبغي أن تكون المصافحة مصحوبةً بإلقاء السلام والتحية؛ لأن إلقاء السلام والتحية هو الأصل، والمصافحة تأكيدٌ لمعناها، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ويصافحه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم المصافحة إذا كان في المجلس جمعٌ كثيرٌ

شيخنا، أيها أقرب إلى السنة: إذا دخل الإنسان المجلس أن يُلقي السلام بدون مصافحةٍ، أو يمُرُّ على الجالسين واحدًا تلو الآخر يُصافحهم؟ هذه مسألةٌ يُسأل عنها كثيرًا.

الشيخ: نعم، هذه المسألة فيها كلامٌ كثيرٌ لأهل العلم، عندما نتأمَّل هدي النبي  وصحابته ؛ نجد أن النبي يجلس والصحابة يُحبُّون أن يُصافحوه ويُسلِّموا عليه، لكن يعرفون أنه يكره ذلك، فهم يكتفون بإلقاء السلام ويجلسون؛ وهذا هو أكمل الحديث، لكن لو كان هناك عُرفٌ في المجتمع بأنك إذا دخلت المجلس أن تُصافح؛ فينبغي ألا تُخالف هذا العرف؛ لأنك إذا خالفت هذا العرف؛ ربما يُساء بك الظن، ويُظن أنك إما متكبرٌ، أو أنك بعيدٌ عن هذه الأخلاق الكريمة، أو نحو ذلك؛ وعلى هذا: فهي من الأمور التي تجلب المحبة والمودة بين المسلمين، فيراعى جانب العرف في ذلك، فإذا كان العرف أن الإنسان إذا دخل المجلس؛ صافح من فيه؛ يصافحهم، وإذا كان العرف أنه يجلس ولا يُصافح؛ فَعَلَ ذلك، لكن عند اللقاءات الفردية ينبغي أن يصحب السلام المصافحة.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم المعانقة أثناء السلام

شيخنا، عندنا رتبة أيضًا أخرى، عندنا إلقاء السلام بدون مصافحةٍ، وهناك إلقاء السلام مع المصافحة، هناك أمرٌ ثالثٌ: وهو المعانقة، فما حكم المعانقة أثناء السلام؟

الشيخ: المعانقة لا بأس بها عند طول الغَيبة، وكذلك أيضًا عند القدوم من السفر، أما مع عدم طول الغيبة؛ فيُكتفى بالسلام من غير معانقةٍ، لكن المعانقة تكون عند وجود سببها؛ كطول الغيبة، أو القدوم من السفر، وقد جاء في حديث جابرٍ قال: بلغني عن رجلٍ حديثٌ سمعه عن رسول الله فاشتريتُ بعيرًا ثم شددت رحلي، فسرت إليه شهرًا حتى قدمت عليه، فإذا عبدالله بن أُنَيْسٍ، فقال عبدالله بن أُنَيْسٍ: ابنُ عبدالله؟! قلت: نعم، يريد جابرًا ، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته [8].

فهذا لقاءٌ بين جابر بن عبدالله وعبدالله بن أُنيسٍ، وهما صحابيان جليلان، رضي الله عنهما، فيُخبر جابرٌ بأنه اعتنق عبدالله بن أُنيسٍ واعتنقه عبدالله بن أنيسٍ، رضي الله عنهما؛ وهذا يدل على شيوع المعانقة بين الصحابة  عند القدوم من السفر، قال الشعبي: "إن أصحاب النبي كانوا إذا التقوا؛ تصافحوا، وإذا قدموا من سفرٍ؛ تعانقوا".

وعلى هذا: إذا وُجِد سببٌ للمعانقة؛ من طول الغَيبة، أو القدوم من السفر؛ فإن المعانقة مشروعةٌ، وقاعدة الشريعة: أن كل ما كان سببًا في تقوية المحبة والمودة بين المسلمين فالشريعة تدعو إليه، ولا شك أن المعانقة -خاصةً مع طول الغيبة أو القدوم من السفر- مما يزيد المحبة والمودة، وتُشعِر بقوة العلاقة بين الطرفين؛ فعلى هذا نقول: إن المعانقة مشروعةٌ إذا وُجِد سببها.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم تقبيل الرأس واليد

شيخنا، أيضًا من المسائل والأحكام المتعلقة بفقه السلام: حكم تقبيل الرأس واليد، وهذا يفعله بعض الناس مع من له حقٌّ أو فضلٌ.

