logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(46) برنامج مجالس الفقه- شروط وجوب الحج

(46) برنامج مجالس الفقه- شروط وجوب الحج

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إلى معرفتها المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس في الحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

شروط وجوب الحج

شيخنا، في الحلقة الماضية كنا قد شرعنا في الحديث عن بعض المسائل والأحكام المتعلقة بالحج والعمرة، ولعلنا في هذه الحلقة نستكمل بقية المسائل إن شاء الله تعالى.

من المسائل المهمة والتي يذكرها الفقهاء في الحج: ما يتعلق بشروط وجوب الحج، متى يكون الحج واجبًا على المسلم والمسلمة؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالحج يكون واجبًا على المسلم إذا تحققت شروط وجوبه، وشروط وجوبه يُقسِّمها الفقهاء إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: شروط الوجوب والصحة، وهما شرطان: الإسلام، والعقل.
  • والقسم الثاني..

المقدم: أحسن الله إليكم، قبل ذلك شروط الوجوب والصحة، يعني هذه الشروط إذا توفرت؛ أصبح واجبًا، وأصبح الحج صحيحًا؟

الشيخ: نعم، سأُبيِّن هذا بعد قليلٍ.

  • والقسم الثاني: شروط الوجوب والإجزاء دون الصحة، وهما شرطان: البلوغ، وكمال الحرية.
  • والقسم الثالث: شرط الوجوب فقط: وهو الاستطاعة.

أما شروط الوجوب والصحة -وهما: الإسلام، والعقل- معنى كونهما شروط وجوبٍ وصحةٍ: أنه لا يجب الحج على من لم يتحقق فيه هذا الشرط، ولا يصح منه لو حج، وهما الإسلام، والعقل، فكونه غير مسلمٍ لا يجب عليه الحج؛ لأن الكافر لا تصح منه عبادةٌ؛ لقول الله ​​​​​​​: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، وإذا لم تُقبل منهم نفقاتهم؛ لم يُقبل منهم حجهم ولا صيامهم ولا صلاتهم، لكن مع ذلك يُعاقب الكافر على ترك الحج؛ لقول الله عن المجرمين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43]، إلى قوله: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:46]، فهذا يدل على أنهم كفارٌ، ومع ذلك عُوقبوا على ترك الصلاة، وإذا عُوقبوا على ترك الصلاة؛ فيُعاقبون أيضًا على ترك الحج والصيام والزكاة وسائر العبادات.

وأما شرط العقل، فأيضًا الحج لا يصح من المجنون، ولا يجب عليه أصلًا، لا يجب على المجنون ولا يصح منه لو حج؛ لأن المجنون مرفوعٌ عنه القلم لقول النبي : رُفع القلم عن ثلاثةٍ.. وذكر منهم: المجنون حتى يُفيق [1]، ولأن المجنون لا يعقل النية، والحج عبادةٌ تحتاج إلى قصدٍ ونيةٍ.

وأما القسم الثاني: وهو شروط الوجوب والإجزاء دون الصحة، فهما شرطان: البلوغ، وكمال الحرية، ومعنى كونهما شرطين للوجوب والإجزاء: أنه لا يجب الحج على غير البالغ، ولا على الرقيق، ولا يُجزئهما عن حجة الإسلام، لكن لو حجَّا؛ صح منهم الحج.

أما كون الحج لا يجب على الصبي؛ فلأنه غير مكلَّفٍ، وقد رُفع عنه القلم، وأما الرقيق: فلا يجب عليه الحج؛ لأنه لا مال له، وماله لسيده، والحج إنما يجب على المستطيع، والرق قد انقرض الآن في العالم، وأصبح ممنوعًا، بل مجرَّمًا، في جميع دول العالم، وأما كونه لا يُجزئ عنهما -لو حجّا- عن حجة الإسلام، فلحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي قال: أيما صبيٍّ حج ثم بلغ؛ فعليه أن يحج حجةً أخرى، وأيما عبدٍ حج ثم أُعتق؛ فعليه حجةٌ أخرى [2]، وهذا الحديث في سنده مقالٌ، لكن عمل به كثيرٌ من الصحابة ؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله بعدما ذكر هذا الحديث: "المرسل إذا عَمل به الصحابة حجةٌ وفاقًا، وهذا مجمعٌ عليه؛ ولأنه يصح منه الحج؛ لأنه أهلٌ للعبادات، ولا يُجزئه لأن فعله قبل أن يصير من أهل وجوبه".

