جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة، مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ ومسلمةٍ، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
تتمة محظورات الإحرام
شيخنا، في الحلقة الماضية تحدثنا عن جملةٍ من المسائل المتعلقة بمحظورات الإحرام، ولعلنا نستكمل الحديث أيضًا في ذكر هذه المحظورات، فأقول: مما يذكره الفقهاء من محظورات الإحرام: ما يتعلق بإزالة الشعر، فلو بينتم لنا أبرز الأحكام المتعلقة بهذا المحظور.
إزالة الشعر
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإزالة الشعر من محظورات الإحرام؛ لقول الله : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، فلا يجوز للمحرم أن يُزيل الشعر من بدنه بلا عذرٍ؛ لأنه بإزالة الشعر يحصل الترفُّه، وأيضًا في معنى إزالة الشعر: تقليم الأظفار من يدٍ أو رجلٍ، وقد نقل الموفق بن قدامة رحمه الله إجماع العلماء على أن المُحرِم ممنوعٌ من أخذ شعره وتقليم أظفاره إلا من عذرٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم.
قتل الصيد
كذلك مما يذكره الفقهاء من محظورات الإحرام: قتل الصيد، فما المقصود بقتل الصيد، وما الأحكام المتعلقة به؟
الشيخ: قتل الصيد نهى الله تعالى عنه المُحرِم في قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، وقوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96].
والصيد معناه، أو ضابطه: هو الحيوان الحلال البري المتوحش بأصل الخلقة، فلا بد أن يكون من الحيوانات الحلال، أما الحيوانات المحرمة هذه ليست صيدًا، ولا بد أيضًا أن يكون برِّيًّا، فالحيوانات البحرية لا تُعتبر صيدًا، ولا بد أن يكون متوحشًا بأصل الخلقة، أما ما لم يكن متوحشًا بأصل الخلقة؛ فليس من الصيد؛ كبهيمة الأنعام؛ كالإبل والبقر والغنم، هذه ليست من الصيد؛ فعلى ذلك: يكون الصيد هو كل ما دخل في هذا الضابط: الحيوان الحلال البري المتوحش بأصل الخِلقة، ومن أشهره في وقتنا الحاضر: الحمَام، الحمَام يعتبر صيدًا، وهو كثيرٌ في الحرم، فلا يجوز للمحرم أن يقتل الصيد حال إحرامه، ولا أيضًا يُقتل الصيد في منطقة الحرم عمومًا، سواءٌ من قِبل المحرم أو من غيره.
المقدم: أحسن الله إليكم.
عقد النكاح
كذلك من المحظورات: ما يتعلق بعقد النكاح، فما المقصود بعقد النكاح، وهل هو محظور من محظورات الإحرام؟
الشيخ: عقد النكاح من محظورات الإحرام؛ لقول النبي : لا يَنكِح المُحرِم ولا يُنكِح ولا يَخطب [1]، رواه مسلمٌ؛ وعلى ذلك: فليس للمحرم أن يتزوج وهو محرمٌ، ولا أن يُزوِّج مُحرِمًا أو أن يكون وليًّا في النكاح، فلا يصح للمُحرِم أن يلي النكاح؛ يُزوِّج مثلًا ابنته أو موليته عمومًا، ولا أن يتزوج، يقبل الزواج، ولا يصح عقد النكاح لو عقده؛ ولذلك لو أن رجلًا أو امرأةً لم يُتِمَّ حجه؛ كأن يكون مثلًا ترك طواف الإفاضة لأي سببٍ من الأسباب، ثم بعد ذلك في هذه المدة تزوج؛ فإن زواجه غير صحيحٍ، وعليه أن يُجدِّد عقد النكاح بعد أن يُتمَّ حجه.
المقدم: أحسن الله إليكم.
الوطء
مما يتصل بذلك كذلك: ما يتعلق بالوطء، ولعله من أكبر محظورات الإحرام، لو بينتم لنا شيئًا من أحكامه؟
الشيخ: نعم، الوطء هو أشد محظورات الإحرام، وإذا كان قبل التحلُّل الأول؛ يَفسُد به النُّسُك، كما أن الوطء أيضًا بالنسبة للصيام هو أشد المفطِّرات، ويترتب عليه فساد الصوم والكفارة المغلظة مع الإثم.