الشيخ: تقبيل الرأس قد وردت به السنة، خاصةً لمن كان كبيرًا في العلم أو في السن ونحو ذلك، ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال في قصة الإفك المشهورة: أبشرِي يا عائشة، وقرأ عليها القرآن، قالت: فقال أبواي: "قومي فقبِّلي رأس رسول الله ".. إلى آخر القصة [9]، ووجه الدلالة: أن أبا بكرٍ وزوجته قالا لعائشة : قومي فقبِّلي رأس رسول الله ؛ فهذا يدل على أن هذا كان معهودًا عندهم.

وجاء في حديث أنسٍ أن النبي أخذ إبراهيم وقبَّله [10]؛ وعلى هذا نقول: لا بأس بتقبيل الرأس، خاصةً إذا كان ذلك للوالد أو الوالدة، أو لكبار أهل العلم، أو كبار السن، ونحو ذلك.

أما بالنسبة لتقبيل اليد: فأيضًا لا بأس به لمن يكون من أهل العلم والفضل، أو يكون من كبار السن ونحو ذلك، وتقبيل اليد لا أعلم أنه ورد فيه شيءٌ صحيحٌ عن النبي ، لكن ورد فيه آثارٌ عن بعض السلف، وقد صنَّف أبو بكرٍ محمد بن إبراهيم الأصبهاني الخازن، المشهور بابن المقرئ، المتوفى سنة (381 هـ)، رسالةً سمَّاها: "الرخصة في تقبيل اليد"، ضمَّنها جملةً من الآثار عن بعض السلف في هذا.

والذي يظهر: أنه لا بأس بتقبيل اليد، فهو -من حيث الحكم- جائزٌ، لكن الأولى تخصيصه بمن يكون من أهل الدين أو العلم، أو كبار السن، أو من الوالدين إذا كان العرف جاريًا بذلك، إذا كان العرف جاريًا بتقبيل يد الوالدين؛ فلا بأس بذلك.

فعلى هذا نقول: إن تقبيل اليد -من حيث الأصل- جائزٌ.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم تقبيل الخد عند السلام

أيضًا من المسائل شيخنا: ما يتعلق بتقبيل الخد عند السلام.

الشيخ: تقبيل الخد أولًا بالنسبة للزوجة: هذا سائغٌ بالإجماع، كذلك أيضًا بالنسبة للصغار، وقد جاء في حديث البراء قال: "دخلت مع أبي بكرٍ على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعةٌ قد أصابتها الحمى، فرأيت أباها قبَّل خدَّها، وقال: كيف أنت يا بنيَّة؟" [11]، ظاهر القصة أن هذا قبل أن يعقد عليها النبي .

جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قبَّل رسول الله الحسن بن عليٍّ، وعنده الأقرع بن حابسٍ التميميُّ جالسًا؛ فقال الأقرع: أتُقَبِّلون صبيانكم؟! إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله فقال: أوَأمْلِكُ لك أن نزعَ الله من قلبك الرحمة؟! من لا يَرحم لا يُرحم! [12].

فبالنسبة للصغار: لا بأس به، أما تقبيل الخد لغير الصغار: إن كان مظنةً لفتنةٍ؛ كأن يكون شابًّا، فأقل أحواله الكراهة، أما إذا لم يكن مظنةً لفتنةٍ؛ كأن يكون كبيرًا في السن ونحو ذلك، فلا بأس به.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم تقبيل القدم

أيضًا شيخنا مما يُسأل عنه: تقبيل القدم، بعضهم يُقبِّل القدم؛ لزيادةٍ في التقدير أو الاحترام، فما حكم هذا الفعل؟

الشيخ: تقبيل القدم اختلف العلماء في حكمه:

  • فمنهم من ذهب إلى تحريمه؛ وعلَّلوا ذلك بأن فيه انحناءً، قالوا: فهو يُشبه السجود لغير الله تعالى.
  • ومنهم من ذهب إلى كراهته؛ قالوا: لأنه لم يكن معهودًا عند الصحابة ، ولا كانوا يفعلونه مع النبي ولا فيما بينهم.
  • ومن العلماء من ذهب إلى جوازه، ولكن الأولى تركه، ومما يدل للجواز: حديث صفوان بن عسَّالٍ أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، فقال: لا تقل له: نبيٌّ؛ فإنه إن سمعها -تقول: نبيٌّ- كانت له أربعة أعينٍ -يعني: كناية عن شدة السرور، لأنه يزداد به قوة البصر حتى كأن كل عينٍ عن عينين، كما أن الحزن قالوا: إنه يُؤثِّر على البصر، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]- فأتَيا النبي فسألاه أسئلةً، فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام، فقبَّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنّك نبيٌّ، قال النبي : فما يمنعكما أن تُسلما؟، قالا: نخشى أن يقتلنا قومنا [13]، هذه القصة أخرجها الترمذي في "جامعه"، وقال عن سندها: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، وكذلك أيضًا أخرجها الحاكم في "المستدرك"، وقال عن هذا الحديث: "صحيحٌ لا نعرف له عِلَّة"، وهذه القصة ظاهر إسنادها الصحة، لكن قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله: "هو حديثٌ مُشكِلٌ، وعبدالله بن سلمة في حفظه شيءٌ، وقد تكلموا فيه"، ولكن يبقى أصل القصة صحيحًا، ولهذا صححها الترمذي، وعلى هذا تكون حجةً في جواز تقبيل الرجلين.

والأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة هو القول الثالث: وهو أنه يجوز تقبيل الرجلين، لكن الأولى تركه؛ وذلك لحديث صفوان بن عسَّالٍ  السابق، وكما ذكرنا أن هذا الحديث صحَّحه الترمذي والحاكم وغيرهما، ولأنه لم يرد دليلٌ يدل على النهي عن تقبيل القدمين، ولكن مع ذلك إذا قلنا بالجواز فالأولى تركه؛ لأن تقبيل القدمين لم يكن معتادًا لدى الصحابة ، ولم يُنقَل عن أحدٍ من الصحابة أنه فعل ذلك، إنما ورد هذا عن اليهوديَّين اللذين سألا النبي .

على هذا نقول: إن القول الراجح في حكم تقبيل القدمين: أنه جائزٌ، والأولى تركه.

أما ما استدل به أصحاب القول الأول من أن هذا فيه انحناءٌ، ويُشبه الانحناء أو السجود لغير الله ​​​​​​​، فلو سُلِّم بذلك فأقول: ليس كل انحناءٍ ممنوعًا؛ فمثلًا: لو انحنى الابن لكي يُدخِل النَّعلين في قدمي والده، أو ليأخذ حاجةً على الأرض؛ لم يكن هذا ممنوعًا بالإجماع مع أنه انحناء؛ إذنْ الانحناء الممنوع: هو الانحناء الذي يكون على هيئة السجود مقصودًا به التعظيم والسجود لغير الله .

وأما قول أصحاب القول الثاني بأن هذا لم يكن شائعًا بين الصحابة؛ لذلك نقول: إنه الأولى تركه، لكن ليس هناك دليلٌ يدل على عدم الجواز، خاصةً أن قصة صفوان بن عسَّالٍ صريحةٌ في الجواز.

وعلى هذا فمن حيث التحقيق: الذي يظهر -والله أعلم- أنه يجوز تقبيل القدمين، لكن الأولى تركه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم القيام للقادم

أيضًا شيخنا من المسائل المتعلقة بفقه السلام: حكم القيام للقادم إذا أراد أحدٌ أن يُسلِّم؛ فيقوم الجالس وينهض له.

الشيخ: القيام ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ:

  1. قيامٌ على الشخص.
  2. وقيام إلى الشخص.
  3. وقيام للشخص.
  • أما القيام على الشخص فمعناه: أن يقوم عليه شخصٌ أو أكثر لمجرد التعظيم، هذا هو الذي قد ورد النهي عنه؛ كما في حديث جابرٍ  في قصة مرض النبي ، لما صلى الصحابة وراءه وهو جالسٌ أشار إليهم أن اقعدوا، فلما سلَّم قال: إن كنتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم، ثم قال: إن صلَّى قائمًا؛ فصلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعدًا؛ فصلُّوا قُعُودًا أجمعون [14].

