logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(47) برنامج مجالس الفقه- المسائل المتعلقة بالإحرام والمواقيت المكانية

(47) برنامج مجالس الفقه- المسائل المتعلقة بالإحرام والمواقيت المكانية

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتذاكر فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها المسلم، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المسائل المتعلقة بالإحرام

 شيخنا، في الحلقة الماضية والتي قبلها كنا نتكلم عن المسائل والأحكام المتعلقة بالحج، ولا يزال الحديث موصولًا في هذا الباب، ولعلي استفتح هذه الحلقة بالكلام حول المسائل المتعلقة بالإحرام وما يرتبط به من مسائل.

ابتداءً شيخنا: ما معنى الإحرام عند الفقهاء؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

معنى الإحرام عند الفقهاء

فالإحرام معناه: نية الدخول في النُّسُك، هكذا عرفه العلماء، وهذا التعريف مهم؛ لأن بعض الناس يفهم من معنى الإحرام أنه لبس ملابس الإحرام، وهذا الفهم غير صحيحٍ، فالإحرام لا يتعلق باللباس، وإنما يتعلق بالنية؛ ولهذا لك أن تلبس ملابس الإحرام وأنت في منزلك ولا تكون قد أحرمت، لكن إذا نويت الدخول في النُّسُك فقد أحرمت.

أقول هذا خاصةً لمن يريد أن يُحرم في الطائرة، فلك أن تغتسل، وتلبس ملابس الإحرام وأنت في بيتك أو في المطار أو في الطائرة، لكن لا تنوي الدخول في النُّسُك إلا إذا حاذيت الميقات، أما قَبل الميقات فأنت لا تُعتبر مُحرِمًا، لك أن تُغطِّي رأسك، ولك أن تتطيب ونحو ذلك.

فإذنْ حقيقة الإحرام: هي نية الدخول في النُّسُك، وليس لبس ملابس الإحرام.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، إذنْ قول بعض الناس: أحرمت، وهو يقصد: لبست ملابس الإحرام، هذا ليس تعبيرًا شرعيًّا.

الشيخ: هذا تعبيرٌ غير صحيحٍ، مَن لبس ملابس الإحرام ولم ينوِ الإحرام؛ لا يُعتبر محرمًا.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

المواقيت المكانية

شيخنا، من المسائل والأحكام المتعلقة بالحج والعمرة: ما يتعلق بالمواقيت المكانية، فلو بينتم لنا بإيجازٍ: ما هي المواقيت المكانية؟ ولمن هي؟

الشيخ: المواقيت المكانية حددها النبي ، وأبرز هذه المواقيت:

ميقات أهل المدينة: (ذو الحُليفة)، ويسمى (أبيار علي)، وهو أبعد المواقيت عن مكة، وبينه وبين مكة عشر مراحل، هذا لما كانوا يسيرون بالإبل، وفي الوقت الحاضر (400 كيلومترٍ) تقريبًا، والنبي لما حج؛ أحرم من (ذي الحليفة) [1]، في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة [2] من السنة العاشرة من الهجرة [3]، ولم يَصِل إلى مكة إلا في الرابع من ذي الحجة؛ لأنه بقي في الطريق من المدينة إلى مكة عشرة أيامٍ.

الميقات الثاني: ميقات أهل الشام ومصر والمغرب: (الجُحْفة)، والجحفة قريةٌ دعا النبي بنقل وباء المدينة إليها، فإنه لما هاجر الصحابة من مكة إلى المدينة؛ أُصيب كثيرٌ منهم بحُمَّى يثرب، وكانت مشهورةً بالحمى، فدعا النبي بأن يَنقل الله تعالى الحمى إلى (الجحفة) [4]، فانتقلت الحمى إلى (الجحفة)، وقيل: إنه كان فيها أناسٌ من غير المسلمين، وقد خربت (الجحفة) وهجرها الناس، فأصبح الناس يُحرمون من (رابغٍ)؛ لأن بها ميقاتًا، لكن في السنوات الأخيرة وُضع الميقات في (الجحفة) نفسها، وأصبح الناس يحرمون منها، فسواءٌ أحرم من (الجحفة) أو من (رابغٍ)؛ يكون قد أحرم من الميقات.