والوطء إذا وقع قبل التحلل الأول ترتب عليه خمسة أمورٍ:
- أولًا: فساد النُّسُك فيفسد حجُّه؛ لقضاء الصحابة بذلك، وحكاه ابن المنذر إجماعًا.
- ثانيًا: وجوب المُضِيِّ فيه، يعني مع كون الحج فسد، يجب المُضِيِّ فيه.
- ثالثًا: وجوب القضاء من قابلٍ.
- رابعًا: الفدية، وهي بَدَنةٌ على ما أُثر عن عددٍ من الصحابة في هذا.
- خامسًا: الإثم، ويترتب على ذلك وجوب التوبة.
الفدية
المقدم: أحسن الله إليكم، هذه المحظورات إذا فعلها الإنسان، سواءٌ كان محتاجًا إلى فعلها أو مفرِّطًا، فما الفدية المترتبة على ارتكاب هذه المحظورات؟
الشيخ: الفدية قِسمٌ منها على التخيير، وقسمٌ على الترتيب:
- فالذي على التخيير: كفدية اللبس والطِّيب وتغطية الرأس وإزالة الشعر أو تقليم الأظفار وإنزال المني، فهذا فيه فدية الأذى، يُخيَّر بين ذبح شاةٍ، أو صيام ثلاثة أيامٍ، أو إطعام ستة مساكين؛ لقول الله : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وجاء تفسير ذلك في حديث كعب بن عجرة بأنه صيام ثلاثة أيامٍ، أو إطعام ستة مساكين، وأن النُّسُك هو ذبح شاةٍ [2]، وهو مخيَّرٌ بين هذه الأمور الثلاثة.
- وأما الذي على الترتيب: كدم المتعة والقِران؛ كما في قول الله : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196].
جزاء الصيد
إذا كان ارتكاب محظور الإحرام هو قتل الصيد، فهذا فيه جزاء الصيد، وجزاء الصيد فيه تفصيلٌ؛ حيث لا يخلو الصيد أن يكون له مثلٌ، أو ليس له مثلٌ:
- فإن كان للصيد مثلٌ؛ كالنعامة والغزال، فيُخَيَّر بين ثلاثة أشياء:
- أولًا: ذبحُ المِثل وتفريق لحمه على فقراء الحرم، فإذا قتل حمامةً مثلًا؛ فمِثلها: الشاة، يذبح شاةً في الحرم، وتُوزَّع على فقراء الحرم.
- ثانيًا: تقويم المِثل؛ بأن ينظر كم يساوي هذا المِثل، ويُخرج ما يُقابل قيمته طعامًا، يُفرَّق على المساكين، لكل مسكينٍ نصف صاعٍ؛ مثلًا: قتل حمامةً ففيها شاةٌ، ويريد أن يعرف كم قيمة الشاة، قالوا: قيمتها مثلًا ألف ريالٍ، يشتري بالألف ريالٍ طعامًا، ويُوزِّعه على فقراء الحرم.
- ثالثًا: أن يصوم عن إطعام كل مسكينٍ يومًا، فهذا الطعام لو وُزِّع على المساكين لكلِّ مسكينٍ نصف صاعٍ، كم يكون عدد المساكين؟ فيصوم عن كل مسكينٍ يومًا.
إذنْ إذا كان الصيد المقتول له مِثلٌ؛ فيُخيَّر بين هذه الأشياء.
- القسم الثاني: إذا لم يكن للصيد مِثلٌ؛ كالجراد والحجل ونحو ذلك، فيُخيَّر بين أمرين فقط:
- بين تقويم قيمة الصيد، فينظر كم قيمته؟ ويُخرِج ما يقابلها طعامًا يُفرَّق على مساكين الحرم لكلِّ مسكينٍ نصف صاعٍ.
- والثاني: يصوم عن إطعام كلِّ مسكينٍ يومًا؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، يعني من بهيمة الأنعام، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95].
