إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
تحدثنا سابقًا عن صفة العمرة، وأتحدث هنا عن صفة الحج باختصار؛ فأقول وبالله التوفيق:
صفة الحج
إذا كان يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، أحرم من يريد الحج، وخرج إلى مِنَـى، فصلى بـها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، والسنة أن يصلوا كل صلاةٍ في وقتها، مع قصر الرباعية ركعتين من غير جمع.
فإذا طلعت الشمس يوم عَرَفَة، توجَّه الحاج من منَـى إلى عرفة، والأفضل أن ينزل بنَمِرَة إلى الزوال إن تيسر ذلك؛ لفعل النبي ، فإن لَـم يتيسر فلا حرج.
فإذا زالت الشمس سُنَّ للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبةً تناسب الحال، يبين فيها ما يشرع للحاج في هذا اليوم وبعده، ويأمرهم بتقوى الله وتوحيده، والإخلاص له، ويوصيهم بالتمسُّك بكتاب الله وسنة رسوله .
وبعد الخطبة يؤذِّن المؤذِّن ثم يقيم، فيصلون الظهر والعصر قصرًا وجمعًا في وقت الأولى، بأذانٍ واحدٍ وإقامتين؛ لفعل النبي .
ثم بعد ذلك يقف الحاج بعرفة، وعرفة كلها موقفٌ إلا بطن عُرَنَة.
ويستحب استقبال القبلة والجبل إن تيسر ذلك، فإن لَـم يتيسر استقبالهما استقبل القبلة، وإن لَـم يستقبل الجبل.
ويستحب للحاج في هذا الموقف أن يجتهد في الدعاء، فإن أفضل ما يفعله الحاج في ذلك الموقف هو الدعاء، والنبي بعدما خطب الناس، وصلى بـهم الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، تفرَّغ تفرُّغًا كاملًا للدعاء، وبقي عليه الصلاة والسلام منذ ذلك الحين إلى أن غربت الشمس، رافعًا يديه يدعو.
وإنك لتعجب عندما ترى كثيرًا من الحجاج يفرِّطون في هذا الوقت الثمين من العمر، فبعضهم ينام في هذا الوقت، وسبحان الله! كأنه لا يحلو النوم إلا في هذا الوقت، وبعضهم يُشغِل نفسه بالأحاديث الجانبية، أو بأمورٍ يـمكن تأجيلها لوقتٍ آخر.
والوقوف بعرفة ركنٌ من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به؛ لقول النبي : الحج عرفة [1].
ويبتدئ وقت الوقوف بعرفة من فجر يوم عرفة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
وقال أكثر العلماء: إنّ وقت الوقوف بعرفة يبتدئ من زوال الشمس، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة.
وقد اختار هذا القول جمعٌ من المـحققين من أهل العلم، كأبي العباس ابن تيمية رحمهم الله تعالى، بل حكاه ابن المنذر وابن عبدالبر إجماعًا.
وهذا هو القول الصحيح في المسألة؛ لأن النبي وأصحابه لَـم يقفوا بعرفة إلا بعد الزوال، ولـم ينقل عن أحدٍ أنه وقف قبله.
وينتهي وقت الوقوف بعرفة بطلوع الفجر يوم النحر إجماعًا.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أن آخر الوقت -يعني: وقت الوقوف بعرفة- هو طلوع فجر يوم النحر”.
ويدل حديث عُروة بن مُضرِّس الطائي، قال: “أتيت رسول الله بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طَيْ، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبلٍ إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله : من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نـهارًا، فقد تـمَّ حجُّه، وقضى تَفَثَه [2]، أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد.
فمن وقف بعرفة في وقت الوقوف بـها ولو لحظةً؛ صحَّ حجه، لكن من وقف بـها نـهارًا فلا يدفع قبل غروب الشمس، فإن دفع قبل الغروب ولـم يعد إليها قبل فجر يوم النحر؛ فعليه عند جمهور أهل العلم دمٌ يذبحه في الحرم، ويُوزِّعه على فقراء الحرم؛ لأن الجمع بين النهار وجزءٍ من الليل يعد من واجبات الحج، ومن ترك واجبًا فعليه دمٌ في قول جماهير العلماء، أما من وقف ليلًا فقط، فلا دم عليه، وقد حكي ذلك إجماعًا.
فإذا غربت الشمس من يوم عرفة، سار الحاج إلى مزدلفة بسكينةٍ ووقار، فإذا وصلها صلى بـها المغرب ثلاث ركعاتٍ، والعشاء ركعتين، بأذانٍ واحدٍ، وإقامتين، وبات تلك الليلة بـمزدلفة، ويجوز للضعفة من النساء والصبيان ونحوهم، وكذا مرافقوهم أن يدفعوا إلى منى آخر الليل.