الميقات الثالث: ميقات أهل اليمن: (يَلَمْلَم)، وهو أيضًا ميقاتٌ لمن أتى من المنطقة الجنوبية عمومًا، وهو وادٍ كبيرٌ يُحرم الناس منه، وهو على مرحلتين من مكة.

والميقات الرابع: ميقات أهل نجدٍ: (قَرْن المَنَازل)، ويسمى (السَّيل الكبير)، وهو وادٍ كبيرٌ متسِعٌ، وفي أعلى هذا الوادي (وادي مَحرَم)، و(وادي محرم) وُضع فيه مكانٌ يُحرِم الناس منه، وهو الذي في منطقة (الهَدَا) في الطائف، (وادي محرم) ليس محاذيًا لـ(السيل الكبير)، وإنما هو أعلى (السيل الكبير) كما ذكر ذلك بعض المحققين، فهذه المنطقة ما بين ميقات (السيل) إلى (وادي محرم)، هذه كلها ميقاتٌ، أعلاه (وادي محرم) وأسفله (السيل)، فسواءٌ أحرمت من ميقات (السيل) أو من (وادي محرم)؛ فقد أحرمت في الحقيقة من (قرن المنازل).

وهذه المواقيت الأربعة جاءت في "الصحيحين" من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي وَقَّت لأهل المدينة (ذا الحُليفة)، ولأهل الشام (الجحفة)، ولأهل نجدٍ (قَرْن المنازل)، ولأهل اليمن (يَلَمْلَم)، هُنَّ لهُنَّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك؛ فمِن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة [5].

هناك ميقاتٌ خامسٌ: وهو ميقات أهل العراق، ويسمى (ذات عِرقٍ)، وهذا قد قيل: إن النبي لم يُوقِّته، وإنما الذي وقَّته عمر بن الخطاب ؛ لأن أهل العراق أتوا إلى عمر  فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله حَدَّ لأهل نجدٍ (قَرْنًا)، وهو جَوْرٌ عن طريقنا -لأنهم في تلك الأزمنة كانوا يأتون عن طريق الإبل- وإنا إن أردنا (قرنًا)؛ شقَّ علينا، فقال عمر : "انظروا حَذوها من طريقكم"، فحَدَّ لهم (ذات عِرقٍ) [6]، كما جاء ذلك في "صحيح البخاري".

لكن جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: وقَّت النبي لأهل العراق (ذات عِرقٍ) ( (رواه أبو داود: 1739، والنسائي: 2653.))، أخرجه أبو داود والنسائي بسندٍ لا بأس به، والأقرب في هذا أن يقال: إن عمر لم يبلغه توقيت النبي فاجتهد، فوافق اجتهاده توقيت النبي ، وهذا ليس بغريبٍ على عمر ، فإنه قد وافق الوحي في عدة أمورٍ.

(وذات عِرقٍ) كانت شِعبًا مهجورًا لا يأتيه أحدٌ، وكان أهل العراق يُحرمون من (السيل)، لكن في السنوات الأخيرة وُضع إليه طريقٌ، ووُضع فيه مسجدٌ ومغتسلٌ، وأصبح بعض الناس يُحرمون منه الآن.

فهذه هي المواقيت المكانية، لا يجوز تجاوزها بدون إحرامٍ لمن أراد النُّسُك من حجٍ أو عمرةٍ، ومَن مَرَّ بها؛ يُحرم منها، سواءٌ كان مروره بالسيارة، أو كان في الطائرة، فإذا كان في الطائرة؛ يُحرم إذا حاذى أحد هذه المواقيت.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا الإيضاح.