فإذنْ جزاء الصيد قد أتى منصوصًا عليه في كتاب الله ؛ ولهذا فهذه المسألة محل إجماعٍ وليس فيها خلافٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح.
أركان الحج
شيخنا، فيما يتعلق بمحظورات الإحرام، ولعلي أنتقل الى محورٍ آخر -إن أذنتم- أودُّ لو حاولنا أن نستذكر أركان الحج، وكذلك ما يتعلق بواجباته، فمما ذكره الفقهاء وعقدوا له بابًا: ما يتعلق بأركان الحج، ويذكرون في ذلك الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي، على خلافٍ في الأخير بين الفقهاء، فلو بدأنا بالركن الأول (الإحرام) ما كيفيته؟
الإحرام
الشيخ: نعم، أركان الحج، هي كأركان الصلاة، وكأركان سائر العبادات، إذا تخلف واحدٌ منها؛ لم تصح العبادة، وأركان الحج أربعةٌ:
أولها: الإحرام، والإحرام: هو نية الدخول في النُّسُك، فهو متعلِّقٌ بالنية وليس بلبس اللباس، فإذا نويت الإحرام قد أصبحت محرمًا، والنية محلها القلب، كما قال الله عليه والصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى [3]، ومن لم يُحرِم بالحج؛ فهو لم ينو الدخول في النُّسُك، فلا يصح حجه، كما أن تكبيرة الإحرام بالنسبة للصلاة لا تنعقد الصلاة إلا بها، فكذلك الحج والعمرة لا ينعقدان إلا بنية الدخول في النُّسُك، لكن كيف يكون الإحرام؟ يكون الإحرام بالنية، وينبغي أن يقترن مع ذلك التلفُّظ، فيكون نيةً مع تلبيةٍ، فإذا أراد مثلًا التمتع، يقول: لبيك عمرةً، إذا أراد الإفراد؛ يقول: لبيك حجًّا، إذا أراد القِران؛ يقول: لبيك عمرةً وحجًّا، فهو يتلفظ بالنُّسك الذي يُريده مع النية، فهو كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فتكبيرة الإحرام لا بد أن يتلفظ بها، لا بد أن يقول المصلي: الله أكبر، ولا يكفي أن ينويها في قلبه، لا بد من التلفظ، فلو أنه دخل في الصلاة من غير أن يتلفظ بتكبيرة الإحرام؛ لم تصح صلاته، ولكن هنا ربما تكون المسألة أخف، لو نوى الدخول في النُّسُك، ولم يقل: لبيك عمرةً، ولبيك حجًّا؛ فالقول الراجح: أنه يكون مُحرِمًا، ولا يُشترط التلفظ، وإنما تكفي النية، ولكن الأكمل والأحسن: أن يقرن التلبية بالنية فيقول: لبيك عمرةً، أو لبيك حجًّا، أو لبيك عمرةً وحجًّا؛ يتفرع عن هذا: لو أن أحدًا مَرَّ بالميقات ونوى الإحرام في قلبه ولم يتلفَّظ، لم يقل: لبيك عمرةً، أو لبيك حجًّا، أو لبيك عمرةً وحجًّا، فعند بعض العلماء: أن هذا لا يصح إحرامه، لكن على القول الراجح إحرامه صحيحٌ، وأن النية تكفي في هذا، لكن ينبغي للمسلم أن يحرص على التلبية المقارِنة للنِّية؛ خروجًا من الخلاف -على الأقل- في هذه المسألة، فإذا كان متمتِّعًا؛ يقول: لبيك عمرةً، إذا كان مُفرِدًا؛ يقول: لبيك حجًّا، إذا كان قارنًا؛ يقول: لبيك عمرةً وحجًّا.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
الوقوف بعرفة
كذلك من الأركان التي يذكرها الفقهاء: ما يتعلق بالوقوف بعرفة، فلو بينتم لنا دليل ركنيته، ومتى يبدأ وقت الوقوف بعرفة؟
الشيخ: الوقوف بعرفة هو آكد أركان الحج؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة [4]، فهو أهم وآكد أركان الحج؛ كما أن آكد أركان الصلاة السجود، وآكد أركان الصيام النية، هنا آكد أركان الحج الوقوف بعرفة، وقد أجمع العلماء على أنه ركنٌ من أركان الحج، ويدل لهذا قول الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، فقوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ، دليلٌ على أن الوقوف بعرفة لا بد منه، وأنه أمرٌ مُسَلَّمٌ به، وأن الدفع إلى مزدلفة إنما يكون بعد الوقوف بعرفة.