أما القيام لأجل الحراسة: فلا بأس به، كأن يُقام على رأس الإنسان خوفًا عليه، خوفًا من أن يعتدي عليه أحدٌ، وقد جاء في قصة صلح الحديبية أن المغيرة بن شعبة  كان قائمًا على رأس النبي [15].

  • القيام إلى الشخص معناه: أن يقوم الإنسان لشخصٍ لإعانته، أو لمصافحته والترحيب به، أو لتهنئته، ونحو ذلك، هذا لا بأس به، وجاء في قصة سعد بن معاذٍ لما طلب بنو قُريظة النزول على حكمه، فأُتِيَ به على حمارٍ، فلما قدم قال النبي  للأنصار: قوموا إلى سيدكم [16]، رواه البخاري ومسلمٌ، فقاموا إليه واستقبلوه وأنزلوه، وجاء في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا أنه لما نزلت توبة الله عليهم؛ قال كعب بن مالكٍ ، وهو أحد الثلاثة: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالسٌ حولهُ الناس، فقام إليَّ طلحَة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنَّأني [17].
  • أما القيام للشخص فمعناه: أن يكون الناس في مجلسٍ، فيدخل إنسانٌ فيقوم الحاضرون في المجلس له للسلام عليه.
    • فمن أهل العلم من كره هذا وقال: إن الصحابة لم يكونوا يفعلون هذا مع النبي ، وكان الصحابة يحبون أن يفعلوا ذلك لكن تركوه؛ لأن النبي كان يكرهه [18].
    • ومن أهل العلم من قال: إنه لا بأس به لأهل العلم أو السلطان أو الوالدين، هذا ما اختاره النووي رحمه الله، حيث قال: "وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحبٌّ لمن كان فيه فضيلةٌ ظاهرةٌ من علمٍ أو صلاحٍ أو شرفٍ أو ولايةٍ مصحوبةٍ بصيانةٍ، أو له ولادةٌ أو رحمٌ مع سنٍّ، ونحو ذلك، ويكون هذا القيام للبِر والإكرام والاحترام لا للرياء والإعظام، وعلى هذا الذي اخترناه استمر عمل السلف والخلف"، هذا كلام النووي رحمه الله.

والأقرب في هذه المسألة: أن الأولى ترك القيام للقادم؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه مع النبي ، وأكمل الهدي هدي النبي عليه السلام وصحابته ، لكن إن كان هناك عرفٌ في القيام للقادم؛ فالأولى القيام، لماذا؟ لأنه يترتب على عدم القيام مفسدة إيغار الصدور، والشحناء؛ فمثلًا: لو كان هناك أناسٌ يعرف بعضهم بعضًا، واتفقوا على ألا يقوم بعضهم لبعضٍ عند الدخول؛ فهذا هو الأولى؛ لأنه لا يترتب على ذلك مفسدةٌ؛ لأنهم اتفقوا على ذلك وتعارفوا عليه، لكن لو كان الإنسان في مجلس عامةٍ؛ فالأولى القيام؛ لأن عدم القيام يتسبب في مفاسد؛ من الشحناء، وإيغار الصدور، ونحو ذلك، فلو كنت في مجلس عامةٍ ودخل أحدٌ وقام الناس للسلام عليه، وأنت لم تقم للسلام عليه، نعم يُحدِث هذا في النفس الضغينة والشحناء، والشيطان يستغل الموقف لإيقاع الشحناء بين المسلمين؛ لهذا قال الله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، الشريعة الإسلامية تمنع كل ما أدَّى إلى الضغائن والشحناء وإيغار الصدور.

المقدم: إذنْ العرف هنا له اعتبارٌ في هذه المسائل؟

الشيخ: نعم، العرف هنا له اعتبارٌ، ولا يقول قائلٌ: كيف تُترَك السنة؛ لأجل إرضاء الناس؟! نقول: لم يَرِد في هذا شيءٌ واضحٌ وبيِّنٌ من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما استنبطه مَن استنبطه من أهل العلم من أحوال الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام، فهو أقرب للاستحباب، لكن إذا ترتب على ترك القيام مفسدةٌ، وإيغار الصدور، وإيقاع الشحناء؛ فهذا ممنوعٌ بالأدلة الصريحة، فإذنْ لا بد من الجمع بين الأدلة.