كيفية الإحرام لمن يأتون عن طريق الطائرة

مما يتعلق بهذه المسألة، وهي تقع لكثيرٍ من الناس الآن وقد أصبحوا يأتون إلى مكة عن طريق الطائرة، فكيف يكون الإحرام لمن أتى بالطائرة؟

الشيخ: يكون الإحرام لمن أتى في الطائرة: أنه يُحرم إذا حاذى الميقات وهو في الطائرة؛ لقول عمر : "انظروا إلى حذوها من طريقكم" [7]، ولكن أُنبِّه هنا إلى أن من أراد أن يُحرِم في الطائرة فعليه أن يحتاط؛ لأن الطائرة تسير بسرعةٍ كبيرةٍ جدًّا، يعني تسير أكثر من (800 كيلومترٍ) في الساعة، وربما تصل إلى (1000 كيلو) أو تزيد، والدقيقة الواحدة مع هذه السرعة الكبيرة مؤثرةٌ، فلو أنك تأخرت في الإحرام دقيقةً واحدةً، ربما قد تكون الطائرة قد تجاوزت الميقات، وخاصةً أن مساحة الميقات ليست كبيرةً، مساحة الميقات صغيرةٌ، والطائرة تسير بسرعةٍ كبيرةٍ، قد تصل إلى (1000 كيلو) في الساعة، فالدقيقة الواحدة هنا مؤثرةٌ؛ ولهذا ينبغي الدقة لمن أراد أن يُحرم في الطائرة، وإذا لم يتهيأ له ويتيسر له الدقة فعليه أن يحتاط، وكونه يُحرم قبل الميقات بدقيقةٍ أو دقيقتين خيرٌ له من أن يُحرم بعد الميقات بدقيقةٍ أو دقيقتين؛ لأن الإحرام قبل الميقات غايته لو وقع عن عمدٍ أنه مكروهٌ، والكراهة تزول بالحاجة، والحاجة هنا قائمةٌ.

أما إذا تجاوزتَ الميقات بلا إحرامٍ؛ فيجب عليك أن ترجع إلى الميقات وأن تُحرم منه، أو يكون عليك دمٌ؛ لأنك أخللت بواجبٍ من واجبات الحج أو العمرة؛ ولذلك من ركب الطائرة وهو يريد الإحرام؛ فعليه أن ينتبه؛ لأن بعض الناس يركب الطائرة ثم ينام، ولا يستيقظ إلا بعدما تهبط الطائرة في المطار (مطار جدة)، ويكون بهذا قد تجاوز الميقات بدون إحرامٍ، فعلى المسلم أن يهتم بشأن هذه العبادة، إذا كان في الطائرة يتأكد من الوقت الذي تُحاذي فيه الطائرة الميقات، ويكون مستعدًّا ومتهيئًا للإحرام من حين محاذاة الميقات وهو في الطائرة.

المقدم: أحسن الله إليكم، كذلك ربما مما يقع فيه التقصير في مثل هذه الحال: أن بعضهم يأخذ معه ملابس الإحرام، فإذا أعلنوا المحاذاة؛ ذهب إلى دورة المياه في الطائرة، ولبس الملابس ثم خرج ولبَّى، وهذا وقتٌ ربما يطول.

الشيخ: نعم، هذا صحيحٌ، هذا واقعٌ، فكان ينبغي له أن يفعل ذلك قبل أن تُحاذي الطائرة الميقات، ينبغي على المسلم أن يهتم بهذه العبادة؛ بحيث إذا حاذت الطائرة الميقات؛ يكون متهيئًا للإهلال بالنُّسُك.

المقدم: أحسن الله إليكم.