وقت الوقوف بعرفة
وأما وقته: فيبدأ من طلوع فجر يوم عرفة عند الحنابلة، وعند الجمهور أنه يبدأ من الزوال، وهو القول الراجح، أنه يبدأ من زوال الشمس، هذا الذي عليه جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة، بل إن ابن المنذر حكاه إجماعًا، وحكاه كذلك إجماعًا ابن عبدالبر وابن رشدٍ، وإن كان لا يُسلَّم بحكاية الإجماع؛ لوجود المخالف، لكنه يدل على أن هذا الرأي هو رأي أكثر أهل العلم، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية، رحمة الله تعالى على الجميع، واستدلوا بأن النبي وصحابته من بعده لم يقفوا بعرفة إلا بعد الزوال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: خذوا عني مناسككم [5]، ولو كان الوقوف يبتدئ قبل الزوال؛ لبَيَّنه عليه الصلاة والسلام.
فالقول الأظهر، والذي عليه أكثر أهل العلم: هو أن وقت الوقوف بعرفة إنما يبتدئ بعد الزوال؛ وعلى هذا: إذا قدم الحاج لعرفة قبل الزوال؛ فينبغي له أن يتهيَّأ لوقت الوقوف؛ لأن بعض الناس يأتي عرفةَ مبكرًا؛ يأتي مثلًا بعد الفجر، أو أول النهار، ويجتهد في الدعاء والذكر، فإذا أتى وقت الزوال؛ يكون متعبًا وينام، مع أن وقت الوقوف إنما يبتدئ من بعد الزوال، فنقول له: اعكس المسألة، فإذا قدمتَ عرفة قبل الزوال؛ فيمكن أن تنام وترتاح، ثم بعد الزوال تتفرَّغ للدعاء، والنبي إنما تفرَّغ للدعاء من بعد الزوال [6].
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
أفضل ما ينشغل به الحاج في يوم عرفة
نصيحتكم لمن يقف بعرفة، ما أفضل ما ينشغل به الحاج في ذلك اليوم العظيم؟
الشيخ: أفضل ما ينشغل به الحاج في يوم عرفة: هو ما انشغل به النبي ، عندما نتأمل هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ماذا فعل يوم عرفة؟ أتى الناسَ بعد الزوال وخطب بهم خطبته العظيمة بعرفة، ثم صلى بهم صلاة الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم سار بناقته إلى شرق عرفة عند الصخرات، وبقي على بعيره، أناخ ناقته ولم ينزل، ولم يُوضع له خيمةٌ، ووقف مستقبلًا الجبل والقبلة رافعًا يديه يدعو إلى أن غربت الشمس، وقتٌ طويلٌ، لاحِظ من بعد الزوال تقريبًا، خطبة النبي عليه الصلاة والسلام كانت قصيرةً، لم تكن طويلةً؛ ولذلك حفظها الصحابة ونقلوها، وصلى بهم صلاة الظهر والعصر، ثم انطلق إلى أن وصل هذا المكان، ربما أخذ نصف ساعةٍ، أو بالأكثر ساعةً، وبقية الوقت جعل عليه الصلاة والسلام يدعو، تفرَّغ للدعاء تفرُّغًا كاملًا [7]، حتى إن الصحابة شكُّوا هل كان صائمًا أم لا؟ فأرادوا أن يختبروه، فأرسلت إليه أم الفضل رضي الله عنها بلبنٍ بعد العصر فشرب منه والناس ينظرون [8]، فعلموا أنه كان مفطرًا؛ وعلى هذا: فأفضل ما يشتغل به الحاج يوم عرفة بعد الزوال: هو الدعاء، فالدعاء حريٌّ بالإجابة في هذا الموطن، وهذا الموطن وهذا الوقت وقتٌ عظيمٌ، وقت مباهاة الرب بالحجيج ملائكته، ويقول: انظروا إلى عبادي أتوني شُعثًا غُبْرًا ضاحين من كل فجٍّ عميقٍ! أُشهدكم أني قد غفرت لهم [9]، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة ويقول: ما أراد هؤلاء؟ [10].