لكن في وقتنا الحاضر أقول: الأفضل ألا يُحَج بالصبي؛ لأن الحج بالصبي يُلحِق الحرج بالصبي وبولِيِّه وبالحُجاج، والآن عدد المسلمين يقارب مليارًا وثمانمئة مليونٍ، يعني من يحج منهم أقل من (1%)، فينبغي أن تُتاح الفرصة للبالغين الكبار الذين لم يحجوا حج الفريضة، وأما الصبي فمادام أن الحج غير واجبٍ عليه؛ فالأحسن ألا يُحَج بالصبي؛ لما قد يلحقه من الحرج به، والحرج أيضًا بوليه، والحرج أيضًا بالحجاج.

المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- قبل القسم الثالث، إذا قلنا: إنه يصح منهما، المقصود: أنه يصح على سبيل النفل؟

الشيخ: يصح على سبيل النفل نعم؛ ولهذا لما رَفعت امرأةٌ صبيها للنبي فقالت: يا رسول الله، ألهذا حجٌّ؟ قال: نعم، ولك أجرٌ [3]، رواه مسلمٌ، وقوله : نعم، دليلٌ على أنه يصح منه الحج حتى لو كان غير مميِّزٍ، حتى لو كان عمره سنةً، لكن سبق أن قلنا في حلقةٍ سابقةٍ: إن هذا مما تختص به عبادة الحج، يعني العبادات الأخرى لا تصح من غير المميِّز، الصوم مثلًا لا يصح من غير مميِّزٍ، الصلاة لا تصح من غير مميِّزٍ، لكن الحج يصح، وهذه من الخصائص التي اختص بها الحج.

القسم الثالث: شرط الوجوب فقط: وهو الاستطاعة، وهذا الشرط قد ورد منصوصًا عليه في القرآن الكريم في قول الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فذكر الله تعالى هذا الشرط، فغير المستطيع لا يجب عليه الحج.

المقدم: أحسن الله إليكم، لعلي -إن أذنتم- أقف مع شرط الاستطاعة بعض الوقفات؛ فهناك مسائل متعلقةٌ به ومهمةٌ في الحقيقة.

لماذا خُص الحج بذكر شرط الاستطاعة؟

شيخنا، الاستطاعة هي في الحقيقة شرطٌ لوجوب جميع العبادات، فلماذا خصَّ هذا الشرط بالذكر في الحج في قوله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].

الشيخ: خصَّ الحج بالذكر مع أن هذا الشرط لجميع العبادات، فجميع العبادات لا تجب إذا كان المسلم غير مستطيعٍ لها، لكن الله ذكر هذا الشرط في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ لأن الحاج يلحقه مشقةٌ كبيرةٌ ونفقاتٌ وتعبٌ، خاصةً في الأزمنة السابقة، الأزمنة السابقة كان كثيرٌ من الحجاج لا يصلون إلى البيت الحرام إلا بعد عناءٍ ومشقةٍ، وعندما نقرأ في كتب رحلات الحج؛ نجد العجب العجاب! يبقون شهورًا، بل ربما تصل المدة إلى سنةٍ أو أكثر حتى يصلوا إلى البيت الحرام، مع ما يحتفُّ بتلك الرحلة من الأخطار، فيصحب الحج مشقةٌ كبيرةٌ ونفقاتٌ وتعبٌ في الغالب؛ فنبَّه على هذا الشرط، وأن غير المستطيع لا يجب عليه الحج، فهذا من باب التوضيح، ومن باب التأكيد على أن وجوب الحج إنما هو على المستطيع، وإلا فإن هذا شرطٌ في جميع العبادات، جميع العبادات لا تجب إلا على المستطيع.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المراد بالاستطاعة في وقتنا الحاضر