إحرام من كان منزله دون المواقيت

أيضًا شيخنا مما يتصل بهذا الباب: من كان منزله دون المواقيت، فكيف يكون إحرامه؟

الشيخ: من كان منزله دون المواقيت؛ مثل أهل جدة، وأهل بَحْرَة، وأهل الجُموم، ومن كان منزله دون المواقيت عمومًا فميقاته منزله؛ لقول النبي لمَّا ذَكر المواقيت، قال: ومن كان دون ذلك فمِن حيث أنشأ [8]، يعني: من كان دون المواقيت فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة [9]، هذا بالنسبة للحج والعمرة، أن من كان دون المواقيت يُحرم من بيته؛ فمثلًا: من أراد من أهل جدة أن يُحرم بالعمرة أو بالحج؛ يُحرم من بيته، من أراد من أهل الجموم أو من أهل بحرة أو من أي بلدةٍ من البلدان الواقعة دون المواقيت، فإنه يُحرِم من منزله، ميقاته منزله، لكن بالنسبة لأهل مكة خاصةً: ميقات العمرة لهم: الحِلُّ، لا بد أن يَخرجوا خارج حدود الحرم فيُحرموا من الحِلِّ؛ حتى يجمع المعتمر بين الحِلِّ والحرم؛ إما من التنعيم، أو من عرفة، أو من أيِّ مكانٍ خارج حدود الحرم؛ ولهذا عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع لما أرادت أن تعتمر؛ أمرها النبي أن تخرج مع أخيها عبدالرحمن إلى التنعيم، فذهبت إلى هناك وأحرمت بالعمرة [10]، والآن التنعيم فيه مسجدٌ يقال له: "مسجد عائشة"، وهو المكان الذي أحرمت منه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لكن بالنسبة للحج: أهل مكة يُحرِمون من بيوتهم، أما العمرة: فإنهم يحرمون من الحِل.

هل "جدة" تعتبر ميقاتًا؟

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، وقد أشرتم قبل قليلٍ إلى جدة، وللفقهاء كلامٌ في جدة، هل تعتبر ميقاتًا أو ليست كذلك؟

الشيخ: بعض المعاصرين ذكر أن جدة ميقاتٌ، وأن من أحرم منها؛ أحرم من الميقات، وبرز هذا القول في السنوات الأخيرة، لكن في الحقيقة أنك إذا أتيت إلى جدة من أي جهةٍ من الجهات -ماعدا جهة الغرب- فلا بد أن تُحاذي أحد المواقيت، لا بد، إذا أتيت من جهة الشمال، أو من جهة الجنوب، أو من جهة الشرق، أو من جهة الجنوب الشرقي، أو الشمال الشرقي، من أي جهةٍ من الجهات -ماعدا جهة الغرب- فلا بد أن تُحاذِي أحد المواقيت، فكيف يقال: إن جدة ميقاتٌ، إلا في حالةٍ واحدةٍ يمكن أن تصل فيها إلى جدة من غير أن تُحاذي أي ميقاتٍ، وهذه ذكرها الفقهاء السابقون، وهو: من أتى من بلدة (سواكن) بالسودان من جهة الغرب، فهذا يمكن أن يصل إلى جدة من غير أن يُحاذي أي ميقاتٍ.