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، والحقيقة أن ذكر هذه المعاني يُشوِّقنا كثيرًا إلى الحج، فنسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم من واسع فضله، أيضًا من الأركان ما يتعلق بطواف الإفاضة، فلو بينتم لنا آكديته، وأيضًا متى يبدأ وقته؟
الشيخ: طواف الإفاضة ركنٌ من أركان الحج بالإجماع؛ لقول الله : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فالمراد بالطواف في الآية: هو طواف الإفاضة، ويسمى: طواف الزيارة، فهو من آكد أركان الجح، ولا بد أن يقع بعد الوقوف بعرفة، ولا يصح أن يطوف قبل عرفة، ولا قبل المبيت بمزدلفة؛ لأن الله ذكر الطواف بعد الوقوف بعرفة: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ومزدلفة تلي عرفة، ولما ذكر النحر والذبح؛ قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فجعل الطواف بعد الوصول إلى منًى؛ وعلى هذا: فيُشترط لصحة طواف الإفاضة: أن يكون بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، فلو أن أحدًا انطلق من عرفة ليطوف طواف الإفاضة، ثم عاد إلى مزدلفة فبات بها؛ فإنه لا يصح طوافه.
وأول وقته: من منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة، فيبتدئ من بعد منتصف ليلة النحر؛ لأنه لا يبتدئ الرمي إلا بعد منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة، وهذا بالنسبة لبداية وقت الطواف.
وأما آخره: فمن الفقهاء من حدَّد آخره بنهاية شهر ذي الحجة، والذي عليه الجمهور وأكثر أهل العلم: أنه لا حَدَّ لآخر طواف الإفاضة، فلو أتى به في أي وقتٍ؛ صح؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: "الصحيح: أن آخر وقته غير محدودٍ، فإنه متى أتى به؛ صح بغير خلافٍ"؛ وعلى هذا: لو أن امرأةً حاضت أو نفست، وأرادت أن تذهب لبلدها ثم تعود بعد ذلك وتطوف طواف الإفاضة؛ فلا حرج، لكن لا تكون قد حلَّت التحلل الكامل إلا بعد أن تأتي بطواف الإفاضة، فهي ممنوعةٌ من المعاشرة الزوجية، وكذلك أيضًا إذا لم تكن متزوجةً ممنوعةٌ من أن يُعقد عليها النكاح، ونحو ذلك، لكن يجوز لها أن تذهب لبلدها، ثم بعد ذلك تعود وتطوف طواف الإفاضة.
المقدم: أحسن الله إليكم.
السعي
أيضًا من الأركان التي يذكرها بعض الفقهاء: السعي، هل هو ركنٌ من أركان الحج؟
الشيخ: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء:
- فمنهم من قال: إنه ركنٌ من أركان الحج، وهذا قول الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة.
- ومن الفقهاء من قال: إن السعي واجبٌ يُجبَر بدمٍ، وهذا مذهب الحنفية.
- ومنهم من قال: إنه سُنةٌ، وهذا أضعف الأقوال.
والأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور: وهو أن السعي ركنٌ من أركان الحج؛ لقول النبي : اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي [11]، وهو حديثٌ ثابتٌ بمجموع طرقه، فقوله : كَتَب؛ يدل على الفرضية، والنبي لم يترك السعي قط في جميع عُمَره وفي حجه، وقد قال: خذوا عني مناسككم [12]، ولقول الله : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، فجعل الله السعي بينهما من شعائر الله، وقد قال : وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، ولقول عائشة رضي الله عنها: "ما أتم الله حج امرئٍ ولا عمرته لم يَطُف بين الصفا والمروة" [13].