وعلى ذلك نقول: إن القيام يكون بهذا التفصيل الذي ذكرته: قيامٌ على الشخص، وقيامٌ إليه، وقيامٌ له.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

عند اللقاء على من يُندب البدء بالسلام؟

أيضًا شيخنا من المسائل: إذا تقابل رجلان؛ فمَن الذي يتأكد عليه أن يبتدئ بالسلام؟

الشيخ: أولًا كقاعدةٍ عامةٍ: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: وخيرهُما الذي يبدأُ بالسلام [19]، يعني هذا عند التقارب بينهما، فالأفضل والخيِّر هو الذي يبدأ بالسلام، وإن كان هذا قد ورد -في الأصل- في المتهاجرين، لكن من حيث الآكدية: فالماشي يُسلِّم على القاعد، والصغير على الكبير، والقليل على الكثير، قد جاء هذا في حديث أبي هريرة أن النبي قال: يُسلِّم الصغير على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليل على الكثير [20].

واختُلف في الحكمة في كون الماشي يُسلِّم على القاعد:

قيل: إن الماشي يكون في حالٍ أعلى من القاعد وأرفع، فطُلِب منه أن يُسلِّم؛ لكون ذلك أدعى للتواضع وأبعد عن الكبر.

وقيل: إن الحكمة في هذا تشبيهًا له بالداخل على أهل المنزل، فكما أن الداخل على أهل المنزل يُشرَع له أن يُسلِّم عليهم؛ فكذلك أيضًا الماشي على القاعد.

وكذلك أيضًا الصغير يبتدئ السلام على الكبير، كذلك أيضًا القليل يُسلِّمون على الكثير، كذلك أيضًا الراكب يُسلِّم على الماشي والجالس، ولعلَّ الحكمة -والله أعلم- من كون الراكب هو المأمور بالابتداء بالسلام: أن ذلك أدعى للتواضع والبعد عن الكبر والعُجب؛ لأن الراكب أحسن حالًا من الماشي والجالس، فهو على مركوبٍ، والماشي والجالس ليس على مركوبٍ، ولكونه أعلى منهم، فطُلِب منه أن يُسلِّم؛ لئلا يتكبر عليهم.

وهكذا أيضًا يُسلِّم القليل على الكثير؛ لأن الكثير أحق بأن يُسلَّم عليهم، فشُرع للقليل أن يبتدئوا السلام عليهم.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 2349.
^2 رواه البخاري: 6247، ومسلم: 2168.
^3 رواه أبو داود: 5208، والترمذي: 2706، والنسائي: 10201، وأحمد: 7142، والبخاري في الأدب المفرد: 986.
^4 رواه البخاري: 4388، ومسلم: 52، دون قول أنس رضي الله عنه.
^5 رواه أبو داود: 5212، والترمذي: 2727، وابن ماجه: 3723، وأحمد: 18547.
^6 رواه البخاري: 4418
^7 رواه البخاري: 6263.
^8 رواه أحمد: 16042، والبخاري في الأدب المفرد: 970، والحاكم: 3638.
^9 رواه البخاري: 4757، ومسلم: 2770.
^10 رواه البخاري: 1303.
^11 رواه البخاري: 3917، ومسلم: 2009.
^12 رواه البخاري: 5997، 5998، ومسلم: 2318.
^13 رواه الترمذي: 2733، والنسائي: 4078، وأحمد: 18096، والحاكم: 20.
^14 رواه مسلم: 411، 413.
^15 رواه البخاري: 2731، 2732.
^16 رواه البخاري: 4121، ومسلم: 1768.
^17 رواه البخاري: 4418
^18 رواه الترمذي: 2754، وأحمد: 12345، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
^19 رواه البخاري: 6237، ومسلم: 2560.
^20 رواه البخاري: 6231، ومسلم: 2160.
مواد ذات صلة
zh