أيضًا شيخنا مما يتصل بهذا الشرط، شرط الاستطاعة: ما المقصود بالاستطاعة في وقتنا الحاضر؟

الشيخ: أولًا الاستطاعة في الأزمنة السابقة كان الفقهاء يقولون: هي ملك الزاد والراحلة التي تصلح لمثله، وقد جاء تفسير ذلك في حديثٍ مرفوعٍ عن النبي ، جاء في حديث أنسٍ  أن النبي قال في قول الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، أنه قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة [4]، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني والحاكم، لكنه لا يصح مرفوعًا إلى النبي ؛ ولهذا قال ابن المنذر: "لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة، وإنما هو مأثورٌ عن بعض الصحابة، والعمل عليه عند أهل العلم".

والزاد الذي تُشترط القدرة عليه: هو ما يَحتاج إليه الحاج في ذهابه ورجوعه من مأكلٍ ومشربٍ وكسوةٍ.

وأما الراحلة: فيُشترط أن تكون صالحةً لمثله؛ إما بشراءٍ أو باستئجارٍ في ذهابه ورجوعه.

في الوقت الحاضر ما المقصود بالاستطاعة؟

أصبح الحج الآن عن طريق ما يسمى بحملات الحج أو شركات الحج؛ فعلى هذا يكون المقصود بالاستطاعة في الوقت الحاضر: القدرة على تحصيل أجرة الحج مع حملة حجٍّ أو شركة حجٍّ أو مؤسسةٍ من مؤسسات الحج، فإذا استطاع المسلم تحصيل أجرةٍ لكي يحج مع حملةٍ من حملات الحج؛ فإنه يكون بهذا قادرًا على الحج.

مثال ذلك: لو كانت أجرة الحج مع حملة أو شركة حجٍّ مثلًا سبعة آلاف ريالٍ، وكان المسلم يملك هذا المبلغ فائضًا عن حوائجه الأصلية؛ فمعنى ذلك: أنه قد وجب عليه الحج، إذا كان عنده قدرةٌ بدنيةٌ؛ فيكون قد وجب عليه الحج، وإذا كان ليس عنده قدرةٌ بدنيةٌ، وإنما قدرةٌ ماليةٌ، فيجب عليه أن يُنِيب من يحج عنه.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.

الاستئذان من الدائن لمن أراد الحج

شيخنا، أيضًا من المسائل المتعلقة بالحج: إذا كان المسلم مدينًا (عليه دين) فهل يجب عليه أن يستأذن الدائن إذا أراد أن يحج؟

الشيخ: أولًا ما المقصود بالدين؟ هل المقصود به: الدين المؤجل، أو الدين الحالُّ؟ أما الدين المؤجل: فهذا لا أثر له على الحج؛ لأنه لم يَحِلَّ هذا الدين، ولم يُطالَب به الإنسان، لكن إذا كان الدين حالًّا، إذا كان على الإنسان دينٌ حالٌّ؛ فيلزمه سداده قبل أن يحج؛ لأن قضاء الدين مقدمٌ على وجوب الحج، والمدين ليس له الحق في التصرف فيما فضل عن حوائجه الأصلية في هذه الأموال؛ لأنها في الحقيقة مستحقةٌ للدائنين، فكأنه محجورٌ عليه فيها، حتى لو لم يكن ذلك بحكم الحاكم، ولأنه لو مات؛ فإن ذمته لا تبرأ من الدين، بينما لو مات وهو لم يحج فذمته بريئةٌ؛ لأنه غير مستطيعٍ؛ وعلى ذلك: فعندما يتعارض سداد الدين المستحق الحال والحج؛ فالدين مقدمٌ على الحج، نقول: ابدأ بسداد الدين ولو لم تحج؛ لأن الحج يجب على المستطيع وأنت غير مستطيعٍ، بينما الدين واجبٌ عليك؛ فعلى هذا: من عليه دينٌ حالٌّ نقول: ابدأ بسداد الدين، إن تيسر بعد أن تُسدِّد الدين أن تحج؛ فالحمد لله، وإن لم يتيسر؛ فأنت معذورٌ، والحج غير واجبٍ عليك، لكن بعض الناس تتعلَّق نفسه بالحج وعليه دينٌ، ويقول: أريد أن أُبادر، ولا أدري متى يبغتني الأجل، وربما يكون الدين كبيرًا فما الحل؟