وأما غيرهم: فالسنة أن يبقوا بـمزدلفة حتى يطلع الفجر، فإذا تبيَّـن الفجر؛ صلوا صلاة الفجر، ثم بعد ذلك السنة أن يقفوا عند المشعر الحرام، ويستقبلوا القبلة، ويكثروا من الدعاء، حتى يحصل الإسفار جدًا، وإن لَـم يتيسر الذهاب إلى المشعر الحرام -وهو الآن الذي مكانه المسجد في مزدلفة- دعا في أي مكانٍ من مزدلفة؛ لقول النبي : وقفت ها هنا وجَـمْعٌ كلها موقف [3]، رواه مسلم.
فإذا أسفر جدًا انصرف إلى مِنَـى قبل أن تطلع الشمس، وإذا وصل إلى وادي مُـحسِّر، فيُستحب له الإسراع قليلًا، فإذا وصل إلى مِنَـى؛ رمى جمرة العقبة بسبع حصياتٍ متعاقباتٍ، يرفع يده عند كل حصاةٍ ويكبِّـر، ويستحب أن يرميها من بطن الوادي، وأن يجعل الكعبة عن يساره، ومِنَـى عن يـمينه؛ لفعل النبي ، وإن رماها من الجوانب الأخرى أجزأ ذلك.
ولا يشترط بقاء الحصى في الـمَرْمَى، وإنـما المشترط وقوع الحصى في الـمَرمَى، فلو وقعت الحصاة في الـمَرمى ثم خرجت منه؛ أجزأ ذلك في ظاهر كلام أهل العلم.
ثم بعد الرمي ينحر هديه، إن كان مُتمتِّعًا أو قارنًا، وأما المفرد فليس عليه هديٌ، وقد نحر النبي مائةً من البدن، باشر بيده ثلاثًا وستين، وأمر عليًّا فأكمل البقية؛ وذلك لأن نحر الهدي هو من تعظيم شعائر الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ثم يحلق رأسه إن كان ذكرًا أو يُقصِّر، والحلق أفضل من التقصير، وأما المرأة فإنـها تُقصِّر من شعرها.
ثم ينزل لمكة فيطوف طواف الإفاضة في ذلك اليوم –في يوم النحر- إن تيسر ذلك، وإن لَـم يتيسر في ذلك اليوم، ففي أي وقتٍ بعده.
وطواف الإفاضة -ويسمى: طواف الزيارة- ركنٌ من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].
ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتِّعًا، وهذا السعي لحجه، والأول لعمرته، وأما القارن والمفرد فيكفيهما سعيٌ واحد.
فتبيَّـن بـهذا أن الحاج يفعل يوم العيد خمسة أنساك:
- الأول: رمي جمرة العقبة.
- الثاني: ذبح الهدي إن كان متمتعًا أو قارنًا.
- الثالث: الحلق أو التقصير.
- الرابع: طواف الإفاضة.
- الخامس: السعي للمتمتِّع، وكذا القارن والمفرد إن لَـم يكونا قد سَعَيَا.
والسنة: ترتيبها على هذا النحو، فإن قدم بعضها على بعضٍ فلا حرج؛ لحديث عبدالله بن عمروٍ رضي الله عنهما: “أن النبي ما سئل عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر، إلا قال: افعل ولا حرج” [4].
ثم بعد طواف الإفاضة، والسعي مـمَّن عليه سعيٌ، يرجع الحاج إلى منـى فيبيت بـها ليالي التشريق: ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، ويرمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس، ويبيت تلك الليالي بمنى.
فإذا أتـمَّ رمي الجِمَار في اليوم الثاني عشر، إن شاء تَعجَّل من منـى، وخرج منها قبل غروب الشمس، وإن شاء تأخَّر فبات بـها ليلة الثالث عشر، ورمى الجمار في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، والتأخُّر أفضل؛ لأنه فعل النبي .
فإذا كان متعجِّلًا فإنه يرمي تسعًا وأربعين حصاةً: يرمي سبعًا يوم النحر، وإحدى وعشرين في اليوم الحادي عشر، وإحدى وعشرين في اليوم الثاني عشر، أما إن كان متأخِّرًا، فإن مجموع ما يرميه سبعون حصاة: سبعًا في يوم النحر، وإحدى وعشرين في اليوم الحادي عشر، وإحدى وعشرين في اليوم الثاني عشر، وإحدى وعشرين في اليوم الثالث عشر، فيكون المـجموع سبعين حصاةً.
فإذا أراد الخروج من مكة إلى بلده لَـم يخرج حتى يطوف طواف الوداع؛ لقول النبي : لا ينفرن أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت [5]، وفي حديث ابن عباسٍ: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّف عن الحائض [6].
أسأل الله أن يتقبل من حجاج بيته الحرام حجهم، وأن يجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.