فعندما نتأمل النصوص؛ نجد دائمًا أن السعي يُذكر مع الطواف، فهو قرينٌ وملازمٌ له، فهو كالزكاة مع الصلاة؛ وعلى هذا: فالأقرب والله أعلم: أن السعي ركنٌ من أركان الحج.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم هذه الإطلالة على أركان الحج بإيجازٍ.
واجبات الحج
ننتقل بعد ذلك -إن أذنتم شيخنا- إلى ما يتعلق بالواجبات، ويذكر الفقهاء جملةً من واجبات الحج؛ منها: الإحرام من الميقات، فما المقصود بالإحرام من الميقات -وقد ذكرنا قبل قليلٍ الإحرام في الأركان- فما الفرق بين ذكره في الواجبات وفي الأركان؟
الشيخ: أولًا: واجبات الحج يصح الحج بدونها، لكنها تُجبَر بدمٍ، فهي كواجبات الصلاة التي تُجبر بسجود السهو، إلا أن تعمُّد ترك واجبات الحج لا يُبطله، بخلاف تعمُّد ترك واجبات الصلاة، فيُبطلها؛ لأن واجبات الصلاة متعلقةٌ بذات العبادة، أما واجبات الحج فإنما هي وقوفٌ بالمشاعر، أو تقع مكمِّلةً لغيرها، فبينمها فرقٌ.
فأول هذه الواجبات: الإحرام من الميقات، وسبق أن ذكرنا أن الإحرام ركنٌ، الإحرام نفسه ركنٌ من أركان الحج، لكن هنا المقصود: أن يكون الإحرام من الميقات، فهذا من واجبات الحج، ويدل لهذا أن النبي عليه الصلاة والسلام حدد المواقيت، وقال: يُهِلُّ أهل المدينة من ذي الحُليفة.. إلخ [14]، فقوله : يُهِلُّ، خبرٌ أُريدَ به الأمر، وهذا يدل على وجوب الإحرام من الميقات.
المقدم: أحسن الله إليكم.
كذلك مما يذكره بعض الفقهاء في واجبات الحج: ما يتعلق بالوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، فهل هذا واجبٌ من واجبات الحج؟
الشيخ: الوقوف بعرفة من أركان الحج، لكن أن يستمر في الوقوف بعرفة -إذا وقف نهارًا- إلى غروب الشمس؛ هذا من واجبات الحج؛ لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه بقي بعرفة إلى أن غربت الشمس [15]، وقال: خذوا عني مناسككم [16]، ولأن أهل الجاهلية كانوا إذا وقفوا بعرفة؛ دفعوا قبل غروب الشمس، فخالفهم النبي ووقف بعرفة إلى غروب الشمس؛ فهذا يدل على أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجبٌ من واجبات الحج.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
كذلك من الواجبات التي يذكرها بعض الفقهاء: ما يتعلَّق بالمبيت بمزدلفة، فما هو القدر المُجزِئ من المبيت الواجب في مزدلفة؟
الشيخ: المبيت بمزدلفة من واجبات الحج على القول الراجح، وإن كان هناك من الفقهاء من قال: إنه ركنٌ، وأيضًا آخرون قالوا: إنه مستحبٌّ، والأظهر -والله أعلم- أنه واجبٌ من واجبات الحج.
والقدر المجزئ: هو أن يكون المبيت بمزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل، كما هو المذهب عند الشافعية والحنابلة.
ومن الفقهاء من قال: إنه يجب المبيت بمزدلفة إلى طلوع الفجر، كما هو المذهب عند الحنفية، يُقابلهم المالكية الذين قالوا: إن الواجب هو الوقوف بمزدلفة بمقدار حطِّ الرحال.