نقول: الحل في هذا: هو أن تذهب وتستأذن من الدائن، فإن أذن لك؛ فلا بأس، وتبرأ ذمتك بذلك؛ لأنك لو حججت وعليك دينٌ مستحقٌّ؛ فكأنك في الحقيقة تحج بمال غيرك؛ لأن هذا المال مستحقٌّ للدائن، لكن لو أنك ذهبت للدائن واستأذنت منه؛ فحينئذٍ تبرأ الذمة؛ ولذلك من كانت نفسه تتعلق بالحج وعليه دينٌ؛ فينبغي له أن يستأذن من الدائن.

المقدم: لكن أحسن الله إليكم، في مثل هذه الصورة لو قُدِّر أنه لم يستأذن؛ فما الأثر المترتب على ذلك؟ عدم صحة حجه، أو استحقاق الإثم بهذا الفعل أو ماذا؟

الشيخ: لو لم يستأذن، وحجَّ وعليه دينٌ مستحقٌ؛ فحجه صحيحٌ؛ لأنه حجٌّ مكتمل الأركان والشروط والواجبات، لكنه يأثم بمماطلته في سداد الدين؛ لقول النبي : مَطْل الغني ظلمٌ [5]، فيُعتبر قد ماطل في سداد دينٍ كان قادرًا على أن يُسدِّده بأجرة الحج، لكن من حيث الصحة: حجه صحيحٌ، وتبرأ به الذمة، لكنه يأثم بسبب مماطلته للدائن في سداد دينه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا الإيضاح.

ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.

هل يلزم الزوج أن يتكفل بحج زوجته؟

أيضًا شيخنا من المسائل المتعلقة بالحج: هل يَلزم الزوج أن يتكفَّل بحج زوجته؟

الشيخ: لا يلزم الزوج أن يحج بزوجته، لا يلزمه أن يحج بها كمَحرمٍ، ولا يلزمه أيضًا أن يُعطيها أجرة الحج، وإنما هذا أمرٌ واجبٌ عليها، إن تبرع بذلك؛ فهذا خيرٌ، ومأجورٌ على ذلك، وهذا من حسن العشرة، لكن هذا من حيث الحكم الشرعي: لا يجب عليه؛ لأننا لو أوجبنا عليه أن يحج بزوجته؛ لأوجبنا عليه الحج في العمر أكثر من مرةٍ، وذلك خلاف الإجماع، وكذلك أيضًا لا يلزم المسلم أن يحج بابنته أو بأخته أو موليته عمومًا، لا يلزمه ذلك، ولو أبى؛ فإنه لا يأثم، لكن الأفضل والأكمل أن يحج بهن، يحج بهؤلاء النسوة، فهذا من الإحسان إليهن، وهو على خيرٌ إذا فعل ذلك، لكنه لو أنه تمسك وقال: أريد الحكم الشرعي في ذلك، فنقول: إن ذلك غير واجبٍ عليه شرعًا، وإنما مندوبٌ في حقه.