وقد ذكر الفقهاء السابقون أن من أتى من بلدة (سواكن) من السودان؛ فله أن يُحرِم من جدة؛ لأنه يستطيع أن يصل إلى جدة من غير أن يحاذي أي ميقاتٍ، فهذه الحالة حالةٌ مستثناةٌ، وقد نص عليها فقهاؤنا السابقون، وأما من عدا ذلك ممن يأتي من أي جهةٍ أخرى؛ فإنه لا بد أن يحاذي أي ميقاتٍ من المواقيت، وبعض المعاصرين الذين قالوا: إن جدة ميقاتٌ، بَنَوا ذلك على تصورٍ غير صحيحٍ لمعنى المحاذاة؛ ففهموا أن المحاذاة أن تمد خطوطًا تصل بها المواقيت، وهذا الفهم فهم غير صحيحٍ، فالمحاذاة تعني: أن تكون المسافة ما بين الميقات وما بين المكان المحاذي لمكة واحدةً، وليس المقصود هو مد هذه الخطوط؛ ولذلك العلماء الذين قالوا: إن جدة ميقاتٌ، إنما نشأ الخطأ لديهم بسبب الخطأ في معنى المحاذاة، ففهموا المحاذاة فهمًا غير صحيحٍ؛ فترتب على ذلك: القول بأن جدة ميقاتٌ، وإلا لو أُخذ بفهم جمهور الفقهاء لمعنى المحاذاة؛ فتكون جدة ليست ميقاتًا، وإنما هي دون المواقيت في الحقيقة؛ ولذلك لو أتيت إلى جدة من أي جهةٍ من الجهات؛ فلا بد أن تُحاذي أحد المواقيت، ما عدا جهةً واحدةً، وهي: من أتى إلى جدة من بلدة (سواكن) بالسودان، فهذا يمكن أن يصل جدة من غير أن يُحاذي ميقاتًا، ونصَّ الفقهاء على أن من أتى يريد العمرة من أهل (سواكن) بالسودان، فله أن يُحرم من جدة، هؤلاء هم المستثنَون فقط؛ لكونهم يصلون إلى جدة من غير محاذاة أي ميقاتٍ، أما من عداهم فلا بد أن يُحاذوا ميقاتًا من المواقيت، ويلزمهم حينئذٍ أن يُحرموا عندما يحاذوا الميقات قبل وصولهم إلى جدة.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

أنواع الأنساك

لعلي أنتقل إلى مسألةٍ كبرى أيضًا من مسائل الحج: وهي ما يتعلق بأنواع الأنساك، وهي -كما لا يخفى على شريف علمكم- التمتع، والقِرَان، والإفراد، فلو بينتم لنا بإيجازٍ شيخنا المراد من كل نُسُكٍ، ما المقصود به، وما هو أفضل هذه الأنساك؟

الشيخ: أنساك الحج ثلاثةٌ: التمتع، والإفراد، والقِران.

  • والتمتع معناه: أن يُحرِم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يُحرم بالحج من عامه، هذا هو التمتع، وسمي بذلك؛ لأن الحاج يتمتع بفعل محظورات الإحرام ما بين العمرة إلى الحج.
  • أما بالنسبة للقِرَان فمعناه: أن يُحرم بالحج والعمرة معًا، أو يُحرم بالعمرة ثم يُدخل عليها الحج قبل الشروع في طوافها.
  • وأما الإفراد: فهو أن يُحرم بالحج فقط.

وأفضل هذه الأنساك: هو التمتع، ثم القران، ثم الإفراد.

والتمتع بعض العلماء ذهب إلى وجوبه، وأن الإفراد والقران قد نُسخا إلا في حق من لم يستطع التمتع فله القران خاصةً، وهذا القول مرويٌّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وانتصر له الإمام ابن القيم، رحمة الله تعالى على الجميع، ونظَّر لذلك ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"، وتوسَّع في هذه المسألة، لكن الأقرب -والله أعلم- أن الأمر بالتمتع خاصٌّ بمن لم يَسُقِ الهدي من الصحابة فقط، كما قرر ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله، وذكر أن هذا القول هو الذي يدل عليه مجموع النصوص، واستُدل لهذا القول بما جاء في "صحيح مسلمٍ" عن أبي ذرٍّ قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمدٍ خاصةً [11]، فإن النبي أمرهم بالتمتع، يعني أمر من لم يسُق الهدي من الصحابة بالتمتع لأجل إبطال معتقدٍ كان عند أهل الجاهلية: وهو أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأمرهم النبي أمر إلزام بالتمتع؛ من أجل إبطال ذلك المعتقد [12].

