إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
الفوائد والعبر والدروس من رحلة الحج
تحدثنا سابقًا عن جملةٍ من مسائل وأحكام الحج، وأتحدث معكم هنا عن الفوائد والعبر والدروس المستنبطة من رحلة الحج، فأقول وبالله التوفيق:
إنّ رحلة الحج، هذه الرحلة الإيـمانية المباركة التي فرضها الله تعالى على كل عبدٍ، من رجلٍ أو امرأةٍ، في العمر مرةً واحدةً، إن هو استطاع إلى الحج سبيلًا، هذه الرحلة الإيـمانية المباركة تُعتبر بـحقٍ رحلة العمر الخالدة، وهي مليئةٌ بالدروس والعبر والعظات؛ ولهذا قال الله : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28].
فبيَّـن الله أنّ في هذه الرحلة الإيـمانية المباركة منافع كثيرة.
وتأمَّل كيف أتت كلمة مَنَافِعَ على صيغة منتهى الجموع، التي تدل على الكثرة، وذلك لكثرتـها، وتفاوت الناس في الحصول عليها، فينبغي لك أخي الحاج أن تستفيد من تلك الدروس، وأن تنتفع بالعبر والعظات.
ومن ذلك: أنّ أمة الإسلام لا تزال بحمد الله تعالى بخير، على الرغم من تكالب الأعداء عليها من قديم الزمان وحديثه، ولا أدلَّ على هذا من إتيان هذه الجموع الغفيرة من كل حدبٍ وصوب، من أقصى الغرب والشرق، ومن أقصى الشمال والجنوب، أتوا من كل مكانٍ إلى بيت الله الحرام، تركوا أهليهم وبلدانـهم.
وربَّـما أنّ عددًا منهم ليس بالقليل يُـجمِّع الدرهم فوق الدرهم لأجل أن يستطيع الوصول إلى بيت الله الحرام.
هؤلاء الجموع الغفيرة، ما هدفهم؟ ولأي شيءٍ أتوا؟ وماذا يريدون؟!
نعم، إنـهم ما أتوا في جملتهم وإلا وهم يريدون الأجر والثواب من الرب الكريم الوهاب، قيل لأحد الحجاج: ما الذي أتى بك من بلادٍ بعيدة إلى بيت الله الحرام؟ قال: أتى بي قول الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ يريد آية آل عمران: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
ومن المواقف العظيمة المؤثرة: رؤية اجتماع هؤلاء الحجاج في المشاعر، فتراهم يوم التروية قد اجتمعوا في مِنَـى مُـحْرِمين بلباسٍ واحد، ثم ينتقلون يوم عرفة إلى عرفات، ويجتمعون بـها إلى غروب الشمس، ثم يدفعون إلى مزدلفة، فيبيتون بـها، ثم يدفعون إلى مِنَـى، ما الذي يسوقهم إلى تلك المشاعر في تلك الأوقات وهم من جنسياتٍ شتَّـى، وبلغاتٍ شتَّـى، وعقلياتٍ مختلفة، وأفهامٍ مختلفة، وبيئاتٍ مختلفة؟ لكن جمعهم هذا الدين العظيم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا.
وفي اجتماع الحجيج في تلك المشاعر يظهر علو هذا الدين على جميع الأديان، هل نجد دينًا من الأديان يجمع كل عام مثل هذه الجموع الغفيرة التي تجتمع من جميع أقطار العالـم، تجتمع وتأتي إلى هذا البلد الأمين، تأتي راغبةً مختارةً، بل متلهِّفةً مشتاقةً، تجتمع في مكانٍ واحد، وفي وقتٍ واحد، بلباسٍ واحد، من جميع أقطار الأرض.
أتت هذه الجموع من أقطار الدنيا ترجو من الله فضلًا ورضوانًا ومغفرةً وثوابًا، أتت وهي تقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
إن هذا المظهر -أيها الإخوة- لَـمَظهرٌ مؤثرٌ جدًا، مظهرٌ يدل على عظمة دين الإسلام، وعلى علو هذا الدين على جميع الأديان، وكما قال الله : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
أيها الإخوة: إنّ في الحج لحِكَمًا جليلة، وأسرارًا عظيمة، ومنافع كبيرة، فينبغي أن يظهر أثر ذلك على الحاج؛ وذلك بأن تكون حاله بعد الحج أحسن من حاله قبل الحج، وهذا قد يكون أمارةً على قبول حجه إن شاء الله تعالى، أما من كانت حاله بعد الحج كحاله قبل الحج أو أسوأ؛ فهذا ربَّـما يكون أمارةً على عدم قبول الحج منه، فينبغي للحاج أن يواصل العمل الصالح بعد الحج، وأن يتخذ من الحج فرصةً لإعلان التوبة النصوح الصادقة، والإنابة إلى الله ، وتدارك ما تبقى من العمر.
وأن يكثر من ذكر الله ، ومن الدعاء بالقبول، يقول الله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] أخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنـها قالت: “يا رسول الله، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ: أهو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله ؟! فقال النبي : لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجلأُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61] [1].
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].
أيها الإخوة، وهذه هي الحلقة الأخيرة من هذا البرنامج: (برنامج فقه العبادات) بعد أن صحبتكم فيه على مدار مائتين وثلاثين حلقة، أسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يبارك فيه، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأرجو أن ألتقي بكم في برامج أخرى إن شاء الله تعالى، عبر أثير هذه الإذاعة المباركة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 25263. |
---|