المقدم: إذنْ -أحسن الله إليكم- هي ليست من صور النفقات الواجبة على الزوج تجاه زوجته؟

الشيخ: نعم، ليست من صور النفقات الواجبة؛ لأن النفقات الواجبة إنما تجب بعقد الزواج، والحج ليس له علاقةٌ بهذا الأمر، ولو أننا أوجبنا عليه الحج؛ لأوجبنا عليه الحج في العمر أكثر من مرةٍ على خلاف الإجماع.

حكم الحج لمن أتيحت له فرصة مع الحملات الخيرية

المقدم: أحسن الله إليكم، أيضًا من المسائل المتعلقة بهذا الباب: يوجد -ولله الحمد- في هذه الأزمنة بعض حملات الحج الخيرية التي تُساعد الناس على أداء فريضة الحج، وتحج بالناس مجانًا، فمن تيسَّر له الدخول في مثل هذه الحملات الخيرية، فهل نقول: إن الحج واجبٌ عليك مادام أُتيحت لك الفرصة ولو بالحج مجانًا من خلال هذه الجمعيات التي تهب لك نفقات الحج؟

الشيخ: لا يجب عليه الحج في هذه الحالة عند أكثر أهل العلم، حتى لو بُذِل له أجرة الحج مجانًا، ولو كان من مؤسساتٍ خيريةٍ؛ لأن هذه الهبة قد يلحق بسببها المِنَّة، ولا يلزم الإنسان أن يكون تحت منة غيره، لكنه لو قبل هذه المنة، سواءٌ أكانت من فردٍ أو كانت من مؤسسةٍ، وحج؛ صحَّ حجه، وأجزأ ذلك عن حجة الإسلام، وهذا يُبيِّن لنا أن الإسلام يبني معاني العزة في المسلم، لا يجب عليه أن يحج بالمال الذي قد وُهِب له؛ لأن النفوس قد تتغير، هذا الذي قد وهب لك وبذل لك هذا المال، ربما يتغير يومًا من الأيام عليك ويمتنُّ عليك بهذا المال، لكن يَرِد السؤال: ما هو الأفضل؟ هل الأفضل أن يحج الإنسان بهذا المال الذي قد وُهب له؟

نقول: إذا كان متيقنًا من أن هذا الإنسان لن يمتنَّ عليه؛ كأبيه مثلًا، أو مؤسسةٍ خيريةٍ يَعرف أنه لن تَرِد المنة عن طريقهم؛ فالأولى أن يقبل المال ويحج؛ لأن الحج عملٌ صالحٌ وفيه أجرٌ وثوابٌ، وقد يكون حجه مبرورًا، والنبي يقول: الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة [6].

أما إذا كان يخشى من أن باذل المال قد يمتنُّ عليه بهذا المال؛ فالأولى ألا يقبله، وأن ينتظر حتى يُيسِّر الله له مالًا يحج به.

حكم الاقتراض لأجل الحج

المقدم: أحسن الله إليكم، أيضًا شيخنا مما يذكر في هذا الباب: الاقتراض لأجل الحج، فما توجيهكم في هذا؟ هل يُشرع أن يقترض المسلم لأجل أن يحج؟