وعلى هذا نقول: إن الحاج -غير الصحابة- مخيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، كما هو قول جماهير الفقهاء، ومما يدل لهذا: ما جاء في "صحيح مسلمٍ" عن أبي هريرة أن النبي قال عن عيسى ابن مريم عندما ينزل في آخر الزمان قُبيل قيام الساعة: والذي نفسي بيده ليُهِلَّن ابن مريم بفَجِّ الرَّوْحاءِ حاجًّا أو معتمرَا أو بهما معًا [13]، فذكر الأنساك الثلاثة، وهذا يدل على عدم نسخ الإفراد والقران، ويدل لذلك قول عائشة رضي الله عنها كما في "الصحيحين": "خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع، فمنَّا من أهَلَّ بعمرةٍ، ومنا من أهل بحجٍّ وعمرةٍ، ومنا من أهل بحجٍّ" [14]؛ فدل ذلك على أن الإفراد والقران ليسا منسوخين، وهذا هو الذي عليه أكثر علماء الأمة.

وعلى ذلك نقول: إن الحاج مخيَّرٌ بين هذه الأنساك الثلاثة، إلا في حق من ساق الهدي، فهذا يتعين في حقه القران؛ لأن النبي كان قارنًا، قال الإمام أحمد: "لا أشك أن النبي كان قارنًا"، أما من لم يسق الهدي -وهذا هو الذي عليه حال عامة الحجاج اليوم- فهو مخيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، والأفضل هو التمتع؛ لقول النبي : لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي، ولحللت مع الناس حين حَلُّوا [15]، يعني لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لكنت متمتعًا، ولم أكن قارنًا، فهذا هو النُّسُك الذي تمنَّاه النبي ؛ وعلى هذا نقول: إن أفضل الأنساك: هو التمتع، ثم القران؛ لكونه يأتي بعمرةٍ وحجٍّ، ثم الإفراد، فيكون ترتيبها في الأفضلية على هذا الترتيب: الأفضل: التمتع، ثم القران، ثم الإفراد.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

حكم من أحرم بالحج وأطلق

من المسائل التي -الحقيقةَ- يكثر السؤال عنها، وتقع لبعض الناس: يقول: أنا أتيت من الميقات، ونويت أن أحج، فيُسأل ما النُّسُك الذي أردت؟ فيقول: لا أدري، أنا نويت الحج فقط، ولا أدري ما هي الأنساك الثلاثة، فيكون حاله كمن نوى الحج وأطلق، فما حكم من كان مثل هذه الحال؟

الشيخ: من كان في مثل هذه الحال -يعني أحرم وأطلق- يقول الفقهاء: إن هذا يصح، ويصرفه لما أراد من التمتع، أو الإفراد، أو القران؛ فمن أتى مثلًا للميقات وقال: لبيك اللهم لبيك، ثم سُئل: يا فلان، بم أحرمت؟ هل أنت متمتعٌ أو قارنٌ أو مُفرِدٌ؟ قال: لا أدري، أنا لبيت، قلت: لبيك اللهم لبيك، ولم أنوِ لا تمتعًا ولا إفرادًا ولا قِرَانًا.

فالفقهاء يقولون: إن هذا يصح، ويَصرِفه لما شاء، فيمكن أن يصرفه للإفراد أو للتمتع أو للقران، وهذه أيضًا من الخصائص التي يتميز بها الحج، بل ذهب العلماء إلى ما هو أبعد من ذلك، قالوا: إنه لو قال: أحرمت بما أحرم به فلانٌ؛ فإن هذا يصح، ويدل لذلك ما جاء في "الصحيحين" عن أنسٍ قال: قَدِم عليٌّ على النبي من اليمن، فقيل له: بم أهللت؟ قال: بما أهَلَّ به النبي ، فقال النبي : لولا أن معي الهدي؛ لأحللت [16]، والحديث في "الصحيحين"، وقد أقرَّه النبي على هذا، وهذا من فقه عليٍّ وجودة رأيه؛ فدل هذا على أن من أحرم وأطلق؛ صح ذلك، سواءٌ قال: لبيك حجًّا، أو لبيك عمرةً، وأطلق ولم ينوِ إفرادًا ولا تمتعًا ولا قرانًا، أو أنه قال: لبيك بما لبَّى به فلانٌ من الناس؛ كأن يأتي مثلًا إنسانٌ عند الميقات، ويثق في أحد العلماء، ويقول: لبيك بما لبَّى به العالم الفلاني، فهذا يصح؛ لأن عليًّا فعل ذلك، وقال: أهللت بما أهَلَّ به النبي ، وأقرَّه النبي على ذلك.

