عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين:
شرط الاستطاعة
والصنف الثالث من شروط وجوب الحج: شرط وجوبٍ دون الإجْزاء، وهو: شرط الاستطاعة.
وقد ذكره الله في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
ما الاستطاعة المشروطة لوجوب الحج؟
والاستطاعة المشترطة لوجوب الحج: هي ملك الزاد والراحلة الصالحة لمثله.
وقد روي ذلك في حديثٍ مرفوعٍ إلى النبي : فعن أنس في قول الله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة [1]، أخرجه الدارقطني، والحاكم، لكن هذا الحديث في سنده مقال، ولا يصح مرفوعًا إلى النبي ، وإنـما هو موقوفٌ على بعض الصحابة؛ ولهذا قال ابن المنذر رحمه الله: “لا يثبت الحديث الذي فيه الزاد والراحلة”.
والزاد الذي تشترط القدرة عليه: هو ما يُحتاج إليه في ذهابه ورجوعه، من مأكولٍ ومشروبٍ وكسوة.
وأما الراحلة: فيشترط أن تكون صالحةً لمثله إما بشراءٍ أو كراءٍ لذهابه ورجوعه.
وفي وقتنا الحاضر الذي أصبح فيه الحج عن طريق مؤسسات وشركات الحج والعمرة، يكون المقصود بالاستطاعة: أن يكون قادرًا على الحج مع إحدى شركات الحج والعمرة، صالحةً لمثله، فإذا كانت تكلفة الحج مع شركةٍ أو مؤسسة خمسة آلاف ريال مثلًا، وكان يـملك هذا المبلغ؛ وجب عليه الحج.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: “ويعتبر أن يكون هذا فاضلًا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤنتهم في مضيه ورجوعه؛ لأن النفقة تتعلق بـها حقوق الآدميين، وهم أحوج وحقهم آكد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته [2].
وأن يكون فاضلًا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكنٍ وخادمٍ، وما لا بد منه، وأن يكون فاضلًا عن قضاء دينه، لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية، ويتعلق به حقوق الآدميين، فهو آكد.
قال: وإن حجَّ من تلزمه هذه الحقوق وضيَّعها صحَّ حجه؛ لأنـها متعلقةٌ بذمَّته، فلا تـمنع صحة حجه”.
حكم الحج على من عليه دين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن كان عليه دينٌ لله تعالى أو لآدمي، وقد ملك الزاد والراحلة لـم يجب عليه الحج؛ لأنه وجوب قضاء دينه مقدمٌ على وجوب الحج؛ ولأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية”.
قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: “إذا كان معه مئتا درهم ولـم يحج قط، وعليه دينٌ، فإنه يقضي دينه”.
ويستثنى من ذلك: ما إذا كان الدين مؤجَّلًا، ويغلب على ظنه سداد ذلك الدين إذا حلَّ الأجل، فلا يـمنع هذا الدين وجوب الحج.
إن بعض الناس تكون في ذِمَـمِهم ديونٌ حالَّةٌ، ومع ذلك يقدمون الحج على سداد تلك الديون، وهذا خطأ، فإن المدين ذمَّته مشغولةٌ بسداد الدين، ومن كان عنده مالٌ انقضى به الدين لـم يتمكن من الحج، فهو غير مستطيعٍ للحج، والله تعالى إنـما أوجب الحج على المستطيع، ولو مات هذا الإنسان وفي ذمَّته دينٌ، فإن ذمَّته لا تبرأ من هذا الدين، بينما لو مات على هذه الحال وهو لـم يحج، فإن ذمَّته بريئة؛ لكونه غير مستطيعٍ للحج، والله تعالى إنـما أوجب الحج على المستطيع، فهو أشبه بالفقير الذي ليس عنده مالٌ تجب فيه الزكاة.
من تكفل له شخص بأجرة الحج
ولو كان الإنسان لا يستطيع الحج، لكنه وجد من يتكفَّل له ببذل أجرة الحج، فهل يجب الحج عليه؟
الجواب: لا يجب عليه الحج في قول أكثر العلماء، ولا يصير مستطيعًا الحج بذلك، سواءٌ أكان الباذل قريبًا أم أجنبيًا؛ لأنه لا يلزم الإنسان أن يكون تحت مِنَّة غيره، ومن المعلوم أن هذا المال المبذول لهذا الإنسان للحج به، قد يتبعه مِنَّة، ولكنه لو قبل هذا المال وحج به؛ صحَّ حجُّه.