الشيخ: هذا فيه تفصيلٌ؛ إذا كان ليس للإنسان مصدر دخلٍ؛ فينبغي له ألا يقترض لأجل أن يحج؛ لأن الحج غير واجبٍ عليه، فالحج إنما يجب على المستطيع، فكيف يُحمِّل ذمته ديونًا لأمرٍ غير واجبٍ عليه؟! لكن لو كان له دخلٌ مستمرٌّ، ويغلب على ظنه أنه سيسدد هذا القرض من هذا الدخل، كأن يكون عنده راتبٌ، أو دخلٌ شهريٌّ، أو إيجارٌ، أو نحو ذلك، ورتب نفسه على أنه سيقترض، وأنه بعد مدةٍ سيسدد هذا القرض من هذا الدخل؛ فلا بأس حينئذٍ، وأيضًا تجد حتى التجار الآن والشركات التجارية يستدينون؛ لأجل القيام بأعمالهم التجارية، لكن هذا في حق من له دخلٌ دوريٌّ ومستمرٌّ، لكن هذا الدخل لم يتيسر وقت الحج، فاقترض على أمل أن يسدد هذا القرض بعدما يصل إليه هذا الدخل؛ فهذا لا بأس به في هذه الحال؛ لأنه قد غلب على ظنه أنه سيسدد هذا القرض مما يأتيه من المال، وغلب على ظنه أنه سيبرئ ذمته بسداد هذا القرض؛ فيجمع بين الأمرين: بين كونه حصَّل عملًا صالحًا، وهو الحج، وأيضًا أبرأ ذمته بسداد هذا القرض مما يأتيه من خلال الدخل الدوري.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا الإيضاح.

هل يسقط الحج عن المرأة إذا لم تجد محرمًا؟

من المسائل المتعلقة بالاستطاعة، أو وجوب الحج في حق المرأة: إذا لم تجد المرأة محرمًا؛ فهل يسقط عنها وجوب الحج في هذه الحال، أم يبقى الحج واجبًا في حقها إذا تكاملت الشروط الأخرى؟

الشيخ: أولًا اشتراط المحرم للمرأة بعض الفقهاء يعتبره شرطًا سادسًا مستقلًّا، وبعضهم يُدخله في شرط الاستطاعة، وهذا هو الأقرب: أنه يدخل في شرط الاستطاعة، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، فلا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجدت محرمًا، والمحرم تعريفه أو ضابطه: "هو زوج المرأة، ومن تحرم عليه على التأبيد بنَسَبٍ أو سببٍ مباحٍ"؛ وعلى هذا: فمحارم المرأة -حتى من الرضاع- يجوز أن تحج معهم، فإن الرضاع يقتضي المحرمية، لكن إذا لم تجد المرأة محرمًا؛ فهل يجب عليها الحج، أو لا يجب؟ وجدت رفقةً مأمونةً، لكنها لم تجد المحرم، اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

  • القول الأول: أن المرأة إذا لم تجد محرمًا؛ لا يجب عليها الحج حتى لو وجدت رفقةً مأمونةً، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة.
  • والقول الثاني: أن المرأة إذا لم تجد محرمًا؛ فيجب عليها الحج إذا وجدت الرفقة المأمونة، وهذا مذهب المالكية والشافعية.

القائلون بالوجوب استدلوا بعموم الأدلة الدالة على عدم جواز سفر المرأة بغير محرمٍ؛ ومنها: قول النبي : لا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ، ولا تسافرن امرأةٌ إلا ومعها محرمٌ، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، إني قد اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجَّةً، فقال النبي : اذهب فحُجَّ مع امرأتك [7]، رواه البخاري ومسلمٌ.

ووجه الدلالة: أن هذا الرجل قد أصبح الجهاد في حقه فرض عينٍ؛ لأن الإمام عينه؛ لقوله: "اكتُتبت"، ومع ذلك أمره النبي بترك الجهاد الذي قد أصبح في حقه فرض عينٍ لأجل أن يكون محرمًا لامرأته؛ فدل هذا على أنه لا يجب الحج على المرأة إلا مع وجود محرمها، وإلا لو كان وجود المحرم ليس واجبًا؛ لما أمره بترك الجهاد الذي هو واجبٌ في حقه.

وأما القائلون بأن المرأة يجب عليها أن تحج ولو لم تجد محرمًا إذا وجدت الرفقة المأمونة، وهم المالكية والشافعية، فاستدلوا بما جاء في "صحيح البخاري" أن أزواج النبي حججن بعد موته، ولم يكن معهن محرمٌ، وإنما كان القائم عليهن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوفٍ وكان هذا في خلافة عمر، رضي الله عنهم [8]، ومحل الشاهد: أنها تسير من الحِيرة بالعراق إلى مكة، وهي مسافة سفرٍ بدون محرمٍ.

والأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: هو القول الأول، وهو أن المرأة إذا لم تجد محرمًا؛ فلا يجب عليها الحج؛ لقوة أدلته.

أما حج نساء النبي : فغاية ما يدل عليه: هو جواز الحج مع الرفقة المأمونة، لكنه لا يدل على الوجوب.

وأما حديث عديٍّ: فهذا إخبارٌ عما سيقع، ولا يلزم منه الجواز؛ فإن النبي أخبر عن أمورٍ كثيرةٍ ستقع، بعضها جائزٌ وبعضها محرمٌ؛ فلا يلزم من الإخبار الجواز.

لكن إذا قلنا: إنه لا يجب، فإذا أرادت المرأة أن تحج مع رفقةٍ مأمونةٍ، أرادت أن تحج مع عصبةٍ من النساء برفقةٍ مأمونةٍ بدون محرمٍ، فهل هذا يجوز، وهل تأثم بذلك؟ هذه مسألةٌ أخرى متفرعةٌ من المسألة السابقة، والقولان فيها كالقولين في المسألة السابقة، فأصحاب القول الأول يقولون: إنها تأثم، وأصحاب القول الثاني يقولون: إنها لا تأثم.

والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن المرأة إذا وجدت رفقةً مأمونةً وحجت؛ أنها لا تأثم، وهذا اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وجمعٍ من المحققين من أهل العلم؛ لأن المقصود من المَحرم هو حفظ وصيانة هذه المرأة، وأمنها على نفسها وعِرضها ومالها، فإذا كان ذلك المقصود يتحقق مع الرفقة المأمونة؛ فإنها لا تأثم بالإتيان بتلك العبادة.

وعلى هذا: فالقول الراجح في هذه المسألة: أن المرأة إذا لم تجد محرمًا؛ لا يجب عليها الحج، لكن لو وجدت رفقةً مأمونةً؛ كأن تجد حملةً من الحملات؛ فإنها لا تأثم بذلك، ومن ذلك مثلًا: كثيرٌ من الخادمات في الوقت الحاضر لا يجدن محارم، ولو ذهبت الخادمة إلى بلدها؛ ففي الغالب لن يتيسر لها الحج، فتريد أن تغتنم وجودها داخل المملكة وتحج مع رفقةٍ مأمونةٍ، فنقول: لا بأس بهذا على القول الراجح، خاصةً أنه يترتب على ذلك عملٌ صالحٌ عظيمٌ قد يكون سببًا لمغفرة الذنوب، والنبي  يقول: والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة [9]، فهذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذه الإجابات الوافيات الشافيات، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: والشكر موصولٌ كذلك لكم -أنتم أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- على إنصاتكم واستماعكم.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه أبو داود: 4399-4403، والترمذي: 1423، وابن ماجه: 2041، وذكره البخاري معلَّقًا: 7/ 45، وقال: حديث حسن غريب.
^2 رواه البيهقي: 8875.
^3 رواه مسلم: 1336.
^4 رواه الحاكم: 1613، والدارقطني: 2426.
^5 رواه البخاري: 2288، ومسلم: 1564.
^6 رواه البخاري: 1773، ومسلم: 1349.
^7 رواه البخاري: 3006، ومسلم: 1341.
^8 رواه البخاري: 1860.))، وهذا في "صحيح البخاري"، فكان كالإجماع من الصحابة  على ذلك.

واستدلوا أيضًا بحديث عدي بن حاتمٍ  أن النبي قال له: إن طالت بكَ حياةٌ؛ لترينَّ الظَّعينة ترتحل من الحِيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله ((رواه البخاري: 3595، ومسلم: 1016.

^9 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
zh