كيفية الإهلال بالنُّسك

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح، وهذا يقودنا في الحقيقة إلى مسألةٍ مرتبطةٍ بما سبق: وهي كيفية الإهلال بالنُّسك، كيف يكون الإهلال بالنُّسك؟

الشيخ: الإهلال بالنُّسك، السنة عند محاذاة الميقات: أن يقول إذا كان يريد التمتع: لبيك عمرةً، وإذا كان يريد الإفراد؛ يقول: لبيك حجًّا، وإذا كان يريد القران؛ يقول: لبيك عمرةً وحجًّا، ومن الفقهاء من ذكر صيغًا أخرى بأن يقول: اللهم إني أريد النُّسك الفلاني، فيَسِّره لي وتقبله مني، لكن هذا ليس عليه دليلٌ، وإنما ظاهر السنة: أنه يقول ما ذكرنا؛ إن كان يريد التمتع؛ يقول: لبيك عمرةً، وإن كان يريد الإفراد؛ يقول: لبيك حجًّا، وإن كان يريد القران؛ يقول: لبيك عمرةً وحجًّا، وهذا كافٍ في ذلك.

والسنة: أن يكون إهلاله عندما تستوي به الراحلة؛ فإن النبي إنما أهَلَّ بعدما استوت به راحلته، والراحلة في الوقت الحاضر: السيارة، فإذا ركب السيارة واستقبل القبلة؛ فإنه يُهِلُّ، والسنة أيضًا قبل الإهلال: أن يُسبِّح ويحمد الله تعالى ويُكبِّر، يعني يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، قبل أن يُهِلَّ، وهذه الفائدة قد لا تجدها في كتب الفقه، وإنما هي في كتب الحديث؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله بعدما ذكرها: "هذا الحكم وهو استحباب التسبيح وما ذُكر معه قبل الإهلال، قَلَّ من تَعرَّض لذكره مع ثبوته"، قال البخاري في "صحيحه": "باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة"، ثم ساق البخاري بسنده من حديث أنسٍ قال: صلى النبي الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فبات بها، فلما أصبح؛ ركب راحلته فجعل يُهلِّل ويُسبِّح، فلما علا على البيداء لبَّى بهما جميعًا [17]؛ فعلى هذا: ينبغي قبل أن يُهِلَّ بالنُّسك أن يأتي بالتسبيح والتحميد والتكبير، يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثم يقول: لبيك عمرةً إن كان يريد التمتع، أو لبيك حجًّا إن كان يريد الإفراد، أو لبيك عمرةً وحجًّا إن كان يريد القِرَان.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم صلاة ركعتين قبل الإحرام

شيخنا، من المسائل التي يُسأل عنها أيضًا: هل للإحرام ركعتان تختصان به؟

الشيخ: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء، فالجمهور على أنه يُستحب أن يُصلِّي ركعتين للإحرام، وذهب بعض المحققين من أهل العلم إلى أنه ليس للإحرام ركعتان تخصهما، وإنما السنة أن يكون إحرامه عقب صلاةٍ، وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم وشيخنا عبدالعزيز بن بازٍ، رحمة الله تعالى على الجميع؛ لأن النبي أحرم عقب فريضةٍ؛ إما بعد صلاة الفجر أو الظهر، على خلافٍ في هذا، وحينئذٍ نقول: إن كان وقت الفريضة قريبًا انتظر حتى يُصلِّي الفريضة ثم يُحرِم، فهذه هي السنة، أما إذا كان وقت الفريضة ليس قريبًا؛ فينبغي أن تأتي سنةً من السنن المشروعة، فإن كنت مثلًا في وقت الضحى؛ تأتي بركعتي الضحى، أو مثلًا تأتي بتحية المسجد، أو تأتي بصلاة الوتر، المهم أن تأتي بسُنةٍ من السنن المشروعة، ولو أن تتوضأ وتأتي بركعتي الوضوء ثم تُحرم بعد ذلك.