حكم الحج على العاجز بدنيًّا المستطيع ماليًّا
ومن كان مستطيعًا الحج بـماله لكنه لا يستطيع الحج ببدنه، إما لإعاقة، أو مرضٍ لا يُرجَى برؤه، أو لكبَـرٍ أو لغير ذلك، فيلزمه أن ينيب من يحج عنه؛ لِمَا جاء في الصحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “أن امرأةً من خثعم أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع” [3].
وفي لفظٍ لمسلم: قالت: “يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبير، عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره؟ فقال النبي : حجي عنه” [4].
ووجه الدلالة: أن قولها: “إن فريضة الله على عباده أدركت أبي” وفي رواية مسلمٍ: “عليه فريضة الله في الحج” وإقرار النبي لها على ذلك، دليلٌ على أن من كان قادرًا على الحج بـماله دون بدنه، أنه يجب عليه أن ينيب من يحج عنه.
وإذا استناب من يحج عنه، فحجَّ ثم عوفي لـم يجب عليه حجٌ آخر؛ لأنه قد أتى بـما أمر به، فخرج عن العهدة، وقد أدى حجَّة الإسلام بأمر الشارع، فلم يلزمه الحج مرةً أخرى.
حكم المحرم للمرأة في الحج
ويشترط لوجوب الحج على المرأة: وجود محرمها، وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسبٍ، أو سببٍ مباح، وبعض الفقهاء يعتبر هذا شرطًا سادسًا، وبعضهم يدخله في شرط الاستطاعة، ويعتبر أن المرأة التي لا تجد مـحرمًا للحج معها، أنـها غير مستطيعةٍ للحج، وبكل حالٍ: لا مشاحَّة في الاصطلاح.
قال أبو داود: “قلت لأحمد: امرأةٌ موسرة لـم يكن لها محرم، هل وجب عليها الحج؟ قال: لا”.
ويدل لهذا الشرط: ما جاء في الصحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: لا يَخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر امرأةٌ إلا ومعها ذو محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجَّة، فقال رسول الله : انطلق فحج مع امرأتك [5].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “هذا نصٌ من النبي في تحريم سفر المرأة بغير محرم، ولم يخص سفرًا من سفر، من أن سفر الحج من أشهرها وأكثرها، فلا يجوز أن يُغفِلَه ويُهمِلَه، ويستثنيه بالنيَّة من غير لفظ، بل قد فهم الصحابة منه دخول سفر الحج في ذلك؛ لـمَّا سأله ذلك الرجل عن سفر الحج، وأقرهم على ذلك، وأمره أن يسافر مع امرأته، وأن يترك الجهاد الذي قد تعيَّـن عليه بالاستنفار فيه، ولولا وجوب ذلك؛ لـم يجز أن يخرج سفر الحج من هذا الكلام، وهو أغلب أسفار النساء، فإن المرأة لا تسافر في الجهاد ولا في التجارة غالبًا، وإنـما تسافر في الحج؛ ولهذا جعله النبي جهادهنَّ.
وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز لها السفر إلا على وجهٍ يُؤمَن فيه البلاء، ثم بعض الفقهاء ذكر كلٌ منهم ما اعتقده حافظًا لها وصاينًا، كنسوةٍ ثقاتٍ، ورجالٍ مأمومين، ومنعه أن تسافر بدون ذلك.
قال: فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحق وأوثق، وحكمته ظاهرة، فإن النساء لحمٌ على وَضَم، إلا ذُبَّ عنه، والمرأة معرضةٌ في السفر للصعود والنزول والبروز، محتاجةٌ إلى من يعالجها ويـمسُّ بدنـها، تحتاج هي ومن معها من النساء إلى قيِّمٍ يقوم عليهنَّ، وغير الـمحرَم لا يُؤمَن ولو كان أتقى الناس، فإن القلوب سريعة التقلُّب، والشيطان بالمرصاد، وقد قال النبي : ما خلا رجلٌ بامرأةٍ؛ إلا كان الشيطان ثالثهما [6]”.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.