والأقرب والله أعلم: هو ما عليه الجمهور، من أن القدر الواجب هو أن يكون إلى ما بعد منتصف الليل، هذا هو الأظهر -والله أعلم- في هذه المسألة، لكن الأفضل ألا يدفع المحرم من مزدلفة إلا بعد غروب القمر، والقمر يغرب تلك الليلة -ليلة العاشر- بعد مضي ثلثي الليل تقريبًا؛ فالأفضل ألا يدفع إلا بعد غروب القمر، الذي يغرب في العادة بعد مضي ثلثي الليل أو قريبًا منه، والأكمل أن يبقى في مزدلفة إلى طلوع الفجر، هذا هو الأكمل والأفضل، لكن من حيث الجواز: يجوز الدفع بعد منتصف الليل، والأولى أن يكون بعد غروب القمر.
المقدم: جميلٌ! أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
أيضًا مما يتصل بذكر واجبات الحج: ما يتعلق بالمبيت بمِنًى، فهل هو واجبٌ من واجبات الحج؟
الشيخ: المبيت بمِنًى لياليَ التشريق واجبٌ من واجبات الحج؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رخَّص لأهل السقاية، والرخصة يُقابلها العزيمة، ولما استأذنه عمه العباس أن يبيت بمنًى ليالي منًى من أجل سقايته؛ رخَّص له [17]، والرخصة يُقابلها العزيمة؛ وعلى ذلك: فالمبيت بمنًى ليالي التشريق واجبٌ من واجبات الحج.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.
أيضًا مما يتعلق بواجبات الحج: رمي الجمار.
الشيخ: نعم، رمي الجمار مرتبًا واجبٌ من واجبات الحج؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: بأمثال هؤلاء فارموا [18]، ولأنه عليه الصلاة والسلام رمى الجمرات، وقال: خذوا عني مناسككم [19]، فهو معدودٌ عند الفقهاء من واجبات الحج.
المقدم: كذلك -أحسن الله إليكم- ما يتعلق بالحلق والتقصير، هل هو واجبٌ أيضًا؟
الشيخ: نعم، الحلق أو التقصير من واجبات الحج، وكذلك أيضًا من واجبات العمرة، والحلق أفضل من التقصير، والحلق هو الذي يُستأصل معه جميع الشعر الذي يكون بالموس، وهو أفضل من التقصير.
وأما النساء: فالمشروع في حقهن التقصير دون الحلق بالإجماع، تقصر من شعرها من كل ضفيرةٍ بقدر أُنملةٍ، يعني: بقدر رأس الأصبع.
المقدم: أحسن الله إليكم.
أيضًا مما يذكره الفقهاء: ما يتعلق بطواف الوداع، هل هو واجبٌ من واجبات الحج؟
الشيخ: نعم، طواف الوداع لغير أهل مكة من واجبات الحج؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يَنفِرنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت [20]، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم البيت، إلا أنه خُفف عن الحائض" [21]، أما أهل مكة فيسقط عنهم طواف الوداع.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء.
إلى أن نلتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه مسلم: 1409. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 4517، ومسلم: 1201. |
^3 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^4 | رواه أبو داود: 1949، والترمذي: 889، والنسائي: 3044، وابن ماجه: 3015. |
^5 | رواه مسلم: 1297. |
^6 | رواه مسلم: 1218. |
^7 | ينظر ما رواه مسلم: 1218. |
^8 | رواه البخاري: 5604، ومسلم: 1123. |
^9 | رواه أبو يعلى: 2090، وابن خزيمة: 2840، وابن حبان: 3853، من حديث جابر بن عبدالله، ورواه أحمد: 7089، من حديث عمرو بن العاص، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهم: 8047. |
^10 | رواه مسلم: 1348. |
^11 | رواه أحمد: 27407. |
^12, ^15, ^16, ^19 | سبق تخريجه. |
^13 | رواه البخاري: 1790. |
^14 | رواه البخاري: 1525، ومسلم: 1182. |
^17 | رواه البخاري: 1634، ومسلم: 13150. |
^18 | رواه النسائي: 3057، وابن ماجه: 3029، أحمد: 1851. |
^20 | رواه مسلم: 1327. |
^21 | رواه البخاري: 1755. |