على هذا نقول: إن القول الراجح عند المحققين: أنك تأتي بالإحرام عقب صلاةٍ، لكن ليس للإحرام ركعتان تخصانه، لكن تأتي به عقب صلاةٍ؛ إن كان وقت الفريضة قريبًا فتأتي به بعد الفريضة، وإن كان بعيدًا، فتأتي به بعد سُنةٍ من السنن المشروعية.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا الإيضاح.

حكم الاشتراط في الإحرام

أيضًا من المسائل المتعلقة بهذا: حكم الاشتراط في الإحرام؟

الشيخ: الاشتراط عند الإحرام اختلف العلماء في حكمه، ومعنى الاشتراط: أنه عندما يقول: لبيك عمرةً، ولبيك حجًّا؛ يُضيف: وإن حبَسَني حابسٌ؛ فمحلِّي حيث حبستني، فهل هذا مشروعٌ؟

  • من العلماء من قال: إنه لا يُشرع مطلقًا؛ لأن النبي لم يشترط.
  • ومنهم من قال: إنه مشروعٌ مطلقًا؛ لأن النبي أمر ضُبَاعة بنت الزبير رضي الله عنها بالاشتراط [18].
  • ومنهم من قال: إنه مشروعٌ في حق من احتاج إليه، وليس بمشروعٍ في حق من لم يحتج إليه، وهذا هو القول الراجح، فمن احتاج إليه؛ لكونه مثلًا مريضًا، أو يخشى من المرض، أو يخشى من عائقٍ يُعيقه؛ فيُستحب في حقه الاشتراط؛ لأن النبي أمر به ضُبَاعة بنت الزبير رضي الله عنها لما كانت مريضةً وأرادت الحج، وقالت: لا أجدني إلا وَجِعةً، فقال لها النبي : حُجِّي واشترطي، وقولي: اللهم محلِّي حيث حبستني، فإن لكِ على ربكِ ما استثنيت.
    أما كونه لا يُشرع في حق من لم يحتجْ إليه؛ فلأن النبي لم يشترط، ولم يأمر به أحدًا من الصحابة غير هذه الصحابية، وقد حج معه قرابة مئة ألفٍ؛ ولهذا لما سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن الاشتراط؛ قال: "أليس حَسْبكم سنة رسول الله ؟!" [19].

وعلى هذا نقول: القول الراجح: أن الاشتراط سُنةٌ في حق من احتاج إليه، أما من لم يحتج إليه؛ فليس بسنةٍ في حقه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذا البيان، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ​​​​​​​، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 1515.
^2 رواه النسائي: 291.
^3 رواه مسلم: 1218.
^4 رواه البخاري: 1889.
^5 رواه البخاري: 1530، ومسلم: 1181.
^6 رواه البخاري: 1531.
^7, ^8, ^9 سبق تخريجه.
^10 رواه البخاري: 316، ومسلم: 1211.
^11 رواه مسلم: 1224.
^12 رواه البخاري: 1564، ومسلم: 1240.
^13 رواه مسلم: 1252.
^14 رواه البخاري: 4408، ومسلم: 1211.
^15 رواه البخاري: 7229، ومسلم: 1211.
^16 رواه البخاري: 1558، ومسلم: 1250.
^17 رواه البخاري: 1714، ومسلم: 690.
^18 رواه البخاري: 5089، ومسلم: 1207، والنسائي: 2766.
^19 رواه البخاري: 1810، ومسلم: 1230.
مواد ذات صلة
zh